من له الحق في الكلام باسم الإسلام؟

محمد المصباحي

أستاذ الفلسفة – جامعة محمد الخامس- الرباط

من له الحق في الكلام باسم الإسلام؟

نعاني في العالم العربي الإسلامي من ثلاث أزمات متداخلة: أزمة الدولة وأزمة الدين، أو بالأحرى الفكر الديني، وأزمة العلاقة بين الدولة والدين. أزمة الدولة هي أزمة الديمقراطية وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية على مستويات الحرية والعدالة والكرامة ” أزمة الدين تتجلى في ما لحق به بغير حق من تشدد مذهبي وفوضى تأويلية وتسيب في الإفتاء، وهي كلها نتيجة لأزمة علمية جراء توقف التفكر والتدبر في أصول الدين ومعاملاته وآفاقه. أما أزمة العلاقة بينهما فهي عدم نجاح الفريقين المدني والديني في إيجاد لغة مشتركة تمكنهما معا من تجاوز العقبات التي تحول دون حوار مثمر وخلاق بينهما.

هذه الأزمات الثلاث تدفعنا للتساؤل: هل يمكن شفاء أمراض الدولة السياسية بالشريعة، فنكون بذلك كمن يريد علاج الأزمة بالأزمة؟ وإذا كان من غير المعقول القيام بذلك، فهل من المفيد استعمال طريقة العلاج بالضد، أم التماس طريقة العلاج بمعرفة الأسباب الذاتية لأمراض الدولة، وشفاء أمراض الفكر الديني بالوقوف على أسبابه الذاتية التي تدور أساسا حول واقعة غلق باب الاجتهاد أمام المجتهدين؟

مهما يكن، فإننا نعتقد بأن السبيل المناسب للخروج من هذه المآزق هو انفتاح العقل على الوحي، والوحي على العقل، أي الحوار بين خطاب الأمر وخطاب الاستدلال. فمن غير المعقول بناء دولة حديثة دون الاستفادة من كنوز تراثنا الديني وأخذ العبر من عثراته وتوقفاته ” كما أنه من العبث التفكير في الشريعة من غير استلهام مناهج الحداثة وفتوحاتها المعرفية والسياسية وأخذ الدروس من إخفاقاتها وتناقضاتها.

لابد من التذكير، بأننا نناقش هذا الموضوع الحساس في زمن ما بعد الحداثة التي شجعت، في نفس الوقت، على انتشار التيارات ما بعد العلمانية التي تنادي بعلمانية مرنة في الدول الغربية، وشيوع التزمت الديني بتجلياته الإرهابية في بعض البلدان الإسلامية. من هنا سيكون من واجبنا أن نتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ونعمل سويا من أجل جعل الدين يلعب دورا فاعلا في بناء الدولة الديمقراطية وترسيخ أركانها وتكريس قيمها كيما تسمح بدورها للدين بتطوير مقترباته ومقاصده وتجديد تصوراته ومفاهيمه.

  • من له الحق في احتكار الكلام باسم الإسلام ؟

لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في خضم التفكير في هذه الأزمات المتفاعلة فيما بينها هو من له الأهلية في احتكار حق الكلام باسم الإسلام: هل هو الفقيه المنتمي لمذهب معين؟ أم المتكلم المنحاز لفرقته الكلامية؟ أم العالم الفيلسوف المحايد الذي يبحث عن الحقيقة متعاليا عن الانتماءات المذهبية؟ أم السياسي الذي يسعى إلى تسخير الدين
للقيام بالإصلاح الذي يقترحه؟ أم أن طبيعة العقيدة الإسلامية لا تسمح أصلا لأحد بأن يكون له الحق في احتكار الكلام باسم الإسلام، فأحرى باسم الله، وإنما له الحق فقط في الكلام باسم اجتهاد فقهي أو كلامي أو صوفي أو سياسي؟

