سؤال الإيمانِ في المقاربات الحداثية للقرآن الكريم
تأملات نقدية*
محمد التهامي الحراق
إن المتأمل في الكثير من المقاربات الموسومة بـ”الحداثية”، والتي تتخذ من “الوحي” القرآني موضوع نظرها، يكاد يُصاب بالذهول إزاء الارتباكات التي تقود إليها على المستوى المعرفي وأساساً على المستوى الإيماني؛ ذلك أن “الارتباكات” المذكورة تتجاوز كونها إحراجات معرفية ناجمة عن خلخلة المألوف من “الحقائق”، وتصديع الموروث من الأحكام والمسلَّمات؛ وإنما تنجم أساساً عن طابع “التجريب” الذي يطغى على بعض تلك المقاربات؛ تجريب المناهج والمفاهيم وآليات الاقتراب والتحليل على “نص ديني” حيٍّ له في قلوب ووجدان المؤمنين وظيفةٌ جوهرية؛ إذ يشكل منبع هويتهم الإيمانية ونواة وعيهم الديني المتوهج، مما يجعل من ذاك التجريب “مغامرة” قد تنجم عنها آثار خطيرة على صعيد “الوعي الإيماني”؛ لأنها قد تصدِّع علاقة المؤمنين بوجودهم ومصيرهم، كما قد تخلخل توازناتهم النفسية الفردية والجماعية.
إن هذه الإشارةَ لا تصدُر عن خلط بين موقف المؤمن الذي يتعاطى مع كلام الله كمصدر حياة وبين موقف الباحث المؤرخ الذي يتعامل معه كموضوع اشتغال علمي ومصدر معرفة؛ مثلما لا تعني، بأي حال من الأحوال، دعوةً ظاهرة أو ضامرة إلى إفقار الفكر أو تعطيلِ البحث أو مصادرة تعامل “العقل العلمي” مع “الوحي” في التاريخ؛ فهذا أمر لا يقولُ به مؤمن حق، بله أن يؤمن به “عقلاني” حق، وإنما نسعى من وراء تلك الإشارة إلى التنبيه على أمرين:
1 – كثير من الباحثين الحداثيين المشتغلين على الوحيِ باستعمال “المناهج الحديثة” لا يطرحون بقوة ونجاعة كافيين سؤالَ “النقد الإبستيمولوجي” للأدوات والمفاهيم والمناهج الحديثةِ المرادِ تشغيلُها على نص “الوحي” القرآني، ونعني هنا بـ”النقد الإبستيمولوجي” الفحص المعرفي الدقيق للخلفيات الفلسفية المؤطِّرة لتلك المناهج من جهة، وكذا العمل النقدي الضروري على مصطلحات ومفاهيم تلك المناهج لتمييز الإيديولوجي والظرفي والتاريخي في تلك الأدوات (المتحول) عن الإبستيمولوجي والمعرفي والإجرائي (الثابت)؛ فضلاً عن المراقبة النقدية الضرورية لحركة وهجرة تلك الأدوات التي ربما تكونُ تَخلَّقت من رحم مقاربات لنصوص غير دينية وذات مناحي أدبية أو فلسفية أو جمالية غير دينية، وذلك قبل استعمالها في الاقتراب من نص ديني له خصوصيتُه في التكوينِ وغائياتُه في التلقي، رغم تجلِّيه في لغة بشرية ووفقاً لبنياتها النحوية والصرفية والبلاغية والرمزية والسياقية، ورغم انبثاقه أيضا في التاريخ بمشروطيته الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية والثقافية؛ إذ رغم هذا وذاك، فإنهُ استطاع أن يحقِّق تحدياً إبهارياً داخل تلك اللغة، وأن يحدِثَ تحولاً جذرياً ضمن تلك المشروطية، كما أنه يُقدِّم نفسَه بوصفه نصاً دينياً متعالياً لهُ صلة بالغيبِ، ويطرحُ رؤيةً إلهية كونية عن الإنسان والوجود والمصيرِ والمعنى. ولا بد لكل مقاربةٍ علمية أن تأخذَ في الحسبان فعل هذا النصِّ في التاريخ، مثلما يلزمها أن تأخذ في الاعتبار خطابَ النص عن نفسه والصورةَ التي يقدم نفسَه من خلالها؛ وهو ما يقتضي الإصغاءَ إلى فعلِ النصِّ في التاريخ والنظرَ إليه بعينيه، كيما نتحاشى الوقوع في الإسقاط أثناء التوصيف والتحليل.
