قراءة سيميائيّة صوفيّة في طواسين الحلاج

قراءة سيميائيّة صوفيّة في طواسين الحلاج

الصورة للفنان عامر الشاعر

شعريّة الخطاب الصّوفيّ

قراءة سيميائيّة صوفيّة في طواسين الحلاج

بقلم: د. أمين يوسف عودة

فتوّة الحال([1]): التجربة الصوفيّة المُفارِقة عند الحلاج:

قد لا نتَّفق على ولاية الحلّاج (ت309هـ/922م) وعلوّ كعبه في مراتبها؛ ذلك أنَّ الأقدمين من أشياخ التصوّف المعاصرين له لم ينعقد لهم اتّفاقٌ على ذلك، فثمّة من قبل حالَه وارتضاه، وثمّة من رفضه وطعن فيه وتحاماه. وعلى ذلك مضت سُنّة الآخرين فيه إلى يومنا هذا. وإن كان لهذا الأمر دلالاتٌ، فلعلَّ أهمَّها يبدو في كون شخصيّة الحلاج شخصيةً إشكاليّة من الطراز الأول([2])، بالنظر إلى السياق التاريخيّ الذي وُجِدَتْ فيه، وبالنظر إلى مظاهر الإشكال في مُلْتَبِساته الروحيّة والقوليّة اللتين لم تجريا على المألوف من سنن السلوك الصوفيّ والقوليّ في عهده، وهو العهد الذي يتراءى فيه أنّه كان متأثرًا بسلوك الجُنَيْد (ت298هـ/910م) الذي عُرِفَ عنه التوفيق بين الشريعة والطريقة والحقيقة([3]) على هدي من الكتاب والسُّنَّة. وفي هذا السياق يُشار إلى أنّ الجنيدَ نفسه كان من الرافضين لولاية الحلاج.

ولا خلاف على أنّ ثمّة شخصياتٍ أُخرَ شاركت الحلاج في الخروج على مألوف الخطاب الصوفيّ الذي كان يراعي قدر المستطاع مخاطبةَ الناس على قدر عقولهم، كشخصيّة أبي يزيد البسطاميّ (ت261هـ/874م)، وأبي بكر الشبليّ (ت334هـ/945م). بيد أنّ الحلاج كان أجرأهم وأكثرهم حملا لمقولات الشطح، أو بعبارة أخرى كان على رأس الخارجين على مقولة: خاطبوا الناس على قدر عقولهم. هذا فضلاً عن أنّ قضيّة الحلاج اتخذت منحًى سياسيًّا([4]) في ما بعد، أفضى إلى محاكمته وقتله تلك القتلة المؤثّرة.

ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يعنينا في هذا المقام هو الوقوف على سلوك الحلاج الروحيّ، وتحديد شواهد الفتوّة في أحواله، التي ستشخّص بمجموعها معنى الفتوّة عنده.

شواهد فتوّة الحال عند الحلاج:

أولاً: الأخذ بالعزيمة وشدّة العبادة والرياضات الروحيّة والإيغال في الدين ونبذ الدنيا.

فمنها أنّه أخذ من كلِّ مذهب من مذاهب الأئمَّة أصعبَه وأشدَّه، وكان إذا أراد صلاة الفرض اغتسل أولا ثمّ توضأ([5]). ومنها أنّه دخل مكَّة، وأقام في صحن مسجدها سنة، لا يبرح موضعَه ألا للطهارة والطواف، ولم يحترز من الشمس ولا من المطر، وكان لا يأكل ألا ثلاث لُقَيْمات أو أربعًا([6]). ومنها أنّه كان يتعبَّد على صخرة في جبل أبي قبيس وقت الهاجرة، والعرق يسيل منه حتّى بلّ الصخرة. وقال فيه أبو عبد الله المغربيّ (ت299هـ/843م)، شيخ الصوفيّة بمكّة، حين رآه على هذه الحال:” سوف يبتليه الله ببليّة لا يطيقها أحد من خلقه، يتصبّر مع الله !”([7]). ومنها أنّه كان ينوي الصوم في أول رمضانَ ويفطر يومَ العيد، وكان يختم القرآن في رمضانَ كلَّ ليلة في ركعتين، وكلَّ يوم في مائتي ركعة، ومع ذلك يخشى أن يكون عملُه مردودًا عليه([8]). ومنها قوله:” من أراد أن يصل إلى المقصود فلينبذ الدنيا وراء ظهره”.([9]) ومنها شهادةُ أحمد بنِ سُرَيْج (ت306هـ/918م) في أحواله العباديّة ومعارفه الشرعيّة حيث يقول فيه:” أمّا أنا فأراه حافظًا للقرآن عالمًا به ماهرًا في الفقه عالمًا بالحديث والأخبار والسنن، صائمًا الدهر قائمًا الليل، يعظ ويبكي ويتكلّم بكلام لا أفهمه فلا أحكم بكفره”([10]). ومنها قوله لأبي بكر الشبليّ وقد سأله عن كيفيّة الطريق إلى الله:” اضرب بالدنيا وجه عشّاقها، وسلّم الآخرة إلى أربابها”([11]). ومنها قوله:” علامة العارف أن يكون فارغًا من الدنيا والآخرة”.([12])

ثانيا: شدّة وجده وقوّة وطأة أحواله الروحيّة في مناجياته وفي غيرها، حتى لا يقدر على كتمانها. ومنها البكاء واحمرار العينين ونزول الدم منهما، وما شاكَهَ ذلك في أثناء العبادة والمناجيات.([13]) ومنها خروجه إلى السوق يستغيث ويصيح وينادي قائلاً:” يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه”([14]) ومنها قوله:” اعلموا أن الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني. ولمّا قيل له: كيف نقتل رجلاً يصلّي ويصوم ويقرأ القرآن ؟! قال: يا شيخ، المعنى الذي به تُحقن الدماء خارجٌ عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن، فاقتلوني تؤجروا وأسترح”([15]).

ثالثا: إخراج المال والتصدّق به حتى لا يبيت عنده.([16])

رابعا: ظهور الكرامات على يديه في الحبس وفي خارجه([17]).

خامسا: طلب المغفرة لقاتليه والتماس الرحمة لهم([18]).

سادسا: تأثيره القويّ فيمن حوله من العامّة والخاصّة من الوزراء والولاة والأمراء.([19])

سابعا: تشخُّص معنى الفتوّة تشخُّصًا بليغًا ونهائيًّا، في إقبال الحلاج على موته الذي تنبّأ به من قبل؛ أي أنّ موته الذي لم يزعزع شيئًا من يقينه وإيمانه وثباته على دعواه، يمثّل اكتمالَ فتوّة الحال عنده. وقد تجلّى معنى الفتوّة هذا في رؤيا استباقيّة، يرويها محمّد بن خفيف (ت371هـ/981م) الذي اجتمع بالحلاج في حبسه، وسأله عن مسائل، منها مسألة الفتوّة، فأجابه الحلاج بقوله: غدًا تراها، يقصد بذلك اليومَ الذي سيُقتل فيه. ويتابع ابن خفيف روايته قائلا:” فلمّا كان الليل رأيت كأنّ القيامة قد قامت، ومناديًا ينادي: أين الحسين بن منصور الحلاج؟ فأُوْقِف بين يدي الله عزّ وجلّ، فقيل له: من أحبَّك دخل الجنة، ومن أبغضك دخل النار. فقال الحلاج: بل اغفر يا ربِّ للجميع. ثم التفت إلي وقال لي: هذه الفتوّة”([20]).

إنّ مجموع الشواهد السابقة، خلا مقتل الحلاج، تؤلّف أهم نعوت الفتوة الشائعة لدى أغلب الصوفية، وقد نال الحلاج منها الحظ الأوفر. بيد أن إشارة الحلاج إلى معنى الفتوّة متجلّيًا في مقتله، يجعل مفهوم الفتوة عنده يبلغ مبلغ التضحية بالنفس والروح في سبيل الحفاظ على مبدأ اليقين الروحيّ؛ أي أنّه بهذه الخاتمة ذات المنحى الشهاديّ يضع الحدّ النهائي لمفهوم فتوّة الحال. وهذا النعت المخصوص به هو الذي يدعونا إلى القول: إن فتوّته فتوةٌ مفارقة عزَّ نظيرها في حينه.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ فتوّة حال الحلاج ساقته إلى فتوة أخرى، قد يصحّ تسميتها بفتوّة الرأي أو الرؤية، منها حديثه المبكّر عن النور المحمديّ أو الحقيقة المحمّديّة([21]) في طاسين السراج([22]). ومنها قوله بفتوّة إبليس وفرعون في النصّ الوارد في “طس الأزل والالتباس في فهم الفهم وفي صحّة الدعاوى بعكس المعاني” وفيه يقول:” تناظرْتُ مع إبليس وفرعون في باب الفتوّة. فقال إبليس:” إن سجدْتُ، سقط منّي اسم الفتوّة”. وقال فرعون:” إن آمنت برسوله، أُسقِطتُ من منزلة الفتوّة”. فقلْتُ _ والقول للحلاج _:” إن رجعْتُ عن دعواي وقولي، أُسقِطتُ من بساط الفتوّة”([23]). يقصد بذلك قوله:” أنا الحقّ”([24]). فالحلاج هنا ينظر إلى معنى الفتوّة من منظور الثبات على المبدأ، بصرف النظر عن محتواه الإيمانيّ أو الكفريّ أو الشّطْحِيّ، وكأنّه يشير بذلك إلى ضرورة وجود الثنائيّة الضدّيّة في الإطار الدينيّ الإنسانيّ، وهي ثنائيّة الإيمان والكفر؛ إذ إنّ الإيمان مُضمرٌ بضدّه وهو الكفر، بمعنى أنّ معرفة حقيقة الإيمان لا سبيل إلى إدراكها بغياب الكفر الذي هو ضدّها، وكذلك العكس، فالكفر مُضمر بضدّه، فلولا الإيمان لما عُرِف الكفر. ويؤيّد ذلك أنّ الحلاج يُدْرِج في عنوان ” طس الأزل والالتباس” قوله:” صحّة الدعاوى بعكس المعاني” وممّا يندرج في عكس المعاني أنّ الكفر عكس الإيمان. وكذلك في قوله في النصّ نفسه:” ومن لا يعرف القبيح لا يعرف الحسن”([25]).

