تقديس الأولياء في باكستان
دنيس ماترينج (Denis Matringe)
ترجمة: محمّد الحاج سالم
ملخّص
يستند هذا المقال على دراسة مستفيضة للمصادر الأدبيّة والتاريخيّة فضلاً عن العديد من البحوث الميدانيّة الشخصيّة لتقديم صورة عامّة عن تقديس الأولياء في باكستان، ولاسيّما في السند والبنجاب. ويخصّص صاحب المقال، دنيس ماترينج، وهو باحث فرنسي بمعهد الحضارة الهنديّة ومدير بحوث بمركز دراسات الهند وجنوب آسيا بباريس، الجزء الأوّل من مقاله لتحليل هياكل التسلسل الهرمي الروحي والوساطة التي نتجت عن التغيّرات التي عرفها التصوّف المحلّي بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر. ويدرس في الجزء الثاني هذا التطوّر المرتبط على وجه الخصوص بإنشاء الطرق الصوفيّة، ويضع تصنيفاً للأولياء المحليّين يضعهم في خمس فئات، معتمداً بالخصوص مدى انطباع التصوّف تاريخيّاً، في شبه القارّة الهنديّة، باعتقادات الديانة الهندوسيّة الشعبيّة وطقوسها وممارساتها. ويتناول الجزء الثالث مختلف جوانب تقديس الأولياء: المزارات، والمواعيد، والممارسات، بما في ذلك الأشكال المحليّة للاحتفالات الروحيّة وطقوسها وتنظيمها. أمّا الجزء الأخير، فيحلّل الجوانب الاجتماعيّة والسياسيّة لحياة المزارات، من العصور الوسطى حتّى يومنا هذا، مستعرضاً بالخصوص الدور الاجتماعي والسياسي للقيادات الروحيّة، والرهانات التي يعيشها التصوّف في باكستان الحاليّة.
“في البدء، الحمد لله، حبيب النبيّ النقيّ الصافي.
من أعطاه الله ألق “لَوْلاَكَ”؛ فتحوّلت سيناء إلى سماء عليا.
ثمّ السلام على صحبه، دأب المسلمين دائماً أبداً.
ثمّ سيّدي محمّد شاه، الغوث الأعظم، من بنُطق اسمه، تذهب البلايا.
كم رأيت من أسواق بالآلاف، لكن لا أحقّ من سوق الصادق
ذاك المسمّى روزان ڀيرا شاه غازي؛ أنا خادم مطيع لسيّد الحقيقة هذا.
المستجيب دوماً لغوث كلّ ملهوف.
فمجرّد دامري، يقول محمّد شاه، يوفّق غازي ما لا يُحصى من الناس” ([1]).
بهذه الأبيات، يفتتح ڀير محمّد شاه ([2]) قصيدته الشهيرة التي كتبها في القرن التاسع عشر في سفوح جبال البنجاب في كشمير. وهي عبارة عن أربع رسائل (سي حرفي) باللغة البنجابيّة مكوّنة من ثلاثين مقطوعة تؤلّف الحروف الأولى لكلّ منها أحرف الأبجديّة العربيّة. ويكرّس هذا النصّ الأسطورة الأكثر شهرة في التقليد الشفهي البنجابي، وهي قصّة حبّ “هير” و”راجها” التي تغنّى بها العديد من الشعراء في لغات مختلفة، والتي لا تخلو من أنفاس صوفيّة ([3]). وفي الآداب الإسلاميّة لجنوب آسيا، تبدأ القصائد السرديّة عادة بالثناء على الله (حمد) والنبيّ (نعت) وصحبه، كما على الخلفاء الراشدين الأربعة أو على عليّ وحده (مدح). وفي المناخ الصوفي، يقوم المؤلّف، بعد التعبير عن حبّه، بالإشادة بشيخه الوليّ العظيم. وبما أنّه يكون عادة مريداً لخليفة هذا الوليّ، فهو يُشيد أيضاً بمعلّمه الروحي ([4]).
ويُظهر المقطعان المذكوران أهميّة هذا الثناء الأخير، إذ خصّص له الشاعر خمسة أبيات من أصل ثمانية. وهما يشهدان بشكل خاصّ على المكانة المركزيّة الني يحتلّها تقديس الأولياء والتفاني في خدمة المعلّمين الروحيّين في تديّن مسلمي البنجاب. وبالتأكيد، فإنّ هذه السمة موجودة في العديد من المناطق الثقافيّة الأخرى في العالم الإسلامي، كما يظهر هذا المجلّد الذي نُشارك فيه بهذا البحث. ولكنّنا لن نهتمّ في الصفحات التالية، إلاّ بما يتعلّق بالمناطق التي تشكّل اليوم باكستان، أو بشكل أكثر تحديداً، بالمنطقتين الهندو-آريّتين الكبيرتين في باكستان، أي السند والبنجاب ([5]). وسنقوم بعرض لوضع الأولياء في التديّن الشعبي، ثمّ نتبعه باعتبارات حول تاريخ التصوّف في بلدان السند، وحول تصنيف الأولياء، كما مظاهر تقديسهم والوظائف الاجتماعيّة والآثار السياسيّة المترتبّة على هذا الشكل من التديّن.
تُسلّط المقدّمة التي وضعها ڀير محمّد شاه لقصيدته الضوء في آنٍ على النظرة السائدة عند الصوفيّة للعالم في جنوب آسيا، وعلى إحدى الميزات البارزة في تنظيمه. ففي ما يمكن أن نسمّيه اللاهوت الريفي، فإنّ الله الخالق القدير لا يمكن لبشر عاديّ التواصل معه إلاّ من خلال سلسلة هرميّة من الوساطة. ويقف على رأس هذه السلسلة شخص النبيّ محمّد الذي يتمتّع بثلاثة امتيازات رئيسيّة. إنّه في المقام الأول، المتلقّي والمرسل الأوّل لتجلّي الإرادة الإلهيّة. ثمّ هو صاحب الشفاعة يوم القيامة عند المسلمين منذ عصر الصحابة. وأخيراً، فهو وفقاً لوحي من خارج القرآن الكريم (حديث قدسي)، معنى الخلق وغايته. فالله، كما يذكّرنا ڀير محمّد شاه، كان قد قال لمحمّد: “لولاك ما خلقتُ الأفلاك” ([6]). أمّا صحابة النبيّ، من جانبهم، فلهم ميزة كونهم أوّل من آمن بالرسالة، وأنّهم المصدر الرئيسي للسنّة النبويّة، ومن بينهم عليّ، صهر النبيّ، الذي ترتفع إليه كلّ السلاسل الصوفيّة.
ولكن، وفقاً لتصوّر مقبول في جميع أنحاء العالم الإسلامي، إذا كان محمّد آخر الأنبياء، فإنّنا لم نعدم بعده رجالاً ممّن بلغوا الكمال الروحي وادّعوا رضا الله عنهم، واعتبروا من قبل المؤمنين أمثلة على التقوى المطلقة. وسرعان ما تحوّلت هذه الشخصيّات من نماذج موضع تقليد، إلى شخصيّات محلّ تبجيل وإجلال واعتبروا “قريبين” بشكل خاصّ إلى الله ([7]). إنّهم “أولياء” الإسلام، وكان على اللاهوتيّين الاعتراف بهم بصفتهم تلك تحت ضغط الإيمان الشعبي الذي لا يعزو لهم القدرة على الشفاعة فحسب، بل يعزو لهم أيضاً كرامات لا تعدّ ولا تحصى، إذ تمتلئ سير هؤلاء الأولياء التي تباع في جميع أنحاء المزارات بحكايات لا تنتهي حول هذا الموضوع. ففي الملتان، على سبيل المثال، يتمّ الخلط بين ڀير شمس، وهو داعية إسماعيلي يعود إلى القرن الرابع عشر وقبره في المدينة، وشمس تبريزي، شيخ الصوفي الإيراني الشهير جلال الدين الرومي (ت 1273). فبمجرّد وصول شمس إلى مدينة الملتان، اجتذب كراهيّة الشيوخ، وانتهى به الأمر إلى سلخه حيّاً. وتروي الأسطورة أنّ هذا الوليّ لم يجد في أحد الأيّام من يرضى بشواء قطعة من اللحم كانت معه، وحينها طلب من الشمس الاقتراب وتولّي ذلك. ومنذ ذلك الحين، بقيت الشمس قريبة من الملتان، وهذا ما يُفسّر مناخها الجافّ والساخن بشكل خاصّ.
والوليّ الذي يتوسّل به ڀير محمّد شاه في مطلع قصيدته هو عبد القادر الجيلاني البغدادي (1088-1166)، وإليه تعود الطريقة القادريّة، ويعتبره الكثيرون “قطب” الأولياء ودعامة الكون كلّه. وفي العديد من أماكن البنجاب، يُحتفل بذكرى وفاته في الحادي عشر من كلّ شهر ([8]). ففي السند:
«هناك على الأرجح مائة شجرة كبيرة […] تسمى بعد الوليّ الشهير […]. ولكلّ منها عمود وعلم معلّق عليها من أجل نذر يتعلّق برفع مرض أو تخلّص من بعض الشدائد. ويتمّ توزيع الحلوى على الفقراء تكريماً لها، ولا يُسمح بلمس ثمارها وأوراقها حتّى من قبل الماشية »([9]).
وفي كلتا المحافظتين، تُكرّس العديد من القصائد لمدحه. ووفقاً للموروث، كان لعبد القادر الجيلاني، كما لله، تسعة وتسعين اسماً، ومن بينها ذلك الاسم الذّي دعاه به ڀير محمّد شاه: الغوث الأعظم.
وأخيراً، ففي المستوى الأوّل من التسلسل الهرمي الذي يوحّد الإنسان مع الله، نجد الحلقة الروحيّة المتمثّلة في الڀير، الشيخ، أو المرشد الحيّ، وريث تقاليد ولاية الوليّ العظيم وبركته، وهو متّصل بنسبه الروحي إلى الوليّ إن لم يدّع في الغالب أنّه من أحفاده. والڀير غالباً ما يكون مدبّر مجمع من البنايات المحيطة بقبر الوليّ (الدرقاعه، وتعني حرفيّاً: “الباب”، ولكن أيضا “الديوان الملكي”) والقائم على الطقوس. فبما أنّه سليل وليّ عظيم، فمن المفترض أن يكون أيضاً وريث قدراته المعجزة. ولذلك يسعى الناس وراء التمائم (تعويذ) التي يصنعها الڀير أو “نائبه” (الخليفة) لتفادي العين (باد نظر)والتخلّص من الخوف أو إذهاب الشرّ، وتسهيل وضع الحوامل أو الشفاء من مرض أو، بشكل عامّ، لقضاء الحوائج ([10]). بل وقد يُقصد الڀير أيضاً لطلب الذرّية (من الذكور، بطبيعة الحال): فشرب قدح من الماء يغمس فيه الڀير لحيته من الوصفات المطلوبة لتسهيل وضع النساء حملهنّ الأوّل. وبهذا يكون الڀير حلقة الوصل بين المؤمنين الذين يحصلون منه على مسارّة (بيعة)، ومجال السلوك نحو الذات الإلهيّة عبر الوليّ. وتُشبه طقوس المسارّة هذه، الطقوس البراهمانيّة المعروفة في اللغة السنسكريتيّة باسم ” أوبانيانا”.
يأخذ الشيخ يد المريد ويعلّمه في العادة إحدى الصيغ التي تجعله في حالة اتّصال روحي مستمرّ مع الڀير عن طريق تكرارها أو استحضارها، وبذلك يُمكنه الحصول على العون الإلهي بفضل سلسلة الوساطة. وغالباً ما تكون هذه الصيغة آية قرآنيّة، لكنّها قد تكون في بعض الأحيان أيضاَ بيتاً لشاعر صوفي فارسي أو هندي. وتسمّى هذه العلاقة بين الشيخ والمريد “ڀيري مريدي”. كما يُعتبر أتباع نفس الڀير “إخوة في الڀير” (“ڀير- بهائي” في الأرديّة). ويدلّ عدد الأبيات التي يخصّصها ڀير محمّد شاه إلى الڀير في قصيدته، على أهميّة مثل هذا الأمر.
تاريخ الصوفيّة وتصنيف الأولياء
إنّ هذا الوضع المميّز للإيديولوجيا الصوفيّة الشعبيّة المعاصرة في بلدان السند وكذلك في جميع أنحاء جنوب آسيا، هو نتيجة لتطوّر تشهد عليه المصادر التاريخيّة. فقد كانت المراكز الأولى للحياة الروحيّة تتمثّل في المضافات (خانقاه)، حيث كان الشيخ يقود مريديه على طريق التجربة الشخصيّة للحقائق الإلهيّة، ويُسمّي “النوّاب” (خلفاء) الذين يمكنه من خلالهم السيطرة على ولايته، و يُعيّن خليفة له (“سجاده نيشن”، أي الجالس على سجّادة الصلاة الموروثة عن الشيخ). ولكن مع وصول الطرق الصوفيّة بداية من القرن الثاني عشر، والزيادة الكبيرة في عدد الداخلين في الإسلام، وهم عادة من المطبوعين بشدّة بالهندوسيّة الشعبيّة، شهد التصوّف نقلة نوعيّة جعلته يفقد بعض نقاوته ليغدو في شبه القارة الهندية حركة نسكيّة. كما تظهر المصادر أيضاً أنّه ابتداء من نهاية القرن الخامس عشر، بدأ يُنظر إلى الشيخ على أنّه شخصيّة كاريزميّة تتمتّع بالقدرة على الإتيان بمعجزات (كرامات) أكثر من اعتباره مرشداً للسلوك (طريقة). وبالتّالي، حلّت الدرقاعة محلّ الخانقاه كمركز للحياة الدينيّة للمؤسّسات الصوفيّة، وأضحى الولاء لطريقة معيّنة أقلّ أهميّة. بل وقد يحدث أن ينخرط المؤمن، وقد يكون هو نفسه ڀير، في عدّة طرق صوفيّة ([11]).
إنّ استذكار التاريخ وإن في سماته الكبرى كما فعلنا، من شأنه أن يساعد على تصنيف أولياء باكستان ضمن خمس فئات. الأولى هي فئة الشخصيّات الإسلاميّة الكبيرة التي تُبجّل بكثير من الحماس في شبه القارّة الهنديّة. ومنها شخصيّتان متميّزتان بشكل خاصّ، هما: عبد القادر الجيلاني، الذي سبقت الإشارة إليه في حديثنا عن أبيات ڀير محمّد شاه، والمنصور الحلاّج (ت 922). وإذا ما كان الأوّل مشهوراً في باكستان ويُتوجّه إليه بطقوس مماثلة لتلك الموجّهة إلى الأولياء دفيني البلاد، فإنّ الثاني عاش في الأمثال والنصوص بوصفه المثال الأكثر اكتمالاً للصوفي الحقّ، إذ حقّق في وقت واحد الاتّحاد مع الله، وتعرّض للتعذيب لأنّه أعلن ذلك ([12]). وكثيرا ما يذكر الحلاّج في الشعر الهندي الجديد، كما في هذه الأبيات المستخرجة من نصّ بُلهي شاه، الشاعر الصوفي البنجابي الكبير من القرن السابع عشر، واصفاً حواراً بين الشرع والعشق ([13]).
“يقول الشرع إنّ شاه منصور صُلب على العمود.
ويقول العشق: فعلتم حسناً، لأنّه ذهب إلى الحبيب“.