نميل إلى الاحتمال الأخير، لأنه لا يوجد في الإسلام احتكار للكلام باسم الوحي، مثله في ذلك مثل الفلسفة، بلواحقها العلمية، التي لا يوجد فيها احتكار للكلام باسم العقل. فقد أعطى الإسلام الحق في التفكير في الوحي وملحقاته لكل مسلم له الأهلية العلمية والكفاءة الأخلاقية لذلك. الخلط الذي يقع فيه مروجو “الإسلام السياسي “، والذي ينشر جوا من الالتباس، هو أنهم ينسبون لله مذهبا كلاميا أو فقهيا أو سياسيا ينحازون إليه ويعملون على فرضه على باقي المؤمنين بوصفه العقيدة الحقيقية. بذلك يكون هؤلاء الإسلاميون قد سخروا التراث المتنوع للفكر الديني، بتجلياته المتنوعة والمتعددة، لخدمة مصلحة سياسية وإيديولوجية معينة، طمعا في إضفاء الشمولية الشرعية والهالة الدينية عليها ” فيتم الانزلاق سريعا من المذهب إلى الدين، ومن الدين إلى الله.

وقد سبق لأوروبا أن عانت من هذه الانزلاقات التي أفضت إلى حروب دامية لقرون عديدة. ومن أجل تلافي هذه الدورة الجهنمية، اضطرت إلى فصل مجال اللاهوت السياسي عن الفلسفة السياسية، فكان ذلك إيذانا بتدشين الحداثة السياسية. إن إخضاع السياسة للمرجعية الدينية، بدلا من المرجعية العقلية، يحرمها من النقاش ومن القابلية للمراجعة والتعديل والتحسين، كما ينقلها من طبيعتها الخاصة، التي هي الطبيعة العقلية والحوارية والتوافقية، إلى طبيعة أخرى غريبة عنها، هي الطبيعة العقدية، مما يفتح الباب واسعا أمام التشدد والتزمت والانكفاء على الذات.

  • أبعاد أزمة الفكر الديني .

لو تعقبنا أسباب أزمة الفكر الديني، فإننا سنجدها ترجع أولا إلى كون العلوم الشرعية ما زالت إلى يومنا هذا تقتات من نظريات ومفاهيم علمية تجاوزها الزمن منذ قرون وقرون. صحيح، لا ننكر أن علم الكلام الأشعري مثلا، الذي يعتبره كثير من الناس أحد المقومات الثلاثة لهويتنا المغربية (بالإضافة إلى فقه مالك وتصوف الجنيد)، لعب في يوم من الأيام دورا إيجابيا في تطوير العلم بكيفية غير مباشرة عن طريق نقده وتجاوزه لمفاهيم العلم اليوناني، وتطويره للمنهج التجريبي ” إلا أنه سرعان ما تحول إلى عائق شرس وعنيد في وجه أية محاولة للتجديد، وأية مبادرة للتقدم في مجالات العلوم الطبيعية والعلوم الشرعية. فبعد أن وقع الخلط بين الشريعة والمذاهب الكلامية والفقهية، صار هم الفقهاء وعلماء أصول الدين الهجوم على أي مظهر من مظاهر تجديد النظريات العلمية الجريئة في الحضارة الإسلامية. من ذلك مثلا أنهم توهموا أن نظرية “الجزء الذي لا يتجزأ”، هي العقيدة “الشرعية للجسم “. وبناء على هذا الترسيم العقدي لنظرية تنتمي لعلم الطبيعيات، انبرى كثير من علماء الكلام لممارسة ما يشبه محاكم تفتيش فكرية للعلماء وللعلوم العقلية والدينية معا. هكذا نجد عبد القاهر البغدادي (أشعري) يوجه انتقادا شديدا لإبراهيم النظام لقوله بأن الأجسام تتكون من أجزاء تتجزأ إلى ما لا نهاية ” ونلفي عضد الدين الايجي (أشعري ) يوجه انتقادا عنيفا لابن الهيثم لكونه ابتكر مفهوما ثوريا للجسم لتفسير ظاهرة النور، وهو الجسم اللامتناهي في الصغر غير القابل للروية. كما انتفض فقهاء ومتصوفة القرن الرابع عشر في وجه ابن الخطيب لكونه دعا إلى تطبيق “إجراءات العزل الصحي ” للحد من انتشار وباء الطاعون الذي حصد ملايين الأرواح، لأن القول بالعدوى في نظرهم مخالف للشرع، لكونه يثبت استقلال الوباء عن القدرة الإلهية، ولأن القيام بالإجراءات الطبية لمقاومته هو تدخل في الإرادة الإلهية. واستمرت هذه الملاحقة للعلم والعلماء إلى مشارف الزمن الحديث، حيث نجد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده يحاربان نظريات نيوتن الفيزيائية وداروين البيولوجية بحجج ومفاهيم كلامية عفا عنها الزمن، اعتقادا منهما أن تلك المفاهيم والنظريات تعبر عن عقائد إسلامية، والحال أنها عبارة عن تأويلات واجتهادات بشرية لتفسير طبيعة المادة تعود بأصلها إلى العلم اليوناني والهندي. والهدف من وقوف هؤلاء العلماء بالمرصاد لكل الثورات العلمية والاجتماعية هو فرض الحجر والوصاية على العقل وإطفاء نوره تكريسا للتخلف والتبعية.

