الذات الكبيرة والعالَم الصغير
فك وتركيب المعادلة الوجودية
معـاذ بني عامـر
لطالما راودت الإنسان أحلام بتغيير العالَم، والدفع به قُدُمَاً ناحية الأمام. وفي رحلة تقدّمه منذ القِدَم طاولَ البُنيان واجترح المعجزات، لكنه وقفَ عاجزاً –أيما عجز– عن إيجاد عالَم بديل للعالَم القائم. كل ما فعله هو إجراء تعديلات أو زيادة بعض الإضافات على ما هو موجود أصلاً. وقد شَكَّل هذا تحدياً –عند الأساس– لإمكانات الإنسان، فما بين مُتحرّك العقل البشري وثابت المادة الكونية، شعر الإنسان أنه بحاجةٍ إلى أن ينقذف خارج تأطيرات شرطه الزمكاني.
لقد انتصب الجانب اللانهائي عند الإنسان عالياً على مستوى الوجود ككل، وشعر معه أنه أكبر من هذا العالَم بإحداثياته المتعينّة، لذا عملَ على إجراء تعديلات وإضافات على بنى هذا العالَم، كسابقٍ لتبديله لاحقاً.
وإذا كانت الذات نمطاً بدئياً –بحسب تعريفات كارل غوستاف يونغ– فهي بموازاة العالَم أصلاً، أُسَّاً لأُسٍّ. ولمَّا كان العالَم كائناً غير عاقل، بموازاة قوة عقلية هائلة تستوطن الذات الإنسانية؛ فقد شعر الإنسان بإهانةٍ من نوعٍ ما إزاء هذا المعادلة.
والسؤال المُلحّ هَهُنا هو: لماذا هذا العالَم –رغم كمّ الألم الهائل– أفضل العوالِم المُمكنة؟.
نتيجةً –في واحدة من الإجابات المأساوية على هذا السؤال الجارح- عجز الإنسان عن مجاراة أزلية العالَم، فالتشيؤ البشري حالَ دونَ اكتمال الرؤية الكلية لإنتاج عالم بديل للعالَم الموجود. إذ لم يكن بإمكان الإنسان المُشظَّى، المُفتَّت إلى ذواتٍ لا حصر لها أن يصل إلى نبع العالَم، ويتحكّم بأساساته التكوينية، بل انوجدَ محكوماً بظرفٍ زمكاني سيقوده آجلاً أو عاجلاً إلى الموت والفناء والعدم.
لكن شعوراً دفيناً جعل الذات البشرية تشعر بتعاظم مسلكياتها في هذه الحياة إلى حدّ أرادت معه أن تصبح هي السيدة المُطْلَقة لهذا العالَم الكبير. ولكن بمقارنة بسيطة بين حجم العالَم الكبير وحجم الذات –اعتماداً على التمظهرات الخارجية– الصغير ، شُعِر بنوعٍ من الظلم. لذا عمدت الذات إلى استحضار العالَم إلى الداخل، وهناك تمّ تغييره.
الفشل في إبدال هذا العالَم بعالَمٍ آخر، كان نتيجة لعديد أسباب من أهمها – كما أرى– عجز الإنسان عن مجاراة أزلية العالَم!. ولكن السؤال الذي يُطرح: أليس الإنسان موجود منذ القِدَم ، مِنْذ البدايات؟. وإنْ يكن، فإبدال العالَم وإن أخذ طابعاً جمعياً إلا أنه نشاط فردي أتى –في واحدة من أعنف تجلياته– ليؤكّد بُعد الذات الفردانية بصفتها ذاتاً غير متناهية، خالدة، وعابرة للأزمان، وحاملة لجينات الجنس البشري كاملة بين جنبيها.
ولكن حُلما بإبدال عالم مكان عالم قائم لم يتم على أرض الواقع، بسبب الإحداثية الزمكانية التي أحكمت سيطرتها على الذات البشرية هنا والآن في بُعدها الفردي. فالذات البشرية المُشيأة، المشطورة، المقسومة بين تاريخ مولد وتاريخ موت، لم تستطع أن تُحدث إبدالاً في بنى العالَم التأسيسية. فالعُمر الزمني للوجود الشخصي للذات في بعدها الفردي حالَ دون إقامة هذا العالَم البديل؛ والأشخاص الذين حاولوا إبدال العالَم لم يسعفهم الوقت لكي يرووا ما أسّسوه في مُخيلاتهم؛ لقد ماتوا –وياللسخرية– مُبكّراً!.
واستدراكاً لهذا الموت المُبكّر، سَحَبَ الإنسان عالَمه البديل إلى الداخل كما أسلفت؛ صارت الجمجمة مسرحاً كبيراً لتجليات العقل. لقد أفاض الماء – كما في أسفار وآيات الخلق– وبنى العالَم كما يشتهي داخل جمجمته. زرع شجراً (مَتَحَ صورة الشجرة المُطْلَقة –مُحاكاةً للرؤية الأفلاطونية- في ذهنه وزرع شجراً في مُخيلته على هيئة الشجرة الأصلية) نما الشجر وتسامقت الأغصان ونضجت ثمارها، أكل من هذا الوهم اللذيذ ونام على جوع أبدي.
