محمد علي أمير معزّي، القرآن الصامت والقرآن الناطق
في العقود الأخيرة، أنجزت الأبحاث حول القرآن والقرن الأوّل من الإسلام خطواتٍ عديدة إلى الأمام، وذلك بفضل اكتشافات جديدة نقشيّة وكتابيّة وأثريّة ومناهج جديدة في تحليل المصادر. إنّ محوريّة الموضوع لجليّةٌ إذا ما اعتبرنا أهميّة القرآن في الدين الإسلامي. ولكن من الواضح أيضًا، من أجل فهم عملية جمع النصّ الإسلامي المقدّس، أنّه من الضروريّ تكوين صورة واضحة قدر الإمكان حول جماعة المؤمنين الأولى، كونها هي بالتحديد من قامت، في عقودها الأولى حين انطلقت لفتح العالم القديم، ببعض الخيارات الأساسية التي كان من شأنها تحديد ملامح الإسلام في القرون التالية.
بشكلٍ عام، إنّ عرض هذه الفترة الحاسمة، سواءٌ في ما يتعلّق بالسياق العامّ أم بالنقطة المحدّدة المتمثّلة بجمع القرآن، قد جرى انطلاقًا من المراجع السنّيّة، التي يقوم الباحثون المعاصرون بتقييم مصداقيّتها بأشكال مختلفة، وفقًا لقائمة أحكام تنطلق من التصديق بها ما لم يكن هناك تناقض جلّي وصولا إلى رفضها رفضًا شبه كامل. ولكن من المُجمَع عليه تقريبًا حتّى الآن التقليلُ من أهمّية المصادر الشيعيّة، التي تُعتبر متحيِّزة في عرضها للأحداث، كونها تميل إلى تبرير مطالبة عليّ وأحفاده بالخلافة بأيّ شكل من الأشكال.
وعلى نقيض هذا النهج، يبيّن كتاب أمير معزّي، الذي يستفيد من سلسلة من الدراسات استمرّت على مدى العقدين الماضيين، نظريّتين أساسيّتين. الأولى هي أنّ جميع المصادر الإسلاميّة في القرون الأولى ذات توجّه أيديولوجيّ، وليس الشيعيّة وحدها. فالقرن الأوّل للإسلام هو فترة تميّزت بالعنف الشديد، حيث شقّت الخلافاتُ والحروب الأهليّة جماعة المسلمين مرارًا. لإعطاء مثال واحد فقط، نذكر أنّ ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا ميتة عنيفة. ومن قراءة المصادر القديمة، سنيّة كانت أم شيعيّة، يبدو إذًا من نسج الخيال التوصيفُ السائد اليوم عن عصر الصحابة وللتابيين كأنّه عهد ذهبيّ من السلام والوئام. وإذا كانت الحال كذلك، فإنّ جمع القرآن لم تكن بمنأى عن التأثّر بهذا المناخ من العنف الشديد. يخلص أمير معزّي إلى القول بأنّ على جميع المصادر أن تخضع لنقد دقيق صارم، لأنّ “كتب السنّة، وخصوصًا أقدمها، هي أيضًا إيديولوجيّة، وتفحُّص “محفوظات المعارضة”، كما يمكننا تسمية المصادر الشيعيّة، إنّما هو بأيّة حال ضروريّ بقدر ضرورة المصادر الرسميّة التي حصلت تقريبًا على موافقة السلطة على نشرها، وذلك من أجل التعرّف بشكل أعمق على تاريخ تميَّزَ بالعنف الداخليّ الشديد” ( ص 21 ).
النظريّة الثانية للباحث الفرنسيّ الإيرانيّ تقول إنّ المصادر الشيعيّة سائرة في اتّجاه مماثل للبحث التاريخيّ النقديّ الحديث، حيث يُلمَّح إلى أنّ عمليّة جمع النصّ المقدّس قد استمرّت إلى ما بعد خلافة عثمان، وصولاً إلى العصر الأمويّ.
ويحلِّل أمير معزّي خمسة أعمال بالتفصيل: كتاب سليم بن قيس (المسمّى أيضا كتاب السقيفة) الذي يمثِّل في نواته الأصليّة أقدم نصّ شيعيّ وصلنا، وكتاب التنزيل والتحريف لأبي عبد الله أحمد السيّاري (القرن التاسع م.)، وتفسير الحبري (توفّي عام 899 م.)، وكتاب بصائر الدرجات لأبي جعفر الصفّار القمّي (توفّي عام 902/903)، وأخيرًا حديث محمد بن يعقوب الكلينيّ (توفّي حوالي عام 940 م.)، الذي يمثِّل أقدم وأهم مجموعة أحاديث للشيعة. تنتمي هذه النصوص إلى أنواع أدبيّة مختلفة، من الرواية التاريخيّة إلى التفسير والتأويل، ومن النصّ الباطنيّ إلى الحديث، إلا أنّ المؤلِّف يلقي الضوء، في كلّ حالة بمفردها، على أنّها تحتفظ بمعطيات تتقاطع أحيانًا مع بعض التلميحات الحذرة المُحتواة في المصادر السنيّة أيضًا. “أقلّ ما يُمكننا قوله – يختم الكاتب – هو أنّ هذا الأمر يستدعي تفحّص المصادر الشيعيّة بدرجة أقلّ من الريبة والشكّ” (ص 209).
في الواقع، لا يقتصر أمير معزّي، عبر دراسته المتسلسلة تاريخيًّا، على جمع عناصر ذات المغزى في دراسة العلاقة بين الصراعات التاريخيّة في صدر الإسلام وتنظيم كتاباته الدينيّة، بل يقدِّم تاريخًا لظهور الشيعة التدريجيّ كعقيدة متكاملة، حتّى “إنشاء دين كامل” (ص 203 ). هذه الظاهرة يفسّرها المؤلِّف بشكلٍ تاريخيّ ولكنّه يفهمها لاهوتياً. فهو يرى أنّ الفشل التاريخيّ لشيعة عليّ، الذين اُقصوا عن قيادة الأمّة (كتاب سليم بن قيس) قد أدّى بالأئمّة لاختيار طريق التأويل للحفاظ على الدين من التحريف. في هذا السياق تتمّ صياغة فكرة وجود قرآن صامت (النصّ القرآنيّ في نسخته العثمانيّة، المشكوك فيها)، يحتاج إلى التأويل وشبه إحياء عبر وجود قرآن ناطق، هو الإمام. بهذا المعنى، يختم أمير معزّي، إنّما الشيعيّة أكثر منها “دين كتاب” هي دينُ شخص، دينُ شخصيّة، هو الإمام، بقدر ما المسيحيّة هي دين المسيح” (ص 218). تؤدّي هذه العمليّة في نهاية المطاف، في غضون القرن العاشر، إلى صياغة دين للإمام “مطبوع إلى حدٍّ كبير بالغنوصيّة والأفلاطونيّة الجديدة” (ص 217 )، التي من شأنها أن تمثِّل التقليد الأصليّ، السابق للاتّصال بعلم الكلام والفقه السنّي.
إنّه بالتالي تاريخٌ كامل لتسأة الشيعة ذاك الذي يقدّمه أمير معزّي للقارئ في هذا الكتاب الثمين، من خلال موشور التثبيت التدريجيّ للكتابات الإسلاميّة.