جسد النبي محمد في المتخيل الإسلامي
رضا كرعاني
ورد الحديث عن حياة النبي محمد في مؤلفات عديدة متنوعة الاختصاصات هي كتب السيرة وكتب الطبقات ومجاميع الحديث وكتب التاريخ العام وكتب الأدب … وورد الحديث عن جسد النبي محمد عند رواية سيرته في قسم مستقل أو في سياق الحديث معجزاته وذكر بعض أنشطته. إن المادة النصية التي يمكن استخراجها عن جسد النبي محمد من المصادر القديمة غزيرة بقطع النظر عن درجة التنوع فيها والاختلاف والإضافة عند اللاحق منها مقارنة بالسابق، والذي يعنينا من هذه المادة جانب المتخيل فيها، ومصطلح المتخيل هو ترجمة للكلمة الفرنسية (imaginarie) ويعني في الدرس الانتروبولجي مجموعة الاعتقادات والحكايات التي تتجلي فيها نظرة مجتمع بشرى إلي الوجود، ويحضر المتخيل في رؤى كثيرة تجمع بين الفن والدين والحكايات الكبرى. المتخيل الإسلامي لجسد النبي محمد يتجلي بصفة أساسية في الإخبار العجيبة والخارقة، أما ما ورد في المصادر من أخبار ممكنة الوقوع عن جسد النبي محمد فيصعب فرز ما له مرجعية تاريخيه منه عما هو مختلق.
مظاهر المتخيل:
جسد النبي محمد قبل البعثة
يذكر بعض الرواة أن النبي محمد كان قبل أن يأتي إلي هذه الدنيا نورا وهو أول ما خلق الله وكان هذا النور ظاهرا علي جبين والده عبد الله بن عبد المطلب، ويذكر الرواة أن امرأة عرضت نفسها عليه لحمل بذرة النبوة، وتختلف الروايات حول هوية هذه المرأة، تذكر بعض الروايات قتيلة (أو رقية) أخت ورقة بن نوفل وتذكر روايات أخري فاطمة بنت مر الخثعمية وهي كاهنة “قد قرأت الكتب” ([1]) ما يجمع بين المرأتين أن لهما معرفة دينية تؤهلهما لإدراك أن ذلك النور الظاهر في جبين عبد الله بن عبد المطلب علامة علي أن المولود المنتظر سيكون النبي الموعود الذي أظل زمانه. يذكر الرواة أن كتب النصارى واليهود قد ضمت إخبارا تتحدث عن خاتم الأنبياء وحددت مكان ولادته ودار هجرته وبعض صفاته الجسدية ([2]) ويذكر الرواة أن الحنفيين من العرب كانوا ينتظرون قدوم نبي قد أظل زمانه وكانوا يدركون بعض علامته الجسدية “قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا انتظر نبيا من ولد إسماعيل (…) هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه” ([3]).
يذكر الرواة أنه بعد أن دخل عبد الله بآمنة ذهب النور الذي كان في جبينه، وأخبرت أم محمد أنها تحمل بطفل سيكون له شأن عظيم، وكان حملها يسيرا ولم تعان الألم الذي تعانيه المرأة الحامل، وكانت ولادتها بمحمد محملة بالعلامات التي تظهر قيمة ما ولدت، فمع نجئ محمد إلي هذه الدنيا سطع نور أضاء قصور بصري بأرض الشام ([4]) وخرج محمد من رحم أمه نظيفا ما به قذر ([5]) وجاء إلي هذه الدنيا علي هيأة مخصوصة، ينقل الرواة عن أمه قولها “ثم وقع علي الأرض معتمدا علي يديه ثم اخذ قبضة من تراب فقبضها ورفع رأسه إلي السماء” ([6]) ويذكر الرواة انه تكلم بعد ولادته وحمد الله علي ما أكرمه به” ([7]).