إنّ القول بفتوّة إبليس، مع ما فيه من إشكال، ينطوي على رؤية ميتافيزيقيّة تُظهر ضرورة وجود الشرّ لا من حيث هو شرّ، ولكن من حيث هو نسبة أو حكم يُظهر معنى ضدّه وهو الخير. وكأنّ هذه الرؤية تُلْمِع إلى أنّ الخير المطلق هو الأصل المُمَثَّل في الوجود الحقيقيّ أو الوجود المحض، الذي هو الحقّ تعالى، فلا يُعقل أن يصدر عن الخير المطلق إلا الخير، لكنّه يتجلّى في أحكام الشرع في نسبتين، نسبة محمودة وأخرى مذمومة؛ فالمحمود منها ما حثّ عليه الشرع، والمذموم منها ما صدّ عنه، مع أنّ الأصل واحد وهو الخير، لكنّ الإنسان محكومٌ في دنياه للأحكام الإلهيّة الظاهرة، لا للأفعال الإلهيّة الباطنة التي هي الأصل. أمّا إبليس فهو في رؤية الحلاج يمثّل ذلك المظهرَ المسؤول عن إظهار الخير الذي هو فعل إلهي في مظهر يُحكم عليه بالشّرّ والقبح، امتحانًا للخلق وابتلاءً لهم.

وعلى ما تقدّم، فهل يمكن القول إنّ الحلاج يمثّل مرحلةَ تحوّلٍ تاريخيّة في إظهار بعض ما تنطوي عليه الشريعة في باطنها من عمق روحيّ كونيّ، في علاقة الحادث بالقديم الأزليّ ؟ وهل يمكن القول أيضًا إنّ هذه المرحلةَ كانت تقتضي فتوّة قويّة أو شخصيّة فدائيّة، أو بعبارة أخرى، تقتضي أضحية لكي تكشف عن أسرار التجربة الروحيّة الصوفيّة في مجالها المعرفيّ العرفانيّ؟ وهل يمكن أنّ نعدّ هذه الحالةَ الفريدة من الفتوّة، التي ارتضى أن يكون الحلاجُ رمزَها وفتاها، تأويلاً فعليًّا أو سلوكيًّا، أو إن شئْتَ قلْتَ وجوديًّا لمجموعة من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة الشريفة، ممّا يندرج في المتشابه ؟ كما في قوله تعالى:} فأينما تولّوا فثمّ وجه الله {([26]) وفي قوله تعالى: }وهو معكم أينما كنتم {([27]) وفي قوله تعالى:} ونحن أقرب إليه من حبل الوريد { ([28]) وفي قوله تعالى: :} هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن {([29]) وفي الحديث الشريف:” وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبَّه، فإذا أحببتُه كُنْتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها…”([30]) ؟

فتوّة القال([31]): شعريّة الإيجاز والاكتناز في الطواسين:

وكما انطوى مفهوم فتوّة الحال عند الحلاج على معنى الفتوّة المُفارِقة للمألوف والمعهود في محيطه، فكذلك الأمرُ في فتوّة القال الملحوظة في الطواسين؛ إذ إنَّ إجالة النظر فيها وإدامة التأمّل، تفضيان إلى القول إنّ نصوص الطواسين تُقدِّم نفسها على كونها كتابات عرفانية من طراز نادر غير مسبوق ولا ملحوق بمثله. إنّها تُمثل توقيعًا فردانيًّا مُغرقًا في خصوصيّة المبنى والمعنى وجدّتهما، من حيث الإيجاز والاكتناز والترميز العرفانيّ والتأسيس المعرفيّ، المرتكز على انتهاك هالات المعاني المحظورة والمسكوت عنها. هذا التأسيس الذي سينهض بعبء التمهيد لأهمّ مقولات العرفان الصوفيّ الكبرى لاحقًا، عند مُمَثليه كالغزاليّ وابن عربيّ وابن سبعين وعبد الكريم الجيليّ وأضرابهم. ولا إخال فتوّة القال في الطواسين، في مجال من مجالاتها، إلا من اجتماع مثل هذه النعوت فيها.

unnamed (1)

يرتحل الحلاج في كتابه الطواسين بلغة الخطاب الصوفيّ، إلى أفق ما وراء اللغة العاديّة ذات الدلالات المعجميّة، انطلاقًا من حالات ذوقيّة عرفانيّة خاصّة، لم يخصّص لها المعجم اللغويُّ العربيُّ مفاهيم يرتهنها ويحيل إليها. ولن يكون بمقدور الحلاج أن يصنع مفردات خارج منظومته اللغويّة المتداولة، ولكن بمقدوره أن يستثمر المجال الذي تسمح به إستراتيجيات الكتابة نفسها في محوريها التتابعيّ (= الأفقيّ) والاستبداليّ (= العموديّ)([32])، بما يتيح له إنشاء علاقة غير معهودة بين مسند ومسند إليه، أو مضاف ومضاف إليه، أو صفة وموصوف، وغير ذلك ممّا هو معهود في تركيب الجملة العربيّة، مُحْدِثًا بهذا الإسناد أو تلك الإضافة أو ذلك الوصف انزياحات دلالية، تفضي إلى خلق صور تعبيريّة مشاكسة وغير مألوفة، ومقولات عرفانيّة جديدة تخرق تخوم المقولات الدينيّة السائدة، لا في حدود الثقافة العامّة المحيطة به، إنّما يتجاوز الخرق حدودَ الخطاب الصوفيّ نفسه([33]) الذي كان يتستّر بغير قليل من إستراتيجيات خطابيّة، تُضيّق الفجوةَ بين أفق الانتظار المُتوقَّع وأفق الانتظار اللامتوقَّع. وثمّة شاهد على هذه الحالة يرويه أبو بكر الشبليّ معاصر الحلاج إذ يقول:” كُنْتُ أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنّه أظْهَرَ وكتمْتُ”([34]). والكتمان إمّا أن يكون بالصمت عن الكلام، وإمّا أن يكون بالتمويه في الخطاب، اتقاءً لسلطة المتلقي التقليديّ السائد وبطشه.

يضطلع المحور الاستبداليّ، في نظم الكلام، بتشكّيل مجموعة من التوتّرات الشعريّة الناجمة عن اختيار دوالّ بعينها، واقترانها بدوالّ أخرى ليست ممّا يحتمله مجالها التداوليّ المُتَوقّع، أو بعبارة أخرى، لا يندرج في أفق التوقّع الذي تستضمره هذه الدالة أو تلك، فنحن عندما نبدأ بتأليف جملة ما مُفتتحة بفعل “سال” مثلا، فإن هالة التوقّع العامّة التي تنبعث من هذا الفعل تستضمر الموادَّ القابلة للسيلان، كأن نقول: سال الماء، أو الدم، أو الدمع، أو السيل. أمّا أن نقول مثلاً: سال الحجر، فإنّ دالّة الحجر التي اختيرت على المحور الاستبداليّ من بين دوالّ أخرى مُحتمَلة، وأُدرجت على المحور التتابعيّ في علاقة إسناديّة مع الفعل سال- هي التي أحدثت توترًا شعريًّا ودلاليًا وتشويشًا في المعنى، وهو ما يسمّيه جون كوين بالانتهاك أو التجاوز([35])؛ لأنّ دالّة الحجر ليست ممّا يستدعيه أفق التوقّع المشار إليه؛ ومن ثَمّ تنتقل الدالتان سال والحجر، بفعل هذا الاقتران، من كونهما دالّتين تحيلان إلى مدلولين معجميّين، إلى دالّتين تحيلان إلى مدلولين جديدين يحيّنهما السياقُ النصيّ، والسياق الثقافيّ الخاصّ بهما، فضلاً عن المتلقي. إنّ هذا النمط من الاقترانات يسهم في تشكيل شعريّة الخطاب.” والشعر تبعًا لتعبير فاليري الدقيق (لغة داخل اللغة) نظام لغويٌّ جديد مبنيٌّ على أنقاض نظام قديم، وهي أنقاض تسمح لنا بأن نرى كيف يتمّ بناء نمط جديد للمعنى. إنّ اللامعقوليّة الشعريّة ليست قاعدة سابقة، بل طريق لا مفرّ منه، ينبغي أن يعبره الشاعر إذا أراد أن يحمل اللغة على أن تقول ما لا يمكن أن تقوله أبدًا بالطرق العاديّة”.([36])

سيمياء العنوان وشعريّته:

طس النقطة:

إنّ أوّل عتبة تقع في مجال شعريّة الكلام، أو فتوّة القال، في طواسين الحلاج، هي العنوان ” الطواسين” الذي جاء بصيغة الجمع لدالّة “طس” المُقترَضة من القرآن الكريم. وتشير صيغة الجمع هذه إلى أنّ الخطابات السرديّة التي تؤلّف مجموع كلام الحلاج في الطواسين، يحمل كلُّ واحد منها عنوان “طس” بصيغة المفرد، مضافًا إلى موضوعه لكي تنماز الطواسين من بعضها، فثمّة: طس السراج، وطس الفهم، وطس الصفاء، وطس الدائرة، وطس النقطة، وطس الأزل، وطس المشيئة، وطس التوحيد، وطس التنزيه. والعنوان هو العتبة الأولى التي يلجها المتلقّي عابرًا إلى النصّ، ويفترض أنّها تشكّل إحدى أهمّ العلامات التي تختزل محتويات الخطاب، وتنمّ عنها في الآن نفسه، وهي، إلى ذلك، علامة مؤشّرة تسهم في انبثاق الحدس الأوّل الذي سيحدّد نقطة البدء لمشروع القراءة، ويؤسّس عليها مسار التأويل والفهم، أو بعبارة أخرى، يؤسّس مسار جماليّة التلقّي.