ثم إن الاقتراب من “الوحي القرآني” (أو النص القرآني تعييناً) بتلك الأدوات المنهجية الحديثة دونَ المراقبة النقدية لمستوياتها الإيديولوجية والمعرفية ولآفاق العبور الإجرائي بها من ثقافة لأخرى؛ ومن لغة لأخرى؛ ومن نصوص شعرية أو سردية أو فلسفية إلى نص له رؤيتُه البنيوية الخاصة لهويته ولمساراتِ تلقيه رغم تشابهه في التجلي اللغوي والانبثاق التاريخي مع غيره من النصوص الثقافية.. اقترابٌ بهذه الملامح قد يفضي إلى إرباكات في النتائج والمقاربات؛ تتعدى آثارُها مجرَّدَ “الخطأ العلمي”- وهو من طبيعة البحث المعرفي بل ولحظةً ضرورية على طريق تطور المعرفة- إلى “خطايا” ذاتِ آثارٍ خطيرة على “الوعي الإيماني” للمؤمن؛ تُصدِّع كيانه، وتُقوِّض هويته، وتتركُ جروحاً غائرة في شخصيته الدينية وهويته الإيمانية.
2 – وهنا نصل إلى المرمى الثاني من وراء الإشارة الآنفة؛ إنها الآثار النفسيةُ الجسيمةُ التي تنجم عن إعمالِ آليات “التفكير بالمطرقة” في التعامل مع “الوحي” ذي المكانة الخاصة في تشكيل كينونة المؤمن. ويلزمنا هنا تسجيلُ ملاحظة رئيسة وهي أن وعيَ كثيرٍ من الدارسين الحداثيين لهذا الأمر جعلهُم يعمدون إلى التمييز المفهومي بين الوحيِ المتعالي وقراءاته التاريخية، هكذا ميزوا بين “الظاهرة القرآنية” و”الظاهرة الإسلامية”؛ أو بين “النص الأول” و”النصوص الثانوية” حسب اصطلاحات أركون؛ وبين “الدين” و”المعرفة الدينية” حسب اصطلاح عبد الكريم سروش؛ وبين “الإسلام المعياري” و”الإسلام التاريخي” حسب اصطلاح علي أومليل، وبين “الدين” و”التدين” حسب عبد المجيد الشرفي وعبد الجواد ياسين وغيرهما، أو بين “الشريعة” و”الفقه” حسب آخرين. وهي كلها تحديدات ترمي، من جهة، إلى التمييز بين النص القرآني بما هو وحي منفتح على مختلف المقاربات والقراءات والاستلهامات وأشكال الفهم والتحليل والتحيين، وبين شكل معين للفهم تجلى في التاريخ. على أن الفهم هو بالضرورة فهوم متعددة وإن قدَّمَ واحد منها نفسَه باعتباره الشكل الأوحد المتماهي مع الحقيقة الإلهية المطلقة والناطق باسمها. نحن، بعبارة أخرى، إزاء تنسيب القراءة لا تنسيب المقروء، وإزاء محاولة للتمييز بين الفعل البشري في القراءة والفهم والاستنباط وبين النص الإلهي المطلق في هويته والمتعالي في كينونته والمنفتح في معناه. ومن ثم فالغاية من هذا التمييز أيضا هي تحريرُ المؤمن من تقديس ما صاغه البشر في زمان ومكان وسياق ووفق حدود معرفية مشروطة ومحدودة انطلاقا من الوحي وفي ضوئه، وقَصْرُ “التقديس” على النص الأول التدشيني فحسب، وهذا ما يعتبرُه بعضُهم تحريراً للإيمان لا نسفاً له، وتجديدا للإيمان لا تبديدا له؛ وإعادة تشكيل الإيمان بتحريره من الرؤية القروسطية وتحديث نسقه لا إعداماً للإيمان أو زجاً بالمؤمن في غياهب العدمية.
غير أن ما نسجله على جل تلك الدراسات، وخصوصا منها تلك التي تعلن عدم رغبتها في نزع “التقديس” عن الوحي، هو توسلها بالرؤى الفلسفية التفكيكية والجينيالوجية والأركيولوجية التي تراهن على تاريخية المعنى وتعدده وانفتاحه ولا نهائيته دون عناية بأسئلة الوجود والحقيقة والمعنى الإيماني المعيش في وعي ولا وعي المؤمن؛ ثم دون انتهاء إلى بناء معرفي صارم لهيرمينوطيقا خاصة بالنص الديني عموما، والقرآني تعيينا، تضبط حدودَ القراءة الحديثة للمعنى؛ وتُعَيِّنُ بدقةٍ حدود البشري والإلهي في علاقة المؤمن المتعدد، سياقاً وتاريخاً وأسئلةً، بالوحي الذي من المفروض أن يبقى دائم التَّنَزُّل على كل مؤمن، ودائم الرَّفْد لتجربته الوجدانية وأفقه الروحي.
