يوسف وإخوته وآيات السائلين  

يوسف وإخوته وآيات السائلين  

يوسف وإخوته وآيات السائلين

بقلم: د. محمد صفّار 

 لو أدرنا مفتاح سورة يوسف وساءلناها لاستخراج آياتها، لصار بالإمكان القول أنّ السورة تدور حول ثلاث جرائم مركّبة وملفّقة، وهي الجرائم الرئيسية للإنسانية، التي تكشف عن شهوات النفس وغرائزها الأساسية، وهي القتل والزنا والسرقة. وتتّفق تلك الجرائم الثلاث في القواسم المشتركة للجريمة كجريمة، لكنّها تختلف في الملابسات المتعلّقة بخصوصية كلّ واقعة. ولا غرابة أن تسمّى السورة بـ(يوسف) لأنّ شخصيته هي نقطة تقاطع تلك الجرائم، وإن اختلف موقعه في أحداث كلّ منها، كما سنرى ونسمع.

 أمّا الجريمة الأولى فهي جريمة إخوة يوسف، وهي الخط الدرامي الرئيسي للأحداث الذي يحفظ لبناء لسورة كقصة تماسكه، وقد مثلت تلك الجريمة في ذاتها نقطة تحول هامة في حياة يعقوب وأبنائه جميعا. ويتضح الدافع للجريمة من الآية 8 ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.

وتتضمّن الآية الكريمة عملية استنتاج منطقي يؤسّس في العقل لحيثية ارتكاب الجريمة، فالمسلّمة الأساسية التي يمكن استنباطها من الآية هي أنّ الجمع أو العصبة أفضل من الفرد، انظر تلك النرجسية التي تقطر من قولهم ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾. وما فيه من زهو وخيلاء، وكذلك نسبة الأب يعقوب إليهم في قولهم ﴿أَبَانَا﴾، فقد جعلوه مضافًا إليهم إعرابيًّا ونفسيًّا. ولذا ينبني على تلك المسلّمة أنّ حبّ الأب للجمع يجب أن يفوق حبّه للفرد، ولمّا كان الإخوة جمعًا أو عصبة، كانت النتيجة المفترضة أن يكون الإخوة أحبّ إلى أبيهم من يوسف. غير أن الحالة الخاصة للأب يعقوب الواردة في نفس الآية تصادم ذلك الاستنتاج النرجسي لهم، إذ ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا﴾، وهو ما يشكل عكسًا للنتيجة المفترضة السابقة، ومن هنا أتى الحكم على الأب بأنه ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾. ولعل المسلمة الأولى بقدر ما تستبطن من نرجسية وعجب وكبر لدى الإخوة، فإنها تفوح منها أيضًا رائحة الحقد والغيرة من يوسف. انظر لحديثهم عن (يوسف وأخوه) كيف لم ينسبوهما للعصبة، رغم الاشتراك بينهم جميعا في الأب، ولا حتى نسبوهما للأب، رغم أنهما ابناه فعلا، بل جعلوهما أي يوسف وأخاه يقفان معلقين في الهواء دون نسب إلا لنفسيهما، إنهما (يوسف وأخوه) فقط؛ مجرد فرع أبتر ولا جذر له ومعلق في الشجرة ولذا تتعين إزالته.

إن تقديم القرآن لدافع الجريمة على هيئة مغالطة منطقية منح الشرعية، من وجهة نظر الأخوة بطبع، لاتخاذ ما يلزم فعله لتصحيح هذا الوضع الشاذ لعلاقة الأب ببنيه، ، وبعد اتخاذ هذه الخطوة التصحيحة تعود الحياة لوضعها الطبيعي في سابق عهدها، تماما كما كان الحال من قبل أن يعلق بالشجرة هذا الفرع الزائد الأبتر؛ ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَٰلِحِينَ﴾الآية 9.

وهذا هو المنطق والغاية الحاكمة للتخطيط الأصلي للجريمة المتعلقة بالتخلص من يوسف وإزالته من طريقهم، حسبما ورد في الآية 9 ﴿ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾، أي بالقتل أو النفي لأرض بعيدة. غير أنّ الخطة الأصلية جرى تعديلها في أثناء التشاور حولها، بحيث تمّ استبدال القتل الإيجابي بالقتل السلبي، ﴿لَا تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾الآية 10، فبدلا من إزهاق روح يوسف بأيديهم سوف يعمدون إلى إلقائه في البئر فيلتقطه بعض السائرين في الطريق، ويلاقي يوسف من ثمّ مصيره على أيدي هؤلاء وليس على أيدي الإخوة، أيًّا ما يكون هذا المصير الذي سيلاقيه. وبذلك يكون الإخوة قد حقّقوا غايتهم الأساسية في التخلص من يوسف، وفي ذات الوقت لم تتلوّث أيديهم بدمه، على الأقل في ظنّهم، وإن كانوا قتلوه يقينا بالسلب والامتناع!