تنطوي العنوانات على بنية ثنائية ذات علاقة ضدّيّة بين موضوعي السَّتْرِ والكشف أو الظهور والخفاء؛ فدالّة “طس” دالّة طِلَّسْمِيّة، أي إنّها تحيل، في الموروث الثقافي الديني، إلى سرّ من الأسرار الإلهيّة التي أودعها الحقُّ تعالى كتابَه الكريم، فهي دالّة مفتوحة على أفق دلاليٍّ غير متعيِّن، بمعنى أنّها منفتحة على أفق دلاليٍّ حرّ ومتّسع ومحتمل، إلى حدّ لا يصير معه إلى تعيين مدلولها على وجه قريب أو بعيد، فضلاً عن أن يكون وجهًا يقينيًّا، وهي بمنزلة شيفرة رمزيّة لا يعرف معناها إلا واضعُها، أو من كُشف له عن معناها؛ وعلى ذلك فهي ليست من العلامات أو الدوالّ المُتَواطأ على مدلولها؛ فهي مبهمة الدلالة وإنْ وُجِد لها موضع بين العلامات اللغويّة في المعجم العربيّ. وهذا بصرف النظر عن التأويلات التي وضعها القدماء أو المحدثون في محاولة تفسيرها، أو تفسير أمثالها من حروف الفواتح؛ لأنّها تخضع لمعيار الصحة والخطأ بنسب متساوية. إنّ مثل هذه الدوالّ لا تحيل إلى مرجعيّة مسبّقة في ذهن المتلقّي، خلا تلك التأويلات المتوارَثة في الثقافة الدينيّة، وهي لا تعدو أن تكون قراءات إسقاطية تخمينيّة، تفتقر إلى مرجعيّة لغويّة، حقيقيّة كانت أو مجازيّة.

تؤسّس دالة “طس” في العنوانات الداخليّة الطرفَ الأوّل في الثنائيّة الآنفة الذِّكر، وهو الستر الذي يدخل في علاقة تضايف مع الدوالّ الأخرى ( السراج، والفهم، والصفاء، والدائرة، والنقطة…) التي تشكّل طرفَ الكشف من الثنائيّة، وهي دوالُّ كاشفة لأنّها تملك مرجعيّة دلاليّة قارّة معجميًّا، ومتحرّكة سياقيًّا؛ فإمّا أن تكون مرجعيّتها معناها المعجميّ المحايد، وإمّا أن تكون مرجعيّتها دلالاتها المضمرةَ في السياق الذي يحتويها. وفي كلّ الأحوال فإنّ المعنى المعجميّ يظلّ هو الأساسَ الذي تنبثق منه الدلالة السياقيّة الجديدة لدالّة ما، وتغدو العلاقة بين المعنى المعجميّ والدلالة السياقيّة علاقة اتصال وانفصال في آن معًا. وهو ما يمكن استقراؤه في عنوان:” طس النقطة” الذي تتمثّل فيه دالّة ” طس” طِلَّسم العنوان وسرّه المغلق، وهو الجزء الساتر والمستور من ثنائيّة العنوان. أمّا دالة ” النقطة” فهي الجزء الكاشف منه على نحو نسبيّ وأوليّ؛ فهو كاشف لأنّه أضفى على “طس” شيئًا من التحديد والتخصيص بالإضافة، فانحصر أفقها الدلاليّ السديميّ ليغدو مرتبطًا ارتباط إضافة بالنقطة، ولم تعد “طس” تلك الدالّة التي تفتقر إلى مدلول شبه مطلق بالنظر إلى جمهور واسع من المتلقّين؛ لإنّها الآن استمدت مرجعيّة ما، لها علاقة بمدلول النقطة، وكأنّ “طس” تسعى إلى مدّ جسر دلاليّ بينها وبين المتلقّي عبر دلالة النقطة. ويمكن للقراءة الراهنة أن تقترح اعتمادَ كلِّ ما له علاقة بأسرار النقطة ومخبّآتها العرفانيّة، فضاءً مرجعيًّا لدالّة ” طس”، ومن ثَمّ، يرسو تأويل العنوان على: ” ” أسرار النقطة” التي سيشرع الحلاج في بيانها، والإيماء إليها تصريحًا وتلويحًا في متن النصّ وتضاعيفه.

لقد استطاع الحلاج أن يصنع لنصوصه السرديّة طواسين خاصّة، وعنوانات لم تَجْرِ على أعراقها، وليس لها مثال سابق في حينه؛ ذلك أنّ “طس” الواردة في الآية رقم واحد في سورة النمل من القرآن الكريم، وردت بغير إضافة([37]). أمّا العثور على عنوانات مشابهة لعنوانات الحلاج في التراث الإسلاميّ الصوفيّ وغيره في حينه، فأمر غير وارد في حدود معرفة الدارس. وإذا كان الأمر على ذلك، فقد أتى الحلاج بأمر عزّ نظيره عبر إنشاء علاقة تضايف بين “طس” وموضوعها. وعلى مثل هذا الإبداع الخلاق تُعوِّلُ شعريّة السرد الصوفيّ في الطواسين أو ما أسميناه بفتوّة القال، فضلاً عمّا سيأتي في مستأنف الحديث.

يبدو أنّ الحلاج تقدّم أقرانه من الصوفيّة في الترميز بالنقطة، وإفرادها بنصّ خاصّ بها عنوانه: “طس النقطة”. وقد كان لهذا الفتح العرفانيّ صداهُ العميق والواسع في التصوّف اللاحق، فاحتفت به منظومة العرفان الصوفيّ احتفاء مرموقًا([38])، وعُدَّت النقطة من أهمّ الرموز المتداولة في الشعر والنثر. وثمّة من الصوفيّة المتأخرين من وضع كتابًا خاصًا([39]) في بيان حقيقة النقطة، واستبطان مخبّآتها العرفانيّة. هذا فضلاً عن توظيف دلالتها الرمزيّة في الشعر.

يكشف الحلاج عن مضمرات النقطة الرمزيّة بقوله:” وأدقّ من ذلك ذكر النُّقَط، وهو الأصل لا يزيد ولا ينقص ولا يبيد”([40]). وفي قوله:” النقطة أصل كلّ خطّ، والخطّ كلّه نقط مجتمعة، فلا غنى عن النقطة للخطّ ولا للنقطة عن الخطّ. وكلّ خطّ مستقيم أو منحرف، فهو متحرك عن النقطة بعينها. وكلّ ما يقع عليه بصرُ أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّى الحقّ في كلّ ما يُشاهَد، وتَرائِيه عن كلّ ما يُعايَن. ومن هذا قُلْتُ: ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه”([41]). وفي قوله:” في القرآن علمُ كلّ شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السُّوَر، وعلم الأحرف في ” لام ألف”، وعلم ” لام ألف” في ” الألف”، وعلم ” الألف” في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصليّة، وعلم المعرفة الأصليّة في الأَزَلِ، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم المشيئة في غيب ” الهو”، وعلم غيب ” الهو” ( ليس كمثله شيء) ولا يعلمه إلا هو”([42]).

واضح أنّ الحلاج في هذه النصوص يصنع من النقطة علامةً رمزيّة بالغة الأهميّة في بيان رؤيته العرفانيّة للوجود، وعلاقته بالحقّ تعالى، فهو يختزل القرآن الذي يحوي علم كلّ شيء في النقطة؛ وهذا يعني أنّ النقطة تحوي علمَ كلِّ شيء، المُشارَ إليه في النصّ الأخير بالمعرفة الأصليّة. والمتأمِّل في الموقع الذي تشغله النقطة في النصّ الأخير، يدرك أنّها تتّخذ موقعًا برزخيًّا وسيطًا بين ما يظهر في عالم الشهادة من جهة، وما ينطوي في عالم الغيب من جهة أخرى، وبذلك تنفتح النقطة على عالمين، الأول: عالم الشهادة أو الملك الذي مثّله الحلاج في القرآن الكريم، المُختزَلِ في الأحرف التي في أوائل السُّوَر، المختزلةِ في ” لام ألف” المختزلةِ في ” الألف” المختزلةِ في النقطة، وكلُّ هذا ممّا هو مشهود لنا. والآخر: عالم الغيب أو الملكوت المُمَثَّلُ في المعرفة الأصليّة والأزل والمشيئة وغيب ” الهو”، أي هويّة الحقّ تعالى الذي ” ليس كمثله شيء”، وكلّ هذا من شؤون الحقّ تعالى الغيبيّة غير المشهودة لنا.

فالنقطة، وفقًا لهذا الموقع الوسيط، هي العنصرُ البسيط الأوّل الذي سينهض بعبء تأسيس الكون بكلّ ما فيه من أشكال وأثقال، كما يشير إلى ذلك نصُّ الحلاج الآنف:” وكلُّ ما يقع عليه بصرُ أحد هو نقطة بين نقطتين” فالكون باتّساعه وكثرته لا يخرج عن كونه نقطةً متكرّرة بما لا يتناهى من التكرار، وهذا يفضي إلى القول بالوَحْدة السارية في الكثرة، أو بصدور الكثرة عن الوحدة. فما ثَمَّ إلا النقطة، وهي التي تُظهِر الأشياء للعِيان. وصورُ الأشياء ومظاهرها ما هي إلا أعراضٌ للنقطة، فكأنّ الحلاج يجعل من النقطة رمزًا للحقّ المتجلّي أو الظاهر في مظاهر الوجود، ودليلاً عليه. وعلاقةُ الظاهر بالمَظْهر أو الصورة علاقةٌ جدليّة بين غياب أحدهما وحضور الآخر، فالظاهرُ هو الحقُّ تعالى في المَظاهر والصُّوَرِ التي هي نحن، وهذه الكثرة الموجودة من حولنا، فمن شَهِدَ المَظاهرَ والصُّوَرَ احتجبَ بها عن رؤية الظاهرِ فيها وهو الحقُّ تعالى، أما من فَنِيَ عن رؤية المظاهر والصور فإنّه حتمًا سيقع على الواحد الظاهر فيها وهو الحقّ تعالى. وتنتهي المعادلة إلى أنّ حضورَ أحدهما يحجُب حضورَ الآخر، ومن هنا قال الحلاج:” ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه” لا على معنى الظرفيّة، إنّما على معنى التجلّي بما يليق بالمتجلّي.

وإذا كان الأمر على ذلك، فعلاقة الظاهر بالمظهر كعلاقة النقطة بما تشكّله من أشكال أو موجودات، كالخط أو الدائرة أو أيٍّ من الأعيان الوجوديّة، فَمَنْ يشهدُ شكلَ الدائرة مثلاً يشهدها على كونها دائرة، ولا يشهد أصلها الذي هو النقطة، والعكس صحيح حين تُشهدُ النقطة، فلا يُرى، ثَمَّ، سواها؛ لأن الوجود الحقيقيَّ لها وليس للدائرة، وليست الدائرة إلا عَرَضًا لها، وهكذا في سائر الأشياء.

