مساهمة الإسلام الروحيّة والإنسيّة في أوروبّا

مساهمة الإسلام الروحيّة والإنسيّة في أوروبّا

مساهمة الإسلام الروحيّة والإنسيّة في أوروبّا: لمحة عامّة

بقلم: إيريك جوفروا (Eric Geoffroy)

ترجمة: محمّد الحاج سالم

 

  1. الأسس الدينيّة لأوروبّا

من الواضح أنّ مساهمة الإسلام في تشكيل الهويّة الدينيّة والروحيّة لأوروبّا قد تعرّضت للطّمس في الغرب، شأنها شأن مساهمة الحضارة العربيّة الإسلاميّة بشكل عامّ. فأوروبّا ليست ابنة الثقافة اليونانيّة اللاتينيّة واليهومسيحيّة فحسب، كما يُراد إيهامنا أحياناً. ولذلك، لا بدّ للذاكرة أن تعمل على وجه الخصوص على استذكار هذا “الإرث المنسي” للإسلام [1]، وهو ما بدأ بالفعل منذ بضعة عقود، وينبغي أن لا نباشره بروح ادّعاء ديني أو طائفي أو غيره، بل بروح انفتاح علمي وثقافي.

ولنذكّر في البداية بأنّ الوجود المادي للإسلام في قارّتنا هو في آنٍ قديم وعميق. وإن كان من المعروف أنّ إسبانيا ظلّت في جزء منها إسلاميّة منذ ما يقارب ثمانية قرون، فإنّ ما لا يعرفه الكثيرون أنّ ذلك كان أيضاً حال صقليّة طوال أربعة قرون (ضمّت باليرمو ثلاثمائة مسجد في القرن العاشر) وبدرجة أقلّ جنوب إيطاليا. ففي هذه المناطق، لم تنطفئ أضواء الثقافة العربيّة الإسلاميّة بعد مغادرة العرب، بل استمرّت في التألّق على مدى قرون. أضف إلى ذلك، أنّ أوروبّا الشرقيّة لديها خبرة كبيرة بالإسلام الذي رسّخ قدميه في منطقة البلقان منذ أواخر القرن الرابع عشر بفعل التوسّع العثماني. أمّا روسيا، فقد عرفت الإسلام منذ القرن الحادي عشر، ولكن هذا قد يأخذنا نحو أوروبّا ممتدّة إلى جبال الأورال…

تستند مساهمة الإسلام الدينيّة في أوروبّا القروسطيّة أوّلاً على اللاهوت والفلسفة. فعلماء المسلمين مثل ابن سينا والغزالي وابن رشد، ولكن أيضا المعتزلة، طبعوا بعمق الفكر اللاتيني في العصور الوسطى. وقد ولّدت مسألة التوافق أو التعارض بين الفكر اليوناني والعقيدة الدينيّة بسرعة جدلاً كبيراً صلب الإسلام، قبل أن تناقش هذه الموضوعات من قبل علماء دين “أوروبيّين”، سواء يهود مثل موسى بن ميمون، أو مسيحيّين مثل القدّيس توما الأكويني. وقد ولّد تأثير الفكر الإسلامي في المدرسيّة المسيحيّة تيّارين: السينويّة اللاتينيّة والرشديّة اللاتينيّة. ولنذكّر بأنّ الغرب اكتشف الفلسفة اليونانيّة، وخاصّة أرسطو وأفلاطون وأفلوطين من خلال الترجمات العربيّة، وبأنّ العلماء المسلمين لم يكتفوا بدور الوسيط الثقافي فحسب، بل أضافوا أيضاً عبقريّتهم العلميّة والروحيّة والإنسيّة. ففي القرن الثالث عشر، وجد الإمبراطور فريدريك الثاني، وكان فريسة مخاوفه الميتافيزيقية، إجابة فلسفيّة عن أسئلته من قبل صوفي مدينة سبتة ابن سبعين. وقد انخرط العلماء والأدباء الأوروبيّون (لاتين، وجرمان وسلافيّين) في مدرسة الإسلام الفكريّة، واستوعبوا أيضاً بعض النماذج الدينيّة. ونحن نعرف الآن أنّ الكوميديا الإلهيّة لدانتي تدين بالكثير لكتاب معراج محمّد(*1)، وهو الكتاب الذي انتشرت بفضله في إيطاليا نسخة شعبيّة من قصّة معراج النبيّ.

