أحوالُ المحبينَ الإلهيين بين الصون والإفشاء

أحوالُ المحبينَ الإلهيين بين الصون والإفشاء

إشراقات (10)

 

أحوالُ المحبينَ الإلهيين بين الصون والإفشاء

                                                                                                     محمد التهامي الحراق
-1-

         ما يفتأُ المُطالع لكتب القوم القديمة والقريبة، والمستقصي لأخبار الصلحاء والعارفين من المحبين الإلهيين، يكتشف أمرا ثابت الحضور راسخ الظهور في مكتوباتهم وأشعارهم وتجاربهم؛ إنه حديثهم عن المحبة الإلهية بما هي سرٌّ بين المحب والمحبوب. ذلك أن هذه الصلة الخاصة يدركها العارف كسبا أو وهبا؛ أي إما عبر الاجتهاد في نوافل الخيرات حتي يتحقق بالمحبة الإلهية: ” مازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…” كما جاء في الحديث القدسي، وإما عن طريق الاصطفاء والفضل الإلهي بحيث يصير المجتبى محبوبا بغير طلب ولا بذل ولا تعمل و لا كسب،  إذ فضل الله لا يحجر؛ “ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ” [الحديد:21]. وسواء أكان سر المحبةِ الإلهية كسبيا أو وهبيا، فإن القوم انقسموا فيه بين بائح وصائن.
                                                   -2-

    من سلالة البائحين في تاريخِ القومِ، كبيرُهم الذي فاضَ عنه سر المحبةِ في صرافة حقيقته العارية فجلبَ له الحتف والسفك، أعني الحسين بنمنصور الحلاج (تـ309هـ)، والذي لمّا شرب من صرافة حلاوة المحبة الإلهية، غلبت عليه نشوتها فصدع بشطحه الشهير: “أنا الحق”، فأفتى الفقهاء والصوفية بقتله، بحجتين متمايزتين؛ إذ رأى الفقهاء في كلامه خروجا عن حدود الشرع ومقتضيات صون رسومه، فيما رأى الصوفية أنه خرج عن مقتضى صون السر فباح به بين غير أهله، وكلا الرأيين مستلزمٌ إخراسَ البائح، والإقرار بعار الإفشاء، يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي:

فمن فهم الإشارة فليصنها      ò    وإلا سوف يقتل بالسنان

كحلاجِ المحبة إذ تبدتْ    ò    له شمسُ الحقيقة بالتداني

فقال أنا هو الحقُّ الذي  لا ò     يغيِّر ذاتَهُ مرُّ الزمانِ

                                                     -3-

رام بعد ذلك القومُ “شرب السر ممزوجاً في الأقداح”، أي مزج لغة التحقيق بلغة التشريع في التعبير عن نشوة شراب المحبة الإلهية، فصاروا سلالتين: كاتمين وبائحين؛ ذاك ما عبر عنه شهيد آخر هو أبو الفتوح شهاب الدين السهروردي، صاحب “حكمة الإشراق” (تـ587هـ(، لما نظم:

                أهل الــهوى قسمان قسمٌ منهم       ò      كتموا وقسمٌ بالمحبةِ باحوا
              أما البائحون بسرهم شربوا الهوى       ò      صرفا فهزهم الغرام فباحوا
             والكاتمون لسرهم شربوا الهوى   ò   ممزوجة فحمتهم الأقداح
              بالسر إن باحوا تباح دماؤهم     ò    وكذا دماء البائحين تباحُ

