عوالم الإسلام على مائدة التصوف: أعمال أنّا ماري شيمل

عوالم الإسلام على مائدة التصوف: أعمال أنّا ماري شيمل

 

عوالم الإسلام على مائدة التصوف

ترسمها أنّا ماري شيمل 

عبد الرحمن حللي

hg 

الكتاب:أبعاد صوفية للإسلام (625 صفحة)

المؤلف:أنيماري شميل

ترجمه عن الإنكليزية: عيسى علي العاكوب

الناشر: ط:1، دار الملتقى – حلب 2006

 

     إلى أولياء شيراز تهدي المستشرقة الألمانية “أنيماري شميل” (ت:2003)، كتابها “Mystical Dimensions of Islam” الصادر عام 1975، والذي صدرت ترجمته العربية بحلب بعنوان “أبعاد صوفية للإسلام”، ترجمه عن الإنكليزية الدكتور عيسى علي العاكوب، والذي ترجم قبله كتابها عن جلال الدين الرومي “الشمس المنتصرة – دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي” الصادر في إيران 2000.

يمثل الكتاب دراسة موسعة وموثقة عن تاريخ التصوف في الإسلام من حيث جذوره ورجاله وتياراته، وتعتمد فيه على كتب التصوف المرجعية القديمة والحديثة وبمختلف اللغات التي كتبت بها وخصوصاً الفارسية (وقد قابل المترجم النصوص الفارسية بأصولها مباشرة قبل نقلها إلى العربية نظراً لمعرفته بالفارسية)، كما رحلت المؤلفة إلى مختلف البلاد لاسيما تركيا وباكستان والهند وضمَّنت ثقافة مسلميها في الكتاب.

   من البداية تبدو المؤلفة مدركة للصعوبات التي تعتري عملها إذ “إن مجموع ما كتب من التصوف في الشرق والغرب مطبوعاً ومخطوطاً عصي على الحصر”، لكنها حرصت أن تجمع ما يمكن أن بشكل أساساً لعدد من المقررات الدراسية في موضوع التصوف، هذا التصوف الذي يعكس في نظرها المواقف المختلفة للمسلمين إزاء “العالم”، نظراً لجذور التصوف العميقة في الممارسات العبادية التي علمها القرآن.

   بعد البحث في سؤال ما هو التصوف؟ تحفر المؤلفة في الإطار التاريخي للتصوف التقليدي بحثاً عن جذوره في الإسلام والتي ترجع إلى نبي الإسلام والقرآن، فيما “كل نزعة داخل الإسلام وكذا داخل التصوف وجدت مادة لدعم آرائها من الأحاديث النبوية، وفي العصور المتأخرة هناك عدد كبير من الأحاديث لا توجد في الصحاح.. استخدمها الصوفية”، وتضيف “ونحن لا نعرف كم من الحكايات المتأخرة حول تعبد محمد وتنسكه يكون صحيحاً وكم تعكس على نحو واضح المثل العليا للتدين الصوفي المتأخر”، ثم تسرد سلسلة الأسماء البارزة وحكاياتها والتي يعتمدها الصوفية بدءاً من الصحابة وإلى عهد الإمام الغزالي وتجربته، والذي اجتذب اهتمام الباحثين الغربيين وترجمت الكثير من مؤلفاته إلى لغات الغرب، ودرست شخصيته والأسئلة الكثيرة حولها، ومع ذلك يبقى الكثير – في نظرها – مما يمكن عمله حول الغزالي.

   تتابع شميل بحثها في أبعاد التصوف لتسبر أسس الطريقة الصوفية إحدى ثلاثية التصوف الإسلامي (الشريعة-الطريقة- الحقيقة) والتي تقابل الثلاثية المسيحية (التطهر- التأمل- الإشراق)، فتبحث في مراتبها وأولوياتها ومقاماتها وتحولاتها عبر التاريخ الإسلامي واختلافها حسب رؤى رجال التصوف وتجاربهم ومراتبهم، وتتعمق في قضايا المحبة والفناء، وصور العبادة، والذكر والدعاء والسماع والرقص الصوفي.