كما خصّب الإسلام أيضاً أوروبّا القروسطىّة في مجالات الروحانيّة والتصوّف. وإذا ما كانت رابعة العدويّة قدّيسة العراق، لم تترك بلا شكّ من أثر في بلاط الملك الفرنسي القدّيس لويس سوى أسطورتها الذهبيّة، فإنّ التصوّف هو ما غذّى المذهب الروحي للطوائف الصليبيّة مثل فرسان المعبد. ومنذ أعمال الكاهن الإسباني ميغال آسين بلاسيوس(Miguel Asin Plasios)، في بداية القرن العشرين حول محيي الدين بن عربي، بدأ الاعتراف أيضاً بتأثير التصوّف المغربي بواسطة متصوّفين يهود، في المتصوّفين الإسبان مثل القدّيس يوحنّا الصليبي (Saint Jean de la Croix) والقدّيسة تريزا الأفيليّة (Sainte Thérèse d’Avila). بل وجادل بعض الباحثين الغربيّين – وهم ليسوا مسلمين – بأنّ الرياضات الروحيّة لأغناطيوس الليولي (Ignace de Loyola)(*2) مدينة بالفضل لطرائق التربية الصوفيّة. ألم يولد “الشيخ الأكبر” للروحانيّة الإسلاميّة، محيي الدين بن عربي (ت 1240 م)، في إسبانيا؟ فالشيخ الأكبر ولئن استقرّ بحقّ في المشرق، وتحديداً في دمشق، إلاّ أنّه عاد إلى الغرب المعاصر من خلال إشعاع تعاليمه الكونيّة. وإذا ما تجاوزنا التأثيرات أو الاقتراض، فإنّه يمكننا أن نرى أنّ اليهود والمسلمين والمسيحيّين كانوا يعيشون في الغالب متوافقين في المناطق المتاخمة المذكورة أعلاه، والتي كانت تحت حكم المسلمين. وإذا ما ظلّت الأندلس النموذج الأصلي – والمثالي في بعض الأحيان – لهذا التعايش السلمي المثمر بين الديانات الثلاث، فقد عرفت آسيا الصغرى والبلقان كذلك علاقات وثيقة العرى بين تلك الأديان، وخاصّة بين الرهبان والدراويش.

2. إنسيّة الإسلام الروحيّة

كثيراً ما تأسّس مفهوم “الإنسيّة”، منذ عصر النهضة، على أسس عقلانيّة مشوبة باللاأدريّة، إن لم يكن بالإلحاد. ومنذ ذلك الحين، أضحى يُنظر إلى الروحانيّة على أنّها غير عقلانية واعتباطيّة. والحقّ أنّ الروحانية الحقيقيّة متأسّسة على العقل، فهي تسعي لأن تتجاوز العقل، ولكنّها ليست غير عقلانيّة. وتستند الإنسيّة الروحيّة للإسلام على المفهوم القرآني “الإنسان خليفة الله على الأرض”، وعلى العقيدة المركزيّة للتّوحيد، أي على الوعي بالوحدة في جميع جوانب الحياة. لقد ساد في القرون الأولى للإسلام الانسجام بين الإيمان والعقل وبين الدين والعلم، بين اعتبار الحاجات الإنسانيّة في الدنيا، والتوق تجاه الآخرة. ولا تقلّل الانحطاطات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تواجه العالم العربي والإسلامي حاليّاً – والتي يتمّ فيها توظيف الدين – من شأن القيم الكونيّة التي يحملها الإسلام، والتي من المرجّح أن تمتدّ إلى أراضٍ جديدة على غرار ما حدث على مرّ القرون. وفي هذا الصدد، فإنّ العقيدة الإسلاميّة التوحيديّة قد تكون قادرة على مساعدة أوروبّا على الخروج من معضلة التعارض الكاذب بين الإنسيّة والروحانيّة.