الطبقة الثانية من الأولياء تشمل أولئك الذين جاءوا للاستقرار في بلدان السند قبل وصول الطرق الصوفيّة. ومن أشهرهم عليّ الهجويري، أصيل غزنة، حيث استقرّ في لاهور، عاصمة الغزنويّين الهندية التي تُوفّي فيها عام 1071. والهجويري هو صاحب أوّل مصنّف فارسي كبير حول الصوفيّة، وهو كتابه “كشف المحجوب” ([14]). وتنقسم الفصول الخمسة والعشرون من هذا الكتاب إلى أربعة أجزاء رئيسيّة: الأوّل مخصّص لعرض بعض المبادئ الأساسيّة للصوفيّة، والثاني لعرض حياة كبار الشيوخ والمتصوّفين بدءاً من أصحاب النبيّ، والثالث للطرق الصوفيّة ومؤسّسيها وعقائدها بشأن موضوعات مختلفة كانت مثار جدل كبير في الدوائر الصوفية (السكر، الكرامات، تصوّر الروح…)، ورابعاً، وأخيراً، أحد عشر “كشف” عن مسائل تتعلّق بـ “الأركان الخمسة” للدين، وبالسلوك والآداب، وببعض المصطلحات الصوفيّة والتناغم الصوفي. ويسود الاعتقاد بأنّه كان لعليّ الهجويري سلطة على جميع الأولياء في الهند، إذ لا يمكن لأيّ منهم الدخول إلى البلاد دون إذن مسبق منه ([15]). وسرعان ما أضحى كبير أولياء لاهور تحت اسم “داتا غنج بخش”. وإلى اليوم، يحظى الهجويري بتبجيل منقطع النظير ([16]). فمزاره هو الأكبر والأكثر زيارة من بين مزارات الأولياء دفيني باكستان، ويشهد كلّ يوم خميس جلسة غناء صوفي (قوّالي) ([17]). وقد بُنيت أرضيّة مدخل المزار والمصطبات الواقعة على جانبي القبر من الرخام، هديّة من الإمبراطور أكبر ([18]). ويحتفل مئات الآلاف من الحجّاج بالذكرى السنويّة لوفاة هذا الوليّ (“عُرْس” بمعنى الاتحاد مع الله) في اليوم العشرين من شهر صفر. وفي هذه المناسبة، كان من عادة رانجيت سينغ، مهراجا السيخ الذي حكم البنجاب من 1799 إلى 1839، أن يُقدّم مبلغ ألف روبية ([19]) كلّ عام هديّة للمزار.
أمّا كبار الشيوخ الذين أنشأوا الطرق الصوفيّة أو بعض فروعها في بلدان السند، فهم يشكّلون الفئة الثالثة من أولياء باكستان. وأهمّهم بلا شكّ هو فريد الدين مسعود المعروف باسم “گنج شكر” (كنز السُكَّر) (ت 1265)، والمعروف أيضاً باسم “بابا فريد”، وهو الخليفة الثاني لمن قام بإدخال الطريقة الچشتيّة إلى الهند ومشهور عنه تقشّفه وكثرة كراماته وعدد من أسلم على يديه ([20]). وقد استقرّ بابا فريد في مدينة أجودهان، جنوب البنجاب، التي أضحت تُسمّى من ذلك الوقت “باك ڀاتان” (الملجأ الطاهر). واليوم، تدّعي معظم عشائر “الزُطّ” المسلمة أنّها دخلت الإسلام على يديه ([21]).
وفي مطلع تحفته في الأدب البنجابي الكلاسيكي، كتب وارث شاه في عام 1767 ([22]):
“الڀير الچشتي العزيز على قلب مودود ([23])
گنج شكر مسعود، الموصوف بكلّ الصفات،
هو كمال الچشتيّة.
وڀاتان مدينة الزهد، تزدهر.
وهو من بين الأقطاب الاثنين والعشرين، الڀير الكامل،
من يحبّ الله تقواه وزهده ([24]).
جاء گنج شكر لسكنى البنجاب،
فارتحلت عنها المصائب والمعاناة” ([25]).
وقد كان بابا فريد يرفض هدايا الأقوياء، ولا يقبل إلاّ هدايا الزوّار العاديّين (الفتوح) التي يعيد في الغالب توزيعها على المستحقّين قبل انقضاء النهار ([26]). أمّا ضريحه، فهو الثاني اليوم، بعد ضريح عليّ الهجويري، جذباً للحجّاج من جميع أنحاء شمال الهند، وهم يتدافعون للمرور تحت باب الضريح المسمّى “بهشتي دروازه” (بوّابة الجنّة)، لأنّ المرور منه يضمن النجاة.
وعلى غرار الچشتيّة، فإنّ السهرورديّة قديمة الوجود في بلدان السند، وقد كان أوّل أوليائها المحلّيين، بهاء الدين زكريّا (ت حوالي 1267) دفين الملتان، وهو صاحب الفضل في دخول عدد لا يحصى من الناس في الإسلام ([27]). وقد كانت الخانقاه الخاصّة به غنيّة، وقد نسج على عكس الچشتيّة، شبكة علاقات متينة مع السلطان شمس الدين إلتمش (حكم بين 1210 و1236)، وتقبّل منه الهدايا. كما كان بهاء الدين زكريّا، رغم نواهي السهرورديّة، من عشّاق الموسيقى والغناء، وخاصّة أغاني الغزل العراقي التي لا تزال تُغنّى إلى اليوم حول الأضرحة السهرورديّة في الملتان ([28]). وكان أروع خلفائه، حفيده ركن الدين (1335) الذي يمثّل ضريحه الواقع فوق تلة تطلّ على المدينة، إحدى روائع المعمار الإسلامي الهندي المبكّر ([29]).
وقد تتلمذ على ركن الدين، جلال الدين بخارى (1384)، وهو حفيد أحد تلاميذ بابا زكريّا المدعوّ جلال الدين سرخ پوش (1292). وقد استقرّ في مدينة اوچ، وقام بعدد من الرحلات في أرجاء العالم الإسلامي سعياً وراء علم الحديث، ممّا جعل نشاطه في الجنوب الغربي من البنجاب والسند يكسبه لقبي “جهان گشت” (جوّابة الدنيا) و”مخدوم جهانيان” (خادم الناس). وعلى غرار بهاء الدين، كان لجلال الدين بخارى علاقات جيّدة بالسلاطين. ومن إنجازاته على سبيل المثال جهده في المصالحة بين حاكم السند وفيروز شاه تُغلق (حكم بين 1351 و 1388)، حين كان هذا الأخير يهدّد باكتساح مدينة تهاتا. وقد كان جلال الدين شيخاً محافظاً يُشدّد على أهميّة الصلاة، ويقول إنّه من الأولى توزيع الأموال التي تُنفق في شراء المصابيح والألعاب الناريّة خلال الاحتفالات، للتوسيع على الفقراء، كما كان يؤكّد منع مناداة الله بأسماء هنديّة. ولكن الإيمان الشعبي لا يُعير أيّ اهتمام للواقع التاريخي، إذ ما زلنا نشهد التوسّل بهذا الشيخ شديد المحافظة من أجل الشفاء من البواسير، كما أنّه يُدرج عادة ضمن الأولياء االمبتدعين والشاذّين الذين يشكّلون مجموعة الڀير الخمسة ([30]).
وانطلاقاً من منتصف القرن الخامس عشر، ظهرت طرق صوفيّة أخرى في المناطق التي تشكّل باكستان الحاليّة، كان من بينها القادريّة والشطاريّة والنقشبنديّة. وستكون القادريّة بوجه خاصّ من سيعطي لبلاد السند أولياء كباراً لا يزالون إلى الآن محلّ تبجيل حماسي. ففي مدينة اوچ، سيستقرّ محمّد غوث (ت 1517) الذي ادّعى أنّه الحفيد العاشر لعبد القادر. وتجلب الدرقاعه الخاصّة به في اوچ عدداً كبيراً من الزوّار، لأنّ أتباع الطريقة القادريّة يؤكّدون أنّها تحوي إحدى شعرات النبيّ وعمامة عبد القادر. ونحن نجد في ولاية البنجاب، نحو عشرة فروع للقادريّة يُقدّس كلّ منها وليّه المؤسّس. ولعلّ أكثر تلك الفروع تأثيراً هو النوشاهيّة التي استقرّ مؤسّسها، نوشه گنج بخش (ت. 1654)، في قرية شاهي پال بالقرب من مدينة شیخاپورا، حيث ينتشر أتباعه في كامل ربوع البنجاب وصولاً إلى كابول ([31]). أمّا في لاهور، فإنّ أكثر الأولياء شهرة بعد عليّ الهجويري هو أيضاً أحد مؤسّسي فرع آخر من فروع القادريّة، وهو مير محمد الملقّب بـ”ميا مير” (ت 1636). وقد قام أحد خلفائه بإدخال دارا شيخوه، ابن الامبراطور المغولي شاه جهان (حكم بين 1627-1658) ومترجم الأوبانيشاد الفارسيّة، إلى الطريقة القادريّة ([32]). ويقع ضريح “ميا مير” في حديقة كبيرة شرق المدينة، حيث تنعقد بانتظام جلسات الذكر والغناء الصوفي، كما تنعقد، بالإضافة إلى العُرس السنوي، احتفالات كلّ يوم أربعاء من شهري الرياح الموسميّة في التقويم الشمسي القمري الهندي، أي خلال شهري شرافان (Shrāvan) وبهادو (Bhadu) (على التوالي من منتصف يوليو إلى منتصف اغسطس، ومن منتصف أغسطس إلى منتصف سبتمبر) ([33]).
ومن المفترض أن يكون كلّ هؤلاء الأولياء قد أسهموا إسهاماً كبيراً في أسلمة بلدان السند. ونحن نعرفهم من خلال عدّة مصادر وفيرة، إمّا من خلال كتاباتهم أو كتابات أقرب أتباعهم (رسائل، مجاميع موثوقة نسبيّاً لأقوالهم وآدابهم باللغة الفارسيّة، قصائد باللغة الفارسيّة أو اللغات المحليّة)، أو من خلال سيرهم التي لا تخلو من تنامي ذكر خوارقهم كلّما تقدّمنا في الزمن.
وإلى حدود منتصف القرن الرابع عشر، كان الجزء الأكبر من الأدب الصوفي في جنوب آسيا منبثقاً عن أتباع الطريقتين الچشتيّة والسهرورديّة، ويختصّ بتلقين شكل من التقوى يحظى عموماً برضى جميع علماء الدين ([34]). ولكن الوضع سيتغيّر بعد هذا التاريخ، وذلك بفعل التأثير المشترك لأفكار ابن عربي والموروث الهندوسي للدّاخلين الجدد في الإسلام من الأهالي المحليّين، إذ ستظهر في تلك الفترة بعض الكتابات والممارسات بخلفيّة إيديولوجيّة تحمل تصوّراً مشوّهاً لمفهوم وحدة الوجود، وهو ما سيجعلها محلّ اتّهام من قبل العلماء بأنّها “بي شرع” (“خارج الشرع”) ([35]). وقد كان هؤلاء الرجال المقدّسون، المنتمون بشكل غامض إلى هذه أو تلك من الطرق، في الغالب شعراء أيضاً، في زمن يُوصف بأنّه حقبة “بهكاتي” [العشق الإلهي– م] التي عاش فيها الشاعر العظيم “كبير” والغورو “ناناك” [مؤسّس الديانة السيخيّة- م] وخلفاؤهم ([36]). وقد ألّفوا قصائدهم باللغات الهنديّة الجديدة، وأدمجوا فيها، بجرعات متزايدة، عناصر من الثقافة المحليّة والديانة الهندوسيّة الشعبيّة ([37]). وهم قريبون من القلندر، أولئك المتسوّلون المتديّنون الجوّالون، الذين يرتدون ما ستر ويأكلون ما حضر، متزيّنين بالحليّ المعدنيّة وغير مبالين بالواجبات الطقسيّة؛ فهم على غرار هؤلاء، لا يتزوجّون مطلقاً. أمّا أضرحتهم، فهي مسرح لاحتفالات زاهية الألوان، تُغنّى فيها قصائدهم التي تجعل القلندر يرقصون على أنغامها منتشين حدّ الانجذاب وهم يردّدون:
“حبّك يجعلني أرقص… تهيّا ! تهيّا” ([38])
ولعلّ أكثر ممثّلي هذه الفئة الرابعة في السند شهرة، هو الوليّ شاه عبد اللطيف البتائي (ت. 1752) الذي أمضى بضع سنوات في صحبة جماعة من اليوغي، وهي الجماعة التي أشاد بروحانيّتها في قصائد غنيّة بالصور القرآنيّة. وقد تمّ جمع قصائده في ديوانه الضخم “رسالو” الذي يُعتبر من روائع الشعر الكلاسيكي السندي ([39]).
أمّا بالنسبة للبنجاب، وبعد أن أشرنا في ما سبق إلى بُلهي شاه ([40]) المعاصر الشهير لشاه عبد اللطيف البتائي، فسنتوقّف عند شخصية أخرى فريدة، وهو شاه حسين (ت 1593) الذي نعرف حياته الصاخبة بفضل مصادر فارسيّة مختلفة، والذي يقع ضريحه في باغبانبورا، شمال شرق لاهور، بالقرب من حدائق شاليمار ([41]). فقد كان شاه حسين مشهورا بعشقه لغلام برهمي يدعى “مادهو لال” وباستهلاكه المفرط للنبيذ والبھنگ (مغلّى أوراق القنّب الهندي):
“العالم كلّه يطلب منك يا رام جي!
هات المهراس، والمدقّ، ومخزون البھنگ
هات المصفاة، والفلفل، والألوان، بلا حساب،
هات الخشخاش، والقدح، ووعاء السكّر!
هات المعرفة والحكمة، وعظمة سادهو- سانغ!
إنّها صلاة الفقير إلى الله، شاه حسين”([42]).
ويضمّ ضريح شاه حسين قبرين: قبره، وقبر “مادهو لال”. ويوجد شمال الضريح برج صغير يضمّ حجراً يحمل أثر قدم النبيّ (قدم رسول، قدم شريف)، وإلى الغرب منه، مسجد بنته “مورا”، الزوجة المسلمة لرانجيت سينغ ([43]). وتقام مهرجانات كبيرة كلّ عام في الضريح: “البسنت”، أو مهرجان “الربيع” (اليوم الخامس من اكتمال القمر في شهر ماغ الهندوسي، حوالي 20 يناير) والذي أهدى خلاله رانجيت سينغ ألفاً ومائة روبية وردائين أصفرين إلى الضريح ([44])، و”سيراج دا ميلا” (24-25 مارس)، أو “حفل المصابيح” التي يضيئها في هذه المناسبة الآلاف من الزوّار الأتقياء. ولا شكّ في أنّه يمكننا الإشارة إلى العديد من هؤلاء الأولياء الشعراء الذين لا يزال تقديسهم وشعرهم نابضين بالحياة في باكستان. لكن لعلّه من الأجدى، ذكر بعض الأولياء “بي شرع” المنضوين إلى نفس هذه الفئة، إذ هم رغم قلّة أشعارهم، محلّ تقديس وتبجيل حماسيّ أيضاً. فشهباز قلندر (توفيّ بعد 1267)، على سبيل المثال، كان زاهداً من سيستان قبل أن يستقرّ في مدينة سهوان في السند، وهي مزار قديم لأتباع الإله شيفا ([45]). وقد حفظت عنه الذاكرة الشعبيّة صورة شخص يرتدي اللون الأحمر، يتعاطى المخدّرات ويبرع في الرقص الوجدي. وفي ضريحه، يواصل الدراويش “بي شرع” الحليقي الرؤوس والمتزيّين بالأسود، الالتزام مساء كلّ خميس، على إيقاع الطبول الكبيرة، بأداء رقص مذهل يُسمّى “دهامال”. كما يشهدون احتفالات عرسه من 18 إلى 21 من شهر شعبان، وهي من الاحتفالات المشهودة بكثافة في باكستان:
«خلال العرس، يبدو كما لو أنّ جميع سكّان السند انصبّوا في هذه المدينة الصغيرة، حيث تتقاطر الحشود بالآلاف في الشوارع المؤدّية إلى الضريح الذي كلّما اقتربنا منه، اتّضح صوت الموسيقى أكثر وارتفع خفق الطبول، وزاد عدد راقصي الدهامال. وفي الساحة الصغيرة القائمة أمام الباب الرئيسي للضريح، يتجمّع حشد تحسّ من ضخامته وكأنّ الجدران بصدد التهاوي. وهناك، يصطفّ عدد كبير من ضاربي النقّارات (الطبول الكبيرة) يأتي صوتها عميقاً ومدوّياً حدّ الإحساس بالخدر. و لهذا، فإنّ الجميع يرقص رقصة الدهامال (…) حدّ الانهيار تماماً من شدّة الوجد.
