الأولياء المحاصرون
بقلم: نويد أحمد
ترتبط الصور في مخيلتنا عن أفغانستان وباكستان لدى الكثيرين بالأصولية والسلفية، بينما يغيب تاريخ التصوف بالنسبة إلى البلدين. وقلة من الناس فقط لا تزال تلاحظ اليوم منطقة جبال الهندوكوش في آسيا الوسطى التي تعدّ حاضنة للثقافة الإسلامية المتفهمة والمعتدلة، والتي ساهمت بشكل بارز في مجالي الشعر والموسيقى.
ارتبط أصغر جزء من آسيا الوسطى ارتباطاً وثيقاً بتاريخ التصوف، فأفغانستان تعتبر مهد المتصوفين المسلمين العظام، كما هو الحال بالنسبة للشعراء الفارسيين مثل الخواجة عبد الله الأنصاري، وحكيم سيناي، وجلال الدين الرومي، وعبد الرحمن جامي. بينما تحمل مدينة هيرات، والتي اشتهرت بتحولها إلى مركز للشعر الصوفي، لقب “الأرض المقدسة”.
يسلط كتاب “الأولياء المحاصرون”، لصاحبه كينيث ليزيو، الصادر في 2014، الضوء على تقاليد أفغانستان الروحية العريقة. ويقدم الكاتب، وهو عالم أنثروبولوجي أميركي مُتخصص في التصوف، حصيلة أبحاثه حول الطريقة الصوفية الأفغانية في تسعينيات القرن الماضي.
فقد اكتشف ليزيو سنة 1990 طريقة صوفية كانت تتواجد على طول ما يُعرف اليوم بالحدود الباكستانية-الأفغانية، فشيخه آخونزاده سيف الرحمن كان شيخًا للطريقة النقشبندية التي ظهرت في أفغانستان خلال القرن الرابع عشر. هذا الكتاب يعدّ تقريراً فريداً من نوعه حول العام الذي قضاه المؤلف في رفقة الصوفيين الأفغان.
يرجع فضل انتشار الإسلام في جنوب آسيا في جزئه الكبير إلى التصوف الذي ميّز الإسلام والذي مورس في أفغانستان لسنوات عدة. في المقابل، فإن تنامي التطرف في هذه البلاد يعتبر ظاهرة عصرية نسبياً يمكن إرجاع تاريخ بروزها إلى سنوات الحرب ضد السوفييت خلال ثمانينيات القرن الماضي.
ارتبط التصوف في كثير من جزئياته ارتباطاً وثيقاً بتاريخ أفغانستان وباكستان؛ ففي الوقت الذي تميّزت سنواته الأولى بزهد المتصوفين، شغل مريدوه في السنوات الأخيرة مواقع مهمة على الصعيدين الروحي والدنيوي معاً في كلا البلدين. فعلى سبيل المثال، أصبح المتصوفة النقشبنديون مستشارين للملوك والأمراء وأشرفوا على تربية مئات الآلاف من المسلمين، سواء على المستوى الروحي أو الديني.
وخلال سنوات الحرب ضد السوفييت التي دامت عشر سنوات، تصدّر أحمد غيلاني وصبغة الله مجاهدي، الزعيم الروحي للنقشبندية، لائحة زعماء المجاهدين. وفي سنة 1992، عيّن مجاهدي رئيساً انتقالياً لأفغانستان بعدما سيطر المجاهدون على العاصمة كابل.
يرجع أول دخول للجيوش الإسلامية لباكستان إلى القرن الأول بعد وفاة النبي محمد، فقد أرسل الخليفة الأموي في دمشق بعثة إلى بلوشستان والسند سنة 711 يقودها محمد بن القاسم الثقفي.
ذهبت البعثة إلى أقصى الشمال، إلى ملتان، لكنها لم تستطع الحفاظ على هذه المنطقة ولم تفلح في نشر الشريعة الإسلامية في بقية أجزائها، بل تحولت المنطقة إلى مركز لنشاط تجاري وتبشيري ذي تأثير راسخ وقوي في الثقافة المحلية. كذلك سهلت التجارة الساحلية وتواجد الطائفة المسلمة في منطقة السند بشكل جلي التبادل الثقافي والنشاط التبشيري الذي ساهم في وصول التصوف إلى المنطقة.
ومن بعض رواد التصوف الأوائل كان محمد ألفي الذي التحق بالطريقة مبكراً بالتزامن مع بعثة بن القاسم سنة 711، ويُعتقد أن ألفي كان يقود عمله التبشيري في كشمير. كذلك جاء الشيخ إسماعيل البخاري قبل غزوات محمود الغزنوي.
واعتاد الشيخ عبد الرحمن إدارة عمله التبشيري انطلاقاً من مدينة أجمير، حيث كتب أول كتبه حول الإسلام باللغة الهندية. بينما حط عبد الله، وهو تبشيري إسماعيلي، الرحال بالقرب من كمباي سنة 1067 ميلادية واشتغل في مدينة كَجرات إبان حكم سيدراج جاي سينغ للبلاد. قام هؤلاء المتصوفة وغيرهم بإدخال الإسلام عن طريق التوليف ما بينه وبين المعتقدات المحلية؛ وبالتالي، فقد وفر الإسماعيلي والإمام شاه جنان (التراتيل)، العديد من المراجع التي تهم الهندوسية والثقافة المحلية. وقد استعملوا التقاليد الأدبية السائدة في الأدب المقدس من أجل نقل الرسالة الإسلامية، لذا، فإن بعض الأشعار الغنائية تتشابه مع تراتيل الباجان بشكل يبعث على الاندهاش.