فالإسلام ينظر إلى هذا التوحيد كما لو أنّه مبثوث في تعدّد الخلق. وإذا ما طبّقنا هذا الاعتبار على المجال الديني، فإنّه يعني أنّ مصدر الوحي واحد من حيث المبدأ، ولكنّه تعدّدي في مسار التاريخ. فالقرآن يذكر “الدين الأصلي” أو دين آدم، أي الدين الذي انبثقت عنه جميع الأديان التاريخيّة [2]. وبذلك فإنّ لإسلام يعتبر بالفعل تنوّع الشعوب والأديان حكمة إلهيّة [3]، فيقرّر أنّ {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة، 5). فهذه الآية تثبت تنوّع التقاليد الدينيّة، وتراها واحدة ضمنيّاً في مدار التوحيد الإلهي. كما يقرّر القرآن أيضاً أنّ كلّ مؤمن سيجازى عن إيمانه والتقيّد بدينه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة، 2).

وقد أكّد النبيّ (عليه السلام) كونيّة الوحي في قوله: “الأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ”(3*). وبهذا، أدّى الاعتراف بالتعدديّة الدينيّة إلى احترام أملاك المؤمنين الآخرين في فترة كان التعصّب الديني هو السائد فيها، إذ يقول النبيّ: “مَنْ آذَى ذِمِّياً فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ”(*4). وبما أنّ الله أرسل حسب ما جاء في الحديث النبوي 124 ألف نبيّ لم يذكر القرآن منهم سوى سبعة وعشرين فحسب، فإنّه علينا البحث عنهم في التاريخ، وبذلك عدّ علماء المسلمين بوذا وزرادشت وإخناتون، على سبيل المثال، من الأنبياء. وقد توسّعت هذه الكونيّة بفعل المتصوّفة الذين صاغوا، بعد تجربة ومعايشة، عقيدة “وحدة الأديان”، وقالوا في ذلك عبارات شهيرة [4]. أمّا قيام معظم رجال الدين في الإسلام خيانة هذا المنظور الواسع والسخيّ، أو أنّه تقلّص بفعل الجهل الذي رافق جمود المجتمعات الإسلاميّة، فهذا غنيّ عن كلّ بيان. فقد تخلّى رجال الدين، حفاظاً على سيطرتهم على الجماهير، و/أو خوفاً من فقدان مرجعيّتهم، بشكل متزايد عن البعد الكوني والروحي للإسلام وغرقوا في مسائل إدارة الشأن الديني والممارسات الطقوسيّة.

واليوم، لا يمكن لأيّ كنيسة الاكتفاء فحسب بهذه الإدارة للشأن الديني، تحت طائلة فقدان مصداقيّتها. فجزء من الإنسانيّة يشعر بحاجة حقيقية للروحانيّة، وهذا ما ألاحظه على سبيل المثال في حقيقة توجّه الشباب المسلم من أصول مغاربيّة في فرنسا في الغالب نحو رفض الإسلام الشكلاني لآبائهم، وما ألاحظه أيضاً في ما يمارسه التصوّف من إغراء في صفوف العديد من الأوروبيّين الأصليّين. كما أنّنا نشهد في “السوق” الدينيّة أو الروحيّة التي تنفتح في أوروبّا، تزايد انتقاد الباحثين عن الحقيقة للكنائس بشكل عامّ، وهي الكنائس التي يزداد سعيها في الحفاظ على أتباعها أكثر من سعيها في المساهمة في رفع مستوى الروح البشريّة.