ويتنوّع الحشد إلى حدّ لا يمكن تصوّره. فهو يجمع الفقراء والمالانغ [النسّاك المسلمون]، والناس العاديّين، والناس المحترمين، وبعض الڀير الذين يحضرون على رأس جموع أتباعهم من الدراويش. كما يتوافد عليه المخنّثون، وهم مؤجّجو الاحتفال، ضمن جماعات كبيرة، إلى جانب حشود من الغجر الوافدين من جميع أنحاء السند. وتشارك الفتيات في الرقص والغناء، لكن للأسف، بعيداً عن الأعين (…) ربّما بسبب الأوضاع الحاليّة [الديكتاتوريّة العسكريّة الإسلامويّة لضياء الحقّ في تلك الفترة] التي سرقت بعضاً من روعة العرس. لكن سهوان تظلّ من الأماكن القليلة في باكستان التي يشترك فيها الرجال والنساء معاً في رقص الدهامال، فالاحتشام أمر يتعلّق بالقلب لا بفرض مقدّس” ([46]).
ويُوجد وليّ آخر “بي شرع” يحظى بشعبية كبيرة في باكستان، هو السيّد عبد اللطيف شاه المعروف باسم برّي إمام (إمام البريّة)، وهو درويش من الطريقة القادريّة تُوفّي عام 1705 في سنّ التاسعة والثمانين، دون أن يخلّف ذرّية ([47]). ويُوجد ضريحه إلى جانب أضرحة تلاميذه الأربعة المفضّلين في مدينة نوربور (“مدينة النور”)، عند سفح مارغلاّ، تلك التلال الصخريّة المطلّة على شمال مدينة اسلام أباد.
وتروي الأسطورة أنّ المدينة كانت قبل مجيء برّي إمام، تسمّى كورڀور، أي “مدينة اللصوص”. وتعود جميع التَّذْكِرات التي تروي حياة برّي إمام إلى فترة متأخّرة، وتشير إلى تلقّي هذا الوليّ تعليماً دينيّاً كاملاً قبل أن يقوم بجولات دراسيّة في مشهد وكربلاء وبغداد ودمشق والقاهرة ومكّة، إلى جانب العديد من الرحلات في شمال الهند. وقد سلك طريق التصوّف الانفرادي بعد أن فقد ابنته الرضيعة. وبالنسبة لشعب شمال ڀوتهورار (الهضبة المنحدرة بين جيهلم وروالبندي) والهزارة (المنطقة الجبليّة شمال روالبندي)، فإنّ برّي إمام هو في المقام الأول وليّهم الحامي الذي تطهّرت الأرض بقدومه، وهم يكنّون له حبّاً هائلاً، ويعتقدون أنّه ضرب الصخور بعصاه فانبجست منها جميع مياه المنطقة. وكان يُمكن للمرء، إلى حدود إعادة تهيئة الموقع من قبل حكومة ضياء الحقّ، أن يرى أكثر من الآن، آلاف المؤمنين يضعون مصابيح الزيت الطينيّة الصغيرة والمتلألئة في مياه النهر وهم يهتفون “يا برّي” ! ([48]).
أمّا الطبقة الأخيرة للأولياء المقدّسين في باكستان، فتضمّ ثلاثة أنماط من الشخصيّات التي تجمع بينها نقطة مشتركة، تتمثّل في أنّهم ليسوا شخصيّات تاريخيّة. أوّل هذه الأنماط هو الوليّ الأسطورى الكبير ما قبل الإسلامى، ونموذجه الأعلى هو الخواجه خضر ([49]). إنّه يرتبط بالمياه والأنهار والبحر، ويتّخذ سمكة عربة له، إذ يصوّر غالباً معتلياً ظهر سمكة وعليه ملابس خضراء. وفي البنجاب الباكستاني، يتمّ الاحتفال به عند انتهاء فترة الحيض عند المرأة، وبمناسبة أربعين الولادة، وعند العقيقة (أوّل ما يُحلق شعر الرضيع). كما تُقدّم إليه القرابين عند الآبار، ويُتوجّه إليه عند اعتزام السفر بالقوارب، وحين يُخاف من جفاف النهر أو فيضانه. وفي قرى السند والبنجاب، يُمثّل هذا الوليّ حالة مذهلة لأسلمة إله محلّي قديم بإعطائه اسماً إسلاميّاً، فهو يسمّى أيضاَ خواجه خصّة، دورميندا، دوميندو، جيندا ڀير، و ڀيربطل.
النمط الثاني يخصّ الأولياء الأسطوريّين المحلّيين، مثل “غوغا” ملك الثعابين الذي، قام وهو لم يزل رضيعاً في مهده، بامتصاص رأس كوبرا حيّة ([50])، أو “ميا بيبي”، الذي تقدّسه النساء بوصفه شافيهنّ، سواء كنّ مسلمات في باكستان أو هندوسيّات في البنجاب الهندي ([51]).
النوع الثالث هو مجموعة الأولياء الخمسة المعروفين باسم “ڀانج ڀير”، وهي مجموعة تختلف تركيبتها من مكان إلى آخر، بحيث يمكنها الجمع بين أولياء من فترات تاريخيّة مختلفة ومن أماكن مختلفة، وعبادتهم لا تزال حيّة إلى اليوم في البنجاب والسند وأجزاء أخرى من شمال الهند ([52])، مع اختلاف أسمائهم من منطقة إلى أخرى ([53]). وإلى جانب الأولياء المسلمين، فإنّ هذه المجموعة غالباً ما تتضمّن شخصيّات هندوسيّة مثل الشاعرة الكرشنيّة “ميرا باي” والشاعر “بهايرو” (هو نفسه بهايرافا أي الإله شيفا في شكله المرعب)، أو شخصيّات من أصل هندوسي، مثل “أمينة ساتي”، وهي مسلمة أضحت “ساتي” حين أحرقت نفسها إثر ترمّلها على غرار الأرامل الهندوسيّات في حرق أنفسهنّ ([54]). وتشيع عبادة البانج ڀير أساساً في صفوف الطبقة الدنيا من قارعي الطبول المتجوّلين المعروفين باسم “دافالي”، وتلعب دوراً كبيراً في ترويج أسطورة “هير وراجها” التي سبق أن تغنّى بها وارث شاه، والتي تجعل الڀير يتدخّلون في ثلاث لحظات مهمّة من الحكاية. ففي هذا النصّ، تتكوّن مجموعة الڀير من الخواجه خضر، وبهاء الدين زكريّا، وجلال الدين بخارى، ولال شهباز قلندر، وبابا فريد ([55]).
وهكذا، قامت أجيال من الأولياء على مرّ القرون بخلق جغرافيا دينيّة جديدة لبلدان السند تُشكّل فيها الأضرحة شبكة نُسجت خيوطها على مرّ الزمان. وقد شهدت هذه الشبكة في بعض الأحيان انحلال بعض عقدها بسقوط بعض الأضرحة في غياهب النسيان، فيما يستمرّ البعض الآخر في الظهور مرّة أخرى اليوم كلّما تُوفيّ أحد الصلحاء وأصبح محلّ تبجيل شعبي. ومن المألوف جدّاً في أيّامنا أن ترى الطرقات التي تربط بين الأضرحة، مملوءة بجموع من القرويّين الذين قرّروا الذهاب معاً في رحلة روحيّة (روحاني سفر) تستمرّ عدّة أيّام من أجل الزيارة. وقد وجدت شركات النقل العامّ سوقاً مثمرة في هذا الأمر، بل ونشرت المؤسّسة الرسميّة الباكستانيّة لتنمية السياحة مؤخّراً، دليلاً سياحيّاً للرحلات الروحيّة بعنوان “رحلة إلى النور”.
ولم يكن معيش الحياة الزمنيّة أقلّ تأثّراً من معيش الفضاء، إذ يُمكن للمرء، على غرار الدليل المذكور أعلاه، أن يجد بسهولة في باكستان، ما يُسمّى “إسلامي دائري” (“جدول أعمال إسلامي”!) يتضمّن تواريخ أكثر من ثلاثمائة من أعراس الأولياء. وفيه، يُشار إلى التاريخ في بعض الحالات وفقاً للأشهر القمريّة الإسلاميّة (مطابق قمري مہینے)، وأحياناً وفق الأشهر المسيحيّة (مطابق عيسوي مہینے) كناية بطبيعة الحال عن الأشهر الشمسيّة-القمريّة الهندوسيّة. وهذا ما يسمح بالاحتفال بتلك الأعراس في تواريخ ثابتة، وهي الأكثر حضوراً من الأعراس غير ثابتة المواعيد! ولا يسبّب هذا الأمر أيّ قلق للسكّان القرويّين في السند أو البنجاب، فقد اعتادوا على التعايش مع التقاويم الثلاثة: التقويم الإسلامي للطقوس الإسلاميّة، والتقويم الهندوسي للأعمال الفلاحيّة، والتقويم الغريغوري لبقيّة المشاغل اليوميّة.
تقديس الأولياء: المكان والزمان والأشكال
إذا استثنينا الأولياء العائدين إلى الفترة ما قبل الإسلاميّة من الفئة الأولى، وكذلك الشخصيّات الأسطوريّة “الملفّقة” التي أشرنا إليها للتوّ والتي لا يرتبط تبجيلها بمكان محدّد، فإنّ تقديس الأولياء في باكستان، كما هو الحال في بقيّة جنوب آسيا، يتمحور حول الدرقاعه.
وتتنوّع الأضرحة التي تضمّ رفات الأولياء الصوفيّة من حيث العمارة، وهي مبنيّة من الأحجار، ومن الآجر، أو من الطوب الليّن. فنجد في بعض الأماكن ضريحاً متواضعاً لدرويش من الفقراء يُبجّله سكّان القرية حيث استقرّ، كما نجد في أمكنة أخرى مجمّعاً مهيباً قائم حول قبر ڀير من ذوي المكانة، وهو مبلّط الأرضيّة بالرخام، مع بوّابة فخمة، وجدران مكسوّة بالفسيفساء، ومسجد ذي مآذن عالية، وخانقاه، ومطعم (إيانغار)، وسراي (مكان لإقامة الدراويش والمؤمنين الزوّار)، ومدرسة، وما إلى ذلك. بل إنّ بعض الأضرحة، وقد عاينّا مثالين على ذلك، يُفترض أن تضمّ رفات أولياء، وهو ما يضفي عليها مزيداً من الهيبة. على أنّ الأضرحة التي تضمّ رفات الأولياء المصنّفين “بي شرع”، قد تكون في بعض الأحيان ذات خصائص مميّزة، ومن ذلك مثلاً المبنى الصغير الموجود في درقاعه نورڀور، والذي يضمّ ناراً دائمة الاشتعال، يُقال أنّ برّي إمام هو أوّل من أشعلها، ولا ينبغي لها أن تنطفئ، والزوّار يأكلون من رماد خشبها للحصول على بركة الوليّ ([56]). كما يتمّ غالباً على مقربة من الضريح إقامة عمود عالٍ يحمل علماً، وقد يعلو العلم أحياناً في البنجاب صورة يد بأصابعها الخمسة تُسمّى “ڀنجتن” (الهيئات الخمس)، وهي ترمز إلى النبيّ محمّد، وابنته فاطمة الزهراء، وصهره عليّ، وحفيديه الحسن والحسين، وهم مصدر كلّ تقليد صوفي. كما تُعتبر الأشجار التي تنمو بالقرب من الضريح أشجاراً مقدّسة، ويقوم الزوّار بربط قطع من القماش في أغصانها شكراً للوليّ الذي استجاب لدعواتهم، أو حضّاً له على الاستجابة.
وليس من النادر أن يكون الضريح مجرّد نُصب على شكل قبر. ولكنّ نسبته إلى أحد الأولياء كفيلة بجعله يحظى ببركة ذاك الوليّ، وبزيارة المؤمنين الذين يتقاطرون عليه من أجل وضع أعواد البخور وإيقاد مصابيح النفط الطينيّة الصغيرة التي توضع في منافذ الجدران التي صمّمت خصّيصاً لهذا الأمر. وهكذا، فإنّه قد تعترضنا على تخوم بعض القرى في شمال ڀوتهوهار وجنوب الهزارة، بعض أنصاب برّي إمام، وتكون في العادة قرب مصطبة مظلّلة يُفترض أنّه سبق للوليّ في زمانه أن مرّ بها وجلس إليها.
والضريح هو مبنى مقدّس لا يفلت المعتدي عليه من عقاب، وسنعطي مثالين عن ذلك. فقد روى لي مصدر موثوق الحكاية التالية: خلال الحرب العالميّة الثانية، أرادت السلطات البريطانيّة توسعة مدرج مطار ڀيشاور، لكنّ الأمر كان يتطلّب نقل قبر أحد الأولياء الموجود على الطريق. وبصدفة سعيدة، ظهر الوليّ صاحب القبر في منام ڀير معروف، واشتكى من الانزعاج الذي يُسبّبه موقع قبره. وبهذا حصلت معجزة عظيمة، وقام الڀير وأتباعه من المؤمنين بنقل القبر إلى مكان آخر، وتمكّنت السلطات من توسيع المهبط دون مشاكل …
أمّا الحالة الثانية، فتتعلّق بمثال معاكس. فكما سنرى في الجزء الأخير من هذه الدراسة، فقد باشر النظام العسكري الإسلاموي للدكتاتور ضياء الحقّ التحكّم بشدّة في مزارت باكستان من خلال دائرة الأوقاف، وبـ”تطهيرها” من جميع المظاهر المغالية في مخالفة ما يُعتبر الإسلام القويم. وقد كان مزار برّي إمام في نورڀور، والذي يقع في وسط المنطقة الاتحاديّة المحاذية مباشرة لإسلام أباد، ممّن صنّفه النظام ضمن هذه الفئة. لقد كان في موقع جذّاب ويصعب السيطرة عليه عند سفح مرغلاّ، في ظلّ الأشجار العالية، وعلى حافة نهرٍ جارٍ، على مقربة من سوق مزدحمة ذات شوارع ضيّقة مليئة بالدّكاكين الملوّنة حيث تُباع الحلوى والمرطّبات، وبعض الأشياء التي يُتبرّك بها، وهي أقرب بكثير إلى الهندوسيّة الشعبيّة منها إلى الإسلام. وقد كان البازار والمزار قبلة للمبتدعة القلندر في المنطقة، كما كان أيضا، خلال “العرس” التي يجلب كلّ عام عشرات الآلاف من المؤمنين، قبلة الراقصين المخنّثين والبغايا والبهلوانات من اللاعبين بالسكاكين. ولذلك قرّرت الحكومة إعادة تهيئة الموقع بأكمله. وقد انتهي من الأشغال في مرحلتها الأولى بسرعة، فتمّت تسوية للأرض، وهدم معظم دكاكين البازار، وقطع معظم الأشجار، وتمّ نقل الضريح من مكانه الأصلي وإعادة بنائه على أرض شاسعة، لكنّها موحلة وغير مظلّلة، كما تمّ إعادة رسم مجرى النهر. وبالمقابل، تمّ إبعاد القلندر وتغيير ميعاد العرس السنوي، إلى جانب حظر المظاهر البدعيّة. ونتيجة لهذه الإهانة التي تعرّض لها الوليّ والضرر الذي لحق مزاره، وتغيير السلطات تاريخ ذكرى “عرسه”، فإنّ المؤمنين من أتباع برّي إمام يعلنون صراحة أنّ الوليّ صبّ غضبه على الحكومة وتدابيرها الكُفريّة حين تسبّب فى 10 ابريل عام 1988، في حصول انفجار رهيب في مستودع أوجهيري، أهمّ مركز عبور بين إسلام أباد وروالبندى، والمخصّص لخزن الأسلحة والذخائر والصواريخ الموجّهة إلى المقاتلين الأفغان. وقد أدّى هذا الانفجار والصواريخ التي أمطرت المدينتين، وكانت لحسن الحظ منزوعة الصواعق، إلى سقوط حوالي خمسمائة قتيل!