ويبدو أنّ ابن عربيّ قد التفت، لاحقًا، إلى هذا المعنى، وضرب له مثلاً من عالم الأرقام الذي هو عالم تجريديّ تنبني عليه عوالم المادّة، موضِّحًا علاقة الوحدة بالكثرة عبر علاقة الرقم واحد بسائر الأرقام. وفيه يقول:” فما ثَمَّ إلا الواحد، والاثنان إنّما هو واحد وكذلك الثلاثة والأربعة والعشرة والمائة والألف إلى ما لا يتناهى، ما تجد سوى الواحد، ليس أمرًا زائدًا، فإنّ الواحد ظهر في مرتبتين معقولتين، فسُمِّي اثنين هكذا “11” مثلاً، ثم ظهر في ثلاث مراتب هكذا “111” مثلاً فسُمِّيَ ثلاثة، زدنا واحدًا فكان أربعة، وواحدًا على الأربعة فكان خمسة، كذلك أيضًا كما أنشأه يُفنيه بزواله عن تلك، فتكون الخمسة موجودة، فإذا عُدم الواحدُ من الخمسة عُدمت الخمسة، وإذا ظهر الواحد ظهرت الخمسة، وهكذا في كلّ شيء”([43]). وهذا ما ينطبق على علاقة النقطة بالخطّ أو بالدائرة، فإذا عُدمت النقط المتكرّرة في الخطّ أو الدائرة عدم الخطّ نفسه والدائرة، وهذا أيضًا ما ينطبق على علاقة الحقّ تعالى بالوجود وأعيانه، فإذا لم يكن الحقُّ تعالى ظاهرًا في المظاهر والصور، عُدِمت ولم يكن لها أثر. ومثلُ هذه المعاني ليست ببعيدة عن قوله تعالى:” فأينما تولّوا فثَمَّ وجه الله”([44])، ووجهُه تعالى ذاته المنزّهة. وفي قوله تعالى أيضًا:” وهو معكم أين ما كنتم”([45]) و” نحن أقرب إليه من حبل والوريد”([46]). هذا القرب الذي طالعه الحلاج، وذاق معناه المُلتبس حتّى قال فيه([47]):

وقد دلّ دليلُ الحبْـ بِ أنَّ القُرْبَ تلبيسُ

وقال([48]): عجبتُ منك ومنّي يا منيةَ المتمنّي

أدنيتني منك حتّى ظننتُ أنّكَ أنّي

إن حالة القرب الإلهيّ التي عاشها الحلاج حالة ملتبسة حقًّا، والتعبير عنها ينطوي أيضًا على لبس في المعنى يوشك أن يقتل صاحبه. وقد كان الحلاج مدركًا لهذا الأمر حينما قال لإبراهيم بن فاتك:” يا بنيّ، إن بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون عليّ بالكفر أحبُّ إليّ وإلى الله من الذين يُقِرّون لي بالولاية. فقلت: يا شيخ، ولم ذلك؟ فقال: لأنّ الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنّهم بي، والذين يشهدون علي بالكفر تعصّبًا لدينهم. ومن تعصّب لدينه أحبّ إلى الله ممّن أحسن الظنّ بأحد. ثم قال لي: وكيف أنت يا إبراهيم حين تراني وقد صُلبت وقد قُتلت وأحرقت!؟ وذلك أسعد يوم من أيّام عمري جميعة”([49]). وفي قوله:” أيّها الناس، اسمعوا منّي واحدة، فاجتمع عليه خلق كثير، فمنهم محبٌّ ومنهم منكر، فقال: اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني”([50]). ولا مرية في أنّ الحلاج لم يصرح بهذا إلا لأنّه يعلم أنّ كلامه عن حقيقة القرب الإلهيّ، ينطوي على فتنة عظيمة وكفر صريح، بالنظر إلى من لم يذق ذوقه، ولم يرق مرقاه. وهو فضلاً عن ذلك لم يُطق السكوت كما فعل صاحبه وكفؤه أبو بكر الشبليّ كما تقدّم، فلم يجد الحلاجُ مناصًا من الدعوة لإقامة الحدّ عليه، درءاً للفتنة التي لم يطق السكوت عليها. أمّا أولئك الذين نفّذوا فيه حكم الإعدام فهم مؤاخذون بنواياهم، فمن كانت نيّته على درء الفتنة فهو على حقّ، ومن كانت نيّته على كره أو حسد أو أمر سياسيّ ودنيويّ، فهجرته إلى ما هاجر إليه.

إنّ طس النقطة ما هو إلا تمثيل رمزيّ بالحرف والكلمة والعبارة الإنسانيّة، يحيل إلى مدلول القرب الذي بلا مسافات، والذي ليس فيه “هنا” و “هناك”، إنّه بالأحرى يحيل إلى علاقة ملتبسة لا يُتخلَّص إلى وصفها باللغة الإنسانيّة ومنطقها الصارم، إلا عبر الخروج عليها وعلى منطقها، وإحلال لغة بديلة، ومنطق مغاير تنقلب فيه معادلة المعنى، ليغدو الربُّ حاضرًا في العبد حضورًا يليق بربوبيّته، ويتجلّى الحقّ في مُسمّى الخلق، ويكون أقربَ إليهم من حبل الوريد، أو قاب قوسين أو أدنى، عَلِمَ الخلقُ ذلك أم جهلوا. وليست دوالّ التقريب المستعملة ههنا في دلالاتها الوضعيّة إلا من أجل إمكانات متلقّيها الذي لن يدرك منها إلا ماهو ضدّ البعد، وأمّا حقيقة المعنى الوجوديّ الإلهيّ، فليس ثمّة مسافة وليس ثمّة ضدّ.

شعريّة الأَيْنِ والْبَيْنِ وقابَ قَوْسَيْن:

يقول الحلاج في طس النقطة:

” رجعنا إلى: فكانَ قابَ قوسين

بِرَمْي أيْنَ بسهم بَيْن

أثبت قوسين لتصحيح بَيْن

أو لِغَلَبَةِ العَيْنِ أدْنى بِعَيْنِ العَيْن”.

في هذا النصّ الشديد الكثافة، والشديد المراوغة، مجموعةٌ من الدوالّ المكوَّنة من الأسماء والأفعال والظروف والحروف، تمّ اختيارها على المحور التتابعيّ والاستبداليّ، أمّا المحور التتابعيّ، فدوالّه خاضعة للتراتب المعهود في الجملة العربيّة، وليس في هذا التراتب ما يفضي إلى خلق توتّرات شعريّة مؤثّرة. وأمّا المحور الاستبداليُّ، فيُحدِث الحلاجُ فيه انتهاكًا بيّنًا، باختيار الجملة الفعليّة “فكان قاب قوسين” لتتّخذ موقع الاسم المجرور بحرف الجر “إلى”، وليست تعدية الأفعال بحروف الجرّ إلى الجملة الفعليّة ممّا تسيغه العربيّة، إلا إذا قُدِّر محذوف يقتضيه السياق هنا وهو “قوله” مثلاً لتصير الجملة بعد التقدير:” رجعنا إلى قوله: فكان قاب قوسين”. على أنّ القراءة الحاليّة تنأى بنفسها عن هذا التأويل وإن كان محتملاً؛ والسبب في ذلك أنّ الحلاج يتحدّث عن ذوقه لحالٍ من أحوال القرب الإلهيّ التي تجلّت له، وهي شبيهة بالحال التي ذكرها القرآن الكريم في سورة النجم، والتي خُصّ بها محمّد، صلى الله عليه وآله وسلّم. والحلاج عندما يقول:” فرجعنا إلى فكان قاب قوسين” إنّما يريد الرجوع إلى الحالة نفسها وليس إلى القول، وبعبارة أخرى، إنّه يريد تجاوز الاسم إلى المُسَمَّى، أو الدالَّ إلى المدلول، لكنّ استحالة الفصل بين الدالّ والمدلول، هي التي أبقت على الرسم اللفظيّ للدال، مع أنّ المراد هو المدلول؛ أي حال القرب بوصفه إحساسًا ومذاقًا، لا بوصفه تلفّظًا.

وهكذا يفعل في سائر الدوالّ الأخرى التي تقتضي تقدير محذوف؛ ليصحَّ به التركيب على ما هو معروف من كلام العرب، كما في قوله:” بِرَمْيِ ” أين”، والمراد وفق التقدير: برمي كلمة “أين”. والتقدير ذاته ينطبق على كلمة “بين” و ” وأدنى”. ولكن القراءة الحاليّة، كما تقدّم القول، تأبى الوقوف عند هذا التأويل، وتجاوزه إلى القول إنّ النصَّ يحاول بهذا النمط من الانتهاك، إنشاء سَنَن خطابيّة خاصّة به، تسعى جاهدةً إلى تمثيل مذاق القرب، الذي هو إدراك حال القرب الإلهيّ حسًّا لا معنى فحسب؛ ذلك أنّ سلسلة الأصوات في دالة “قرب أو قريب” تحيل إلى مفهوم مجرد، لا إلى التلبّس بحالة القرب نفسها؛ ومن ثَمّ، فالنصّ عندما يستدخل الدالةَ المكانيّة ” أين” استدخالاً مباشرُا بقوله:” بِرَمْيِ أَيْنَ بِسًهْمِ بَيْن” إنّما يريد – قدر المستطاع – أن ينقل إلى المتلقي الإحساس بحالة نفي المكان، بالنظر إلى العبد لا الربّ؛ لأنّ الربّ لا يُتصوَّر معه أين. وقد عُدِم الإحساس بالمكان برميه بسهم البين، أي الفراق؛ لأن البين هو الفراق، فيصير المعنى إلى مفارقة ذات العبد للمكان، فهو الآن يستشعر معية الله بلا مكان.

