الكلام الإلهي لا يتغيّر، ولكن ماذا عن إنتاج تفاسيره ونشرها وتوزيعها؟
بقلم: لويز غالوريني
أينما كنت في العالم، عندما تجد نسخة من المصحف، من المتوقع أن تجد النص لا يتغيّر من نسخة إلى أخرى ولا من ناشر إلى آخر. الكلام الإلهي لا يتغيّر، أما الناشر فيتغيّر كما يتغيّر السياق السياسي لنشره والتعليق عليه. وقد تطرّق الباحث وليد صالح، الباحث المختصّ في آداب التفسير التراثي وبروفيسور الدراسات الإسلامية في جامعة تورونتو في كندا، إلى السياسات وراء نشر وتوزيع المصحف والتفاسير على مدى القرنين الماضيين.
بينما قد يحمل نصّ الكتاب المقدّس نفسه آثاراً من التاريخ الديني-السياسي الخاصّ به، حسب أسلوب الترجمة، وحتى اختلاف عدد أسفاره، حيث يرفض البروتستانت الاعتراف بالأسفار القانونية الثانية التي لا تزال موجودة في نسخة الكتاب المقدّس لدى الكاثوليك والأرثوذوكس، على خلاف ذلك، لا يتغير النص القرآني من نسخة إلى أخرى (مع أنه من المحتمل أنه تغيّر في بداياته، وإنما بشكل سطحي، وتلك حكاية أخرى). وبسبب ذلك يقول وليد صالح إنه لم يعد مهماً أن تعرف من ينشر القرآن، بل يهمّ أن تعرف من يفسّره
إنتاج ونشر كتب التفسير
ضمن سلسلة من حوارات على قناة اليوتيوب “القرآن العالمي”، قدم وليد صالح محاضرة عما يصلنا اليوم من جدليات ونزاعات بين الدول وراء عملية إنتاج ونشر كتب التفسير. كانت محاضرته جزءاً من سلسلة محاضرات بعنوان “حوارات فرايبورغ عن التفسير والشبكات الإسلامية عبر الأقاليم”، وبما أن عمله البحثي يتناول تحقيق المخطوطات الملائمة للنشر، قاده هذا إلى تتبع تاريخ النشر ومن يموّل الخطاطين من العصور الوسطى.
كما لفت انتباهه، وما حدث وما لا يزال يحدث في وقتنا الحاضر، من سياسات الطباعة والنشر في المجال الديني خلال القرنين الماضيين، والقارئ المهتم بالأمر يجد تفاصيل بحثه في مقالته “ملاحظات أولية حول النظرة التاريخية للدراسات المكتوبة باللغة العربية عن التفسير: منحى تاريخ الكتاب”.
ذكر الباحث مثال إنشاء “مجمع الملك فهد آل سعود لطباعة المصحف الشريف” في الثمانينيات، ونَشر المصحف وتوزيعه مجاناً عبر العالم الإسلامي، كدليل رمزي يعتبر الأحدث في سلسلة دلائل طويلة تُشير إلى نقل النفوذ في المجال الديني من المركز القديم، أي مصر، إلى مركز جديد، أي السعودية، وذلك على الأقل فيما يخصّ بتمويل المنشورات.
توزيع المصحف لا يعدو كونه دليلاً رمزياً، لا غير، لأن النصّ القرآني في النسخة السعودية لا يختلف فعلياً عنه في النسخ المصرية التقليدية المنتشرة في كل أنحاء العالم. إلا أن التغيير الفعلي الواضح قد حدث في ناحية أخرى، وهي نشر وتوزيع النصوص التفسيرية.
يشرح وليد صالح الحروب الفكرية بين المملكات التي دافعت ودفعت من أجل نشر تفسيرٍ ما من بين كل التفاسير القديمة والدراسات التفسيرية المعاصرة. يركّز على القرن التاسع عشر عندما كانت دار البلاق الرائدة في المجال الديني، منصة يعتمد عليها ملك مصر وإسطنبول. كما يتطرق كذلك إلى القرن العشرين، وما شهده من بداية فقدان سيطرة المركز القديم الذي يمثّله دار البلاق، أمام حركات فكرية جديدة.
بدأت الأوضاع تتغير بعد 800 سنة من أسلوب فكري ونمط التعليم على الطريقة المدرسية، وعلى منهج المذهب الأشعري في العالم السني، كما يشرح وليد صالح. في مجال التفسير، تقوم الطريقة الكلاسيكية على استخدام تفسير البيضاوي كمرجع رئيسي. يقول وليد صالح إنه تم تبديل مقاربة النص القرآني على الطريقة التفسيرية الكلاسيكية (الهيرمينوطيقا الكلاسيكية) بطريقة تفسيرية يصفها بالراديكالية (الهيرمينوطيقا الراديكالية) أو المنهج “السلفي الحديث”.
فيما كانت الأولى تعتمد على فقه اللغة وعلم البلاغة، فتعتمد الثانية على الحديث وأفعال الأجيال الثلاثة الأولى للأمة وعلى فهم حرفي للنصوص الدينية بشكل عام (أو بشكل آخر: وجود الحديث كمرجع ديني كان صحيحاً في كل وقت من أوقات التاريخ الفكر الإسلامي، ولكن ليس بالأهمية الأوّلية والقراءة الحرفية المعطاة له اليوم في الهيرمينوطيقا الراديكالية).