رافقت ولادة محمد عدة مؤشرات تدل علي انه النبي الموعود، وكان جسده يحمل إمارات تؤكد ذلك “وجهه وجه النبي وعينه عين نبي” ([8]) وأبرز هذه العلامات هي خاتم النبوة الذي يوجد بين كتفيه، وهو في أشهر الروايات “شامة سوداء صفراء فيها شعرات متواترات” ([9]) وبسبب هذه الصفات الجسدية أدرك من رآه من رجال الدين من يهود ونصار ووثنيين أنه النبي الموعود، والشواهد علي ذلك كثيرة منها أن قوما من نصاري الحبشة رأوا محمدا وعرفوا من أمره ما عرفوا فحاولوا أخذه من مرضعته حليمة ([10]) وعندما كان محمد في طريقه إلى الشام مع عمه أبي طالب رآه الراهب بحيري وعرف من خلال صفاته الجسدية انه النبي الموعود ([11]) وتذكر المصادر أن عائفا رأي محمدا وهو طفل فعرف أن له شأنا عظيما فدعا إلي قتله.
كان جسد محمد حاملا لعلامات النبوة، وكانت سيرته قبل أن ينزل عليه الوحي تهيئة له لخوض تجربة النبوة، هيئ جسده في حادثة شق الصدر، ينقل الرواة عن محمد قوله “…فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه” ([12]) كانت عملية شق الصدر تهيئة لجسد محمد للقيام بمهمة النبوة، وتختلف المصادر حول عدد مرات التي تكررت فيها هذه العملية، ويذكر الرواة أن العناية الإلهية تولت ستر جسد النبي محمد، فلم تظهر عورته، ينقل الرواة عنه قوله “لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعري وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة علي رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي” ([13]) ستر جسد النبي محمد، وأخفي برازه، فلم ير أحد غائطه ([14]) ويذكر الرواة انه أعطي قوة أربعين رجلا في الجماع” ([15]).
جسد النبي محمد بعد البعثة :
في سن الأربعين نزل الوحي على محمد، وهي سن متأخرة في ذلك الزمان، وكان محمد في صفاته الجسدية وسطا ([16]) يجمع بين حسن الصورة وحسن الصوت والرائحة الطيبة وكان شبيها بالنبي إبراهيم ([17]) وكثيرا ما سمي بالبدر واعتبر القمر في المنام دالا عليه ([18]).
كانت تجربة النبوة تجربة جسدية إلى حد كبير، فتلقي الوحي كان يتطلب من محمد مجهودا جسديا كبيرا “قال: رأيت الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وإنه على راحلته فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت وربما قامت موتدة يديها حتى يسري عنه من ثقل الوحي، وانه ليتحدر منه مثل الجمان” ([19]) كانت تجربة تلقي الوحي تجربة مرهقة جسديا، وتنقل المصادر عن محمد قوله “تنام عيني وقلبي يقظان” ([20]) ولأن محمدا كان يناجي ربه في كل ليلة امتنع عن أكل البصل والثوم لرائحتهما وأباحهما لإتباعه.
كانت تجربة تلقي الوحي في جانب منها تجربة جسدية، ويذكر الرواة انه كان لمحمد معجزات جسدية كثيرة تتمثل في حادثة الإسراء والمعراج وفي امتناع جسد محمد عن أعدائه ومنحه الحياة لإتباعه. ينقل الرواة عن محمد انه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء فشاهد آيات عديدة ليعود بعد ذلك إلى مكة حدث ذلك في ليلة واحدة ([21]) تقدم المصادر تفاصيل كثيرة ما وقع في حادثة الإسراء والمعراج يهمنا منها ما تعلق بجسد النبي محمد، ينقل الرواة عن ابن مسعود قوله أنه بعد أن صلى محمد بنفر من الأنبياء ببيت المقدس أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء، فاخذ إناء اللبن فشرب منه، فهدي “وهديت أمته” ([22]) ويذكر الحسن بن أبي الحسن البصري أن الاختيار كان بين إناءين: إناء خمر وإناء لبن” ([23]).