هذا ما يبدو للوهلة الأولى، ولكنَّ العبارةَ التالية في قوله:” أَثْبَتَ قوسين لتصحيح “بين” تأتي لتستدرك ما بدا أنّه نفيٌ للمكان نفيًا مطلقًا، وهو في الحقيقة ليس كذلك؛ ذلك أنّ دالّة البين ذاتها تحيل هي الأخرى إلى المكان؛ فالبين لا يكون إلا بين اثنين، ووجودُ الاثنين يسوق إلى وجود المسافة التي هي حيّز مكانيّ؛ وبذلك نعود إلى النقطة الأولى التي انطلقنا منها، وهي إثبات المكان بدلاً من نفيه؛ ولهذا يأتي النصُّ بإثبات القوسين لتصحيح البين، أو لغلبة العَيْن ” أدنى” بِعَيْنِ العَيْنِ. وإثباتُ دالّة القوسين ههنا يأتي لتمثيل حالة القرب التي فيها نفيٌ لصيغة المكان أو المسافة. وهذا الوضع يُذكِّر بما أنشأه النِّفَّرِيُّ (ت354هـ/965م) لاحقًا في معنى القرب والبعد الإلهيّين حينما قال:” وقال لي: القرب الذي تعرفه مسافة، والبعد الذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة”([51]). وليس ثمّة قربٌ أقرب من التقاء القوسين من طرفيهما، على نحو يؤدّي إلى تكوين دائرة يتقابل فيها قطرا القوسين، فتبدو الدائرةُ عندئذٍ مقسومةً نصفين بلا مسافة بينهما، وبحصول الدائرة ينتفي البعدُ الذي هو مسافة مكانيّة، وينتفي معه تحديدُ نقطة بداية الدائرة ونهايتها على محيطها، لولا وجودُ القطر الذي نشأ من التقاء نصفي الدائرة أو القوسين اللذين هما قوسا القِدَم والحُدوث، وفق ما ترتئيه القراءة الحاليّة؛ وبذلك يكون إثبات القوسين قد انتهى إلى تصحيح البَيْن، وإزالة كلّ ما تبقّى من أثر لأيّ علامة تحيل إلى حيّز المكان أو المسافة.

على أنّ النصَّ مُستَأنَفٌ بقوله: أو لِغَلَبَةِ العَيْنِ “أدنى” بِعَيْنِ العَيْنِ. أمّا العينُ الأولى، فالقراءة تُخَمِّن أنّها عين الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أي ذاته، وهي العين التي خُصّت بقرب ” فكان قاب قوسين أو أدنى”([52]) كما ورد في القرآن الكريم، وأمّا ما عداه من ذوات، فإنّ كُشف لها عن مثل هذا القرب فمقامُها فيه بالتَّبَعِيَّة لا بالأصالة؛ لأنّه مقام خاصٌّ بذاته الشريفة -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو له بالأصالة، ولغيره بالتبعيّة، ونسبةُ الأصالةِ إلى التبعيّة كنسبة الشيء إلى ظلِّه؛ وعليه، فما دامت ذاتُ الواصل إلى مثل هذا المقام تستشعر معنى القرب المُعبَّر عنه بـ” أدنى” فهي ما زالت تتعاطى حيّز المكان والمسافة، وما زالت رهن عالم الفَرْقِ لا جَمْعِ الجَمْعِ([53])، وأمّا إذا فَنِيَتْ العينُ عن عالم الفرق، وفنيت عن نفسها، وفنيت عن فنائها، فعندئذٍ يلتئم قَوْسُها بِقَوْسِ المطلق، والأحرى أن يُقال: تظهر حقيقةُ قَوْسِ العَبْدِ العدميّة، وتبقى دائرةُ من لم يزل باقيةً أزلاً وأبدًا، أعني دائرة القِدَم، وتشهد عينُ العبد – وهي ليست ثَمَّ – أنّ ذات الحقِّ تعالى هي عينُ ذاتها من حيث الوجود. وفي مثل هذا المشهد تُعْدَم الحدود، فليس ثَمَّ مكانٌ أو زمان أو إثنينيّة، إنّما مَحْضُ وجودٍ مطلق لا غير؛ ولهذا قال: أو لغلبة العين “أدنى” أي لن يكون بمقدور الذات أن تتجاوز الإحساسَ بعالم الفَرْقِ الذي هو عالم المكان والزمان والإثنينيّة، المُعبَّرِ عنه بـ”أدنى” إلا بِعَيْنِ العَيْنِ، أو بعبارة أخرى: بِذاتِ الذَّاتِ التي هي ذات الحقّ تعالى. وللخروج من هذا اللبس، آملين ألا ندخل في لبس آخر، يمكن القول: إنّ ذات الحق تعالى تنوب عن ذات العبد في تلقّي معنى القرب الذي بلا مسافة، على نحو ما قاله النِّفَّرِيُّ آنفًا.

إنّ هذا النصَّ المقتبس من “طس النقطة”، ينطوي على مستويات شعريّة عدّة، يبدو أوّلها في ذلك النمط من الانتهاك، المُشار إليه آنفًا، الذي ينهض على اختيار ملفوظات بعينها، وإدراجها كما هي في مواقع من محورَي التتابع والاستبدال إدراجًا يفضي إلى إحداث توتّر في علاقات الدوالّ بعضها ببعض، في محاولة مضنية لتمثيل الحالة الذوقيّة المُرادِ التعبير عنها. وثانيها يبين في الملفوظات المختارة نفسها التي تشكّل لُحْمَة النص وسَداه، وهي تحديدًا: قاب قوسين، والأين، والبين، العين، وعين العين، والتي وُظِّفت في سياقٍ كأنّه يحدس بتحوّلها، لاحقًا، إلى مصطلحات ستسهم في تكوين المعجم الاصطلاحيّ لمنظومة العرفان الصوفيّة. وثالثها: يبدو في التعالق النّصّيّ الذي يستدعي الآية:” فكان قاب قوسين أو أدنى” التي تحيل إلى شهود القرب الإلهيِّ شهودًا ذوقيًّا وليس قولاً إخباريًّا، وهو ذوق لا تستقصيه الصِّفَةُ، ولا يبلغه القولُ على ما هو عليه. وفي هذا السياق يمكن الحدسُ بأنّ نصَّ الحلاج ليس تأويلاً لهذا الشهود الفريد فحسب، إنّما هو إعادة صياغة إنسانيّة عبديّة له بإزاء الصياغة الإلهيّة الربّيّة؛ فالإنسانُ خليفة الحقِّ تعالى بالقوّة، وعندما تتحقّق الخلافة فيه بالفعل فإنّه سيضاهي الحقَّ تعالى ولكن مضاهاة اعتبارية. ورابعها: ذلك الإيقاع الصوتيُّ المتكرّر الذي تولِّده الكلمات المنتهية بحرفي الياء والنون، سواء في دَرْجِ الكلام أو في منتهاه، وقد تكرّرا ثماني مرات، وهو عدد كبير بالنسبة إلى نصٍّ مكوّنٍ من أربع جمل قصيرة. وتُخَمّن القراءة الحاليّة أنّ تكرار هذين الحرفين المتّصلين، إنّما يرمي إلى تحويلهما إلى علامة صوتيّة ذات نغمة تراتبيّة واضحة، تنتشر على سطح النص؛ لتمتصَّ دلالةً إيحائيّةً من سياقه، وتسهم في تشكيل فضاء النصِّ الإيقاعيِّ المسكون بهاجس التعبير عن ذلك القرب الذي يوصف بأنّه بلا مسافة، وذلك بنفي دوالّ المكان اللفظيّة، كالأين والبين، والدالّتين الإيقاعيّتين: الياء والنون، عبر استحضارها في النصّ الملفوظ؛ إذ ليس من الممكن نفيُ الإحساس بحضور الحيّز المكانيّ إلا إذا كان حاضرًا في الحسّ والوعي، وكذلك الأمر في النصِّ الملفوظ. إنّه شكلٌ من أشكال تكثيف الحضور بغية تحطيمه وتغييبه، أو هو إثبات ينتهي إلى المَحْوِ. وخامسها يتجلّى في ما يكتنز به النصُّ – بتضافر المستويات الشعريّة السابقة واشتغالها في آن معًا – من مسارات تأويليّة محتملة، تترقّب متلقِّيًا يرغب في محاورة النص ومعايشته والدخول معه في مغامرة تأويليّة، بغية الكشف عن وجه من وجوه جماليّات تلقّيه.

شعرية النصِّ الأيقونيّ وتأويلُه:

ثمَّة أسلوب تعبيريٌّ آخر يمارسه الحلاج في الطواسين، يعتمد على التشكيل البصريّ، كالدوائر والمربّعات والخطوط المستقيمة والمائلة وأشكال الحروف والنقاط([54])، يؤلّف فيما بينها لتكوين تشكيلات هندسيّة، تشبه إلى حدٍّ ما لوحات الفنّ التشكيليّ المعاصر ذات المنحى التجريديّ، مزاوجًا بذلك بين العلامات اللغويّة والعلامات الأيقونيّة، راميًا إلى تشخيص ما يتأبّى على التشخيص؛ فالمعاني التي يرومها الحلاج معانٍ لا تتّسع لها أردية اللغة المفصّلة مسبّقًا، كلّ رداء بحسبه؛ ولكي يخرج من هذا المأزق يلجأ إلى تمزيق هذه الأردية، وإعادة خياطتها وتشكيلها من جديد في محاولة شبه مستحيلة لقول ما لا يقال.

يقول الحلاج في طس النقطة:

” رأيت طيرًا من طيور الصوفيّة

وعليه جناحان

وأَنكرَ شأني حين بَقِيَ على الطيران

فسألني عن الصفاء

فقلْتُ له: اقطعْ جناحيك بِمِقْراض الفناء، وإلا فلا تتبعني.

فقال: بجناحي أطير إلى إِلْفي.

فقلْتُ له: ويحك! ” ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”([55])

فوقع حينئذٍ في بحر الفهم وغرق.

وصورة الفهم هذه:

النُّقَطُ أفكارُ الفهم، الواحد منها حقٌّ وما سواها باطل”([56]).

