قلب الشاعر وعقل الفيلسوف: العنف التناصيّ بين الجسد الفاني والكلمة الخالدة
معاذ بني عامر
يومَ أنْ ماتَ “نيتشه” كتبوا على شاهدةِ قبره “لقد ماتَ نيتشه، وبَقِي الله”. كَعِقابٍ لَهُ على طرحه بـِ “موت الإله، نظراً لعدم جدواه”!. فالمنطوق النيتشوي كانَ قد هزَّ الضمير المسيحي المُتديّن ووضعه أمامَ استحقاقٍ عنيف.
الجسد النيتشوي تَطوَّحَ تحتَ ضغط الألم الجسماني المُبَرِّح؛ فمات. كذا أجساد من عاقبوه وكتبوا تلك العبارة على شاهدةِ قبره؛ شمسُ أجسادهم أفِلَت فماتوا. ومع نهاية الليل كانت شمس “نيتشه” العظيمة قد أشرقت من جديد بفعل الحرارة العالية في المحمول الذهني النيتشوي الحُرّ، وأبداً لم تُشْرِق شمس مُعاقبيه، بفعل الصقيع الكثيف الذي كَبَّلَ أرواحهم الهشَّة.
لقد أُخْرِجَ النصّ النيتشوي ككل من سياقه، إذ تمّ عزل (الكُل) وتُعومِلَ مع (الجزء)، وآلَ المآل إلى الفعل وردّ الفعل، لذا ماتت الأجساد –الأجساد كلها- وبقيت كلمات نيتشه!.
مِن قبل كان “الحلَّاج” قد تَلفَظَّ بمنطوق لغوي {جملته الشهيرة “أَنْــــا الحَــقّ”} احتملَ صدمةً للذهن الجمعي، لذا حُكِمَ على الجسد (القيمة الفانية في الذات الإنسانية) بالموت.
على خشبة الصلب كانَ “الحلَّاج” يعي قيمة الحرية –كمقولة وجودية بالدرجة الأولى- لذا صرخ في وجه جلاديه، في واحدةٍ من المآثر الملحمية للكائن الإنساني:
أقتلونــي يا ثقــــاتي إنَّ في قَتْــــــلِي حيــاتي
ومماتـي في حياتي وحيـاتي في ممـــــــاتـــــي
الجسد المصلوب على هاتيك الخُشُب المُتداعية حاكى الخالد فينا عبر النصّ الحلَّاجي، ومارسَ فتنته في الداخل، فشعرنا بالقشعريرة الروحية الهائلة التي انتابت الحلَّاج لحظتذاك، وللآن لا زالت تُمارس عبوراً طوعياً إلى أرواحنا!.
في مقطوعة لـِ “دانتي” كانَ قد غَرَّدَّ كهُدهدٍ أتى بخبر يقين:
“لَمْ يُخلق قبلي شيء سوى ما هو أبدي
وإِنِّي لباقٍ إلى الأبد”!.
وفي مقطوعة من قصيدة (أبجدية العائذ، بثلاثة ضمائر) للشاعرة “إيمان عبد الهادي”:
“ز : زِدْ أوّلَ الموتِ مَوتاً ليُصبِحَ في آخِرِ الموتْ
يا برزَخاً خُلَّبيّاً يسيرُ بلا قدَمينْ
ويَدري لِأينْ!
ألا يُحسِنُ الأصفياءُ مُحَاكَاةَ أَوجَاعِهِم في العُرُوجْ
بدونِ دَمٍ واشتياقٍ لجوجْ؟
ومِن دونِ أن يبدأَ الوَقتْ”!