وتمثّل الدرقاعه بحقّ مكان عبادة حقيقيّة. فالزوّار، عند وصولهم، لا بدّ لهم من “تحيّة” الوليّ وإظهار كلّ الحبّ والتبجيل. كما نراهم يقومون غالباً بالتمسّح بجدران القبر وتقبيل عتبته، بل والسجود عنده، وهو بلا شكّ مخالف لما يراه الإسلام الأرثوذكسي الذي يرفض السجود لغير الله. أمّا حين المغادرة، فإنّ الزوّار يخرجون وهم يمشون القهقرى بحيث تكون وجوههم دوماً قبالة القبر. كما أنّهم يتلقّون، قبل مغادرة الدرقاعة، بعض الأطعمة والحلويّات المباركة (تبرّك، وهو ما يعادل الڀراساد في المعابد الهندوسيّة)، التي تُقدّم هدايا للمزار من أجل الحصول على بركة الوليّ من قبل شخصيّات ذات مكانة روحيّة عالية. كما يُعتبر تنظيف القبر أو الممرّات المؤدّية إليه، أو كسوته بقطعة من القماش، من الأعمال الجديرة بالتقدير ([57]). كما يتسابق المؤمنون على وضع كناسة القبر على رؤوسهم، فيما يأكل آخرون الزهور التي سبق أن وضعها زوّار آخرون عليه. أمّا الأقمشة التي كانت على تماسٍ مباشر مع القبر، فهي دوماً موضع ترحيب لوضعها ضمن مهر العروس من أجل البركة.
ويُوجد الكثير من القبور التي تجذب النسّاك الكاملين (الفقراء، القلندر) وأناس الطبقات الأكثر حرماناً في المجتمع، وهم يُقضّون معظم أوقاتهم هناك، ويُطلق عليهم عادة اسم “مالانغ”. وهم يُظهرون أشدّ مظاهر التفاني في حبّ الأولياء وخدمتهم، ولا يندر أن يدّعي بعضهم الدخول في تواصل باطني معهم، حتى في غير حالات الوجد والانجذاب ([58]).
وبطبيعة الحال، فإنّ العرس هو أكثر ما يجلب أفواج المؤمنين الأكثر تنوّعاً نحو المزارات. وهو يُمثّل بحقّ، وفي كثير من الأحيان، مناسبة للحجّ (زيارة)، الذي يمكن، كما هو الحال في درقاعه باك ڀاتان، أن يشمل عدّة مئات الآلاف من المؤمنين القادمين أحياناً من أماكن قصيّة، ومن بينهم من يُنهي آخر مرحلة من سفره وهو يحبو على ركبتيه وصولاً إلى المزار ([59]). واستعداداً لهذه الاحتفالات، يقوم الڀير أو المتولّين (وكلاء إدارة المزار، انظر أدناه) بإعداد كمّيات هائلة من الأطعمة. كما تغدو الأماكن المحاذية للمزار أشبه ما تكون بمعرض كبير، وآلاف البشر يتدفّقون بين الدكاكين الصغيرة التي تبيع الأطعمة والمشروبات، والهدايا الموجّهة للمزار (أكاليل الزهور، والبطانيّات المنقوشة، وصور الأولياء، وكتب سيرهم، ومجموعات التراتيل، وما إلى ذلك). وفي داخل المزار، تتدفّق مجموعات المنشدين الدينيّين، وتتوالى جلسات القوّالي، التي سنفصّل القول فيها بعد قليل، إلى حدود صلاة الفجر. وكما سبق أن رأينا بالفعل، فإنّ العرس يكون في كثير من الأحيان مناسبة لتظاهرات مثيرة. وكمثال على ذلك، نشير إلى أنّ مقبرة وارث شاه في جانديالا شير خان، تشهد تنظيم مسابقات في إنشاد تحفته الشعريّة “هير”.
ففي باكستان، تُمثّل جميع هذه الأشكال من تبجيل الأولياء، إلى جانب الڀيري-مريدي والأخوّة في الڀير، المكوّنات الأساسيّة للتصوّف الشعبي الذي يُعتبر بمثابة إطار للتعبير الوسائطي عن عشق الذات الإلهيّة.
وفي قبور الأولياء، تُساهم وسيلتان في التعبير عن هذا العشق: الذكر والقوّالي؛ وكلاهما يهدف إلى جعل الصوفيّة يشعرون بـ”التوحّد” مع الله. ويتكوّن الذكر من ترديد المريدين المتحلّقين حول الشيخ، عموماً بالقرب من قبر الوليّ، وبشكل جماعي لأحد الأسماء الحسنى أو لإحدى الصيغ الدينيّة مثل شهادة (لا إله إلاّ الله)([60]).
ويقتضي الذكر استعداداً طويلاً، يتطلّب عند القادريّة والچشتيّة في باكستان، أن يُعلّم الشيخ مريديه كيفيّة التحكّم في تنفّسهم وحركات أجسادهم كي يمكنهم تحمّل مشاقّ الجلسات (تدوم أحياناً عدّة ساعات) والتحكّم في ضبط النفس، حتى في أكثر اللحظات نشوة. وخلال الجلسة ذاتها، يقف الشيخ تقريباً بلا حراك، في حين يقوم مريدوه بأداء حركات مختلفة ترافق الغناء، ويدورون أحياناً حوله كما النجوم حول النجم القطبي. كما يُوجد أيضاً شكل فردي من الذكر يُسمّى “الوظيفة”. أمّا سهرورديّة باكستان، فإنّهم يُمارسون بشكل أخصّ الذكر الجماعي الصامت.
أمّا في القوّالي، وهو الشكل المحلّي من السماع، فيتمّ التركيز على المضمون، حيث يُعتبر الشعر الوسيلة الرئيسيّة للتعبير الصوفي ([61]). وعند الچشتيّة والقادريّة، يُتغنّى بالشعر مرفوقاً بالموسيقى التي يعزفها القوّالون، وهم المتخصّصون في “القَوْل”، ويشكلّون طبقة من الخدم، ويُسمّى فنّهم “القوّالي”.
والقوّالون هم منشدون وموسيقيّون من ذوي التكوين الكلاسيكي أو شبه الكلاسيكي. وهم منتظمون في طوائف تتوارث وظائفها أباً عن جدّ، ولا يتزوّجون من خارج طائفتهم، ويعملون تحت إشراف مجلس من مشائخهم. ويتمّ تعلّم الشعر والموسيقي داخل الأسرة، ولكن يحدث أن يتولّى ڀير، من أجل حسن أداء جلسات سماع طريقته، أن يقوم بنفسه بتعليم الشعر لقوّاليه ([62]).
ويبدأ الأطفال الصغار منذ سنّ مبكّرة في الاشتراك في الأداء مع من يكبرهم سنّاً. أمّا الآلات الأكثر استخداماً في الوقت الحاضر، فهي الأرغن والطبلة ([63]). وفي كثير من الأحيان، يرتبط القوّالون بمزار معيّن، إمّا كموظفين عند ڀير معيّن، أو بسبب استقرار أسلافهم قرب ضريح درويش لا ذرّية له. أمّا من الناحية الاجتماعيّة، فهم محتقرون من قبل المتصوّفة الذين هم رؤساؤهم، ولكنّهم في نفس الوقت لا غنى عنهم في أداء إحدى ممارساتهم الأساسيّة.
وفي المزارات التي يديرها ڀير، يُمثّل القوّالي بحقّ التناغم الباطني بامتياز. فیجد فيه الجمھور الفرصة والوسیلة للاقتراب من الوليّ العظیم الذي يُبجّله، ومن خلاله، يُبجّل الله. ويكمن الهدف الأقصى من القوّالي في إثارة النشوة والوجد الذي يعيش من خلاله المحبّ تجربة الفناء في الله. ولذلك، يجب على القوّالين حسن اختيار نصوصهم وطريقة أدائهم بحيث لا تؤدّي إلى إثارة أيّ عاطفة دنيويّة. وتبقى النساء والفتيان الصغار في الغالب بعيداً عن جلسات القوّالي أو هم يتابعونها من بعيد، إذ يجلسون في العادة بعيداً عن الرجال. وبالمقابل، فإنّ الأجواء تكون عموماً أكثر احتفاليّة واختلاطاً في مزارات الأولياء ممّن لا نسل لهم، إذ هي لا تخضع لأحكام أيّ سلطة فوقيّة. لذا، فقد رأينا، في أماكن مثل هذه، ترديد أغانٍ شعبيّة، وأغاني غزل، بل وأغاني سينمائيّة، من قبل المنشدين المتتابعين أمام الجمهور، حيث لم تكن جميعها من جنس القوّالي الأصيل. كما رأينا أيضاً عدم توقّف الأغاني لحظة دخول وقت الصلاة، أو تقصير الصلاة نفسها كي يستأنف المشاركون نشاطهم بسرعة.
ويقدّم القوّالون عروضهم في مجموعة خلال التجمعّات الصوفيّة في المزارات، أساسا ليلة الجمعة بوصفها ليلة الأموات، وخلال أعراس الأولياء. ويُطلق اسم “قوّالي” على أغانيهم وعلى الجلسة الصوفيّة التي تُنشد فيها تلك الأغاني. ويُفتتح القوّالي عادة بعزف على آلة الأرغن، يليه إنشاد غير مصحوب بقرع طبول أو تصفيق، فهما لا يبدءان إلاّ حين يُنشد المغني الرئيسي للمرّة الأولى لازمة القصيد، وهو ما تكرّره الجوقة مع التطبيل والتصفيق. وفي هذا السياق الذي يحتلّ فيه الذكر مكانة بارزة، تكرّر الجوقة كلّ مرّة المقاطع الهامّة الأخرى من القصيد.
وتلعب العلاقة بين القوّالين والجمهور دوراَ حاسماَ. فالمغنّون يسعون باستمرار إلى مرافقة المشاركين في أحوالهم الروحيّة وارتقائهم نحو بلوغ حالة الوجد. وهم يتلاعبون من أجل ذلك بإيقاع الغناء، من حيث الشدّة، وتضمين (چیرا) مقاطع من قصائد أخرى في نفس بحر الوزن تتناول نفس الموضوع، فضلاً عن تكرار (دُهرائي) أبيات خاصّة شديدة التعبير، من أجل الحضّ على الرقص المؤدّي إلى الانجذاب.
كما يتلاعب القوّالون أيضاً بتسلسل المواضيع وباستخدام العديد من اللغات العربيّة والفارسيّة والأرديّة واللغة المحليّة ([64]). وقد جرت العادة أن يبدأ السماع، بعد تلاوة آيات من القرآن الكريم، بالثّناء على الله (حمد) والصلاة على النبيّ (نعت) باللغة الأرديّة، وأحياناً بمقاطع بالعربيّة. ثمّ الانتقال، بحماس شديد وباللغات الأرديّة أو الفارسيّة أو المحليّة، إلى مدح عليّ، أصل كلّ السلاسل الطرقيّة، كما سبق أن رأينا.
ثمّ يتمّ عادة الثناء على وليّ المكان (مدح وليّ)، وحينها تصبح اللغة المحليّة هي المهيمنة، وتغدو بقيّة الجلسة مخصّصة للأغاني التي تهدف إلى إثارة بعض الأحوال الروحيّة (حال). وغالباً ما تكون الأغاني الأولى مخصّصة لوصف ألم الانفصال (فراق)، فيما تخصّص الأغاني لأخيرة لوصف الوصول إلى الاتّحاد مع الله (وصال) حال النشوة.
وتنعكس مشاعر المستمعين أيضاً فيما يقومون به من تبرعّات (ڱال) للقوّالين، حيث يقوم الرجال بانتظام، بوضع بعض الأموال أمام الموسيقيّين. وقد يقوم بعض الحاضرين، من أجل إظهار التقدير والمكانة، بوضع حزمة من الأوراق النقديّة فوق رأس المغنّي الرئيسي، أو رميها في الهواء على رؤوس الجمع. وفي بعض الأحيان، يكون تداول الأموال مسألة رمزيّة، إذ أنّ ما يقدّمه المحبّون للڀير إنّما يُقصد منه تفعيل الروابط الروحيّة معه، وهو يقبل هداياهم ويحوّلها إلى رواتب ينتفع بها القوّالون.
وهكذا، فإنّ الدرقاعه هي المكان الذي يعيش فيه المؤمنون حبّهم لله في أعلى درجات الزخم، من خلال تبجيل الڀير والإخلاص للوليّ. ولكنّها تُمثّل أيضاً ملتقى طرق ثقافي حقيقي. فمن ناحية أولى، تذكّرنا المظاهر الدينيّة التي تشهدها بمظاهر الهندوسيّة الشعبيّة، إذ هي تستحضر الڀيري-مريدي كما تستحضر الهندوسيّة الشعبيّة العلاقة بين الـ”غورو” والـ”چلة” (“الشيخ” و”المريد” في السياق الهندوسي). ومن ناحية أخرى، فإنّ القوّالي نفسه، مماثل في بعض النواحي للأغاني التعبديّة الهندوسيّة (كيرتان)([65]) التي تختلط فيها الموسيقى العالمة والشعر الراقي للهند وللعالم الإيراني مع أساطير السند وأغانيه الخاصّة بالأعمال والأيّام.