يحاول الصوفيون المعاصرون التعبير من جديد عن الميتافيزيقية الإسلامية،باعتبارها جواباً عن المادية الغربية؛ وذلك نظراً لتأثرهم بكتابات الصوفيين الأوائل (من العصر الوسيط) وبالتجارب الروحية لمشايخ الطريقتين السهروردية والنقشبندية. فالصوفية بالنسبة إليهم هي لب الإسلام.
وعلى الرغم من تقلبات الاجتياح الأجنبي، وتداعي البُنى الاجتماعية التقليدية، وفرض التعليم والثقافة الأوروبية، وتنامي الدولة القومية العلمانية، والتحول الأيديولوجي في العالم المسلم نحو التطرف. إلا أن التصوف ظل يقاوم من أجل البقاء بشتى الأشكال المحلية وشمل جميع السكان من الأمي إلى المثقف. كذلك أصبحت الصوفية بباكستان في موضع يسمح بالدفاع عنها أو انتقادها. فالتصوف يظل يشكل جزءاً من الرأسمال الرمزي لكل الدول المسلمة وليس لباكستان فقط، وسواء جرى الدفاع عنه في اللغات التقليدية باعتباره جزءاً من ثقافة المسلم القديمة والنموذجية، أو الهجوم عليه باعتباره بدعة لا تمت للإسلام بصلة، فهو ينظر إليه على أنه شكل انتقائي لروحانية العهد الجديد وكونه جوهر الإسلام الغامض.
كذلك عرفت منطقة البنجاب الغربية حضوراً منقطع النظير لهذا النشاط الصوفي الذي حققته الطريقتان الجشتية والسهروردية اللتان حصنتا مواقعهما خلال القرون الأربعة عشر مع توافرهما على شبكة واسعة من أماكن الخلوة أو ما يعرف بـ”الخانقاوات” التي شكلت قاعدة أمامية للإسلام ارتبطت بالانتشار والتنظيم القبلي لسكان البنجاب. ثم تواجدت المراكز المحلية التي اعتبرت نقطة انجذاب تجاه التنظيم الإسلامي في جل منطقة البنجاب الغربية، ومصدراً يتم اللجوء إليه للبحث عن الزعامة الدينية. ويعود الفضل إلى تأسيس الخانقاهات في انتشار الإسلام بالهند في القرون الوسطى.
صارت الخانقاهات مؤسسة مهمة في حياة الطائفتين المسلمة وغير المسلمة في الهند خلال العصر الوسيط؛ إذ اكتسبت أهميتها انطلاقاً من المهام التي قدمتها إلى السكان المحليين على المستوى الاجتماعي، إضافة إلى المستوى التربوي والثقافي.
كذلك عبر أولياء الصوفية عن ميولهم في مجالي الأدب والموسيقى؛ وخير مثال على ذلك، أمير خسرو، إذ لم يكتف فقط بتزويد لغة الأوردو بالقواعد اللغوية والشعر فقط وإنما ابتكر أدوات الطبل والسيتار.
ولا نستطيع ختم المقال من غير التذكير بأبرز ثلاثة أولياء صوفيين تميّزوا بالأدب والشعر:
يحظى الشاه عبد اللطيف بتائي من ولاية حيدر آباد في جنوب السند باعتراف عالمي بكونه أعظم شاعر في الأدب السندي، وكان ضمن أولئك المتصوفة الذين يُدعون “أويسي”؛ لأنه لم ينتم بشكل رسمي لأي طريقة من الطرق الصوفية. ويقال إنه كان يرتجل أعماله، فقد نسخ أتباعه هذه الأعمال وقاموا بجمعها في مجموعة كبيرة تحت عنوان “جو رسالو” أو “رسالة الشاه”، وجمعت الرسالة تبعاً للطرق الموسيقية التي غُنت بها.
أما بلهى شاه، فقد قضى حياته في مدينة قصور جنوب لاهور. ويُعد أعظم شاعر صوفي بنجابي تميّز عمله على الخصوص بنداءاته الصريحة والفذة لضرورة الوحدة بين جميع البشر؛ بسبب عدم الترابط بين الممارسات الدينية الرسمية وكل ما ينتمي إليها. وقد أصدرت دار النشر في جامعة هارفارد ترجمة كاملة للنص البنجابي.
بينما اختير خواجه غلام فريد أو “كدح فريد” أول شاعر صوفي بنجابي بعد الولي العظيم في القرون الوسطى بابا فريد شكارغاني، هذا الأخير الذي يعد أحد أهم شعراء منطقة السند العظام، وبما أن نمطه ينم عن مستوى عالٍ، فإن أسلوبه المطور يحمل بصمة النخبة وخلفيتها وهي نفسها التي يتمتع بها خواجه فريد.
(العربي الجديد).