تضع الكلمة بإزاءِ الوقت أو الزمن بصفته حاملاً لـلموت كـَ (محمول) إذ يُفْسِد الجسد ويُهدّمه؛ ففي العروج (والعروج يحتملُ قهراً في إحداث الزمن من حيث أنه يتطلب قفزاً هائلاً لخرقِ منظومة الكون والصعود ضمن سياق ملحمي إلى الملَكوت) خروج من إحداثية الفساد والتهدّم. فالانطفاء الجسماني إذ يتوضَّع الموت في الجسد ويدبّ في أوصاله، يصيرُ سيراً مُغايراً في البرزخ –عبر الكلمة الشعرية- إذ تنعدم القيمة المُتحقّقة للزمن، إذ ينفتح المُغْلَق الأرضي على أفقٍ لاهوتي في قهرٍ إحداثي للزمن وتراتبياته، فعالَم البرزخ (وإنْ كان مآلُ الجسدِ في هكذا حال إلى ما تحت الأرض) هو عالَم انفتاحي، فذاك القبر الصغير الضيق، يصير بوابةً للمُطْلَق، فعالَم ما تحت الأرض (إذ يتمثَّل بالجسد المُوَارَى تحت الثرى) يوازي الآن عالَم ما فوق السماء (رحلة العروج إلى الملَكوت). فهذا الخرق هو خرق نصِّي في المقطوعة أعلاه، وما كانَ للإنسان أن يعيه لولا فكره المُجنِّح، المُتفَلِّت داخل الذات التي تروم انفلاتاً من قهر الجاذبية وإحداثية الجسد الفاني.
الجسدُ سيأفل ويتفسخ وينتهي ولا أحد يستطيع أن يدّعي خلوداً جسمانياً هُنا والآن، فالبقاء الجسماني – ضمن مقولتي الزمن والمكان- من المُحال الإمكاني على نحوٍ إطلاقي. فالجسد رهن ضعفه، فهو يجوع فيأكل، ويعطش فيشرب ويتعب فينام وينضغط فَيُمارِس الجنس، وفي النهاية تتأكَّله الأرَضة الوجودية، فيموت. وللآن لم تنوجد حالة جسمانية واحدة أفلتت من هذا النقص الفيزيائي. وبقي الجسد –أبداً، سابقاً والآن ولاحقاً- بملبوسه الجسماني اللحمي يتأكّد فناء في هذا العالَم.
ولكن ها هم رافضو الموت (الشُعراء والفلاسفة) يُمارسون البقاء وكأنَّهم على قيد الحياة، فالعبور من زمنٍ إلى زمن تطلّبَ اجتراحاً ما في المقولة الوجودية، لناحية تجسير الهوة بين (الإلهي) و (البشري). وقد كانَ للإنسان أن يعي بدءاً أنَّ ثمة قوة ضاغطة تدفع به لعبور (آنيته) إلى زمن مُستقبلي ينوجد فيه كما لو كانت هذه الـ “آن” العبورية آناً إطلاقية.
لقد نُظِّرَّ للخالد (المحمول الذهني المعنوي) في الجسد (القيمة الفانية في الذات الإنسانية) بالكلمة معرفياً وجمالياً، لذا شعر المرء بحريته حتى وهو يموت.
فيلسوف العقل الحديث “ديكارت” أفادَ بـِ “بقاء النفس بعدَ الجسد”. فالبشري فينا ينعدم ويتفسخ، وهذا ما عاينه أفلاطون في محاوراته ساعة قال “إِنَّ الموت هو انعتاقُ النفس من الجسد”. فـَ “للموت – بحسب “ألبير كامو”- يدين نبيلتين، إذ إنهما بينما تسحقان، فإنهما تَهِبَان الحرية”!.
“بوذا” ترك كل ما يملك في سبيل نشوة غبطته التي قادته إلى الخلود، لقد خاض غمار الحيـاة أبداً. و”سقراط” أقدم على تجرّع كأس السمّ وكأنه يستلذّ بطيب خمر الجنان، لقد استبصرَ في لحظة عطاء مجيدة عن إمكان عبوره إلى أزمان قادمة، لذا تجلَّى في الموت كما تجلَّى في الحياة؛ فالموت – بحسب “هيغل”- “تصالح الروح مع ذاتها”.