الجوانب الاجتماعيّة والسياسيّة لحياة الدرقاعه
فيما يُساوي الإسلام نظريّاً بين جميع الناس، إذ لا فضل لأحد على آخر إلاّ بالتقوى، فإنّ جلسة القوّالي تقوم، بطريقتها الخاصّة، بإظهار عدم المساواة الاجتماعيّة، إذ تكون أماكن المشاركين مرتبّة وفقاً لمكان كلّ منهم. فمنصّة الشرف، التي يتطّلع إليها جميع الحضور، يحتلّها قبر الوليّ أو بديله، أي الگدی، بمعنى مقعد الوليّ أو عرشه المنتقل إلى خلفائه كما سجّادة الصلاة ([66]). أما القوّالون، فيجلسون قبالة القبر أو الگدی، فيما تترك المساحة الوسيطة خالية. وخلال الجلسة، يتوجّه القوّالون نحو الوليّ، مادّين أياديهم باتّجاهه وكأنّه شاهد على إنشادهم، أو من أجل توجيه الثناء إليه. أمّا بقيّة المشاركين الآخرين، فيجلسون جميعاً على جانبي الفضاء الذي يفصل القوّالين عن الوجود الرمزي للوليّ ([67]). وبالقرب من القبر أو الگدی، على الجانب الأيمن للقوّالين، يجلس المشاركون ذوي المكانة الروحيّة العالية، بمن فيهم الڀير وأقاربه الذين يكونون هم أنفسهم محاطين بالمستمعين من الوجهاء الذين يُمكن لبعضهم أيضاً أن يجلسوا قبالة الڀير. أمّا بقيّة الناس ممّن ليس لديهم رتبة روحيّة عالية أو مكانة اجتماعيّة، فيكتفون بالجلوس يمين أو يسار القوّالين، أو خلف الناس المهمّين ([68]).
وبشكل عامّ، فإنّ التسلسل الهرمي هو في صميم حياة الدرقاعه. فالڀير أو خلفاؤهم يسيطرون على الموارد في عموم الولاية، وهي موارد هامّة تتألّف من تبرّعات ماليّة، عينيّة أو عقاريّة. ويتمّ تقديم التبرّعات النقديّة مباشرة إلى الڀير أو خليفته خلال المقابلات معهم أو أثناء جولاتهم في قرى الولاية، أو من خلال إيداع الأموال النقديّة (نزر) في صناديق معدّة لهذا الغرض في أماكن مختلفة من الدرقاعه (نزرانے). ومن شأن هذه العطايا أنّها تعزّز موقف الڀير، وخاصّة حين تأتي من أعضاء الطبقات المهيمنة، وفي المقابل، الآن كما في السابق، فإنّ علاقة تلك الطبقات بدرقاعه شهيرة من شأنها تعزيز مكانتها الاجتماعيّة بإضفاء هيبة دينيّة عليها. ولتدبير نشاط الدرقاعه، يقوم الڀير باستخدام موظّفين (خُدّام) محترفين (من محاسبين، وقوّالين، وطهاة، وعمّال بناء، ومنظّفين، وحرّاس، الخ) يرتبطون بهم بحقّ وراثي في الخدمة ([69]).
وكما هو الحال في البلاطات القديمة في الهند الإسلاميّة، تُنظّم مدوّنة سلوك رسميّة العلاقات بين أعضاء النخبة الروحيّة، بين الأتباع والمحترفين الوراثيّين. وفي قمّة هذه التسلسلات الهرميّة المحليّة، نجد الڀير الذي يحمل عدد منهم لقب “شاه” (ملك)، كما تسمّى جلساتهم العامّة “داربار” (حضرة ملكيّة)، ويا سعد من يحظى في تلك الجلسات بنظرة من سيّده الڀير !
وتعود هذه الهيكليّة الملكيّة إلى عهد سلطنة دلهي والإمبراطوريّة المغوليّة. ففي الدرقاعه، يحتلّ الڀير على المستوى الروحي نفس وضع ملك في قصره، ويكون محاطاً بحاشية. وحتّى لو كانت “مملكته ليست من هذا العالم”، فإنّ سلطة ڀير مؤثّر في أتباعه كانت من الأهميّة بحيث كان على الحكّام أخذها بعين الاعتبار. فاعترافاً بالخدمات المقدمة في مجال إضفاء الشرعيّة على السلطة السياسيّة ونشر تعاليم الإسلام، بين الشعب الهندوسي، كان الحكّام يتبرّعون بسخاء للمؤسّسات الصوفيّة، وخاصة تلك التي ازدهرت حول قبور كبار الأولياء ([70]). وبفضل ازدهارها، تعاظمت شعبيّة هذه المؤسّسات وتنامت مواردها، جالبة بذلك أعداداً متزايدة من الأتباع، فضلاً عن ازدياد احترام السلطة السياسيّة لها.
وهكذا، وعلى مدى قرون، ظلّ الڀير منصباً رئيسيّاً في مجتمع بلدان السند. وبتصرّفهم الدائم تقريباً في أموال الهبات والعطايا كما لو كانت أملاكاً شخصيّة، وجد الڀير وذرّيتهم أنفسهم على رأس ثروات هائلة ومزارع كبيرة. أضف إلى ذلك، محافظتهم على صلات قويّة جدّاً تتجدّد باستمرار في الحياة الدينيّة، من زيجات ومصاهرات، وخدمات، وأعمال تجاريّة، وما إلى ذلك من جهة أولى مع ذويهم المتعدّدين في إطار الأنساب الأبوية (باراداري)، كما هو الشأن مثلاً في باك ڀاتان التي يملك فيها الڀير أحياء بأكملها في المدينة، ثمّ من جهة أخرى مع أتباعهم المخلصين، كجزء من مؤسّسة الڀيري- مريدي ([71]). وبهذا نفهم لم مثّلت الدرقاعه دائماً رهاناً سياسيّاً هامّاً.
وتُقدّم مدينة باك ڀاتان مثالاً جيّداً على التفاعل بين الدين والسياسة في تاريخ المزارات. فبالتّأكيد أنّ بابا فريد كان يحثّ أتباعه على تجنّب كلّ شكل من أشكال الارتباط مع الملوك والنبلاء ([72]). ولكن منذ فترة خليفته الثاني (ديوان)، حفيده علاء الدين موج دريا (ت 1334)، ترافقت رعاية سلاطين تُغلق مع الزيادة الكبيرة في عدد الأتباع. وتُشير كتب التاريخ إلى زيارة حاكم البنجاب مزار بابا فريد صحبة ابنه وابن أخيه، وهما من سيغدو السلطان محمّد بن تُغلق (حكم بين 1325 و 1351) والسلطان فيروز تغلق (حكم بين 1351-1388)، وكيف ألبس الديوان كليهما عمامة توحي بالمستقبل الملكي للشابّين ([73]). وفي وقت لاحق، تمّ تعيين ديوان آخر، هو معزّ الدين (ت 1338)، حاكماً عامّاً لإقليم گجرات، وشقيقه شيخ إسلام السلطنة ([74]). وبشكل عامّ، فإنّه ما من حاكم مرّ بالمنطقة إلاّ وانحنى أمام قبر الوليّ، بمن في ذلك “تيمورلنك” (ت 1405)، رغم انشغاله حينها بنهب الهند، والإمبراطور المغولي “أكبرّ (حكم بين 1556-1605)، حين احتفل داخل المزار بعامه السادس عشر من الحكم. إلاّ أنّه يُوجد استثناء ملحوظ من شأنه تأكيد الأهميّة السياسيّة، وحتى العسكريّة، التي اكتسبها المزار زمن الممالك الإسلاميّة. ففي عام 1810، استولى “رانجيت سينغ”، في إطار غزوه لكامل جنوب غرب البنجاب، على أراضٍ كان ريعها مخصّصاً للمزار، ولم يترك للديوان سوى دخل مقداره ألف روبية سنويّاً، وربع ريع أربع قرى صغيرة ([75]). ويعود هذا الموقف من “رانجيت سينغ”، الذي أظهر احتراماً كبيراً للمؤسّسات الصوفيّة الأخرى، إلى وجود نزاع قديم بين السيخ وسجاده نشين. ذلك أنّ الديوان عبد السبحان، كان قد هاجم حوالي عام 1766 مع جيش من أتباعه حاكم منطقة بيكانير ليبسط هيمنته الإقليميّة إلى ما وراء نهر ستلج، وصدّ حينها هجوماً للسيخ على باك ڀاتان، وطاردهم على رأس أربعة آلاف فارس من أتباعه! ([76]).
وتحت حكم البريطانيّين، تمّ الاعتراف لسجاده نشين مزار بابا فريد بملكيّة ما تحت أيديهم من عقارات، وهو ما يعني الاعتراف بأن لهم موقعاً محليّاً هامّاً. وبشكل عامّ، كان ڀير البنجاب دائماً موالون لكلّ سيّد جديد للمنطقة. فقد دعّموا بنشاط الحزب الوحدوي للزُطّ الموالي لبريطانيا والذي دافع عن مصالحهم كملاّك كبار للأراضي. ولم يتغيّر موقف الڀير إلاّ حين استطاع مبعوثو الرابطة الإسلاميّة إقناعهم، في ضوء الانتخابات الإقليميّة لعام 1944، بأنّ إنشاء دولة مسلمة هو الكفيل وحده بضمان استمرار ازدهارهم بعد الاستقلال ([77]).
وفي السند كما في البنجاب، ومن زمن سلطنة دلهي إلى الغزو البريطاني عام 1843، لعب الڀير دوراً هامّاً كوسطاء اجتماعيّين بين مختلف مكوّنات السكّان (السنديّون والبلوش، القبائل المستقرّة والرحّل)، وكمستشارين سياسيّين للقادة المحليّين الذين كانوا دوماً ذوي نفوذ قويّ جدّاً في هذه المنطقة الهامشيّة ([78]). وعلى مدى القرون التسعة الماضية، أصبح الڀير شديدو الثراء، وقد قدّر جيمس ماكموردو (James McMurdo) في عام 1834 دخلهم السنوي بما يُوازي ثلث دخل الحكومة المحليّة ([79]). وكما في البنجاب مرّة أخرى، تكيّف ڀير السند مع الحكم البريطاني واندمجوا في النظام الجديد للسيطرة السياسيّة المفروضة على الإقليم. ومع ذلك، اندلعت حوادث خطيرة مناهضة للاستعمار على يد أتباع الڀير “باغارو”، الذين واصلوا أعمال المقاومة حتّى بعد شنق زعيمهم الذي يُدينون له بالولاء المطلق في بومباي في عام 1943. وعلى أمل معالجة نهائيّة للوضع، أرسل البريطانيّون أبناء الڀير لتلقّي تعليمهم في انكلترا ([80]).
على أنّ ثروة الڀير، مهما كانت حقيقيّة، فهي تظلّ دائماً من طبيعة غامضة. فهي تستند أساساً إلى التبرعّات المقدّمة إلى المزارات التي يتحملّون مسؤوليّتها. وهذا النوع من التبرعّات، الذي يأخذ شكل حقّ الانتفاع بما يتخلّى عنه مالكه لصالح الأعمال الخيريّة، معروف في جميع أنحاء العالم الإسلامي تحت مسمّى الوقف. ومنذ زمن الممالك الإسلاميّة، سعى بعض الحكّام إلى نزع سيطرة السجاده نيشن على الأوقاف، من أجل الحدّ من نفوذهم. وعلى سبيل المثال، فقد قام الإمبراطور “أكبر” بتعيين متولٍّ لإدارة الإيرادات الكبيرة للقرى التي أوقفها على مزار معين الدين الچشتي في مدينة أجمير ([81]). كما اضطرّ البريطانيّون أنفسهم إلى تقنين الأوقاف، حيث تمّ بعد محاولات محليّة مختلفة ومناقشات مطوّلة، اعتماد قانون الصدقات الدينيّة والخيرية في عام 1920، وهو ما أعطى المحاكم المدنيّة سلطة مراقبة المؤسّسات الدينيّة الهندوسيّة والإسلاميّة. وقد أعقب هذا القانون في عام 1923، قانون الأوقاف الإسلاميّة الذي يُجبر المتولّين على أن يُقدّموا إلى المحكمة كشفاً بالممتلكات الموقوفة، فضلاً عن بيانات بالإيرادات والنفقات ذات الصلة، إلى جانب فرض تقديم حساباتهم كلّ عام. وقد كُلّفت المحاكم المدنيّة بمسؤوليّة مراقبة تلك الحسابات والنظر في أيّ دعاوي محتملة في هذا الخصوص ([82]).
ولم يتمّ تغيير قانون عام 1923 في باكستان حتّى مجيء أيّوب خان إلى السلطة في عام 1958 ([83]). وقد برّر هذا الأخير انقلابه برغبته في إرساء قواعد جديدة لسلطة الدولة في المجتمع الباكستاني من خلال إضعاف الإقطاع السياسي والديني. وتحقيقاً لهذه الغاية، اعتمد جملة من الوسائل المختلفة، مثل التنمية الصناعيّة وإنشاء نخب حكوميّة جديدة. وقد اتّخذ تصميم أيّوب خان على تقويض سلطة القوى المحليّة شكلاً سياسيّاً من خلال إرساء “ديمقراطيّة القواعد”. وفي المجال الديني، اتّخذ الأمر شكل إصدار مرسومين يُنظّمان الممتلكات الوقفيّة في غرب باكستان في عامي 1959 و 1961، وهما ما أعطى الحكومة سلطة الإشراف على إدارة المزارات والمؤسّسات الدينيّة الأخرى من خلال إنشاء دائرة الأوقاف التابعة لوزارة الشؤون الدينيّة ([84]). ولم يكن الأمر عند أيّوب خان يستهدف وضع حدّ لممارسات الصوفيّة الشعبيّة، بل ترشيدها وعدم جعل المقدّسات غطاء لعلاقات الڀيري-مريدي بقدر ما هي آثار تُخلّد ذكرى أولياء كبار في التاريخ. وقد تولّت الدعاية الرسميّة إثارة دور الأولياء في نشر الإسلام لا من أجل أسلمة القبائل، بل أسلمة الأمّة ([85]). كما سعت حكومة أيّوب خان أيضاً، من خلال دائرة الأوقاف، إلى إعطاء أعراس الأولياء إشعاعاً يتجاوز البعد المحلّي، ليغدو وطنيّاً. وللمساعدة في تغيير توجّه المزارات، تعهّدت إدارة الأوقاف أيضا بإلحاق مدارس حكوميّة ومراكز صحيّة وحتّى بعض المستشفيات بالمزارات، إضافة بالطّبع إلى تولّيها صيانة المباني.
وقد استأنف ذو الفقار عليّ بوتو هذه السياسة وأكدّها. فقد كان يتحدّث في دعوته إلى “الاشتراكيّة الإسلامية”، بلغة الإصلاح والمساواة، وأراد أن يتجاوز الوساطات المحليّة الهرميّة باللجوء إلى مفهوم المجتمع الوطني القائم على المساواة. قد كان بوتو أقلّ انشغالاً بعقلنة الإسلام من أيّوب خان، لكنّه كان أكثر منه انشغالاً بالعمل على الاتّصال المباشر مع الشعب، وأن يبدو مشاركاً له في احتفالاته، وهو ما جعله يُشجّع مشاركة المسؤولين الرسميّين في الطقوس المركزيّة لأعراس كبار الأولياء، بدلاً من السجاده نشين.
وفي سياسته المتعلّقة بالأسلمة، اعتمد الجنرال ضياء الحقّ على الأدوات السياسيّة التي خلّفها أسلافه لكي يُباشر، كما رأينا في حالة مدينة نورپور، عمليّة استعادة دينيّة للمزارات. فقد قام ببناء مساجد ذات حجم هائل على مشارف بعض المزارات بما جعلها ضئيلة أمامها، وألغى، كلّما أمكن ذلك، الاحتفالات التي تعتبر غير إسلاميّة. وفيما يتعلّق بالأولياء، فقد أراد التأكيد على تقواهم وتقيّدهم الصارم بشرائع الإسلام. وفي أيلول/سبتمبر 1980، عقد ضياء الحقّ مؤتمراً للپير الباكستانيّين حضره نحو 100 منهم. وقد طلب، وهو من يرى أنّ أئمّة القرى هم الوارثون الحقيقيّون للأولياء في مجال التعليم الديني وإحياء الإيمان، من السجاده نشين العمل على نُصرة الشريعة، ونشر قيم الإسلام وتعزيز الوحدة الوطنيّة ([86]).