   وفي بحثها حول الإنسان وكماله في التصوف تلاحظ أنه “من غير المتيسر على جهة الحقيقة تقديم وصف لعلم الإنسان الصوفي في الإسلام لأنه متعدد الجوانب مثل الإسلام نفسه، والاختلافات بين التيارات الصوفية المبكرة والمتأخرة مهمة”، ثم ترصد الرؤى الصوفية في ذلك بدءاً من قصة خلق آدم، وقضية الخير والشر وصلتها بالشيطان، والأولياء والكرامات، وصولاً إلى تبجيل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى للمسلم الصادق، وأصبح شخصية وسيطة للتجربة الدينية -رغم كون القرآن هو الوحي الإلهي- وذلك للحفاظ على الإيمان الإسلامي في مظهره الشرعي، وتعرض شواهد لمكانة النبي في مشاعر المسلمين وتقول”إن القصائد المنظومة في تركية وإيران وأفغانستان والهند باسم هادي البشرية وخير الخلق والنور الأزلي ومغيث أمته، تعكس من الشعور الصادق للجماهير الإسلامية أكثر مما يعكس الكثير من المقالات العلمية حول البحث النبوي الصوفي” – يذكر أن للمؤلفة كتاب اسمه “تبجيل النبي”، وقد ترجمه إلى العربية الدكتور عيسى العاكوب-، وترى شيمل “أن محمداً هو الذي يجعل الإسلام ديناً متميزاً، وإنه لنموذجي، في وقت هزم فيه الإسلام في كل مكان من الميدان السياسي وفي وقت تجاوزت فيه القوى الغربية عملياً وروحياً على العالم الإسلامي، أن أولئك الصوفية هم الذين أوجدوا طرقاً وأخويات جديدة سموها الطريقة المحمدية أصبحت شخصية محمد لديهم مركز القوة” وهذا واحد من الإسهامات الأكثر أهمية للتصوف في حياة المسلمين.

     تتابع شميل البحث في الطرق والأخويات الصوفية، والتي وصفتها بكونها قابلة للتكييف والتعديل مما جعلها وسيلة مثالية لنشر تعاليم الإسلام كما في الأجزاء الواسعة من الهند وإندونيسيا وإفريقيا السوداء التي صارت مسلمة بفضل النشاط الذي لا يفتر لوعاظ الصوفية الذين جلَّوا في حيواتهم الفروض الأساسية للإسلام: المحبة البسيطة لله والتوكل عليه ومحبة النبي والآخرين من أصحابهم، من دون الانغماس في المماحكات المنطقية والفقهية، كما استخدم هؤلاء الوعاظ اللغات المحلية بدلاً من اللغة العربية لغة الطبقة المثقفة، كما أن معظم الطرق الصوفية يتطابق مع طبقات معينة من السكان، ثم تعرض لأبرز الطرق الصوفية وشخصياتها وأدوارها.