في بيتِ “أمية بن أبي الصلت”:
والأرضُ مَعْقِلُنَا وكانت أمَّنَا فيها مَعاقلنَا وفيها نولَدُ
بانت الأرض حاوية للجسد الفاني، لكن “أمية” لا زالَ حياً وكأنه بين ظهرانينا، فدفقة الزمن السيَّالة تنقل الآن القديمة؛ آن “أمية” -عبر الكلمة الحيّة- إلى الآن الحديثة، في نبض مُتحرِّك كما لو أنَّ “أمية بن أبي الصلت” لا زالَ في عنفوان مجده الشعري ويصدح باستحقاق آدمي عنيف.
وفي مقطوعة من قصيدة (ما أجملها نائمة) للشاعر “أنور الأسمر”:
ما أجمل أمي!
ما أجلها نائمة!
ما أجمل طفلة الآخرة!
تنام في يديها الحياة
ولا شيء أبيض
غير وجهها
المُعبَّأ بالياسمين
وبالصلاة…
إذن تنام الحياة
ولا شيء يصحو
لأخطف بعض الهواء الذي يئنّ
في صدرها
وأبصر في تنفسه أملاً
يرقب الشاعر وجه أمّه وهي على الحد الفاصل بين الحياة والموت؛ الوجود والعدم، في استجلاء لدخيلةِ الذات المُتهالكة على هذا المشهد الميلودرامي كما لو كانت الذات الشاعرة هي الميتة الآن على الحد الفاصل بين الوجود والعدم، ترقب مشهدية عبورها من الآن الفانية إلى الآن المُطْلَقة. فالبريق العابر في النَفَس هو بريق ملحمي، إذ يشفّ عن خلود ما!.
الكلمة تُثَبِّت الذات الشاعرة أو الذات المُتفلسفة في العالَم تثبيتاً نهائياً، من حيث هي –أعني الكلمة- تغزو الأذهان المُستقبلية – ذهناً إثر ذهن بما يُشبه الزحف المُقدَّس- ومن ثمّ تقتحمها عن آخرها، وتُدمِّر بُنيتها تدميراً ناعماً!.
فـَ الشاعرُ يُوقِفُ اللحظة الزمنية الآنية ويمنحها أبديةً جمالية، إنَّه يتأكَّد ويتحقَّق في نَصِّهِ، منطوقه الشعري. فهو وإنْ كانَ حصيلةَ ذواتٍ مُشظّاةٍ سبقته في الوجود، من حيث هو يُعيد بناء الهيكل العظمي الشِعري، إلا أنَّ اللحم الذي يكسي به ذلك الهيكل هو لحم روحه، إذ تقول كلمتها الأخيرة بحقِّ هذا الوجود. فالشِواش القَبْلِي يصيرُ إعصاراً بَعْدياً بفعل حركة واحدة. ثمة فراشة تُرفرف حول النار العظيمة، وفي لحظة مدّ وجودي عنيف في الذات تتهالك فراشة الشاعِر إقدامَاً على النار المُقدّسة وتستشهد هناك، والشهيدُ حيٌّ أبداً!.
والفيلسوف يُأَشْكِل الزمن ويمنح عقله المعرفي حضوراً طاغياً في العالَم، عبر إعادة تأويل الثالوث الوجودي العظيم؛ “الله” و”العالَم” و”الذات”. وهو إذ يموت جسمانياً فعقله المعرفي يتخلَّد عبر طروحاته الجريئة، من حيث هو يجترئ على القديم، فَيُعْمِل معول عقله في الصخرة الصمَّاء، ومن الذرَّات الصغيرة (بلغةِ “ديموقريطس” سابقاً و”ليبينز” لاحقاً) يبني عالماً معرفياً جديداً وعلى سَنَامِه يجلس أبد الدهر، ويتَطَلَّع إلى المُطْلَق!. إنَّهُ يتأكَّد في منظومته الجديدة معرفياً. جمرة عقله تتوقد –لأزمانٍ قادمة- إذ يُناهز الأُسس ويجترحها من جديد؛ إنَّهُ يحرق ذاته بنارِ المعرفة الكبيرة، وبنورها يستضئ الناس!.