يذكر الرواة أن حادثة الإسراء والمعراج وقعت قبل هجرة محمد إلى يثرب بفترة زمنية قصيرة، ويذكرون في أخبار عديدة أن العناية الإلهية تولت حفظ جسد النبي محمد فلم يستطيع أعداؤه من أهل مكة أن ينالوا منه “وقال ابن إسحاق: فذكر لي إن أم جميل حمالة الحطب (…) أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يده فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تري إلا أبا بكر…” ([24]) حفظ الله محمدا، فلم يقدر أعداؤه على قتله ([25]) وعندما علم أسياد مكة بنية محمد الهجرة نحو يثرب اجتمعوا على بابه ينتظرون خروجه ليثبوا عليه “وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده (…) وأخذ الله تعالى على إبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤؤسهم..” ([26]) بعد أن قام النبي محمد بيثرب حاول أعداؤه قتله في وقائع عديدة وعجزوا عن ذلك لأن الرعاية الإلهية قامت بحفظه. حدث ذات مرة أن رجلا من غطفان وجد محمدا بعيدا عن إتباعه، فأراد قتله، فاستل سيفا “ثم جعل يهزه ويهم فيكبته الله” ([27]).
تولت العناية الإلهية حماية محمد من أعدائه، وما تذكره المصادر حول واقعة أكله من شاة مسمومة يلفه غموض كبير، يذكر الرواة انه بعد أن فرغ من غزوة خيبر جاءت له زينب ابنة الحرث بشاة مصلية مسمومة “فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني انه مسموم. ومات بشر من أكلته التي أكل” ([28]) وينقل الرواة عن النبي محمد أنه قال في مرضه الذي توفي فيه لأخت بشر بن البراء “إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر” ([29]) جعل المخيال الإسلامي العناية الإلهية تتدخل لحماية النبي محمد من السم الذي دس له في الطعام، ثم اعتبره مات شهيدا بفعل ذلك السم، فحاز كرامة الشهادة مع ما أكرامه الله من النبوة، ينقل الرواة عن النبي محمد أنه عرض عليه الخلود طوال حياة الدنيا، فاختار الموت ولقاء الله، وتذكر المصادر أن صورته ستظل بعد وفاته عصية على الشيطان ولا تظهر في أضغاث الأحلام، ينقل عنه الرواة قوله “… فمن رآني في النوم فقد رآني” ([30]).
كان النبي محمد صاحب معجزات جسدية كثيرة، أسري به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء، ولم يستطع أعداؤه أن ينالوا منه، واستطاع النبي محمد في مناسبات كثيرة أن يمنح الحياة لإتباعه، حدث ذلك عبر تفجير الماء وعبر إكثار الطعام، يذكر الرواة وقائع عديدة زاد فيها تدفق الماء من الأرض لأن النبي محمد مسه وتحول فيها الماء القليل إلى ماء كثير في راحتيه”… عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فأتي به قدح رحراح (…) فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من أصابعه كأنه العيون” ([31]) ويذكر الرواة أنه كان كافيا في مناسبات عديدة أن يلمس النبي طعاما قليلا فيصبح كثيرا أو ضرع شاة فيحفل ويدر لبنا” قال عبد الله بن مسعود (…) أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في غنم أهلي فقال: أفي غنمك لبن؟ قال قلت: لا. قال: فأخذ شاه فلمس ضرعها فأنزلت” ([32]) أنقذ النبي محمد أتباعه في مناسبات عديدة، ووفر لهم الماء والطعام بفضل معجزاته الجسدية، وقام بإشفاء بعض أتباعه عبر لمسه، فعندما أصيبت عين قتادة بن النعمان يوم احد ووقعت على وجنتيه ردها النبي محمد بيده “فكانت أحسن عينيه وأحدهما” ([33]).