يمثّل هذا الشكلُ علامةً أيقونيّة موغلة في التجريد والترميز. ولا شك أنّها محمّلة برؤية عرفانيّة مُسْتَمَدَّةِ من سياق النصّ الذي يكتنفها، والذي يحيل إلى حوار بين صوتين، الأول صوت الحلاج نفسه، والآخر صوت أحد الصوفيّة الطائر بأعماله نحو الحضرة الإلهيّة، أو بعبارة أخرى ذاك الذي يرقى في معراج معرفة الله تعالى، معتمدًا على حوله وقوته اللذين شخّصهما النصُّ في استعارة الجناحين. وفي سياق سؤاله عن الصفاء ينبّهه الحلاج على أنّ حالة الصفاء الحقيقيّة لا تتحقّق إلا بالفناء عن رؤية الأعمال؛ لأنّ الله تعالى هو الفاعلُ الحقيقيّ في الوجود، وعندما يعترض الصوت الآخر بقوله: بجناحي أطير إلى إلفي، ينبِّهه الحلاج لغلطه في قوله: إلفي؛ إذ إنّ الله تعالى لا إلْفَ له ولا نظير؛ فيدرك الصوفيّ ما فاته، ويصحّح رؤيته، وعندئذٍ يتحقّق بالفناء الذي عبّر عنه باستعارة الغرق في بحر المعرفة الإلهية الحقّة.

في هذا السياق يرسم الحلاج أيقونة الفهم لتشخيص حالة الفناء التي تَقْلِبُ ثنائية الظاهر والباطن رأسًا على عقب، ليغدوَ الباطنُ ظاهرًا، والظاهرُ باطنًا. أمّا الظاهر فهو المُعَبّر عنه بعالم الشهادة أو الملك، وهو ما سوى الحقِّ تعالى. وأما الباطن فهو الحقُّ تعالى، أو نورُه المتجلّي في الموجودات، مصداقًا لقوله تعالى:” الله نور السموات والأرض”([57]). وينتهي هذا الانقلاب إلى تحوّل رؤيويٍّ جذريٍّ يَحْكُمُ بِبُطلان المظاهر والكثرة المشهودتين للحواسّ، ويكون معنى البطلان هنا العدم، أي أنّ حقيقة ما سوى الله تعالى حقيقةٌ عدميّة وإن ظهرت للعِيان والحواسّ على أنّها موجودة؛ فما أظهرها سوى ظهورِ الحقّ تعالى فيها كما يليق به من التنزيه والإطلاق. ولعلّ الحديث النبويّ الشريف:” أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطل”([58]) يومىء فيما يومىء إلى قريب من هذا المعنى، لأن الباطل هنا بمعنى العدم.

تتأسّس أيقونة الفهم على مجموعة من العناصر الخطّيّة والحرفيّة والنُّقْطِيّة التي يتعلق بعضها ببعض تعلقًا يرمي إلى تشكيل نصّ أيقونيّ رمزيّ، لعلّه يختزل نصّ “طس النقطة” ذاته، لا سيما الجانب الذي يتمحور حول فهم العلاقة بين النقطة وما سواها من عناصر، وذلك في سياق الحديث عن مذاق القرب الإلهيّ الذي يشكل موضوعة “طس النقطة”.

يقع العنصر الأول الذي هو حرف “الحاء” والذي يعلو حرف “الألف” خارج المستطيل الممتدِّ أفقيًّا وعموديًّا بزاوية قائمة، مكوِّنًا شكلاً يشبه حرف اللام النائمة، والخطُّ الذي يكوّن محيطَ الشكل اللاميّ خطٌّ متّصلٌ ومغلق. وفي بداية الجهة اليمنى من الشكل ينتصب حرفُ الألف قائمًا، ويتّصل به خطٌ أفقيٌّ متتابع من النقط في داخل الشكل اللاميِّ، موازيًا لِضلْعَيْه الأفقيّين، ويمتدُّ نحو جهة الشِّمال، ثم ينعطف بزاوية قائمة إلى أعلى، موازيًا الضلعين القائمين اللذين يكتمل بهما ذيلُ الشكل اللاميِّ، لِيُكَوِّنَ هو الآخر حرفًا يشبه حرف اللام.

إنّ القراءة الراهنة لهذا النصِّ الأيقونيّ هي قراءة تخمينيّة بامتياز، وتنبنّي مشروعيّتها التخمينيّة على ما تمّ إنجازه فيما سلف.

ينطوي الخطُّ المتتابع من النقط الذي يشقُّ وسط الأيقونة أفقيًّا وعموديًّا على تمثيل رمزيّ، لعله يومىء إلى الجوهر الباطنيّ الفرد الذي انبثقت منه العناصر الأخرى المكوِّنة للشكل اللاميّ، وهي: حرف الألف، والخطّان المتّصلان المتوازيان اللذان يشكّلان حرف اللام، وهذا يعني أنّ أصل الحرف والخطّ ليسا إلا نقطة متكرّرة. وقد ذكر الحلاج قبل قليل أنّ عِلْمَ ” لام ألف” في ” الألف” وعلم ” الألف” في النقطة، ولعلّ هذا ممّا يفسر اتّصال خطّ النقط بـ” الألف” اتّصالاً يشير إلى أنّ وجود ” الألف” مُستمدٌّ من وجود النقطة ذاتها، فليس ثمّة وجودٌ للألف دون وجود النقطة. ” كانت النقطة في كنزيّتها قبل تجلّيها بذات ” الألف”… وكانت الحروف مستهلكةً في كُنْهِها الغيبيّ، إلى أن ظَهَرَتْ بما بَطَنَتْ، وتجلّت بما استترَتْ، فتشكّلت في مظاهر الحروف. وإذا تحقَّقْتَ لم تجد إلا ذات المِداد المُعّبَّر عنه بالنقطة… والمعنى: أنّه ليس شيءٌ هناك ظاهرٌ في نَفْسِ الحروف سوى ذاتِ النقطة، المُعَّبرِ عنها بالمِداد المُطلق، من أجل ما تضمَّنَتْه من استهلاك سائر الحروف في حقيقتها، قبل التجلّي وبعده، إذ ليس للحروف وجودٌ في الخارج، ولو بعد التجلّي، إلا نفس المداد، فالحروفُ كائنةٌ بكينونة النقطة لا باستقلالها”([59]).

إنّ أوّلَ تجلٍّ وقع للنقطة كان في حرف ” الألف” الذي هو أوّلُ حروف الهجاء. والمتأمّلُ في خصائص هذا الحرف رسمًا وصوتًا، يجد أنّه الحرفُ الوحيد القائم بغير مَيْلٍ، فهو بهذه الصفة منفردٌ عن غيره؛ لأنّ سائر الحروف مائلة. كما أنّه، من حيث كونه صوتًا، يُنطق به بحريّة دون أن يحدث له قَطْعٌ أو تغيير في حًيّز من أحياز جهاز النطق، وهو الصوت الذي تنبثق عنه سائر الحروف، ولكن بحدوث قطع أو تغيير للصوت في أثناء انسيابه في مخارج أصوات الحروف ومجاريها من جهاز النطق، كصوت الباء مثلاً، فهو في الحقيقة صوت الألف، ولكن مع انغلاق الشفتين انغلاقًا مؤقّتًا، يقطع صوت الألف مؤقّتًا لإحداث صوت الباء، وهكذا في سائر الحروف.

تُظهر هذه العلاقةُ المُضْمَرةُ بين صوت الألف وغيره من أصوات الحروف، أنّ الحروف موجودة بالقوّة في الألف، أو بعبارة أخرى، فإنّ الألف تتجلّى في سائر الحروف، ولولا وجودُ الألف أصلاً لما وُجدت الحروف. وكذلك يقال في النقطة، فلولا وجود النقطة لما وُجِدت الألفُ ولما وُجِد الخطُّ. بيد أنّ النقطة تختلف عن الألف في أنّ النقطة منزّهة عن الإحاطة بوصف. يقول عبد الكريم الجيليّ:” ألا تراك ترى النقطةَ ولا تُحْسِنُ تقرأها ألبتَّةَ لصموتها وتنزّهها عن التقييد بمخرج دون مخرج، إذ هي نفس الحروف الخارجة من جميع المخارج”([60]). ويضيف أبو العبّاس المستغانميّ في وصف النقطة:” جاءت النقطة على خلاف ما في الحروف ” ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”([61])؛ فلهذا لا يقع عليها حدُّ التعريف كما يقع على غيرها من الحروف، فهي منزّهة عن كلّ ما يوجد في الحرف من طول وقصر واحتداب، فلا تُعْقَلُ بما يُعقل به الحرف رسمًا ولفظًا، فبينونتها من الحرف معقولة، وكينونتها فيه مجهولة… وليس للنقطة مخرجٌ خصوصيٌّ، حتى إنّك إذا رسمتها تجد صورتها مباينة لجميع الحروف، وإذا أردت التلفُّظَ بحقيقتها فإنك تقول:” النقطة” فيجنح بك اللفظ إلى حروف ليست من ذاتها، وهو: النون، والقاف، والطاء، والتاء، فاتّضح لنا أنّ النقطة معناها لا تحويه الألفاظ… ألا ترى أنّ المتلفِّظ بالنقطة هل أراد التلفُّظَ بها، أم بالحروف الثلاثة !”([62]) ومن هنا يُفهم المراد من قول الحلاج الآنف إنّ في القرآن عِلْمَ كلّ شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور، وعلم الأحرف في ” لام ألف”، وعلم ” لام ألف” في ” الألف”، وعلم ” الألف” في النقطة.

إذن فمبدأ كلّ الحروف والخطوط والأشكال النقطةُ، ومبدأ الحروف الألفُ. والنقطة لها الوجود الحقيقيُّ، بالنظر إلى ما تتجلّى فيه من أنواع الأشكال على كثرتها، وليس ثمّة وجودٌ حقيقيٌّ لأعيان الأشكال نفسها، إنّما يُدرَكُ الشَّكْلُ حُكْمًا على ما هو عليه باعتبار وجود النقطة، وكذلك الأمر في ” الألف” بالنظر إلى سائر الحروف.