في طرحٍ شِعري يستبطنُ لا وعي الكائن البشري الخاص بإرثه اللامرئي، يطلب الشاعر “تركي عبد الغني” من الجسد –في قصيدته سِفر التُراب- مغادرة الروح:
كَبِدٌ أَنَا وعلامتـي الكَبَدُ فَأَخْرُج برَبِّك أيها الجسَدُ
ثمة نِوَاحٌ صادم من الروح الخالِد بإزاءِ الجسد الفاني؛ فالانعتاق من ربقة الجسد الفاني وقيده الأرضي مأثرة إنسانية تتأكَّد الآن في النص وإن رافقها ألَمٌ مُبرِّح؛ لحظة القراءة ولحظة الموت الفعلي. فالأَمْثلَةُ للروح والواقعيةُ للجسد، وما بينهما فناء وخلود. لأنَّ ثمة استحقاق إلهي بين جنبي الذات البشرية يطغى على الفاني البشري فيها؛ إِنَّهُ يتمثلّه في بيتٍ شِعري هائل –من ذات القصيدة- على لسان الروح:
وأنا، أنا لا شيءَ يُدركني في الكون إلا الواحِدُ الأحَدُ
هُنا، لا حدّ لـِ مَكْنَة الإنسان الداخلية؛ مجالها اللانهائي!.
في طرح استبصاري خلص الفيلسوف “أسبينوزا” إلى “استحالة تدمير العقل البشري بشكلٍ مُطْلَق”.
وهذا ما حدث طَرَّاً، فَكُلّ الذين ناضلوا على مستوى الروح، سواءً بالمعرفة أو بالجمال تخلَّدوا وعبروا الزمن. استبصروا ذواتهم من الداخل، فكانَ من السهل تأبّدهم في الخارج!.
الشاعر “موسى حوامدة” وفي قصيدته (حين يأتي الموت) يتمثل جموحاً إنسياً بإزاء الموت:
“حين يأتي الموت
سأرمي زهرة الخلود
في وجه جلجامش
واهزأ
من نصائح الأطباء”.
فعدم العبء الروحي بالموت الجسماني، يتخلَّد في النصّ حضوراً مُتنامياً لذات الشاعر؛ فهو يرفض الإرهاص الدامي للموت في المخيال البشري مُمثلَّاً في شخص جلجامش الشهير، إذ تعذّب أيما عذاب ساعة رأى جسد صديقه الأثير “أنكيدو” يتداعى بفعل الموت الذي دبَّ فيه، فأخذ يبحث عن عشبة الخلود مدفوعاً برعبٍ خفي ومُستتر من آفة الموت المُهلكة. في النص –نص حين يأتي الموت- رفضٌ لهذا الإرث الاستسلامي وخلود شخصي يبقى في النص.
وفي نصٍّ للشاعر “أمين الربيع” موسوم بـِ (سيناريو مقترح لموتي) تخيَّلَ ذاته ميتاً، وعلى جُثته ينعب الناعبون:
“ماذا سيحدثُ
حينَ تُعلنني النوائِحُ والدموعْ!
سيقولُ مذياعٌ:
تَرجَّلَ بعدما تعِبَ المجالْ..
ستقولُ عاشِقةٌ: مُحالٌ،
ثمَّ تُعلنُ أنَّني كنتُ المُحالْ..
سيقولُ مفتونٌ بشِعري:
أُرهِقت رِئَةُ السُّطوعْ!
سيقولُ آخرُ:
إنَّ في الأعصاب جوعْ”!.
في النص إحداث قهري لعنف الجسد إذ يُمارِس نبوءته ويموت، وعلى جُثته تُحاك الأقاويل الغيرية، لكن الكلمة تمنح الاستحقاق الجسماني الميت قيمة البقاء حتى أثناء عبور الموت إلى الجسد وتهديمه بالكامل:
“ماذا سيحدث للكثيرِ وللكثيرِ
وللكثيرْ..
لا شيءَ.. تبقى للحياةِ وِلادةٌ
ويظَلُّ للموتِ المصيرْ..
ويظلُّ دولابُ الوجودِ
يدورُ في الفَلَكِ الكبيرْ”!