وكانت الخطوة الأولى لتنفيذ خطة الجريمة التي عقدوا العزم عليها، هي مراودة الأب (يعقوب) عن ابنه (يوسف)، لأن الفصل المكاني بينهما سيجرد الابن من حماية الأب، الذي كان من الأساس يتوجس خيفة من كيد الإخوة ليوسف، وبذلك يخلص الإخوة إليه وينفذون ما أرادوه. وأتى ذلك في الآية 12 ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾. ويدخل ضمن مراودة الأب عن ولده طمأنة خوفه من إمكانية غفلة الإخوة عن يوسف واحتمال أكل الذئب له، بقولهم ﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذًا لَخَٰسِرُونَ﴾ الآية 14. ويذكر ابن خلدون في مقدمته، كما سلف القول، أنّ هذه الآية هي التي استقى منها مفهوم العصبية والأساس النفسي لها. وتكشف عبارة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) التي تكررت مرّة أخرى في هذه الآية عن المكانة المركزية لفكرة العصبية في تفكير أولئك الأشقاء الأشقياء، فالنعرة على ذوي القربى كمكوّن نفسي للعصبية هي التي تجعلها مظلة حماية مضمونة، وهي نفسها التي تؤجّج نار حقدهم على يوسف وتؤزهم على جريمة قتله. وهكذا تكشف زلات اللسان في حديث الإخوة عن خبيئة نفوسهم، إذ يصرحون بما وقر في صدورهم من رؤية لذاتهم، تبرر فكرهم وفعلهم.

أمّا الخطوة الثانية في التنفيذ وهي لبّ الجريمة ذاتها، فهي التخلص من يوسف بإلقائه في غيابات الجب، خاصة بعد أن أجمعوا أمرهم على أن يكون قتلهم ليوسف بالامتناع لا بالإزهاق، وقد تمّت تلك الخطوة بالفعل من دون عقبات في التنفيذ. ولا ينفصل عن جريمة التخلص من يوسف بحيث يعد الخطوة الثالثة في تنفيذها، عملية التغطية على الجريمة التي تلتها، حتى يخلي الإخوة ساحتهم من أية مسئولية عن مصير يوسف، ومن ثم يتحقق المراد وتطوى صفحته وينساه الجميع، فيستقيم لهم أبوهم وتعود حياتهم لسيرتها الحسنة الأولى قبل ميلاد يوسف هذا. ومن هذا المنطلق ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ الآية 16، والقصد من البكاء هو إخفاء مشاعرهم الحقيقية بالفرح للخلاص من يوسف، وراء قناع الحزن والبكاء الذي سيرضي الأب المكلوم في ولده، فلا يشكّ في الإخوة، وبذلك تبتعد أو هم يبعدون شبهة الجريمة عن أنفسهم.

 بيد أن الجزء الأصعب في عملية التغطية على الجريمة هو تقديم رواية بديلة للأحداث الحقيقية تلتف حول التطمينات التي سبق إعطاؤها للأب للسماح لهم باصطحاب يوسف معهم، تلك التطمينات التي تدور حول فكرة العصبة كمظلة مؤكدة للحماية، وفي ذات الوقت لا بدّ لتلك الرواية أن تلقي باللائمة على فاعل آخر غيرهم. إنّها مهمّة جدّ شاقة تعتسف المنطق اعتسافا؛ فالأمر يتطلّب اختلاقًا لأحداث لم تحدث أصلا توفق بين نقيضين وهما: قدرة الإخوة على حماية الصغير لكونهم عصبة، والواقع الفعلي لاختفاء الصغير رغم كونهم عصبة. وللخروج من تلك الحلقة المفرغة، كان لا بدّ من اللجوء إلى سبب خارق للقدرة البشرية، لا تستطيع السيطرة عليه، ولا يأبه هو لقوة العصبة، فكان أن لجأوا إلى نفس ما تخوّف منه أبوهم، ﴿وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ الآية 13، عندما راودوه عن يوسف. لكنّهم أعادوا صياغة مخاوف الأب بشيء من التفصيل  ﴿ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا [وهذا هو التفصيل لـ﴿ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ في الآية 13] فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾الآية 17، وتلك هي نفس النتيجة التي كان يخشاها الأب كما ورد سابقًا.

ورغم أنّ الرواية البديلة للأحداث تخرجهم من دائرة ارتكاب الجريمة لكنّها لا تعفيهم تماما من المسئولية، إذ هم بتركهم يوسف وحده وذهابهم للاستباق بزعمهم مدانون بالإهمال والتفريط في يوسف، غير أنّهم رضوا بتحمل هذا القدر من المسئولية المتعلق بالإهمال، لأنّه يبرئهم من تهمة القتل العمد.

 ولمّا كان من الغريب حقا أن تأتي روايتهم مطابقة تماما لما خافه الأب وتوقعه، فقد كانوا يشعرون أن القصة لغرابتها غير جديرة بالتصديق من قبل الأب ذاته، فابتدروه هم بالقول ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ الآية 17 قبل أن يذكرها هو لهم. ولذلك كان عليهم لإحساسهم بعدم جدارة شهادتهم بالتصديق أن يختلقوا أو يزيّفوا دليلا ماديا يربط الجاني المزعوم بجسم الجريمة، خاصة مع اختفاء جسم الجريمة ذاته، ألم يلقوا بيوسف في البئر!! فكان أن ﴿وجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ الآية 18، ومنذ ذلك الوقت صار قميص يوسف يضرب كمثال على الجريمة الملفقة، وصارت براءة الذئب تضرب مثالا لمن يتهم زورا بجرم لم يرتكبه.

وهكذا فإنّ جريمة الإخوة اكتملت في التنفيذ من دون معوقات، بل وحققت هدفها المباشر بالتخلص من يوسف، لكنّ الغاية المرتجاة منها لم تتحقق، إذ لم يخل لهم أبدا وجه أبيهم. ولم يقتنع يعقوب أصلا بصدق قولهم وبراءتهم، وكاشفهم هو بذلك ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ الآية 18، وإن لم يكن للأب المكلوم بعد كل ذلك سوى الصبر الجميل والاستعانة بالله على ما يصفون، وهو أرحم الراحمين.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!