كان جسد النبي محمد في المتخيل الإسلامي خارقا وصاحب معجزات كثيرة، ويذكر الرواة أن أتباع محمد زمن النبوة كانوا يحرصون على أن تنالهم بعض بركاته، فتنافسوا على الحصول على شعره المحلوق وكل ما لمس جسده من ماء أو لباس”… رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن يقع شعره إلا في يدي رجل” ([34]) ويذكر الرواة أن أهل الحجاز “إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمدا صلى الله عليه وسلم فحنكه ومسح رأسه” ([35]).
مراجع المتخيل ورموزه:
ما يذكره الرواة حول جسد النبي محمد لا يستند إلى النص القرآني الذي لا يتحدث عن ولادة النبي محمد ولا عن العلامات الجسدية الدالة على نبوته ولا نجد فيه حديثا صريحا عن المعجزات التي قام بها النبي محمد، فما ورد في النص القرآني عن حادثة الإسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء 17/ 1) غامض ويحتمل تأويلات عديدة منها أن يكون الإسراء مجرد رؤيا في المنام وهو رأي قال به بعض أتباعه وأهل بيته مثل زوجه عائشة ومعاوية بن أبي سفيان” ([36]) وهذا الموقف أقرب إلى ما جاء به النص القرآني (……وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الإسراء 17/ 60) ومن المرجح أن الاعتقاد أن حادثة الإسراء رؤيا هو الاعتقاد الذي كان سائدا زمن النبوة ثم وقع تناسيه وتحول إلى رأي هامشي لاقتران النبوة في ذهن الناس بإتيان المعجزات وهو اقتران كان سائدا في مكة زمن قدوم الإسلام، يتحدث النص القرآني في عدد هام من الآيات عن مطالبة أسيادها محمدا الإتيان بالمعجزات (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء 17/ 90- 93) ما انتظره أسياد مكة من محمد لتصديق نبوته أسنده المتخيل الإسلامي له.
تحدث النص القرآني عن معجزات الأنبياء السابقين لمحمد. فذكر معجزة ولادة النبي عيسى ومعجزة تحول النار إلى برد وسلام على إبراهيم ومعجزة حفظ جسد النبي يونس في جوف الحوت، ويبدو أن ذلك هو الذي حفز المخيال الإسلامي على خلق معجزات للنبي محمد الذي قد أعطي من الكرامات حسب التصور الإسلامي أكثر مما أعطي غيره. ومن التصورات التي كانت شائعة عند العرب القدامى أن اكتساب معرفة عميقة أو رتبة دينية يقتضي جسدا مخصوصا مهيأ لذلك، فما هو شائع في الأخبار أن كهان العرب كانوا ذوي أجساد غير عادية حاملة لعلامات تميزهم، فسطيح الكاهن المشهور كان بلا عظام ويمكن طيه كما تطوي الورقة، أما أمية بن أبي الصلت الذي “نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدا و(…) ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وشك في الأوثان ….” ([37]) وطمع في النبوة فقد عاش تجربة مماثلة لتجربة محمد إذ شق صدره” دخل أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهيئ أدما لها، فأدركه النوم، فنام على سرير في ناحية البيت. قال: فانشق جانب من السقف في البيت، وإذا بطائرين قد وقع على صدره ووقف الأخر مكانه، فشق الواقع صدره، فأخرج قلبه، فشقه، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره: أوعي؟ قال: أقبل؟ قال: أبي…” ([38]).
لم يحمل جسد أمية بن أبي الصلت علامات كافية ليكون نبيا على عكس جسد النبي محمد. كان الاعتقاد في خصوصية أجساد الأنبياء والكهنة أمرا شائعا عند العرب القدامى، أما القول بخوارق تصاحب الولادة فأمر شائع في المجتمعات القديمة إذ عادة ما يكون ميلاد بطل أو نبي في كثير من الأساطير والحكايات الكبرى مرفوقا بعده علامات تخبر عنه وتحتفي بقدومه إلى العالم ([39]) ويبدو أن المخيال الإسلامي وهو يتباهي بالقدرة الجنسية الغير عادية للنبي محمد يمنح من تصورات قديمة كان الجنس فيها طقسا دينيا قبل أن تستهجنه بعض الديانات مثل المسيحية وتستبدل به دعوة العفة وترك النساء، وما ورد في المصادر عن كلام محمد وهو في المهد وإكثاره الطعام القليل كان متأثرا بما جاء في القران عن معجزات عيسي المتمثلة في الكلام في المهد (آل عمران 3/ 46) ونزول مائدة من الطعام عليه من السماء (التوبة 9/ 112).