   بعد التصوف الطرقي تبحث شميل في التصوف الإشراقي الذي بدأت جذوره مع تصوف النور الذي أوضحه بجلاء الغزالي – رائد التصوف الشرعي المعتدل- في “مشكاة الأنوار”، لينتشر ذلك في النظريات الصوفية للسهروردي شيخ الإشراق (الذي مات مسجوناً في حلب سنة 1191م)، وقد نشر التعاليم المتصلة بفلسفة النور فيما يقرب من خمسين كتاباً عربياً وفارسياً، وهي تظهر تأثيرات وانتقادات للفلسفة المشائية ولابن سينا ودمجاً مدهشاً نسبياً وعجيباً في الوقت نفسه لعناصر إيرانية وهلينية وشرقية قديمة، وذروة مؤلفاته “حكمة الإشراق” و “هياكل النور”، ولها شروح كثيرة في اللغات الإسلامية، وكان السهروردي قد استلهم المباحث الإلهية عند الحلاج، وفي الوقت نفسه يواصل تقاليد إيران القديمة ومصر الفرعونية، وهو يستمد حكمة من يعد نفسه الممثل الحقيقي عن هرمس (النبي إدريس)، فقد حاول السهروردي توحيد الاتجاهين الرئيسيين لتقليد المعرفة الإلهية لمرحلة ما قبل الإسلام، مما يجعل عمله في غاية الأهمية لدارس تاريخ الدين، ثم تلخص أهم آرائه، ولئن بقي معظم تراث السهروردي حكراً على العالم الفارسي، فإن ابن عربي الذي تشكل مؤلفاته قمة النظريات الصوفية بعد القرن الثالث عشر الميلادي، لا يمكن تقدير تأثيره في التصوف العام، كما أن تفسيراً صحيحاً لفكر ابن عربي أمر صعب، والنظام الكامل لابن عربي يحدد عموماً بتعبير “وحدة الوجود“، والترجمة الصحيحة لهذا التعبير تقدم المفتاح لمعظم نظرياته الأُخر، ولئن كان ممكناً فهم ابن عربي بشكل أعمق من قبل، فإن المناقشة حول دوره –أكان إيجابياً أم سلبياً- لن تنتهي ما دام هناك طريقان مختلفان للهدف الصوفي بالعمل والموافقة للإرادة أو بالتأمل والعرفان. أما معاصر ابن عربي الشاعر الصوفي ابن الفارض فقد اختزل تجاربه الصوفية بعدد قليل من القصائد الغنائية ذات الجمال الرائع في أسلوب الشعر العربي، وقد حظي باهتمام الباحثين الأوربيين في اللغة العربية منذ البداية الأولى للدراسات الشرقية، وكان يقلد اللغة المجازية الصوفية لإسلام القرون الوسطى، وكثيراً ما فهم شعره بوصفه شاهداً على تفسير الإسلام وفق وحدة الوجود، حيث تطور تصوف الوحدة وانتشرت فِكَر ابن عربي سريعاً في كل أرجاء عالم الإسلام واكتسبت أنصاراً لا يحصون عدَّاً خاصة في المناطق المتحدثة بالفارسية والتركية، وتُرجع شميل النشاط الصوفي هذا إلى التغيرات السياسية في القرن الثالث عشر الميلادي، ويرجع فضل انتشار فكر ابن عربي على نطاق واسع إلى كتابين “روضة السر” للشبستري ت 1311م (بالفارسية) و”الإنسان الكامل ” للجيلي ت 1408م (بالعربية)، لكنها ترى أن على المرء ألا يستخلص نتائج بعيدة المدى من استخدام وحدة الوجود في الشعر حيث استخدمت لدى الشعراء الأكثر التزاماً بمبادئ الشرع، ولا غنى عن أن يميز الإنسان بعناية بين اللغة الشعرية والأنظمة الخارجة عن نطاق المادة.

 

في حديثها عن الشعر الصوفي الفارسي والتركي ترى أنه من غير المفيد البحث عن تفسير صوفي صرف أو عن تفسير دنيوي خالص لقصائد حافظ أو جامي أو العراقي، ذلك أن غموضها مقصود والتذبذب بين مستويي الوجود يحافظ عليه على نحو مقصود وربما يضاف إليهما مستوى ثالث، كما لا يمكن أن يستمد نظام صوفي من الشعر الفارسي أو التركي أو يُرى فيه تعبيراً عن تجارب تقيم تقييماً سطحياً، ثم تعرض لموضوعات هذا الشعر ورموزه فضلاً عن شعرائه وبالخصوص جلال الدين الرومي الذي لا يوجد شخصية صوفية معروفة في الغرب مثله، وقد ترك أكثر من ثلاثين ألف بيت من الشعر الغنائي وأكثر من ستة وعشرين ألف بيت في المثنوي، بالإضافة إلى أحاديث المائدة المسمى “فيه ما فيه” والذي يستبدل بالخيال الشعري الحجة المنطقية (وقد ترجمه عيسى العاكوب إلى العربية ونشر في دمشق)، وقد كان للطريقة المولوية دور كبير في نشر كلام الرومي وموسيقاه خلال الإمبراطورية العثمانية، فضلاً عن تأثر الشعراء به وشرحهم لكلامه، وكان له حضوره في التصوف الشعبي التركي.