نما العشب، ودفق الماء في الزرع والضرع. شجّ الأرض وسَمَل باطنها، عرج إلى السماء واستوى على الغيم؛ طاولَ العُلا وجلب الكواكب والنجوم. وكما في قصة الشحّاذ الهندي الفقير الذي بدأ يحلم أحلام يقظة بعد حصوله على صرّة مليئة بالطحين، كذا حدث مع الذات وهي تبني عالمها داخل الجمجمة.
ولكي يخرج الإنسان من هذا المأزق الذي بدأ يضغط على ذهنه من الداخل ويُؤلِم جمجمته بالتالي، عمد إلى تفريغ هذي الأحلام على الورق عبر الكلمة. لقد بنى الإنسان عالَماً بديلاً عبر الكلمة وهناك أناخ راحلته وتطامن إلى هذا السراب المُقدّس، فما عَجِزَ عنهُ واقعاً اجترحه افتراضاً. مَسرحه في زمن وهمي خارج المكان المُتعيَّن. عبر المدن والصحاري كما في ملحمة (الرامايانا) لفالميكي، نام مع الوحوش وفكّر مثل الإنسان كما في قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل؛ عرج إلى السماء ونام فوق الغيوم كما في (الأمير الصغير) لانطوان دو سانت، جلب الماء من قمم الهملايا وهو جالسٌ في بيته كما في (سأبوح بحبك للأشجار) لعبد الوهاب البياتي، عظَّم الموت وصغَّر الحياة كما الحلاج في أشعاره، نفخ الروح في الأموات الآدميين وأقام قيامتهم في النصوص كما فعل أفلاطون مع أستاذه سقراط؛ هدمَ معالم الجاذبية الأرضية وطارَ بأبطاله إلى زمن مستحيل وأمكنة أكثر استحالة كما في (ألف ليلة وليلة)؛ فتحَ السماوات وعاينَ باطن الأرض كما في (آلة الزمن) لجورج ويلز؛ قضم تفاحة القمر وشرب عصير الشموس كما في (أليس في بلاد العجائب) للويس كارول؛ أنامَ العقل وأيقظ القلب كما في (التائية الكبرى) لابن الفارض؛ ذبحَ كما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل في النص القرآني؛ قتل كما قتل قابيل هابيل في النص التوراتي؛ زرع كما زرع الناس في الأرض الطيبة لبيرل باك، أحبَّ كما المجنون في أشعاره؛ جاب البحار وعبرها دون أن يبتل طرفه كما (دون جوان) للورد بايرون؛ مشى على الماء كما مشى المسيح في الأناجيل؛ اقتتلَ مع الأعداء وانتصر عليهم بمساعدةٍ من عوالِم الجن والأموات كما في الأساطير النورماندية؛ دنَّسَ المُقدّسات كما المركيز دو ساد في (جوستين).
قفز عن أعلى جبل في العالَم الافتراضي ،جبل الروح، وغابَ في زمن سرمدي. أصابه ضجيج هائل في مُخيلته، وكادَ أن ينتحرَ في لجّ الكلام!.
وعبر هذا الإسقاط تحايلَ الإنسان على وجودهِ في العالَم أزلاً وبقائه فيه أبداً. فالكلمة حرّرته من مشكلتي الزمن والمكان، ففي غمرة وجوده الافتراضي داخل الكلمة اجترح وجوداً كاملاً استبدلَ به العالَم القائم. فَتَّت المكان وأعاد عجنه من جديد كما يشتهي، وتجاوز الزمن الفعلي للعالَم وعاش في مكان داخلي خاص، تنقّل فيه بحريةٍ بين الأزمان، فالتقنيات الكتابية حرّرت العقل من إرهاصي الزمن والمكان، وقدّمت حلَّاً جذرياً للخلود الشخصي، وبناء عالَم جديد ميزته الكبرى أنه من إبداع العقل البشري.
لقد صارت الكلمة متموضعة في نصوص بعينها، هي البديل الأنطولوجي عن عالَم قائم أساساً، فالنص آلية حجب وكشف في الوقت ذاته؛ حجب لعالَم قائمٍ يعيش فيه الإنسان غريباً، وكشف لعالم كامن ينتمي إليه الإنسان بصفته وطناً يلتجئ إليه من نفي وجودي.
إن آليات الهدم للعالَم القائم في الخارج، والبناء –في الوقت عينه- للعالم الموعود في الداخل، هي آليات إيروتيكية بامتياز، بصفتها تشكّل حالة إغراء أنطولوجي بين ذاتٍ منفية ورحم مُشتهى. فحالة الاغتراب جعلت الإنسان يبحث عن ملاذ آمن، لكي يؤكّد –من جهة- إمكاناته الكامنة بين جنبيه، وتدفعه إلى الصراخ ليل نهار: أنا أكبر من العالَم!، وليتموضع –من جهة ثانية- في رَحِم يتحايل بموجب رخاوته ولذاذته على قسوة العالم الخارجي وصلابته القاتلة. وعليه فقد حالت –أعني الكلمة- إلى عالَم بديل وحامل لمضامين وجودية عميقة تمظهرت إبيستمولوجياً على هيئة نصوص، أحالت العالَم الخارجي الكبير إلى كائن صغير في الداخل الإنساني الكبير، وجعلت الإنسان يبدو وكأنه سيد هذا الوجود والمتحكّم الأساسي بنواميسه من أساسه الأزلي إلى رأسه الأبدي.