وهكذا دخل ابن كثير وتفسيره في الوعي العام، وأزاح مكانة البيضاوي، كرمز للتغيير التفسيري. في عام 1924، قبل سنة من توسيع حكمه إلى الحجاز، كان قد قرر سلطان نجد حينذاك، عبد العزيز آل سعود الذي سيصبح أول ملك للدولة السعودية الثالثة، بتمويل طباعة تفسير ابن كثير، الذي حققه محمد رشيد رضا، وهو من رواد الحركة الإصلاحية الإسلامية من القرن التاسع عشر.
يعرف رشيد رضا اليوم لأثره المحوري على حسن البنا، مؤسّس حركة الإخوان المسلمين في مصر، وقد يبدو لقارئ اليوم غريباً أنه يُموّل من قبل آل سعود المعروفين بعدائهم للإخوان منذ سنوات عدة. لكن مشهد الحركة الإصلاحية الإسلامية تغيّر كثيراً خلال القرنين الماضيين، وآنذاك لم تكن قد تفرعت بعد بتيارات مختلفة متضادة، ولهذا يدرجها وليد صالح جميعها تحت اسم “السلفية” على خلاف الباحثين المختصين بالعلوم السياسية في العالم الإسلامي. يذكرنا ذلك أيضاً بأن المراكز الجغرافية لا تعني بالضرورة مراكز أيديولوجية موحّدة (فمصر مركز لعدة حركات الآن، والراديكالية-السلفية واحدة منها).
عصر جديد للنصوص التفسيرية
في بداية القرن العشرين، بدأ السلفيون بالانتباه إلى آداب التفسير، من خلال حركة النهضة في مصر، وكانت تبحث أيضاً عن نصوص التراث لتحقيق ازدهار فكري جديد، فتمّ في عهد الخديوي عباس الثاني نشر الطَبَري والقُرطُبي عام 1911 في هذا السياق، كما دفع الملك المغربي لنشر تفسير أبي حيّان “بحر المحيط” في نفس الفترة. يرى وليد صالح في كل هذه الأمثلة دلائل لقوة الملوك في دفع ونشر نصوص معيَّنة، مُبيناً سياستهم التفضيلية وأولويتهم الثقافية-الدينية.
تفصيل واحد في حكاية “الحروب التفسيرية” يلفت نظرنا، تفصيل ذو أهمية خاصة وصدى واسعة، وإنما متناقض في الآن ذاته، وهو تصميم صفحات نصّ التفسير. دخلت النصوص التفسيرية القديمة عصراً جديداً معاصراً لحركة السلفية، الحركة التي تناصر صياغة نمط حياة يظنونه كان نمط السَلَف الصالح وقت النبي والخلفاء الراشدين، وما يعني ذلك من تراجع (بالمعني الحيادي للكلمة فقط، مهما يرى الواحد من سلبية أو إيجابية للأمر) في الزمان وأسلوب المعيشة.
فيما كانت طريقة دار البلاق في النشر تشبه تصميم المخطوطات القديمة: نصّ محيط من حواشي كبيرة وكثيفة، بدون علامات الترقيم ولا ترقيم الآيات القرآنية، فقديماً كان يُعتقد أن من يعرف القراءة يعرف القرآن على ظهر قلب، نُشر تفسير ابن كثير بالطريقة الغربية المعاصرة والمعروفة اليوم في أي دار نشر وكل المنشورات تقريباً: هناك فقرات، علامات الترقيم، حواشي تحت النصّ، وترقيم الآيات القرآنية للمراجعة وللقارئ الذي قد لا يعرف المصحف بشكل دقيق.
حجة وليد صالح هنا، هي أن هذه النقطة كانت نقطة تحول ثقافي هام في العالم الاسلامي، والتي لم ينتبه إليها الكثير من الباحثين بعد، والتي من خلالها يجدر المقارنة بما حدث من تغيير مماثل في الأنواع الأدبية الأخرى بالعربية، وكيف ساهمت الحركة السلفية في عصرنة الأدب الديني شكلياً، وإعادة تشكيل العلاقة بين القارئ والنص الديني.
رافق تغيير المضمون (الهيرمينوطيقا) تغيير الشكل (تصميم النص). هكذا بدأ دار البلاق يفقد السيطرة في مجال الكتاب الديني في عالم النشر، في وقت كثرت فيه منشورات للتراث وعنه، فقد كانت الجدليات حول التفاسير ونزاعاتها المَلِكية جزءاً من ظاهرة فكرية كبرى هي النهضة.
لا يزال التأثير الملكي هذا في عالم النشر الديني والدراسات الإسلامية ومناقشات الأفكار غرباً وشرقاً يقوم بدوره حتى اليوم، مع أن بعض البلدان التي أصبحت غير ملكية، أخذت أيضاً دورها فيها خلال تلك الفترة. على سبيل المثال، تُموّل المملكة الأردنية موقع الإنترنت ” www.tafsir.com ” وكذلك مشروعات أخرى، مثل ترجمة التفسير إلى الإنكليزية بتحقيق وترجمة الباحثَين الغربيَين، أنابيل كيلر وعلي كيلر.
نُشر المقال في يوم الجمعة 9 أكتوبر 2020 (رصيف 22).
دار بولاق..بولاق وليس البلاق.. أشهر من نار على علم