إنّ مِنْ مهمّة هذين المثالين المضروبين للخلق في عالم الشهادة، أن تُوَجِّه أنظارَهم نحو علاقة الحقِّ تعالى في أحديّته بالخلق في كثرتهم وتنوّعهم، فالعلاقة هنا تبدو موازيةً- ولله المثل الأعلى- لعلاقة النقطة بأنواع الأشكال التي تََظْهَرُ فيها، فهي عَيْنُ الشَّكْلِ، ولكنّ الشكل ليس عينَها؛ لأنّه تابع لها، وعَرَضٌ من أعراض ظهوراتها، وكذلك يُقال في علاقة ” الألف” بالحروف، وكذلك يقال في علاقة الحقّ تعالى عَبْرَ تجلّيه في الخلق والأكوان بما يليق به من تنزيهٍ وإطلاق.

بقي أن تواصل القراءةُ حدوسَها عبر تأويل الشكل اللاميّ نفسه، وحرف الحاء الذي يقع خارج الشكل نفسه.

يقوم الشكل اللاميُّ على مبدأ التعالق بين محورٍ أفقيٍّ وآخرَ عموديٍّ، فكأنّهما بهذا التعالق ينهضان بعبء الترميز إلى الكيفيّة التي تُمْلأُ بها الأبعاد في الفراغ، إذ لا بدّ، لملء صفحة الوجود والخلق، من توافر هذا النوع من الانتشار الأفقيّ والعموديّ في جميع الاتجاهات. وفي السياق نفسه يمكن الإشارة إلى مبدأ تشكّل الكلمات والنصوص اللغويّة وغير اللغوية، فلكي تتكون كلمةٌ ما، لا بدّ من نسقها على هذين المحورين، فالكلمة التي تتكون من حروف الباء والطاء واللام (= بطل) نُسِقَ فيها على الترتيب حرفُ الباء فالطاء فاللام على المحور الأفقيّ، فأفادت هذا المعنى. ويمكن تحويلها إلى كلمات أُخَرَ عبر الاستبدال في المحور العموديّ، وذلك باختيار حرف الراء، مثلاً، ووضعه مكان حرف اللام لتؤول الكلمة إلى (بطر) أو بوضع حروف أخرى لتصير (بطش) أو (بطن) وهكذا. والأمر نفسه ينطبق على إنشاء الجملة التي لا بدّ من مثولها عبر المحور الأفقيّ (= التتابعيّ) والعموديّ (= الاستبداليّ). وإذا كان الأمر على ذلك في اللغة، فبالأحرى أن تكون الموجودات، وكلُّ ما سوى الحقِّ عزّ وجلّ جاريًا على هذا النسق؛ لأنّها كلمات الله تعالى.

ترتئي القراءة تأويلَ حرف “الحاء” وهو العنصر الوحيد الذي يقع خارج الشكل اللاميّ بعبارة “حقيقة الحقّ” التي تحيل إلى وجود الذات الإلهيّة العليّة المطلق. ووقوع “الحاء” خارج الشكل اللامي فيه إشارة إلى تنزيه الذات الإلهيّة العليّة عن التحيّز والتأطير والاستكناه، فهي حقيقة مطلقة ليس كمثلها شيء، وما من سبيل إلى معرفة حقيقة الذات الإلهية من هذه الحيثيّة ” كان الله ولا شيء معه”([63]) إلا أنّ هذه الحقيقةَ المطلقة تجلّت كما يليق بها في النقطة، والنقطة تجلّت في الألف، والألف تجلّت في الخطّين الأفقيِّ والعموديِّ، أي في الوجود طولاً وعرضًا بوجهيه العِيانيِّ واللفظيِّ ” فالكلام فرع الكلمة، والكلمة فرع الحرف، والحروف فرع النقطة، والنقطة هي السرُّ المحيط بالجميع (وكان الله بكلّ شيء محيطًا)([64])، وعليه إذا جرّدْتَ الحرف من النقطة لم تجد شيئًا، ووجدْتَ الله عنده، وتعرف، حينئذٍ، أنّ النقطة هي الظاهرةُ بكلّ شكل ومبنى، وصورة ومعنى. وأمّا قولنا إنّ الكلمةَ هي فرع عن الحرف مع قولنا إنّ الكلمةَ هي عينُ النقطة، فنعني بوجود الكلمة هنا وجودَها الحكميّ لا وجودَها العينيّ”.([65])

وتتعيّن فائدة ما تقدّم من حديث- ملخصًا- في قول عبد الكريم الجيلي:” فما قُرِىء في الأحرف إلا النقطة، وكذلك ما عُرِف في الخلق إلا الله، فكلُّ ما عرفْتَه من الخلق إنّما عرفته من الله”.([66])

وأخيرًا، فإنّ شكل الأيقونة، خلا حرف الحاء، يعطي حرفي اللام والألف اللذين يمكن التأليف بينهما لِيُكَوّنا (لا) وهو الحرف الذي يأتي عقيب الحروف الألفبائية وهو حرف زائد([67]) ، وله دلالة رمزيّة خاصة بمحمّد -صلى الله عليه وآله وسلّم- كما يبدو في قول الحرّاليّ:” لام ألف حرف خاصّ بمحمّد -صلى الله عليه وسلم- لأنّه الماحي. ومعنى ” لام ألف” إذْهابُ كلّ موضوع، ومَحْوِ ما سوى الله”([68]) ويُفهم منه أنّ (لا) حرف نفي لِما سوى الحقّ عزّ وجل، أي أنّ ما سواه تعالى لا استقلاليّة لوجوده، إنّما وجوده قائم بالوجود الوحيد الأوحد الذي هو وجود الحقّ المطلق الذي لا ينازعه فيه أحد. وقول الحرّاليّ هذا يشبه أن يكون متعالقًا مع ما تقدّم من قوله، صلى الله عليه وآله وسلم: أصدق كلمة قالها الشاعر قول لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل. أي أنّ حقيقة ” ما خلا الله” حقيقة عدميّة أو باطلة، كما أنّ هذا المعنى يتعلق أيضًا مع النفي في كلمة التوحيد (= لا إله إلا الله) حيث افتُتحت بنفي الآلهة وانتهت بإثبات الألوهيّة لله وحده وحصرها في اسمه تعالى. وليس غريبًا أن يأتي رسم الأيقونة منطويًا على حرف (لا) الخاصّ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فموضوع “طس النقطة” أكثره يدور على ذكر شيء من سيرته -صلى الله عليه وآله وسلم- العرفانيّة من وجهة الرؤية الحلاجيّة. هذا فضلاً عن اقتران اسمه عليه الصلاة والسلام بكلمة التوحيد المبدوءة بالنفي.

([1]) الفتوّة: هي الإيثار على النّفس بما تحبّ، والإحسان إلى الخلق بما يحبّ؛ لذا قيل: لم تكمل الفتوّة إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلّم- حيث يقول في موضع لا يذكر فيه أحدًا حتى نفسه: أمّتي أمّتي. وقيل: ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك. والفتى من لا خصم له، ومرجعها إلى السّماح والتواضع، والشجاعة في موطن الاضطراب. ففتوّة العامة بالأموال، وفتوّة الخاصّة بالنفوس، وفتوّة خاصّة الخاصّة بالأرواح وبذل المُهَجِ في جانب المحبوب. ابن عجيبة الحسني، أحمد (ت1224هـ/1809م): معراج التشوّف إلى حقائق التصوّف، في ضمن: اللطائف الإيمانيّة الملكوتيّة والحقائق الإحسانيّة الحبروتيّة في رسائل العارف بالله الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنيّ، ضبطها وصحّحها وعلّق عليها: د. عاصم إبراهيم الكيّالي الحسينيّ الشاذليّ الدرقاويّ، ط1، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2006، ص221-222. والحال: معنى يرد على القلب من غير تعمّد ولا اجتلاب، ولا تسبّب ولا اكتساب، من بسط أو قبض، أو شوق أو انزعاج، أو هيبة أو اهتياج. ويظهر أثره على الجوارح قبل التمكّن، من شطح ورقص وسَيْر وهيام. وهو أثر المحبّة؛ لأنّها تُحرّك الساكن أولا، ثمّ تَسْكن وتطمئنّ. ولذا قيل فيها: أوّلها جنون، ووسطها فنون، وآخرها سكون. المصدر السابق، ص229.

([2]) انظر مقالة: ماسينيون، لويس: المنحى الشخصي لحياة الحلاج في ضمن كتاب: شخصيات قلقة في الإسلام، ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي، ط3، سيناء للنشر، القاهرة، 1995، ص99 وما بعدها.

([3]) الشريعة: تكليف الظواهر، والطريقة: تصفية الضمائر، والحقيقة: شهود الحقّ في تجلّيات المظاهر. فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده. فالشريعة لإصلاح الظواهر، والطريقة لإصلاح الضمائر، والحقيقة لتزيين السرائر. ويقال: الشريعة عين الحقيقة، من حيث إنّها وجبت بأمره. والحقيقة عين الشريعة من حيث إنّها مكلّف بها من قبل الشريعة. انظر: المصدر السابق، ص245.

([4]) انظر: ماسينون، لويس ( ت1962م): آلام الحلاج: ترجمة: الحسين مصطفى الحلاج، ط1، قدمس للنشر والتوزيع، بيروت، 2004، ص215 وما بعدها. مكارم، سامي: الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون، ط1، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1989، ص40-75.

([5])ماسينيون، لويس، و ب. كرواس: كتاب أخبار الحلاج أو مناجيات الحلاج، مطبعة القلم ومكتبة لاروز، باريس، 1936، ص19-20.

([6]) المصدر السابق، ص43.

([7])المصدر السابق، ص104.

([8])المصدر السابق، ص46.

([9])المصدر السابق، ص86.

([10])المصدر السابق، ص106-107.

([11])المصدر السابق، ص107.

([12])المصدر السابق، ص112.

([13])المصدر السابق، ص14، 18، 24

([14])المصدر السابق، ص57.

([15])ماسينيون، لويس، و ب. كرواس: كتاب أخبار الحلاج أو مناجيات الحلاج، ص75، 82.

([16]) المصدر السابق، ص64-65.

([17]) المصدر السابق، ص61، 71، 85، 102-103.

([18]) المصدر السابق، ص8.

([19]) السعدي، سمير: الحسين بن منصور الحلاج: حياته وشعره ونثره، ط1، منشورات دار علاء الدين، دمشق، 1996، ص61.

([20]) النبهاني، يوسف بن إسماعيل (ت1350هـ/1931م): جامع كرامات الأولياء، تحقيق ومراجعة: إبراهيم عطوة عوض، ط4، المكتبة الشعبية، بيروت، ص43-44.