أما في الهند وباكستان فيرجع التأثير الكامل للتصوف فيها إلى أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلاديين، إثر اندماج الطرق الصوفية الرئيسة في أقاليم الإسلام المركزية، والممثل الأكثر بروزاً لهذه الحركة معين الدين الجشتي ت 1236م ومن خلفه من بعده، ولا تستبعد شميل وجود تأثيرات متبادلة بين التصوف الإسلامي والتصوف الهندوسي، وكذلك تطور مجاهدات الأولياء الهنود المسلمين تحت تأثير رياضات اليوغا، على أن بعض المؤلفات النظرية حول الممارسات اليوغية ألفها علماء هنود مسلمون، وتسجل في هذا الإطار محاولة في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي لتأسيس دين مختار من أحسن عقائد الأديان، لكنها لم تفلح، لاسيما وأن الحملة عليها شنتها طريقة النقشبندية التي كانت طريقة ناجحة للغاية في آسيا الوسطى إلى الحد الذي لعبت فيه دوراً رئيسياً في السياسة خلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي، وتختم شميل حديثها عن التصوف في الهند وباكستان بالحديث عن الشعر الصوفي في اللغات المحلية (السندية – البنجابية – الباشتو)، حيث ما تزال الأغاني والقصائد الصوفية رائجة كما كانت منذ مئة وخمسين سنة، وتعرض لأهم الشعراء وموضوعات شعرهم، لكنها تختم بأن أرقى أدب صوفي ألف عادة إما بالعربية وإما بالفارسية، وكثير من الموالد في تشريف النبي مؤلف بواحدة من هاتين اللغتين.

   وتختم شميل كتابها بالجدل الدائر حول مسارات التصوف والطرق الصوفية والثيوصوفية والشيخية الخطيرة، وترى أن تصوف المحبة والمعاناة الذي يعلم الإنسان أن يحيا وأن يموت في سبيل هدف خارج نفسه هو الرسالة الأكثر أهمية للتصوف اليوم، وتنهي بكلام لابن عطاء “إذا رأيتم الصوفي يتكلم عن الناس فاعلموا أنه فارغ”.

   وألحقت الكتاب ببحثين طريفين الأول “رمزية الحرف في الأدب الصوفي” الذي ترى فيه أن دراسة متأنية للصلات بين فن الخط والفكر الصوفي ستثمر يقيناً نتائج ممتعة وتسهم في فهم أفضل لبعض الفِكَر الصوفية وللفن الإسلامي أيضاً، أما البحث الثاني “العنصر الأنثوي في التصوف” فترى فيه أن موقف التصوف من الجنس اللطيف كان متأرجحاً حتى إنه يمكن أن يقال إن التصوف كان أكثر تأييداً لتطور النشاطات الأنثوية مما كانت عليه أفرع الإسلام الأُخر.

 

   هذه المطالعة المطولة في الأبعاد الصوفية للإسلام تجعل القارئ يقف باحترام لهذا الجهد البحثي في جمع شتات التصوف من مختلف مراحل التاريخ وشتى أصقاع الجغرافيا وعبر لغات متعددة كتب بها أو درس من خلالها، ليصاغ التصوف في الإسلام ضمن نسق علمي يحفظ تنوع اتجاهاته ونظرياته ومستوياته مع وعي عميق بأدواره التاريخية المقبول منها والمرفوض، والأهم من ذلك الذوق الأدبي والحياد العلمي في مقاربة موضوع حساس كالتصوف يعبر من خلاله عن جانب من نظرة المسلمين للعالم، والتقدير أيضاً للمترجم الذي صبر على نقل كتاب بهذا الحجم والعمق إلى العربية بلغة رشيقة تحافظ على الطبيعة الأدبية للموضوع في سياقاتها، وقد اقتدر المترجم على ذلك لما له من اهتمام خاص بالأدب الصوفي لاسيما وقد ترجم بعض أعمال جلال الدين الرومي، فالترجمة العربية لهذا الكتاب تسد ثغرة في الدراسات المرجعية الشاملة عن التصوف في المكتبة العربية رغم مرور عقود على تأليف الكتاب.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!