فالجسد هنا وإن انتهى إلى الموت، فحتماً كلمات إماتته باقية، وذاتُ الشاعر –داخل الكلمة- في حِلٍّ من التناهي؛ فالتجلّي هَهُنا تجلٍّ نصّي يُقال بالكلمة؛ والكلمة هي الأُسّ الإلهي المُتموضع في الذات الإنسانية أبداً، لذا يعبر الشاعر بذاته الميتة إلى الملَكوت، دونما عناءٍ يُذْكَر. فـَ طوبى للذات الميتة في النصّ، لقد هدمت جدار الجسد؛ وعَبَرَت، عَبَرَت إلى عالَم الخلود والبقاء!.
وفي شذرة من قصيدة (هذيان: وقوف على طلل ناقص) للشاعر “شوقي البرنوصي”:
“لم أقف يوماً على طلل
لكن الرحيل وجيعتي وفضيلتي
سأُرجِعُ أدوات رحلتِيَ إلى أدراجها، فالذكرى قطاف خاسرٌ
ولا جديد ينبلج فوق العدم
والعدمُ نظرية تمرُّدٍ
اليوم ستعلو قامتي ثائرا: ثقوا بالشمس يا سكّان قصيدتي
قد يمرّ شدو الأماني سريعاً على ضجري
بتفاؤل أبريل أضيء زاوية الغموض، وأرسم نقطة آخر السطر
قدر الحبر أن يعلو فوق الوجع”.
ثمة انفتاح رؤيوي على مشهدٍ إنساني مُغايِر، يُبتدأ بالعدم، وينتهي بالاعتلاء على مشهدية الوجع الموتي، بالبقاء ضمن سياق نصّي يعي قُدرة الإنسان المُفكِّر على استشعار الموت الذاتي حتى في حالةِ الحياة، وإذا كان من فرق بين الإنسان والحيوان، لناحية مُعاينة الحيوان للموت كحدثٍ لمرةٍ واحدةٍ فقط، من حيث هو غير قادر على استشعاره قَبْلاً، في مفارقة جدّ جسيمة بينه وبين الإنسان العابر لحيوانيته، من حيث هو كائن مُفكِّر لديه القدرة على الاستبصار بما هو آتٍ واستشعار إحداثياته، حتى وإنْ لم يعشه حتى اللحظة. فالتقادم –في إحداثية الموت والعدَم- هو تقادم ذهني، والتسارع -إذ يُمات الجسد وتُعاين آلامه، ومن ثمّ ابتعاثه وتخليده- هو تسارع داخلي يستبطن عقلياً، إذ الإنسان قادر على كل ذلك؛ على إفناء ذاته وإماتتها، ومن ثم استشعار خلودها ولا نهائيتها.
“أفلاطون” كانَ قد تفجَّع على أستاذه ومُعَلِّمه “سقراط”، لذا منحه خلوداً شخصياً في محاوراته، ولا زال حضور “سقراط” –رغم التقادم الزمني الكبير- حضوراً طاغياً في الأنفس والعقول.
“أرسطو” وضعَ منطقاً أُطرَّ بموجبه العقل وحُدِّدَ بمُسّنّنات، وللآن لا زال “أرسطو” حاضراً، يُجادَل؛ يُؤخذُ منه ويُردُّ عليه.
“هيغل” غاير صاحب المنطق وابتكر منطقاً جدلياً اتُخِذَّ لاحقاً كَأُسٍّ لتفسير العالَم على أيدي مُريدين ثوّروا الدنيا وثارت معهم!
“الفارابي” (المُعلِّم الثاني كما سمَّى نفسه، بعدَ أن أطلقَ لقب المُعلِّم الأول على صاحب المنطق) غامرَ مغامرة كبيرة وطرح طرحاً مثالياً تجاوز فيه طروحات “أفلاطون”؛ لقد شَيَّدَّ مدينة فاضلة تُعتبر مدينة مُقدّسة لشدة مثاليتها!.