وفي مواجهة ذلك، اعتمد المثقّفون التقدّميون والإقليميّون المعارضون لدكتاتوريّته الإسلامويّة على شعر كبار الأولياء الشعراء في السند والبنجاب، كي يظهروا كم كان هؤلاء مساندين لقضايا الشعب ومعارضين شرسين للاستبداد.
والحاصل أنّه ما من قائد سياسي، من سلطنة دلهي إلى الحكّام المعاصرين، إلاّ وسعى إلى الحصول على عون الدرقاعه، إن لم يكن السيطرة عليها. وسيستمرّ هذا الوضع ما لم يتمّ تفكيك الإقطاعيّات الريفيّة في باكستان، التي وُلدت زمن الإمبراطوريّات الإسلاميّة ورسّخها البريطانيّون، وما لم يتحوّل الحقّ في ريع الأرض إلى ملكيّة خاصّة لها. وما المفارقة التي قد تبدو بين المؤسّسات ذات النمط الملكي والمتجسّدة في حياة المجتمع الباكستاني الذي يكافح كأفضل ما يمكن لكي يغدو “حديثاً” وديمقراطيّاً، سوى مظهر خادع.
وبالنّظر في تقديس الأولياء في بلدان السند في جميع جوانبه، وفي عمقه التاريخي، ومن حيث تداخله مع الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، يُمكننا أن نفهم لم اجتذب هذا الموضوع فضول الملاحظين الأوروبيّين منذ وقت مبكّر، ولم اهتمّ على إثرهم، العلماء الهنود بدورهم بهذا الموضوع ([87]). فقد أعطى تقديس الأولياء بحقٍّ للإسلام في هذه المناطق لوناً فريداً، وهو اللون الذي ورث جزئيّاً بعض ملامح الهندوسيّة الشعبيّة، سواء كان ذلك في بعض أماكن العبادة، أو في الممارسات، أو المعتقدات، وهو ما سهّل بدوره التواصل بين عالمين دينيّين متعارضين. ولا يُمكن بأيّ حال نسيان زيارات الهندوس المنتظمة للمزارات العظيمة في باكستان ([88]).
فهذا الشكل من العبادة الشعبيّة هو ما سمح بأن يتمّ دمج جماهير كبيرة من الناس في المجال الإسلامي دون قطع مع الروح الهنديّة للمجتمع. فقد تراكب العالم الجديد على القديم تدريجيّاً دون إلغائه، وهذا ما تُقدّم بعض نصوص من آداب بلدان السند صوراً مذهلة له، مثل هذا المقطع من قصيدة خواجه غلام فريد التي اختلطت فيه صور عربيّة وبنجابيّة (89):
“الإبل الجميلة والبدو الرائعين.
يُضاهون الشمس والقمر،
يذوب فيهم كلّ الجمال، وكلّ ألق،
يعيشون في أعماق قلبي.
تتجمّع الغيوم، وتقصف الرعود،
وسيصيب الطلّ نباتات الفوگ واللاّنا ([89]).
وتُزهر أشجار التمر الهندي.
وتلك إشارات يدركها العارفون“.
وأخيرا، فقد ساهم تقديس الأولياء والڀيري-مريدي بالتأكيد في استدامة أنماط من التراتبيّة والخضوع تنتمي بوضوح إلى القرون الوسطى. لكنّه شكّل أيضاً في باكستان حصناً فعّالاً ضدّ الأصوليّة المرتبطة بشخصيّة المُلاّ [عالم الدين – م] التي طالما كانت مثار سخريّة في تقاليد الشعر الصوفي باللّغات المحليّة، كما في هذه الأبيات لبُلهي شاه ([90]):
“المُلاّ يقتلني!
المُلاّ يريد أن يعلّمني الدرس.
بعد الألِف لا يُوجد شيء بالنّسبة لي ([91])؛
لكنّه يصرخ “باء” “باء”.
المُلاّ يقتلني”.
المقال الأصلي:
Matringe (Denis), « Le culte des saints au Pakistan », in Henri Chambert-loir & Claude Gillot (éd), Le culte des saints dans le monde musulman, Paris : École française d’Extrême Orient, 1995, p. 167-191.
بيبليوغرافيا
I – المصادر
- بُلهي شاه، كليات بلهي شاه، چاپ: فقير محمّد فقير، لاهور، 1960.
- پير محمّد شاه (سلطان العارفين پير سيّد): پير دي هير، مرتب: قيّوم شاكر، سلسله زبانی روایات، لوک ورثى کا قومی اداره، إسلام آباد، 1977.
- خواجه غلام فريد، ديوان فريد، ترجمه میں اردو: عزيز الرحمان، عزيز المطابع، بهاولپور، دون تاريخ.
- خواجه غلام فريد، مقابيس المجالس، حاصل: مولانا ركن الدين لكيا، ترجمه میں اردو: عبد الواحد سيال، اردو اکیڈمی، بهاولپور، 1410 هجرى.
- شاه حسين، كفايان، مرتب: موهان سنغ ديوانه، عين أدب، لاهور، 1983.
- شيخ محمود المعروف محمّد پير، حقيقة الفقراء، مرتب: نواز صديق سالمي، مجلس شاه حسين، لاهور، 1966.
- محمّد وارث شاه، هیر، مرتب: محمود شريف سالمي، مجلس شاه حسين، لاهور، 1966.
- الهجويري (عليّ)، كشف المحجوب، چاپ: عليّ قويّة وإرصاد قريشي، مركز تحقيقات فارسي إيران وپاكستان، إسلام آباد، 1978.
- Hajviri (Ali), Kashf Al-mahjub, Trad. Anglaise par : Reynold A. Nicholson, Repr. Lahore : Nashran-e-Quran Ltd., 1953.
- Hajviri (Ali), Somme spirituelle, Trad. française de Kashf Al-mahjub par : Djamshid Mortazavi, Paris, Sindbad, 1988.
- Nusrat Fateh Ali Khan, Nusrat Fateh Ali Khan et son ensemble en concert à Paris, 3 disques compacts C 599 072/073/074, avec un livret de traduction par D. Matringe, Paris, Radio France « Ocora ».
- Shah Abdul Latif, Shah jo risalo, revised annotated and translated by Muhammad Yakoob Agha, 3 Vols, Hyderabad: Shah Abdul Latif Bhitshah Cultural Centre Committee, 1985.
- Varis̲ Shah, Hir, Ed. Muhammad Sharif Sabir, Lahore: Varis shah Memorial Committee, 1986.
II – الدراسات
- Ahmad (Aziz), “The Sufi and the Sultan in Pre-Mughal Muslim lndia”, Der Islam, 38.1.2 (1962), p. 142-153.
- ==========, An intellectual History of Islam in India, Islamic Surveys 7, Edinburgh: Edinburgh University Press, 1969.
- Ahmad (Imtiaz) (ed.), Caste and Social Stratification among Muslims in India, 2e ed., New Delhi: Manohar, 1978.
- Ahmad (saghir), Class and Power in a Punjabi Village, Lahore : Punjab Adbi Markaz, 1977.
- Ahuja (Y. D), “Iraqi in India”, Islamic Culture, n° 32 (1958), p. 57.70.
- Ansari (Sarah F. D.), Sufi Saints and State Power, The Pirs of Sind. 1843-1947, Cambridge Smith Asian Studies 50, Cambridge: Cambridge University Press, 1992.
- Anawati (Georges Chehata) & Gardet (Louis), Mystique musulmane. Aspects et tendances. Expériences et techniques, Études musulmanes, VIII, Paris : Vrin, 1976.
- Arnaldez (Roger), “al-Insan alkamil”, Encyclopédie de l’Islam, 2è Edition, Ed. Bernard Lewis, Charles Pellat et Joshef Schacht, Tome III, Leiden: Brill, 1971, p. 1271-1273.
- Burton (Richard F.) ]1851[, Sindh and the Races that Inhabit the Valley of the Indus, Reimpr. Lahore: Khan Publishers, 1976.
- Corbin (Henry), En Islam iranien, 4 volumes, Paris: Gallimard, 1971.
- Currie (Peter), The Shrine and Cult of Mu’in al-din Chishti of Ajmer, Delhi: Oxford University Press, 1989.
- Digby (Simon), “The Sufi Shaykh as a Source of Authority to Mediaeval India”, Islam et Société en Asie du Sud, Dir. Marc Gaborieau, Purusartha 4, Paris: École des Hautes Études en Sciences Sociales, 1986, p. 55-77.
- ==========, “The Sufi Shaykh and the Sultan: A Conflict of Claims to Authority in Medieval India”, Iran 28, 1990, p. 71-81.
- During (Jean), Musique et extase. L’audition mystique dans la tradition soufie, Paris : Albin Michel, 1988.
- ===========, Musique et mystique dans les traditions de l’Iran, Bibliothèque Iranienne 36, Paris-Téhéran: Institut de Recherche en Iran, 1989.
- Eaton (Richard), “Court of Man. Court of God: Local Perceptions of the Shrine of Baba Farid, Pakpattan, Punjabi”, Islam in Local Contexts, Ed. Richard C. Martin, Contributions to Asian Studies 17, Leiden: Brill, 1982, p. 44-61.
- ============, “The Political and Religious Authority of the Shrine of Baba Farid”, Moral Conduct and Authority, The Place of Adab in South Asian Islam, Ed. Barbara D. Metcalf, Berkeley: University of California Press, 1984, p. 333-356.
- Eglar (Zekiye), A Punjabi Village in Pakistan, New York: Columbia University Press, 1960.
- Einizmann (Harald), Ziarat and Pir-e-muridi (sic !), Golra Sherif, Nurpur Shahan und Pir Baba, Drei muslimische Wallfahrtstätten in Nordpakistan, Beiträge zur Südasienforschung, Band 120, Stuttgart: Franz Steiner Verlag, 1988.
- Ewing (Katherine), “The Polities of Sufism: Redifining the Saints of Pakistan”, Journal of Asian Studies2, 1983, p. 251.268.
- =============, “Malangs of the Punjab: Intoxication or Adab as the Path of God”, Moral Conduct and Authority, The Place of Adab in South Asian Islam, Ed. Barbara D. Metcalf. Berkeley: University of California Press, 1984, p. 357.371.
- Gaborieau (Marc), “A XIXth Century lndian ‘Wahhabi’ Tract against the Cult of Muslim Saints: al-balagh al mubin”, Muslim Shrines in India: Their Character, History and Meaning, Ed. Christian W. Troll, Delhi: Oxford University Press, 1989, p.198-239.
- ============, « Le culte des saints musulmans en tant que rituel: controverses juridiques », Archives des Sciences Sociales des Religions, Numéro spécial: Oubli et remémoration des rites, Histoire d’une répugnance, n° 85, janvier-mars 1994, p. 85-97.
- Gibb (H. A. R.) & Kramers (J. H.), Shorter Encyclopaedia of Islam, Leiden: Brill, 1974.
- Gillmartin (David), “Religious Leadership and the Pakistan Movement in the Punjabi”, Modern Asian Studies3, 1979, p. 485-517.
- ===============, Empire and Islam: Punjab and the Making of Pakistan, London: I. B. Tauris & Co. Ltd, 1988.
- Hardy (Peter), “Islam in South Asia”, The Encyclopaedia of Religion, Ed. Mircea Eliade, 16 Vol., New York: Macmillan, Vol. 7, 1987, p.390-404.
- Hasrat (Bikrama Jit), Dara Shikuh: Life and Works, Calcutta: Visvabharati, 1953.
- Hawley (John Stratton) & Juergensmeyer (Mark), Songs of the Saints of India, New York: Oxford University Press, 1988.
- Husain (Yasuf), L’Inde mystique au Moyen-Age, Paris: Adrien Maisoneuve, 1929.
- ===========, Glimpses of Medieval Indian Culture, 2e ed., Bombay: Asia Publishing House, 1959.
- Janjua (Zia ul-Islam), The Manual of Auqaf Laws, Lahore: Lahore Law Times Publications, 1984.
- Lafont (Jean Marie), La Présence Française dans le royaume sikh du Penjab, 1822-1849, Publication de l’École Française d’Extrême-Orient, volume 168, Paris : École Française d’Extrême-Orient, 1992.
- Lambrick (H. T.) (trad. et éd.), The Terrorist, London: Ernest Benn, 1972.
- Latif (Syad Muhammad)]1892[, Lahore: Its History, Architectural Remains and Antiquities, with an Account of its Modern Institutions, Inhabitants, their Trade, Customs. & c., Repr. Lahore: Syed Mohammad Minhaj-ud-Din, 1956-57.
- Lawrence (Bruce B.), Notes from a Distant Flute: Sufi Literature in Pre-Mughal India, Teheran: Imperial Iranian Academy of Philosophy, 1978.
- Massignon (Louis), La Passion de Hallaj, martyr mystique de l’islam, 2è éd. 4 vol., Paris: Gallimard, « Bibliothèque des idées », 1975.
- Matringe (Denis), Hīr Vāris̤ Śāh, Publications de l’Institut Français d’lndologie, 72, Pondichery: Institut Français d’Indologie, 1988.
- ============, 1992, “Krsnaite and Nath elements in the poetry of the eighteenth-century Panjabi Sufi Bullhe Sah”, in Devotional literature in South Asia: Current research, 1985-1988, ed. Ronald Stuart McGregor, University of Cambridge Oriental Publications, 46, Cambridge: Cambridge University Press, 1992.
- =============, Mir Taqi “Mir”: Masnavi, Poèmes d ‘Amour de l’Inde moghol, Connaissance de l’Orient, 81, Paris: Gallimard, 1993.
- =============, « Poésie, musique et mystique : bhakti, sikhisme et soufisme indien », Annuaire n°100, Résumé des conférences et travaux 1991-1992, Paris: École Pratique des Hautes Études, Section des Sciences Religieuses, 1993.
- =============, ]à paraitre[, « Soufisme populaire, musique et poésie dans les sanctuaires pakistanais », Hauts lieux saints de l’Islam, Dir. Mohammed Ali Amir-Moezzi, Paris: Autrement.
- Maududi (Maulana), A Short History of the Revivalist Movement in Islam, 2e éd., Lahore: Islamic Publications Ltd, 1972.
- M’Murdo (James), “An Account of the Country of Sindh, with Remarks on the State of Society, the Government, the Manners and Customs of the People”, Journal of the Royal Asiatic Society, 1 (1834), p. 223-257.
- Nabi Khan (Ahmad), Multan: History and Architecture, Islamabad: Institute of Islamic History, Culture & civilization, Islamic University, 1983.
- Nizami (K. A.), [1956], The life and Times of Shaykh Farid-ud-din Ganj-i Shaker, Reimpr. Lahore: Universal Books, 1976.
- ============, 1960, “Baha’ al-din Zakariyya”, Encyclopédie de l’Islam, 2e édition, Ed. Bernard Lewis, Charles Pellat et Joseph Schacht, Tome I, Leiden: Brill, 1960, p.939 sq.
- ============, 1965. “Farid al-din Mas’ud ‘Gandj-i Shakar’”, Encyclopédie de l’Islam, 2e edition, Ed. Bernard Lewis, Charles Pellat et Joseph Schacht, Tome II, Leiden: Brill, 1965, p. 815 sq.