-4-
منذ مأساة الحلاج، أدرك القوم أن عليهم تجديد علاقتهم باللغة، فصاروا يراودون الرمز أن يشير إلى قطرة من يم وجدهم الذي يستعصي على الحرف، لأنه من طبيعةِ ما يُذاقُ و لا ينقالُ. كما أصبحوا يشيعون بين مريديهم ما في كتمان السر و صونه من مزايا. ولعلَّ أقوى ما يحقق هذه المزايا ملازمة لغة الشرع عند اقتضاء البوحِ، لأن “كعبة” الحلاج “بفأس الشرع هدت” كما قال الشيخ أبو الحسن الششتري (تـ 668هـ). فيما سيأتي اللاحقون من العارفين الذين انتظمت مدارس التربية على أيديهم في رباطات وزوايا، وأصبحوا يضطلعون، من خلالها، بوظائف أخرى اقتضاها الذود عن حمى المسلمين وحماية كياناتهم أرضاً وروحاَ وعمراناً؛ هؤلاء المربون سيؤكدون أن الصون بهاءٌ والإفشاء عارٌ؛ إذ الأول تَشَرُّعٌ من حيث هو اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في عدم جعل الحكمة بين غير أهلها وفي مخاطبة الناس على قدر عقولهم حتى لا يُكذَّب صاحب الحكمةِ، أو يساء فهمُهُ فتُشان عقيدته، و هنا يصبح الإفشاءُ عارا لأنهُ يجلبُ الإنكارَ على القومِ الصادقين في أحوالهم، والتي تستدعي “فأس الشرع” إن صُدِعَ بها في صرافتها  عارية من لغة الشرع و خارج نسقها، أي خارجَ شرائط الزمان والمكان والإخوان.

-5-

من هنا، يبدو أن من شروط مراعاة عهد القوم اليومَ ملازمة وصاياهم، و عدم الزج بأحوالهم في الفضاء العام والمنتديات المفتوحةِ، حتى لا يُساء فهمها فيُشانَ أهلها؛ فحرمةُ سر المحبة تقتضي الصون. ألم يكن المريدون يُغلقون أبواب الزوايا عليهم عند اشتداد الأحوال بهم؟ ألم يشترطوا المجانسة في الإخوان عند سماع كلام القوم وأشعار الحقائق؟ ألم يؤنبوا المسمِّعين الذين يتغنون بتلك الأشعار في غير من يفهمونها؛ خوفاً من أن تصبحَ تلك القوافي المبللة بسر الصدق وصدق السر مداخلَ للنفس الأمارةِ فيما هي ثمارُ القلب المطهر بالذكر والعامر بمحبة الحق؟ ألم يُدخِل العارفُ الكبير أبو العباس المرسي (تـ616هـ) مثل هؤلاء في من يصدق فيهم قوله تعالى: ” ‏‏‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ” ‏[‏المائدة‏:‏24‏]‏   والأقوال والأمثال على النهي عن إفشاءِ أحوال القوم في غير شرائطها غزيرة وكثيرة…لذا وجب علينا اجتناء بهاء الصون واجتناب عار الإفشاء؛ وخصوصا وقد بدأت تنتشر، عن حسن نية غالبا، على المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي أشرطة مصورة لمجالس الذكر وحلقات “الحضرة” أو “العمارة” أي رقصات الوجد الصوفي، وهي من أحوال القوم الخاصة، والتي لا يجلُب نشرها خارج نسقها غير الإنكارِ على أهلها، لأنها تحوِّل أحوالهم الصادقةِ إلى مظاهر فلكلورية تمسخُ سرَّ وجدهم، وتطعنُ في صدق أهله، لا سيما وأن المشهد الديني يعج اليوم بنزعات التبديع والتفسيق والتكفير، وأن المحبينَ الإلهيين من المربين الصادقين قد راموا دوما التمسكَ بظاهرِ الشرع فضلا عن باطنه، لغيرتهم على سرهم أن يفشى بين غير أهله، فيتهمون بخرق الشريعة، فيما هي شرط لازم في سيرهم في طريق الحقيقة. ألم يقل الشيخ المغربي محمد الحراق (تـ1261هـ):

           و مكن بكف الشرع أمرك كله  ò ودونك إن لم تفعل الباب سُدتِ
 لذلك راموا غالبا “بهاءَ” الصونِ واجتنبوا دوما “عار” الإفشاء.

 

 

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. احمد

    المطلوب وتحقيق المسالة في هذا الباب راجع الى ايتين من كتاب الله”تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبن الله اياته للناس لعلهم يتقون”187 البقرة-“تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فؤلاءك هم الظالمون”229البقرة.فالاولى في ما هو “حل” والثانية في ما هو”حرم”.وكذا البوح بالاسرار وكتمانها.فيكون العامل بها خارج من “قياس التيمم” الى “اجماع الغسل” ب”ومن يطع الله ورسوله”.

    الرد

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!