([21]) الحقيقة المحمّديّة: هي الذات مع التعيّن الأوّل، فله الأسماء الحسنى كلّها، وهو الإسم الأعظم. القاشانيّ، عبد الرزاق (ت730هـ/1329م): معجم اصطلاحات الصوفيّة، تحقيق وتقديم وتعليق: د. عبد العال شاهين، ط1، دار المنار، القاهرة، 1992، ص82.

([22]) الحلاج، الحسين بن منصور: كتاب الطواسين، مكتبة ابن سينا، باريس، 1988، ص4.

([23]) المصدر نفسه، ص19. وانظر مقالة: ماسينيون، لويس: المنحى الشخصي لحياة الحلاج، في ضمن: شخصيات قلقة في الإسلام، ص117.

([24]) انظر: ماسينيون، لويس: آلام الحلاج، ص141-143.

([25]) الحلاج: كتاب الطواسين، ص19.

([26]) البقرة: 115.

([27]) الحديد: 4.

([28]) ق: 16.

([29]) الحديد: 3.

([30]) الحُميدي، محمّد بن فُتوح (ت488هـ/1095م): الجمع بين الصحيحين: البخاري ومسلم، تحقيق: د. علي حسين البواب، ط2، دار ابن حزم، بيروت، 2002، ج3، ص240. رقم الحديث (2508).

([31]) القال بمعنى القول. وفتوّة القول هنا مرادفة لشعرية النص. وكلّما انمازت فتوّة الحال، كما هي عند الحلاج، انمازت تبعًا لها فتوّة القال كما هي في الطواسين.

([32]) هوكز، ترنس: البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة: مجيد الماشطة، مراجعة: د. ناصر حلاوي، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص 70-73. وانظر: تشاندلر، دانيال: معجم المصطلحات في علم العلامات ( السيميوطيقا)، ترجمة وتقديم: د. شاكر عبد الحميد، مراجعة: د. نهاد صليحة، تصدير: د. فوزي فهمي، مطابع المجلس الأعلى للآثار، القاهرة، د. ت، ص145-146، 217-218.

([33]) انظر إنكار الجُنيد وعمرو بن عثمان المكّيّ وأبي يعقوب النهرجوريّ وعليّ بن سهل الأصبهانيّ ومحمّد بن داود الأصبهانيّ على الحلاج في: ماسينيون، لويس وب. كرواس: كتاب أخبار الحلاج، ص38.

([34]) السعيدي، سمير: كتاب الحلاج، ركعتان في العشق وضوؤهما الدم: السيرة الكاملة، الطواسين، المحاكمة، ط1، منشورات دار الفتاة، دمشق، 2003، ص42.

([35]) انظر: كوين، جون: النظرية الشعرية: بناء لغة الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق: د. أحمد درويش، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000، ص129-140.

([36]) المصدر السابق، ص156-157.

([37]) يقول تعالى:” طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين”.

([38]) انظر: ابن عربي، محيي الدين (ت638هـ/1240م): الفتوحات المكية، تحقيق وتقديم: د. عثمان يحيى، تصدير ومراجعة: د. إبراهيم مدكور، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، السفر الثاني، ص134. وفيه يروي عن أبي بكر الشبليّ (ت334هـ/945م) أنّه قال:” أنا النقطة التي تحت الباء”. وانظر أيضًا: ص135، 160-161، 163-164، 179-180، 252، 375. وانظر كذلك السفر الأول، ص212. وانظر ما كتبه ابن سبعين (ت669هـ/1270م) حول النقطة في: رسالة بد العارف، ص319، في ضمن :ابن سبعين الإشبيلي المرسي الأندلسي، عبد الحق بن إبراهيم بن محمد: رسائل ابن سبعين، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007. وانظر قصيدة التائية الكبرى لابن الفارض (ت632هـ/1234م) في ديوانه، دار صادر، بيروت، د.ت. ص91، 93.

([39]) انظر كتاب: الحسني الجزائري، أحمد بن محيي الدين بن مصطفى(ت1320هـ/1902م): نثر الدر وبسطه في بيان كون العلم نقطة، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004 . وفيه يذكر المؤلف مقولة تنسب إلى علي كرم الله وجهه، وهي قوله:” العلم نقطة كثّرها الجاهلون”، ص 7. وانظر كتاب: العلاوي المستغانمي، أحمد بن مصطفى (ت 1353هـ/1934م): الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، المكتبة الدينية للطريقة العلاوية بمستغانم. والكتاب خاص بالحديث عن رمزية النقطة. وانظر: اليافي الحسيني، عمر بن محمد (ت 1233هـ/1817م): الديوان ، ضبطه وصححه وعلق عليه: الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007، ص185، 210.

([40]) كتاب الطواسين، ص11.

([41]) الساعي البغدادي، علي بن أنجب (674هـ/1275م): أخبار الحلاج، تقديم: هادي العلوي وأكرم أنطاكي وفائق حويجة، حقق أصوله وعلق عليه: موفق فوزي الجبر، ط3، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2004، ص67.

([42]) المصدر السابق، ص89-90.

([43]) ابن عربي، محيي الدين: رسائل ابن عربي: كتاب الألف وهو كتاب الأحديّة، تقديم: محمود محمود الغراب، ضبط: محمد شهاب الدين العربي، ط1، دار صادر، بيروت، 1997، ص48.

([44]) البقرة، 115.

([45]) الحديد: 4.

([46]) ق: 16.

([47]) الحلاج، الحسين بن منصور: الديوان، صنعه وأصحه: د. كامل مصطفى الشيبي، ط2، دار آفاق عربية، بغداد، 1984، ص59.

([48]) المصدر السابق، ص78.

([49]) أخبار الحلاج، ص66.

([50]) المصدر السابق، ص84.

([51]) النفري، محمد بن عبد الجبار (ت354هـ/965م) كتاب المواقف والمخاطبات، تحقيق: أرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، القاهرة، د. ت، ص3.

([52]) النجم: 9.

([53]) من الألفاظ كثيرة التداول عند الصوفية الجمع والتفرقة، والجمع هو جمع متفرقات، والتفرقة تفرقة مجموعات. وإذا قلت: الله ولا سواه فقد جمعت، وإذا قلت: الدنيا والآخرة والخلق فقد فرقت. وما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية ويليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء المعاني وإسداء اللطف والإحسان فهو جمع. ومن يُشهده الحق ما يوليه من أفعال نفسه سبحانه فهو عبد يشاهد الجمع. فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق نعت الجمع، ولا بد للعبد من الجمع والتفرقة، لا يستغني بأحدهما عن الآخر، فمن أشار إلى جمع بلا تفرقة، فقد أنكر قدرة القادر وهذا إلحاد وزندقة، ومن أشار إلى تفرقة بلا جمع فقد جحد الباري وهذا تعطيل. والعبد الذي يجمع بين الحالين إنما هو موحّد. وإذا اختُطف العبد عن شهود الخلق ونسي نفسه وأُخذ بالكليّة عن الإحساس بما حوله، واستولى عليه سلطان الحقيقة فإن ذلك يسمى جمع الجمع، وبعد ذلك يحدث الفرق الثاني وهو أن يُردّ العبد إلى الصحو عند أوقات الفرائض ليقوم بها في أوقاتها، فيكون رجوعه لله بالله، لا للعبد بالعبد؛ لأنه يطالع نفسه في هذه الحالة في تصريف الحق سبحانه، ويشهد مجرى أفعاله وأحواله عليه. الحفني، عبد المنعم: الموسوعة الصوفية، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2003، ص708-709.

([54]) انظر: كتاب الطواسين، ص، 9، 12، 22- 27.

([55]) الشورى: 11.

([56]) كتاب الطواسين، ص12.

([57]) النور: 35.

([58]) انظر الحديث والتعليق عليه في: العجلوني الجرّاحي، أسماعيل بن محمد (ت1162هـ/1748م): كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، أشرف على طبعه وتصحيحه والتعليق عليه: أحمد القلاش، مكتبة التراث الإسلامي، ودار التراث، حلب، القاهرة، د. ت، ج1، ص146.

([59]) العلاوي المستغانمي، أبو العباس أحمد بن مصطفى (ت1353هـ/1934م): كتاب الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، المطبعة العلاوية بمستغانم، د. ت، ص8-10.

([60])الجيلي، عبد الكريم بن إبراهيم (ت832 هـ/1428م): الكهف الرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم، اعتنى به: الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004، ص13-14.

([61]) الشورى: 11.

([62]) كتاب الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، ص10-12.

([63]) كشف الخفاء ومزيل الإلباس، ج2، ص171.

([64]) النساء: 126.

([65]) كتاب الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، ص13-14.

([66]) الكهف الرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم، ص14.

([67]) انظر: الفتوحات المكية، السفر الأول، ص324.

([68]) ابن عربي، محيي الدين، و أبو الحسن الحرّاليّ (ت637هـ/1239م): رسالتان في سرّ الحروف ومعانيها، الأولى: سرّ الحروف، والثانية: تفهيم معاني الحروف المسمّاة موادّ الكلم في ألسنة جميع الأمم، ، تقديم وتحقيق: د. عبد الحميد صالح حمدان، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، د. ت، ص50.

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. معاذ محمد

    “خلقني كما شاء ، واوجدني لما شاء ، واستعملني في ماشاء ، وقدر علي ما شاء ، فلم اطق ان اشاء الا ما شاء ، فما تجاوزت ما شاء ، ولا فعلت غير ما شاء ، ولو شاء لردني الي ما شاء ، وهداني بما شاء لكنه شاء ، فكنت كما شاء ”
    جاء في كلام الامام المقدسي عن محنة ابليس
    كان ابليس هو البطل الاول في الكون حسب نظرة الحلاج او اخرين ممن تحدثوا عن الماساة او المحنة، بقوله لله عز وجل (( بما اغويتني )) ونسب الامر لله تعالي
    لكن ادم كان يجاري الامر ورفض اتخاذ الموقف الحاسم بين الامر والمشيئة فقـال (( ربنا ظلمنا انفسنا ))

    الرد

الرد على معاذ محمد اغلق الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!