“ابن رشد” وضع رأسه على وسادة قاسية وأراحَ جسده المُتعَب ومات. لم يكن في نيته أنَّ حضارةً غريبة عن طينته (بعد أن عُوقبت كتبه بالحرق من قبل أبناء جلدته) ستستلهمُ روحه المعرفية العظيمة، وتبني عليها صرحاً منيعاً.
ومما تَمَّمَ مسيرة “آرثر شوبنهور” التشاؤمية هو اعتباره “الموت هدفاً حقيقياً للحياة”؛ وكأنَّ الموت كان مفتاحاً لباب البقاء الدائم. بقيت طروحاته كواحدةٍ من العلامات الفارقة في تاريخ الفلسفة عبر التاريخ كُلِّه، ولم تكن الإزاحة الأخيرة ناحية الموت نظراً لعدمية الفيلسوف المُتشائم إلا مغلاقاً انفتحَ عن آخره باتجاه الزمن المستقبلي.
ويوم أن ماتَ “محمد عابد الجابري” كانَ عقله الجبَّار قد بسطَ نفوذه على الأذهان، إذ فكَّكَ العقل العربي وكشف عن عوراته بعد أن طرده من النعيم! لقد حمل مشعلاً كبيراً على ظهره وطاف به العالَم. للآن – ولأزمان قادمة- سَيُعايِن الكثيرون نور “الجابري” ويهمسون لأنفسهم أولاً، وللعالم ثانياً: هُنا ثمة نور!.
العُنْف التناصيّ بين الجسد الفاني والكلمة الخالدة، يتحقق “ذاتياً” و”غيرياً”.
“ذاتياً” إذ تعي الذات الكاتبة لحظة الكتابة أنها ستموت رغم الاحتفاء المُضْمَر بالخلود. فالشعور المرير بالنهائي عبر تفسّخ الجسد وفساده بالموت، يتصادم مع شعور مُضْمَر يستبطن اللانهائي ويُمَظهِرَهه نصّياً أثناء مُمارسة الفعل الكتابي؛ بينهما تتخلق حالة من العذاب النفسي الشديد، فالانفصام بين ما هو (آفل) وما هو (باقٍ) يُعذِّب الذات الكاتبة، ويقضّ مضجعها من حيث هي تعيش في قلقٍ دائم، ليس على مصيرها فحسب، إنَّما على مصير البشرية ككل، إذ تَحلّ فيها البشرية كاملة وتَنْطِقُ بالمخبوء في دخيلتها عبر نصٍّ شِعري أو فلسفي.
و”غيرياً” إذ تَحِلُّ الذات الكاتبة في الذات القارئة لحظة القراءة، فَتُعيد إحياءها عبر استلهام لطروحاتها النصية العقلية أو القلبية. فعقل الفيلسوف أو قلب الشاعر إذ يحلّ في ذات القارئ لحظة القراءة فإِنَّهُ يتأكَّد من جديد في العالَم، رغم المعرفة المُسبقة بالموت الجسماني للشاعر أو الفيلسوف حتى وإنْ كان لا يزالُ على قيد الحياة. فـَ (العنف الغيري) هو عُنفٌ خارجي يتمظهر تجلّياً في العالَم بمنح الشاعر أو الفيلسوف حضوراً آنياً، لا يفتأ يتوالد ويتناسل مع ذواتٍ قارئة أخرى إلى ما لا نهاية. و (العنف الذاتي) هو عنفٌ داخلي يتمظهر هو الآخر تجلّيا في العالم لحظة الكتابة بما تُضمره من بقاء لا نهائي ستتحقق عبر ذوات أخرى!. وما بين (مُضْمَر الداخل) و (الإبانة الخارجية) يتوالد عُنف صامت تتواشج فيه إنسية الكائن البشري نهائيته) مع ألوهيته (=لا نهائيته) عبر واحدة من أشدّ التجليات البشرية ملحمية في الوجود ككل. إذ تُبين الكلمة المعرفية والجمالية، من حيث تحقّقها في قلب الشاعر أو عقل الفيلسوف، عن عدم نهائية الكائن البشري حتى وإنْ فَنِي الجسد.