وإذا كان كل من الدين والدولة يعيش أزمة عويصة في العالمين العربي والإسلامي، فلا ينبغي رد أزمة أحدهما إلى أزمة الآخر، أي تبرير أزمة الدولة بأزمة الدين الذي لم يستطع أن يطور أدواته ومفاهيمه، ورد أزمة الدين إلى أزمة الدولة التي لم توفر الشروط والأجواء اللازمة لتطوير الدين والتدين. فكما قلنا، ترجع أزمة الدولة إلى أسبابها الذاتية، كما تعود أزمة الدين إلى أسبابه الذاتية. وهذا يعني أن الخروج من هذه الأزمة المزدوجة لا يكون باتكال أحدهما على الآخر، بل الأقرب إلى الحكمة والصواب أن يظل مجال الدين مستقلا عن مجال الدولة والعكس، حتى لا يتم تسخير أحدهما من أجل قضاء مصالح الآخر. وإن كنا لا ننكر أنه لو كانت الدولة قوية بعلمها وديمقراطيتها وعدالتها، لانعكس ذلك على تطور الفكر الديني” كما أن الدين لو كان قادرا اليوم على تجديد منظومته الفقهية والكلامية والأخلاقية والسياسية لقدم حلولا ناجعة لانطلاق الدولة الحديثة.

  • حول ضرورة الدين للدولة .

لكن إذا سلمنا بقدرة الدين على الإسهام في تطوير الدولة وتجديدها والعكس صحيح، فهل يحق لنا أن نعتبر الدين أساسا للدولة الحديثة بناء على اعتقاد شائع يذهب إلى أن طبيعة الدولة مشتقة من طبيعة الدين، أم يتعين أن يبقى الدين فقط أحد عناصر الدولة ما دامت طبيعة الإيمان الروحي لا تتلاءم مع طبيعة السياسة المدنية؟

من أجل الإجابة عن هذا السؤال نستأنس بفقرة رائعة لابن خلدون يفرق فيها بين “الملك الطبيعي ” و”الملك الشرعي ” تنص على أن: ” الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به “. واضح أن غاية “الملك الطبيعي “، الذي يتطابق مع ما نقصده اليوم بالدولة الحديثة، هي وجود الإنسان في الدنيا، بينما غاية الخلافة، أو “الملك الشرعي “، هي التحضير لمأوى الإنسان في الآخرة. بعبارة أخرى، تنحصر مهمة “الملك الطبيعي ” في تدبير مصالح الدنيا للإنسان، بينما يقوم “الملك الشرعي ” بمهمة توظيف مصالح الدنيا لخدمة مصالح الآخرة. الفرق الأساسي بين الملكين، إذن، يتمثل في توسيع معنى المصالح.