- Noman (Omar), Pakistan: Political and Economic History since 1947, London: Kegan Paul International, 1990.
- Qazi (N. B. G.), Lal Shahbaz Qalander, R.CD, Publication 26, Lahore: R.C.D, Cultural Institute, 1971.
- Qureshi (Regula Burckchardt), Sufi Music of India and Pakistan, Cambridge Studies in Ethnomusicology, Cambridge: Cambridge University Press, 1986.
- Rahman (Fazlur), Islam, New York: Anchor Books, 1968.
- =============, Major Themes of the Qur’an, Chicago: Bibliotheca Islamica, 1980.
- Ramakrishna (Lajwanti) ]1938[, Panjabi Sufi Poets, Rémpr. Karachi: Indus Publications, 1977.
- Renou (Louis) & Filliozat (Jean), L’Inde classique, Manuel des études indiennes, 2 vols., Paris : Payot (vol.I) et École Française d’Extrême-Orient (vol. II), 1967-1953.
- Rizwi (Saiyid Athar Abbas), A History of Sufism in India, 2 vol., New Delhi: Munshiram Manoharlal, 1978-1983.
- Rose (H. A.), [1919-1911], A Glossary of the Tribes and Castes of the Punjab and the North West Frontier Province, 3 vols., Réimp. Patiala: Languages Department, Punjab, 1970.
- Rypka (Jan), History of Iranian Literature, Dordrechi: D. Reidel Publishing Company, 1968.
- Schimmel (Annemarie), “Islamic Literatures of India”, A History of Indian Literature, Ed. Jan Gonda, Part I of Vol. VII, Wiesbaden: Otto Harrassowitz, 1973.
- ==================, “Islam m the Indian Subcontinent”, Handbuch der Orientalistik, Ed. B. Spuler et al. Vol. II, IV, 3, Leiden: Brill, 1980.
- ==================, And Muhammad is His Messenger. The Veneration of the Prophet in Islamic Piety, Chapel Hill: University of Heath Carolina Press, 1987.
- Shackle (Christopher), “The Pilgrimage and the Extension of Sacred Geography is the Poetry of Khwaja Ghulam Farid”, Socio-Cultural Impact of Islam on India, Ed. Atta Singh, Chandigarh: Publications Bureau Panjab University, 1978, p. 159-170.
- Sharif (Ja’far), Islam in India, or The Qanun-i1slam, Composed under the direction of and translated by G. A. Herklots, New edition, revised and rearranged, with additions, by William Crooke, Oxford: Oxford University Press, 1921.
- Subhan (John A.), [1938], Sufism: Its Saints and Shrines. An Introduction to the Study of Sufism with Special Reference to India, Repr. New York: Samuel Weiser Inc., 1970.
- Talbot (Ian), Punjab and the Raj: 1849-1947, New Delhi: Manohar, 1988.
- Titus (Murray T.) [1955], Islam in India and Pakistan, Repr. Karachi: Royal Book Company, 1990.
[1]- پير محمّد شاه: پير دي هير، مرتب: قيّوم شاكر، سلسله زبانی روایات، لوک ورثى کا قومی اداره، 1977، المقطوعة I وII.
وقد كان الدامري، في النظام الهندي القديم، أصغر وحدة نقديّة، أي ما يعادل ثمن بيزه. علماً أنّ أربعة بيزات تُشكّل “آنا” في النظام النقدي القديم، بينما كانت الروبية مكوّنة من ستّة عشر آنا. وقد بدأت الهند في عام 1955، ثمّ باكستان في عام 1961، باعتماد النظام العشري، والروبية الآن مقسّمة إلى 100 بيزه.
[2] – حول پير محمّد شاه، انظر مقدّمة قيّوم شاكر لكتاب پير محمّد شاه: پير دي هير، م.م.س، ص 13-21.
[3] – تعود النسخة الأكثر شهرة في اللغة البنجابيّة إلى الشاعر “وارث شاه” في منتصف القرن ال 18. انظر:
Matringe, 1988.
[4] – انظر:
Matringe, 1988, p. 22 sq., p. 75-86; Matringe, 1993 (a), p. 16 sq.
[5] – رغم معرفتي الواسعة بهاتين المنطقتين، ومعرفتي بلغاتها وتاريخها، إلاّ أنّني لم أقم أبداً في بلوشستان أو بلاد باثان لفترة طويلة. بخصوص بلوشستان، انظر:
During, 1989.
ولدراسة أحد مزارات المقاطعة الحدوديّة الشماليّة الغربيّة، انظر:
Einzmann, 198, p. 67-85.
[6] – حول هذا التقليد وعلاقته بمفهوم النور المحمدّي المنبثق عن الله من خلال الحبّ البدئي الذي سيكون في أصل كلّ خلق، انظر:
Schimmel, 1987, p. 130 sq.; Corbin, 1971, I, p. 252 sq.
ولأنّ محمّداً هو من سيقود جميع الخلق ومن سيشارك بجوهره في كلّ وحي إلهي، فهو من سيتجلّى الله له، على سبيل المثال، على غرار تجلّيه لموسى.
[7] – هذا هو المعنى الأصلي للوليّ. حول هذا المفهوم وتطوّره في الإسلام، انظر:
Gibb & Kramers, 1974, p. 629-631.
ومن أجل مناقشة مفصلة لمفهوم الوليّ ودور الأولياء في الإسلام، انظر:
Currie, 1989, p. 1-19.
[8] – في المزارات القادريّة، يتمّ الاحتفال السنوي الكبير يوم الحادي عشر ربيع الثاني (انظر الملحق).
[9] – Burton, 1851, p. 177.
[10] – تتكوّن هذه التمائم عادة من آيات قرآنيّة مكتوبة على ورقة صغيرة يتمّ طيّها في قلادة صغيرة توضع حول الرقبة أو البطن أو الذراع. وفي بعض الأحيان، كما في حالة المرض مثلاً، يتمّ ابتلاع التميمة مع قليل من الماء.
[11] – من أجل لمحة عامّة حول الإسلام في جنوب آسيا، انظر:
Schimmel, 1980.
وفيما يتعلّق بالصوفيّة، انظر:
Rizvi, 1978-1983.
ومن أجل منظور تاريخي متميّز، انظر:
Hardy, 1987.
[12] – انظر الفصل المخصّص لـ”بقاء الحلاّج في الهند” عند ماسينيون، في:
Massignon, 1975, II, p. 290-303.
[13]– القصيدة مذكورة في:
Ramakrishna, 1938, p. 65 sq.
والحبيب الذي تتحدّث عنه هو الله، والعشق جذل بإعدام الحلاّج، إذ سرّع ذلك في اتّحاده مع الله.
[14] – Hajviri, 1953.
[15] – Subhan, 1938, p. 129.
[16] – يعود أصل لقبه إلى زيارة معين الدين چشتي، صاحب الفضل في إدخال الچشتيّة إلى الهند، قبر عليّ الهجويري. فبعد أربعين يوم من التأمّل منزوياً، قال الشيخ الچشتي هذه الأبيات باللّغة الفارسيّة:
“هو مانح الكنوز للعالمين، مظهر النور الربّاني.
وهو عمدة الكمال عند الكاملين؛ ومرشد الجاهلين إلى الصراط المستقيم“.
انظر الأبيات عند:
Latif, 1892, p. 180.
[17] – حول القوّاالي، انظر أدناه.
[18] – Latif 1892 : 180.
[19] – Latif, 1892, p. 179-182.
ويمكننا أخذ فكرة عن قيمة هذا المبلغ إذا عرفنا أنّ ألف روبية كانت كافية في عصر رانجيت سينغ، لشراء مدفع، وأنّ راتب جندي في الجيش السيخي كان سبعة روبية شهريّاً. وفي تلك الفترة نفسها، بلغ الراتب الشهري للجنرال جان بابتيست فينتورا (Jean-Baptiste Ventura)، الذي دخل خدمة رانجيت سينغ، ثلاثة آلاف روبية، أي ما قيمته ستّة آلاف فرنك في فرنسا ذلك الوقت، إضافة إلى امتيازات ماليّة أو عينيّة أخرى، كانت أحيانا كبيرة. انظر:
Lafont, 1992, p. 141, 145, 203, 256 sq.
[20] – تؤكّد التراجم زهد بابا فريد، انظر:
Nizami, 1956, p. 25-35, 41 sq.
وقد كان بابا فريد من ممارسي طقس “چلة معكوس” في اوچ، وهو طقس يتمثّل في ممارسة المرء التأمّل لمدّة أربعين يوماً وهو معلّق من قدميه في غرفة مظلمة. وقد كافأه الله عن صيامه بأن حوّل الحصى الذي كان يضعه في فمه لمحاربة الجوع إلى قطع من السكّر، وهذا ما يفسّر أحياناً لقبه “گنج شكر”، الذي يعني حرفيّاً “كنز السُكّر”. للاطّلاع على الأدبيّات الواسعة حول بابا فريد، انظر:
Nizami, 1965.
[21] – حول “الزطّ”، الرعاة الرحّل السابقين قبل استقراهم وتعاطيهم الزراعة، والذين يشكّلون الطائفة المهيمنة (مسلمين وسيخ وهندوس) في العديد من قرى البنجاب في الهند كما في باكستان، انظر:
Rose, 1911-1919, p. 357-376.
وتعزو بعض العشائر، من جهتها، دخولها الإسلام إلى الشيخ السهروردي في الملتان، بهاء الدين زكريّا (ت 1262). انظر أدناه. وتوجد أدلّة كثيرة على أنّ دخول “الزُطّ” إلى الإسلام كان عمليّة طويلة وممتدّة في الزمان. انظر:
Eaton, 1984.
[22] – وارث شاه، القصيدة الثالثة، المقطع الخامس. ويُوجد تلخيص الأسطورة التي يرويها وارث شاه في:
Matringe, 1988, 18-20.
[23] – “مودود” هو لقب معين الدين الچشتي، بمعنى “الحبيب”.
[24] – تشير بداية البيت إلى مفهومين صوفيّين. الأول هو مفهوم “قطب” الأولياء الذي يحافظ على النظام الكوني ويوجّه العالم بشكل خفيّ. والثاني هو مفهوم “الإنسان الكامل” الذي يُحيل إلى مفهوم “پيري كامل”. انظر:
Arlandez, 1971.
وفي بعض التأمّلات الصوفيّة، يغدو الإنسان الكامل، أي ذاك الذي حقّق وحدته مع الله، قطب الأقطاب، ومن ثمّة صلة الوصل بين الله ومخلوقاته. انظر:
Corbin 1975, I, p. 92.
[25] – هذه الأبيات تشير بوضوح إلى بركة بابا فريد وإلى ولايته التي لا تشمل، وفق أتباعه، منطقة باك ڀاتان فحسب، بل جميع البنجاب.
[26] – لكن هذا الموقف تغيّر في أيّام خلفاء بابا فريد. انظر الجزء الثالث من هذه المقالة.
[27] – حول بهاء الدين زكريّا، انظر:
Nizami, 1960.
وحول بقيّة شيوخ السهرورديّة الذين سنشير إليهم لاحقاً، انظر:
Schimmel, 1980, p. 30-33.
[28] – لعب الشاعر الفارسي فخر الدين إبراهيم العراقي (ت 1289) دوراً كبيراً في تطور التصوّف الهندي. انظر حول العراقي:
Rypka, 1968, p. 254 sq.
وانظر حول جولاته في الهند:
Ahuja, 1958.
وفي الواقع، فقد ساهم عمله النثري المخلوط بأبيات شعريّة بالعربيّة والفارسيّة الموسوم بعنوان “لمعات”، في نشر أفكار الصوفي الأندلسي ابن عربي عند الطرق الهنديّة، ومن بينها عقيدة وحدة الوجود. وقد كان العراقي من مرتادي خانقاه بهاء الدين، وقد باشر فيها كتابة الغزل الفارسي الذي ما زال يُتغنّى به إلى اليوم:
“أوّل خمر نصبّه في الكأس
خمر عيني الساقي السكرانة“.
انظر:
Husain, 1959, p. 41.
[29] – Nabi Khan, 1983, p. 215-236.
[30] – Sharif, 1921, p. 259.
وانظر فيما يتعلّق بالپير الخمسة أدناه.
[31] – Rizvi, 1978-1983, II, p. 67-69.
[32] – حول دارا شيخوه، انظر:
Hasrat, 1953.
[33] – السنة الهنديّة قمريّة شمسيّة. وتبدأ الأشهر الشمسيّة الاثنا عشر التي تتشكّل منها، عند دخول الشمس (سامكرانتي باللغة السنسكريتيّة) في أحد البروج، وهي بالتالي غير متساوية، إذ تختلف مدّة بقاء الشمس في كلّ برج. ومع ذلك، فإنّ الأشهر الشمسيّة في السند والبنجاب، كما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم الهندي، لا تُسمّى بأسماء علامات البروج، بل بأسماء الأشهر القمريّة التي تقع فيها. ويتيح نظام كبس الشهور والأيّام القمريّة استعادة التوافق باستمرار بين التقويم القمري والتقويم الشمسي. انظر:
Renou & Filliozat, 1947-1953, II, p. 722-725.
[34] – مؤلّف لورانس هو كتاب مرجعي ممتاز لأدب هذه الفترة. انظر:
Lawrence, 1978.
وانظر أيضاً:
Schimmel, 1973.
[35] – يمكن تلخيص هذا المفهوم لوحدة الوجود بالقول الفارسي المأثور الشائع جدّا والذي يُستشهد به اليوم في باكستان: “همه است”، بمعنى “هو كلّ شيء”، أو “كلّ شيء هو”.
[36] – من أجل مدخل لشعراء بهاكتي، انظر:
Hawley & Juergensmeyer, 1988.
[37] – انظر دراسة متميّزة لحالة البنجاب في:
Matringe, 1992.
[38] – بُلهي شاه، ص 29.
“تهيّا تهيّا” هي هتاف للتعبير عن الفرح.
[39] – انظر: شاه عبد اللطيف في الببليوغرافيا.
[40] – Matringe, 1992.
[41] – لعلّ أقدم المصادر وأهمّها فيما يتعلّق بشاه حسين هو الديوان الفارسي “حقيقة الفقراء“، من تأليف الشيخ محمّد المعروف محمّد بير الذي كان في الثالثة عشرة من عمره عند وفاة الشاعر. انظر تحت اسم المؤلّف في الببليوغرافيا.
[42] Shah husain : 127 sq.
وتنمّ هذه القصيدة على حالة التصوّف الأكثر شعبيّة في القرن السادس عشر. فالله يسمّى رام، كما هو عند السانت والسيخ؛ والاستيلاء على بھنگ يحتفل به كما هو الحال في الشعر الشفوي لقرى البنجاب؛ وتتمّ الإشارة إلى طوائف الزهّاد الهندوس (سادهو سانغ) بوصفها مثالاً لمحبّي كريشنا؛ ويتحدّث شاه حسين عن نفسه بوصفه أنثى، وفق تقليد شعري كان أوّل من ابتدعه، وهو تقليد يتماهى فيه الصوفي مع بطلة الأساطير البنجابيّة التي يرمز فيها الشابّ الذي تحبه إلى الله. انظر:
Matringe, 1992, p. 190.
[43] – Latif, 1892, p. 145.
[44] – Latif, 1892, p. 146.
وفيما يتعلّق بقيمة الروبية في ذلك الوقت، انظر الحاشية 19.
[45] – Schimmel, 1980 , p. 34.