حضرت عدة عناصر في تشكيل المتخيل الإسلامي لجسد النبي محمد وهذه العناصر هي النور والماء والقلب والقمر وكلها رموز كبرى لا تكاد تخلو منها أسطوره، النور رمز للحق والفرح والحياة والهداية وفي أكثر من آية تحدث النص القرآني عن نور الله الذي لا يمكن إطفائه (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة 9/ 32) والماء رمز الطهارة والثلج رمز للنقاء واليقين وفي بيئة صحراوية قليلة التساقطات الماء معادل للحياة، ونقدر أن أهمية الماء كمادة وكرمز هي التي جعلت رواية بن مسعود التي ورد فيها تفضيل النبي محمد للبن على الماء والتي أوردها ابن هشام لا تنتشر في المصادر المتأخرة ([40]) وانتشرت الرواية التي يقتصر فيها العرض على الخمر واللبن وهي مروية عن الحسن بن أبي الحسن البصري الذي هو دون ابن مسعود منزلة.
القمر الذي كان في المتخيل الإسلامي رمزا لمحمد فهو اله عبده العرب في الجاهلية وأطلقوا عليه أسماء عديدة وجسدوه في عدة رموز ([41]) ومن الاعتقادات التي كانت شائعة عند العرب وأكدها القرآن الاعتقاد في أفضلية القلب على سائر أعضاء الإنسان، فهو مركز المعرفة منه تأتي الهداية والضلال” ([42]) جاء في النص القرآني (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج 22/ 46) لقد كان الهدف من شق صدر النبي محمد تنقية قلبه تهيئة له لخوض تجربة النبوة.
اقتبس المتخيل الإسلامي مشاهد من مراجع مختلفة، ووظف عدة رموز لصياغة صورة جسد النبي محمد، ولاشك أن هذه الصورة قد تشكلت عبر الزمن، ولم تستو دفعة واحدة، وظلت الأخبار تحتفظ بآراء قليلة تخالف السائد في تفسير بعض الأحداث، مثل القول أن وقائع شق الصدر والإسراء والمعراج كانت رؤيا ولم تجر في الواقع التاريخي، والرؤيا أشمل من الحلم لأنها يمكن أن تكون في اليقظة أو المنام، ورؤيا الأنبياء هي درجة مخصوصة في المعرفة وإدراك الموجودات بدون وسائط” ([43]) وتحدث النص القرآني عن رؤيا النبي يوسف (يوسف 12/ 4- 5) ورؤيا النبي محمد (الفتح 48/ 27) ومن المرجح أن الرأي الذي كان شائعا في زمن الإسلام المبكر أن معجزات النبي محمد الجسدية هي أشكال من الرؤيا، ومع تقدم الزمن تراجع هذا الرأي وسحب من التداول، وساد الاعتقاد أن للنبي محمد معجزات عديدة وأن جسده كان موضوعا لعدة خوارق، ولتأكيد هذا الاعتقاد وضعت أحاديث كثيرة مثل قول أنس بن مالك معلقا على حادثة شق صدر النبي محمد “كنا نري أثر المخيط في صدره” ([44]) ونقدر أن تناقل أخبار سيرة النبي محمد شفويا هي التي جعلت جسده في المتخيل الإسلامي يكتسب أبعادا خارقة وعجيبة، فمجالس القصاص مثلت أفق تقبل يحتفي بكل ما هو غريب وعجيب الصورة المعجزة والخارقة للنبي محمد في المتخيل الإسلامي تجاوزت في مختلف المصادر مع صورة واقعية له، كان يجوع ويبقي الليالي طاويا لا يجد ما يأكل ويتعرض للأذى ويمرض ويشج وجهه وتكلم شفته” ([45]) لقد جمع كتاب السيرة كل الأخبار المتناقلة شفويا، ولم يأخذوا منها موقفا نقديا في غالب الأحيان، فلم تشكل مرحلة التدوين قطعا مع ثقافة المشافهة، وبقي جسد النبي محمد إلى يومنا هذا محاطا بهالة من الغموض فالرأي السائد عن عموم المسلمين أنه لا يجوز رسمه ولا نحت تماثيل له ولا تقمص دوره.