“دعاء وصفي البياتنه” وفي قصيدة لها موسومة بـِ (أيقونة الصوتِ الأخير) لا يُقلقُ الموت وجودها، وكأنَّها قد استنطقت صَامتَ خلودها، في النصّ عبر الكلمة:
“فالإسمُ سِرْبٌ من معانٍ مسّها
طقسٌ تأَبَّدَ في حياتي الثانيةْ..
ما ضَرّني موتي وقبضُك خافقي
فالرّوحُ تعكسُ ذاتها بمقامي”!.
لذا تُقْدِم بشجاعةٍ على ما لا بُدّ منه، بصفته استحقاقاً جسمانياً فانياً غير ذي أهمية البتّة، إذا ما قُورنَ باستحقاقِ الروح الخالد. فالطور الجسماني إذ يفنى لحظة الموت ويتوقف عن دفقه المُعتاد، يُستعاد بدءاً عبر تنصيص الروح العابرة شِعْراً يُثبِّت الذات الشاعرة الآن، وكلاحقاتٍ لهذا التثبَّت تعمل الذوات المُتشابهة على الدفع قُدما بالذات المُنَصَّصة إلى أزمان لاحقة، فالكُلّ –الذات الشاعرة والذات القارئة- يلتقيان في بؤرة الروح التي أُسْتجلبَت إلى الظاهر العياني عبر الشاعرة!.
وفي تجلٍّ ذاتي يعمل الشاعر “صهيب عنجريني” على تخليد ذاته في نصٍّ فرَّغَ فيه المنطوق الشعري الذاتي ووسمه بـِ (من يوميات آدم الدمشقي)، ساعة وصف جنازته وهي تسير إلى مثواها الأخير:
“لعلَّ الغريبَ إذا ماتَ أفلحَ في لمِّ شملِ الأحبَّةِ حولَ العشاءِ الأخيرِ..
لعلَّ الغريبَ..
لعلِّي إن سار نعشي
استرقتُ –على غفلةٍ من ملائكةِ القبضِ- نظرةَ شوقٍ إليكم..
فألفيتكم سائرينَ معاً في وداعيَ،
ثمَّ ابتسمتُ على حينِ موتٍ،
وقلتُ لتلكَ الجنازة: هوناً، على مهلٍ فلتسيري”!.
فالشدّ والجذب بين المُحْدَث (=الموت) لوجود آدم المادي و المرجو (=الخلود في النص) لوجود آدم المعنوي، خلقَ نوعاً من العنف بين الجسد المُساق إلى مثواه الأخير، إذ تهدَّمَ وانعدمَ، وبين النص العابر للإنسان بصرف النظر عن الزمن والمكان، وبما إنه كذلك، فذاك مما يمنحه عبوراً وبقاءً.
وفي مقطوعة:
“سأهمسُ للغابةِ
أن تكشف الآن سوءتها
وتعمل سيفها
في السنديان قتلا
لا غيم يحملني إذن
ولا موت يشفعُ لي
ولذا
أرفعُ قامتي للريح
ليمرَّ فيَّ الجرحُ
سكيناً ونصلاً”!.
من قصيدة (قوس الطريدة) للشاعر “محمد سالم العمري” ثمة استلهام لشجاعةٍ إنسانية مفرطة، تفتح الباب على سهبٍ مفتوح حتى وإنْ كانت الخسارة عظيمة، فحدث الموت وإشراع الجسد المُتهافِت على الموت، يتجاوز محنة الموت السريري العادي، إلى صلب الجسد على خشب النصّ الشِعري، لِيُأمْثَل في الأذهان المُستقبلية.