ولكي نختم حديثنا حول عودة الإسلام في أوروبّا، نشير إلى أنّ المشكل المطروح يتمثّل في أنّ الإسلام يعود في هذه القارّة في سياق عالمي لتوتّر جيوسياسي، وأنّه يتقمّص دور المدافع عن المظلومين في مواجهة المترفين ومواجهة القوّة العظمى الأميركيّة. وفي أوروبّا، ينتشر انعدام الثقافة الدينيّة ويصيب الجميع، بمن فيهم المسلمون، إذ يجهل كثير منهم كونيّة دينهم ومدى ثرائه. وإذا ما استمرّت هذا الأمّية، فإنّنا سنحصد الأصوليّة؛ وهذا بداهة، ما لا مصلحة لأحد فيه. لذا، فإنّه من الملحّ تكوين المؤمنين المسلمين في السياق الثقافي الأوروبي الذي هو سياقهم، وعدم الاكتفاء بتكوين “الأئمّة” وكأنّهم مجرّد كهنة. لقد أضحى العلماء والمشايخ الصوفيّة منذ بعض العقود يعقدون آمالاً كبيرة على هذا الإسلام الأوروبي، وإذا ما كان هناك بالتأكيد فرصة للإسلام، فإنّها ستكون أيضاً فرصة لأوروبّا: فقد تعرف أوروبّا كيف تبعث ميراثها المنسيّ من جديد، وتتعلّم كيف تنظر بأكثر صفاء إلى الأصل السامي الشرقي للأديان التوحيديّة الثلاثة التي تعيش فيها، وبالتّالي إلى تعدّدها العرقي والديني.

 

 

النصّ الأصلي للمقال:

Geoffroy (Eric), « L’apport spirituel et humaniste de l’islam à l’Europe: aperçu », Les Cahiers de l’Islam, Revue d’études sur l’Islam et le monde musulman, 4 Mai 2015.

 

 

التعريف بالكاتب:

 إيريك جوفروا: باحث في الإسلاميّات ومستعرب محاضر في جامعة ستراسبورغ، ويدرّس أيضاً في جامعة كاتالونيا المفتوحة (برشلونة)، وجامعة لوفان الكاثوليكية (بلجيكا). وهو متخصّص في التصوّف ومسائل المقدّس في الإسلام، ويعمل على التصوّف المقارن، والقضايا الروحيّة في العالم المعاصر.

 

هوامش المقال:

1 –  العبارة لآلان دي ليبيرا (Alain de Libera).

2 – انظر مثلا الآية 30 من سورة الروم:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

3 – انظر مثلاً الآية 48 من سورة المائدة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، والآية 22 من سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}، والآية 13 من سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

4 – انظر الفصل الخامس من كتابنا:

Geoffroy (Eric), Initiation au soufisme, Fayard, Paris, 2003, ch. 5 : « Le soufisme et l’ouverture interreligieuse ».

 

هوامش المترجم:

*1- كتاب “معراج محمّد”: الأصل العربي مفقود، وقد قام  المفكر المغاربي المرحوم جمال الدين بن الشيخ بجمعه من عدد مهمّ من المصادر العربيّة واللاتينيّة وترجمته وتحقيقه، وصدر في طبعة فخمة عن المكتبة الوطنيّة في باريس تحت عنوان: الحلم الوهّاج والحديث الهيّاج بمعجزة الإسراء وقصّة المعراج.

Le voyage nocturne de Mahomet suivi de l’Aventure de la parole, Composé, traduit et présenté par : Jamel Eddine Bencheikh, Collection orientale de l’Imprimerie Nationale, Dirigée par : André Miquel, Paris : Imprimerie Nationale Éditions, 1988.

*2 – القديس أغناطيوس الليولي (1491-1556) هو نبيل دخل بعد إصابته في إحدى المعارك خلوةً صوفية، وأسَّس في باريس جماعة رهبنة باسم “سريّة يسوع”، ووضع للرهبان دليلاً عمليًّا بعنوان “لرياضات الروحيّة”.

*3 – البخاري (أبو عبد الله، محمّد بن إسماعيل)، صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا، ط 3، دار ابن كثير، بيروت، 1987، ج 3، ص 1270، الحديث رقم 3258.

وفي تعليق المحقّق: “(أولاد عَلاَّتٍ): هم الأخوة لأب واحد من أمّهات مختلفة، والمعنى أنّ شرائعهم متّفقة من حيث الأصول وإن اختلفت من حيث الفروع حسب الزمن وحسب العموم والخصوص“.

*4 – بالبحث عن هذا الحديث تبيّن للمترجم أنّه موضوع و”لا أصل له” على ما يقول الإمام أحمد بن حنبل.

انظر: ابن عبد الهادي الحنبلي (شمس الدين، محمّد بن أحمد)، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، تحقيق:سامي جاد الله وعبد العزيز الخبانيدار، دار أضواء السلف، الرياض، 2007، ، ج 3، ص 156.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!