[1] أبو الفرج نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية. ضبطه وصححه عبد الله محمد الخليلي دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط 1 1422/ 2002 م 1 ص 59.
[2] ابن سعد، الطبقات الكبرى دار صادر بيروت (د ت) م 1 ص 360-363.
[3] المرجع نفسه، م 1 ص 162.
[4] ابن هشام، السيرة النبوية. تحقيق وتعليق الشيخ عادل احمد عبد الموجود، علي محمد معوض، فتحي عبد الرحمان احمد الحجازي، مكتبة العبيكان الرياض ط 1، 1998م ج 1 ص 204.
[5] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص102.
[6] المرجع نفسه م 1 ص 102.
[7] أبو الفرج نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية م 1 ص 84.
[8] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص 153.
[9] المرجع نفسه م1 ص 163.
[10] ابن هشام، السيرة النبوية ج 1 ص 216.
[11] المرجع نفسه ج 1 ص 227.
[12] المرجع نفسه ج 1 ص 214.
[13] ابن هشام، السيرة النبوية ج 1 ص 230.
[14] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص 171.
[15] المرجع نفسه م 1 ص 374.
[16] ابن هشام، السيرة النبوية ج 2 ص 13.
[17] المرجع نفسه ج 2 ص 12.
[18] المرجع نفسه ج 3 ص 295.
[19] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص 197.
[20] ابن هشام، السيرة النبوية ج 2 ص 12.
[21] المرجع نفسه ج 2 ص 5-20.
[22] ابن هشام، السيرة النبوية ج 2 ص 8.
[23] المرجع نفسه ج 2 ص 10.
[24] المرجع نفسه ج 1 ص 370 -371.
[25] المرجع نفسه ج 1 ص 325.
[26] المرجع نفسه ج 2 ص 80.
[27] المراجع نفسه ج 3 ص 160-161.
[28] المراجع نفسه ج 3 ص 296.
[29] المراجع نفسه ج 3 ص 297.
[30] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص 417.
[31] المراجع نفسه م 1 ص 178.
[32] المراجع نفسه م 1 ص 184.
[33] ابن هشام، السيرة النبوية ج 3 ص 36.
[34] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص 431.
[35] الطبري، تاريخ الأمم والملوك تحقيق وتعليق عبدا على مهنا مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان ط 1 1998 م3 ص 135.
[36] ابن هشام السيرة النبوية ج 2 ص 11.
[37] الأصفهاني، كتاب الأغاني شرحه وكتب هوامشه عبدا على مهنا، الأستاذ سمير جابر دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط 2 ص 1412ه/ 1992م ج 4 ص 129.
[38] الأصفهاني، كتاب الأغاني ج 4 ص 134.
[39] المنصف الجزار، المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلي الرسول دار محمد على الحامي (تونس) الانتشار العربي (بيروت) ط 1 ص 2007 ص 75.
[40] أبو فرج نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية م1 ص 528.
[41] محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالالتها دار محمد على الحامي (تونس) دار الفارابي (لبنان) طبعة جديدة منقحة 2005 ص ص 193-198.
[42] L Graded art Kalb in E I Volume IV Leiden E J Brill 1997 p 486.
[43]Ru ya in E I. vol VIII p p 645- 647 Leiden Brill 1995 T. Fahd.
[44] ابن سعد، الطبقات الكبرى م 1 ص 151.
[45] المراجع نفسه م 1 ص 400.