بالمحصلة، لا معنى البتّة لخلود الذات الفردية –سواءً أكانت ذاتاً شاعرة أم ذاتاً مُتفلسفة تُقدّم طرحاً جمالياً أو معرفياً- إلا ضمن سياقاتها الكُلية. فالذات البشرية المُطْلَقة تحلُّ في الذات الفردية، لِتَشِفَّ عن إمكان بشري هائل يتجاوز حدود المُتعيَّن والمُتموضع هُنا والآن، إلى حدود قصية تتلمس فيها الذات الإنسانية الأساسات المبدئية التي تقوم عليها المنظومة الوجودية برمّتها. وهي إذ تحلّ وتَشِفُّ بالتالي، فهي تُؤشِّرُ على إمكانية الحلول والشفّ بالتالي في أي ذات حسَّاسة، أمكنها تنظيم الموجة الميتافيزيقية الداخلية ضمن سياق معرفي أو جمالي خارجي يُصار عبره إلى خلقِ (إمكانٍ إنسي) لـِ (مُستحيلٍ إلهي) يُجسِّد الذات البشرية في واحدةٍ من أعظم إشراقاتها الوجودية، لناحية أنها ذات لا نهائية حتى وهي تنتهي وتنعدم بالموت.
فالذات الكُلّية إذ تتشظَّى في ذاتٍ فردية، فثمة إبانة عن استحالة إمكانية تتوضّع في أيِّ ذاتٍ فردية، بما يؤكد الخالد في الذات عوضاً عن الفناء. وأمكنَ لأي ذات –لديها الاستعداد وإمكانية تفجير النبع الداخلي- أن تقع تحت وطأة هذا الاختبار الوجودي العنيف!.
فـَ الشاعر أو الفيلسوف (فرديٌ) يَحِلُّ فيه (الجمعي)، لذا يتأتَّى كَتَجَلٍّ (جمعي) في (الفردي)، وقد يكون في مأثرة صيرورة الشاعر فيلسوفاً من حيث هو يُقعِّد المعرفة جمالياً، أو في شاعرية الفيلسوف من حيث هو يُجَمِّل المعرفة ويكسر قالب قسوتها المنطقية بإحداث خرق في بنيتها بحيث تنفتح على أفقٍ جمالي، حدثاً اجتراحياً على مستوى الوجود ككل؛ فالذات الكُلّية (=الجمعي) تتوحدَ إمكاناتها بما يُشبهُ حلولاً نهائياً {والحُلْوُل ههُنا ليس بمعناه الصوفي التغييبي، إنما بمعناه الموضوعي بما يُشكَل اختباراً نهائياً لقدرات الإنسان المعرفية والجمالية، من حيث هي كتلة واحد في النفس البشرية وقدرتها على افتعال معجزة هائلة}، فتنفتح الذات الفردية؛ ذات الشاعر الفيلسوف أو الفيلسوف الشاعر، على أفقِ الذات الكُلِّية وتستنطق –عبر كلمة الشاعر الفيلسوف أو الفيلسوف الشاعر في العالَم- ما هو مُضْمَر وصامتٌ، وتصدح –كمرحلةٍ تتجلَّى فيها- بمكنونها الخالد واللانهائي، لناحية الطموح بعالَم بديل، ها هي أُسسه تتوضع في النص الشعري المُفَلْسَف أو في الطروحة الفلسفية المُشعْرَنة. فثمة صوت داخلي مُدوِّي في الذات الإنسانية الكُلية (=الجمعي) يُنادي بالخلود واللانهائي لا يفتأ يَطْرمُ الآذان ساعة وضعه في قالبٍ شعري أو فلسفي، يُقال عبر ذات إنسانية واحدة(=الفردي) هي ذات الفيلسوف أو ذات الشاعر، الأول يقولها معرفياً والثاني يقولها جمالياً في تشظٍّ من نوعٍ ما للكُلِّ الإنسي (المعرفي والجمالي) في الجزء الإنسي أيضاً، أما أنْ تُردم الهوة الإنسية الكُلية عن آخرها في ذاتٍ فردية واحدة، فتلك مأثرة هائلة واقتراب شديد بين (الإلهي) و(البشري) في ذاتٍ واحدة، إلى حدّ التحقّق الكامل.فالمنظومة الوجودية تتزاحم في النصّ المُبدَع، وتلتحم في بُنية واحدة لا تفتأ تتدفق تدفقاً عذباً مريحاً في عقول المُريدين أبد الدهر.