وإذا كان البعضُ من تلك الدراسات يَعيبُ على المقاربات التاريخية الوضعيةِ للنص القرآني نزعتَها المادية والإلحادية، وبالنتيجةِ إهمالها للموقف الإيماني وإقصاءَها له، فإن احتفاء هذا البعض بـ”الموقف الإيماني” لا يعدو أن يكونَ إخضاعا له للتفكيك والتحليل بأدوات تُفضي ضرورةً إلى نسفِهِ من حيث هي تدعي احترامَ حقه في الوجود والتعبير عن ذاته. بمعنى أننا لم نصل بعد إلى موقف إبستيمولوجي ينأى في ذات الوقت عن التمجيد وعن التفنيد، موقفٍ يستطيعُ أن يُتيح للإيمانِ أن يُجدِّد نفسَه من داخل نسقه، ويمتلكَ القدرة على استعمال النقد التيولوجي والفلسفي لإعادة بناء علاقة المؤمن بذاته ومصيره ووجوده بناءً ينسجم مع ما قد يُعَدُّ روحَ الإيمان والحداثة في ذات الآن. بعبارة أخرى نحن إزاء مقاربات حداثية تُفضي في الغالب إلى إهدارِ المعنى رغم كونها تقر بأهميته الأنطولوجية، ومركزيته في الموقف الإيماني؛ ذلك أنها لا تُنتِجُ معنى بديلاً، بل تكتفي بأنْ تُحوّلَ الموقف الإيماني “التقليدي” إلى أنقاض وأطلال، رغم وعيِهَا بالأهمية الغائية للمعنى الذي لا يمكن لغير الدين أن يضفيه على وجود المؤمن (1).
وهذه واحدةٌ من مفارقاتِ هذه المقارباتِ، ولعلَّهُ يُفسِّرُ، في وجه من الأوجهِ، الرفضَ العنيفَ الذي تُواجَهُ به مثلُ هذه المقارباتِ من لدن “المؤمن التقليدي”. فكسر “السياج العقائدي الدوغمائي” والخروج من “الانغلاق اللاهوتي” و”الإيمان القروسطي” و”مرجعيات الإسلام التقليدي”..؛ إن لم يُصاحَب بعمليةٍ إنتاجية للمعنى تُقدِّم نوعاً من الإجابةِ على الأسئلةِ الأنطولوجية والتيولوجية والفلسفيةِ التي كان ذاك “السياجُ” يحقِّق بالإجابة عليها نوعاً من “طمأنينة” قلب المؤمن التقليدي؛ انتفاءُ هذه المصاحبةِ يُحوِّلُ ذاك الكسرَ إلى تيه؛ وذاكَ الخروج إلى عدميةٍ. وهذا هو ما يُبطِل الدعوى التحريرية التي ترفعُها بعض تلك المقاربات، بل ويفسِّرُ في وجه من الأوجه، العنوان الذي ارتضاه محمد الطالبي لكتابه “ليطمئن قلبي“، والذي كان قد “حمَل” فيه على بعض تلك المقاربات؛ بغض النظر عن تقييمنا لمضمون نقد الطالبي وأسلوبه في ذلك (2).
لنؤكد مرة أخرى أننا لسنا مع تمجيد الوهم أو تغييب العقل أو تسييد التطقيس على الروحانية في “الإيمان التقليدي”، ولا مع إغلاق باب الاجتهاد في الفهم وتجديد القراءة، لكن الفعل الأساس الكامن في التحديث العميق للتيولوجيا الإسلامية (علم الكلام..)، لم يصل بعدُ إلى مرماه في بلورة إيمان عقلاني منفتح على المعرفة وإنتاج المعنى الوجودي المُطَمئِن للروح في آن. ذاك هو الأفق المفقود الذي نجد بعض الإضاءات المنيرة لطريقه الطويل مع أعلام كبار أمثال محمد إقبال في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام“؛ أو أبو قاسم حاج حمد في مشروعه “العالمية الإسلامية الثانية”؛ أو طه عبد الرحمن في “روح الدين”…واللائحة ليست طويلة وإن كانت مفتوحة.
….
* نُشِرَ هذا المقال تحت عنوان: “سؤال الإيمان في القراءات الحداثية للوحي… تأملات نقدية”، وذلك ضمن كتابنا: “إني ذاهب إلى ربي…. مقاربات في راهن التدين ورهاناته”، دار أبي رقراق، الرباط، 2016، ص، ص، 219- 224.
+++
مراجع:
1 ــ راجع، بخصوص هذا التعامل مع “الموقف الإيماني التقليدي” على سبيل المثال لا الحصر، الكتاب الأخير لعبد المجيد الشرفي “مرجعيات الإسلام السياسي”، دار التنوير، بيروت 2014م.
2 ــ راجع، الطالبي، محمد، ” ليطمئن قلبي” (الجزء الأول قضية الإيمان)، دار سراس للنشر، تونس 2000.