وحول لال شهباز قلندر، انظر أيضاً:
Qazi, 1971; Rizvi, 1975-1983, I, p. 306; Burton, 1851, p. 211 sq.
ويصف بيرتون نذْر الفتيات الصغيرات للوليّ وطقس الانتماء للطريقة الجلاليّة الوصيّة على الضريح: التعرّي، حلاقة الرأس وجميع شعر الجسم، تسويد الوجه، الحروق.
[46] – أعيد هنا نشر هذا المقطع من مقال آياز أمير الذي صدر في أسبوعيّة (Viewpoint) الباكستانيّة بتاريخ 08/07/1982، لأنّه يصوّر بصدق ما يمكن ملاحظته كلّ عام في مدينة سهوان، وقد سبق أن نقلته أيضاَ في أحد مؤلّفاتي.
[النصّ المستشهد به بالانكليزيّة في الأصل، وقد نقلناه إلى العربيّة – المترجم].
[47] – حول برّي إمام وتقديسه، انظر:
Einzmann, 1988, p. 34-66.
[48] – حول تحويل الموقع، انظر أدناه. وتجدر الإشارة إلى أنّ برّي إمام يتمّ تكريمه من خلال نفس الطقوس الموجّهة لخواجه خضر الذي سنتعرّض له أدناه.
[49] – حول خواجه خضر وتقديسه في البنجاب، انظر:
Rose, 1911-1919, I, p. 562-565.
[50] – Rose, 1911-1919, I, p. 171-192.
[51] – Rose, 1911-1919, I, p. 637.643.
[52] – Schimmel, 1980, p. 137.
[53] – انظر القوائم التي يوردها حسين في:
Husain, 1929, p. 30 sq.
[54] – Husain, 1929, p. 31; Ahmad, 1969, p. 48.
[55] – Matringe, 1988, p. 31 sq.
[56] – ترى آن ماري شيمل (1980، ص 134) أنّ مزار نورڀور، كان معبداً قديماً للنّار، قبل أن يغدو معبداً بوذيّاً. ولا يختصّ مزار نورڀور بالمحافظة على شعلة ناريّة دائمة، إذ نجد في ضريح صادق نہنگ، غير بعيد عن مدينة جھنگ، دراويش يسهرون ليلاً نهاراً على دوام اشتعال نار فيه، وهي النار التي يتمّ عليها بمناسبة العُرْس، طهي خبزة عظيمة (روٹی)، يتمّ توزيعها على جميع المشاركين. انظر:
Titus, 1955, p. 174.
[57] – يمرّ أحد الطرقات المؤدّية إلى قبر نوشہ گنج بخش في شاهيڀال فوق جسر مقام على النهر. وعلى حافة هذا الجسر، يُقيم درويش (فقير) يسمّى “ساعي نادر” كانت لي معه صحبة لبعض الوقت في فبراير 1993. وهو يعيش من صدقات المؤمنين الوافدين على المزار، ولا عمل له سوى كنس الجسر بلا ملل ولا كلل، تنفيذاً لنذر قدّمه إلى الوليّ (“ورت” عند اليوغيّين الهندوس). وسأقصّ هنا واحدة من عديد الحكايات التي رواها لي. ففي أحد الأيّام، لامه أحد الملالي على انهماكه في كنس الجسر وعدم اهتمامه بالصلاة، فأجابه نادر بأنّه كان من الأفضل أن يبدأ بسؤاله ما إذا كان مسلماً. وردّ المُلاّ: “أنا أسألك عن ذلك“، فقال الدرويش: “أنا لست مسلماً، وما وصلتُ إليه بفضل حضرة بير نوشه صاحب رحمة الله يتجاوز مذاهب الدين (كنظام من المعتقدات والممارسات)“. وهذا الموقف شائع بين عدد نادر من الدراويش الحقّ. حول دراويش البنجاب، انظر:
Ewing, 1984.
[58] – سأروي هنا، من بين حكايات أخرى كثيرة، حكاية رواها لي في شباط/فبراير 1993 أحد هؤلاء المالانغ لقيته في ضريح نورڀور. إنّه يعيش بالقرب من موري، في الجبال، على بعد حوالي خمسين كيلومتراً شمال شرق روالبندي. وقد اختفى ابنه، وذهب إلى پير ليسأل عمّا يجب القيام به. وقد طلب منه الپير الذهاب إلى قبر بُلهي شاه في قاشور. وبعد أن عمل بهذه النصيحة، سمع صاحبنا، حين كان يصلّي على قبر الشاعر الوليّ، صوتاً يأمره بالتوجّه إلى نورڀور حيث سيعثر على ابنه قرب ضريح برّي إمام. وقد قال لي إنّه ينتظر هذا الحدث.
[59] – تُحيل هذه الزيارات على أخرى. فالأمر يتعلّق من جهة أولى بالقدرة على المستوى المحلّي أو الإقليمي لأداء الحجّ في مكّة، وهو أحد أركان الخمس للدّين الإسلامي، وهذا غير متاح اليوم إلاّ لعدد قليل نسبيّاً من القرويّين الباكستانيّين. ومن ناحية أخرى، فإنّ حشود الحجّاج المسلمين الذين نلتقيهم على الطرق في باكستان، حاملين نذورهم (دالي)، وأعلامهم، وآلاتهم الموسيقيّة وأغانيهم، تشبه مواكب الحجّاج الهندوس التي يُمكن أن تعترضنا في الهند.
[60] – تتكوّن شهادة الإيمان الإسلاميّة من شهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الشهادة المقصودة هنا، وشهادة أنّ محمّداً رسول الله، وهما لا ينفصلان مطلقاً في الإسلام. وفي الذكر، تكون شهادة “لا إله إلا الله” الشكل المختصر لكليهما. وقد كان زكر موضوع أدبيّات وفيرة. انظر خصوصاً:
Anawati & Gardet, 1976, p. 187-256; During, 1988, p. 156-168.
وانظر حول بعض سياقات العالم الإيراني، “القادريّة في كردستان”، و”أهل الحقّ في كردستان”:
During, 1989, p. 241-251 & p. 507-510.
[61] – كما حول الذكر، يُوجد حول السماع ومسألة شرعيّته أدب وفير. انظر:
During, 1988.
[62] – العمل المرجعي حول القوّالي في الهند هو:
Qureshi, 1986.
[63] – الطبلة هي طبل صغير ذات وجه جلديّ واحد مغلّف وسطه بنوع من العجين الخاص. أمّا الجسم، فيختلف من منطقة إلى أخرى، إذ قد يكون من الخشب أو المعدن أو الطين. ويتمّ دائماً استخدام زوج من الطبلات، طبلة أنثى (بايا) يجري ضبطها على مقام أقلّ من مقام الطبل الذكري (طبله)، يتمّ النقر عليهما باليدين والأصابع ممدودة.
[64] – للاطلاّع على مثال لجلسة قوّالي، انظر:
Nusrat Fateh ali Khan, 1989.
وللاطّلاع على تحليل جلسة قوّالي، انظر مقالنا (يُنشر قريبا).
[65] – Matringe, 1993 (b).
[66] – ولهذا السبب يسمّى الخليفة أيضا ” گدی-نيشين”أي “الجالس على الگدی”.
[67] – إلاّ إذا تعلّق الأمر بحفل ينظّمه پير بعيداً عن قبر الوليّ، أي على سبيل المثال في قاعة القوّالي داخل مجمع صوفي. ففي هذه الحالة، يجلس الپير أمام الگدی، وإليه يتوجّه إنشاد القوّالين وإيماءاتهم.
[68] – للاطّلاع على لمحة عامّة عن الطبقات الاجتماعيّة والتراتب الاجتماعي بين المسلمين في جنوب آسيا، انظر:
- Ahmad, 1978.
وللاطّلاع بشكل خاصّ على حالة البنجاب، انظر:
Eglar, 1960, p. 28-49; S. Ahmad, 1977.
[69] – من أجل مثال جيّد عن تنوّع هؤلاء الخُدّام ومهامّهم ومداخيلهم، انظر:
Currie, 1989, p. 141-184.
أما المزارات التي لا تتصرّف فيها سلالة روحيّة، فهي تُدار بطريقة مختلفة. والغالب أن يتمّ انتداب موظّف متخصّص أو اثنين (متولّي) على مستوى القرية أو الحيّ لإدارة التبرعّات والعطايا، وضمان صيانة المباني، وتنظيم الطقوس. ويمكن لهؤلاء المتولّين الاستعانة بخدمات عمّال لإنجاز مختلف الأشغال التي تتراوح بين الكنس والبناء. وهكذا، كانت مزارات نوربور، وإلى حدود سيطرة دائرة الأوقاف في عام 1961 على المزارات، تُدار من قبل أربعة متولّين تمّ اختيارهم محليّاً من كبار الأسر المنتمية للوليّ. ومن حين إبعاد هؤلاء عن إدارة المزار، أضحت دائرة الأوقاف توظّف مؤذّنين اثنين، وثلاثة أئمّة (!)، ومتصرّف، وقيّم، وثلاثة حرّاس ليليّين (كوكيدار)، وكاتب متعدّد الاستخدامات (نوكار).
[70] – حول العلاقات بين السلاطين والشيوخ، انظر:
- Ahmad, 1962 ; Digby, 1986 & 1990.
[71] – حول طبيعة “البراداري” ودوره في المجتمع البنجابي، انظر:
Eglar, 1960, P. 75-80.
[72] – Nizami, 1956, p. 101.
[73] – حول تاريخ مزار بابا فريد وموارده الماليّة، انظر:
Eaton, 1984.
ويهدف حفل “دستر بندي” الذي يقوم خلاله ممثّل الوليّ بوضع عمامة على رأس المؤمن، إكساب التابع شارة شرف تليد.
[74] – كان “شيخ الإسلام” لقب أعلى موظّف ديني في البلاد.
[75] – حول قيمة الروبية في ذلك الوقت، انظر الحاشية 19.
[76] – Eaton, 1984, p. 19.
[77] – حول “السجاده نشين” في البنجاب خلال الحقبة البريطانيّة، انظر:
Gillmartin, 1979 & 1988 ; Talbot, 1988.
[78] – كما هو الحال في البنجاب، كان بعض البير أيضاً مقاديح حروب. ففي عام 1520 مثلاً، ترأّس پير يحمل اسم “مخدوم بلاول” وخليفته حركة مقاومة لغزو “الأرغون شاه باغ”، ولكن “شاه باغ” انتصر وقبض على الپير قبل أن يقتله سحقاً بحجارة معصرة زيت. انظر:
Ansari, 1992, p. 30.
[79] – McMurdo, 1834, p. 241; Burton, 1851, p. 205-208.
ويكيل برتون أقسى النعوت لپير السند.
[80] – حول العلاقات بين البير في السند والسلطة الاستعماريّة، انظر:
Ansari, 1992.
وحول قضيّة الپير “باغارو”، انظر:
Lambrick, 1972.
[81] – Currie, 1989, p. 164.
[82] – حول تاريخ الأوقاف في الهند البريطانيّة، انظر:
Kozlowski, 1989.
وحول الدعاوى القضائيّة المتعلّقة بسجاده نشين مدينة باك ڀاتان، انظر:
Eaton, 1982.
[83] – حول تاريخ باكستان حتى عام 1990، انظر:
Noman, 1990.
وحول تاريخ دائرة الأوقاف في ذلك البلد، انظر:
Ewing, 1983.
[84] – وقد نشأ عن ذلك، وإلى وقت قريب، العديد من الدعاوى القضائيّة. فمن أجل الاحتفاظ بامتيازاتهم، كان الپير يدّعون أنّ التبرّعات كانت تقدّم إليهم بصفة شخصيّة. ولكن على حدّ علمي، لم يتمكّن سوى پير غولرا شريف (انظر الملحق) في كسب قضيّته، وكان ذلك عام 1962.
حول قانون الأوقاف في باكستان، انظر:
Janjua, 1984.
[85] – وقد أظهرت كاترين إوينغ كيف اعتمد أيّوب خان في هذه المحاولة على أفكار محمّد إقبال الذي كان يرى أنّ التصوّف الحقيقي مرتبط بالعمل الضروري لإنشاء مجتمع مسلم جديد. انظر:
Ewing, 1983.
[86] – صحيفة باكستان تايمز، 23 سبتمبر 1980.
ويتناقض الموقف السياسي للقيادة الباكستانيّة منذ أيّوب خان وصولاً إلى ضياء الحقّ بشدّة مع موقف مالك غلام محمّد، الحاكم العامّ لباكستان من أكتوبر 1951 إلى أغسطس 1955. فقد كان هذا الأخير من أتباع أحد الأولياء المدفونين في مدينة طَهَطَّا، وكان كثير الاستنجاد به من أجل الصحّة واستمداد البأس. ولكن أتباع هذا الوليّ قاموا بتوسعات متتالية لمجمع المزار، إلى درجة إصدار مصلحة الآثار في باكستان احتجاجاً رسميّاً إلى الحاكم العامّ، لكن تبجيل الحاكم للوليّ منعه من أخذ قرار بمنع التوسّع.
[87] – انظر في نفس هذا الكتاب مقدّمة مقال مارك غابوريو (Marc Gaborieau).
[88] – مثّل تقديس الأولياء دوّماً موضع خلاف طويل في الهند. انظر:
هاردي 1987
وكذلك التفصيلات التي أوردها مارك غابوريو حول هذا الأمر في أعماله.
وفي باكستان، تعارض مدرستان فكريّتان متنازعتان تقديس الأولياء و”الپيري مريدي”. الأولى هي مدرسة الأصوليّين، الذين يتّهمون على غرار مولانا المودودي، “الپيري مريدي” والصوفيّة بشكل عامّ بجعل الأتباع خنوعين ودون حسّ نقدي. انظر:
Maududi, 1912, p. 112 sq.
أمّا الثانية، فهو وريثة فلسفة إقبال، وهم الحداثيّون الذين لا تختلف حججهم حول هذه النقطة عن تلك التي يقدّمها الأصوليّون. فهم أيضاً، يهاجمون الاستعباد الروحي الذي يؤدّي إليه تقديس الأولياء ويرفضون، باسم القرآن، مفهوم الشفاعة. انظر:
Rahman, 1968, p. 187, & 1980, p. 31.
ولمدرسة العلماء الأصوليين، وتسمّى مدرسة أهل الحديث (أي 20٪ من العلماء الباكستانيّين)، نفس الخطاب تقريباً. لكن من ناحية أخرى، فإنّ المدرستان اللتان تُمثّلان أغلبيّة العلماء، تقبل تقديس الأولياء. فمدرسة ديوباندي، وهي الأكبر عدديّاً (50٪ من العلماء الباكستانيّين)، لا تُعارض الأولياء و الپير بوصفهم قدوة، بل كوسطاء، وشفعاء. أمّا مدرسة بَریلوِی (30٪ من العلماء الباكستانيّين)، فتعترف بتقديس الأولياء و”الپيري مريدي” بالكامل: من شفاعة، وكرامات، وأعراس، وقوّالي، الخ.
[89] – “الفوگ” هو “الأرطى” بالعربيّة (Calligonum polygonoides) و”اللاّنا” هو “العجرم” بالعربيّة (Anabasis multiflora) وهما من نباتات جنوب البنجاب، المنطقة التي عاش فيها خواجه بابا فريد.
[90] – بُلهي شاه،،ص 241.
[91] – في التصوّف، الألف، هو الحرف الأوّل من الأبجديّة العربيّة والحرف الأوّل من اسم الله، وهو يرمز إلى الله.