“المصالح الدنيوية ” في “الملك الشرعي ” هي مجرد وسيلة للوصول إلى “المصالح الأخروية “، مما يجعل هذه الأخيرة معيارا للأولى (أي للمصالح الدنيوية )، بينما يعتبر الملك الطبيعي المصالح الدنيوية غاية في ذاتها. ومن الطريف أن تكون نقطة الوصول في الملكين مختلفة بين الدنيا والآخرة، بينما أداة الوصول واحدة، وهي العقل بجهة ما. فقد استعمل ابن خلدون نفس اللفظة المرادفة للعقل، وهي “النظر”، لوصف أداة الملكين: غير أن “الملك الطبيعي ” ينهض على “النظر العقلي “، بينما يقوم “الملك الشرعي ” على “النظر الشرعي “.

إلى هذا، لا أحد ينكر أن الإسلام منظومة متكاملة تضم العبادات والمعاملات، الأخلاق والسياسات، الفقه والحديث والتفسير والكلام والتصوف والعلوم السحرية، هذا بالإضافة إلى انفتاحه على مجالات العلوم العقلية الثلاثة: المنطقية والفلسفية والطبيعية. فالإسلام ليس إيمانا بالقلب وحسب، بل هو أيضا شريعة عملية تنظم حياة الدولة وحياة الناس معا. وهذا ما دفع ابن رشد إلى القول بأن الشريعة تمكن الإنسان من تحقيق كمالين: كمال جسمه بالشرائع السياسية والاجتماعية، وكمال نفسه بالمبادئ والقيم الأخلاقية والمثل الدينية.

ومع ذلك، لا يمكن اشتقاق الدين من الدولة، ولا الدولة من الدين، ما دام الاختلاف بينهما يرقى إلى مستوى الطبيعة. ومن ثم وجب أن لا نخلط بين سؤال الدين وسؤال الدولة، بين سؤال اللاهوت السياسي وسؤال الفلسفة السياسية. فالدولة هي ثمرة عقد اجتماعي جماعي بين كل أفراد المجتمع، لضمان سلمهم واستمرار وجودهم وتنظيم حياتهم ” في حين أن الدين هو ثمرة عقد روحي ذاتي بين الإنسان وربه لضمان مدده الروحي وخلاصه الأخروي. ولذا، كانت الدولة قابلة للتطور والتجديد على الدوام وفق أنظمة معرفية وحقوقية وسياسية جديدة، بينما يميل الفكر الديني إلى المحافظة على نظامه المعرفي والحقوقي الموروث والدفاع عن ثباته في وجه كل رغبة لاختلاق البدعة فيه، والتصدي لكل إرادة لتغييره وتكييفه مع تحولات الزمان. وفي الحقيقة لا يمكن للدولة أن تنجح في تنظيم حياة الناس المدنية إلا إذا كانت قوانينها الوضعية نتيجة مداولة ومشاورة ” بينما لا تستقيم الحياة الروحية للناس إلا إذا امتثلوا للأوامر الإلهية والأحكام الشرعية، واعتبار الحياة المدنية مجرد برزخ عبور نحو الحياة الحقيقية الأخرى، التي هي المأوى الحقيقي للإنسان على حد تعبير أبي حامد الغزالي. وإذا كنا نعتقد أن ليس من مصلحة الدين أن يفرض وصايته على الدولة، ولا من مصلحة الدولة أن تفرض وصايتها على الدين، فإنه لا ينبغي أن ننسى أن الصناعة الدينية، أو الوظيفة الدينية (الكهانة )، كانت منذ أرسطو أحد الأجزاء الستة الضرورية للدولة، بل وحتى جزءها النبيل.

ولعل ذلك كان بسبب قدرة القيم الروحية على التأثير إيجابيا في الحياة العامة، بشرط أن لا يتحول الدين إلى قوة سياسية تفرض هيمنتها على الحياة السياسية العامة، أو أن يتحول “رجل الدين ” إلى “فاعل سياسي ” بالمعنى الاحترافي والميداني للكلمة. فمن حق الدين أن يهتم بالسياسة، لكن لا بالقصد الأول، وإنما بالقصد الثاني.

وإذا سلمنا بما قلناه سابقا، فيمكننا الجزم بأنه بوسع المجتمع أن يعيش بشريعتين، إحداهما إلهية والأخرى إنسانية، دون أن ننسى بأن الشريعة الإنسانية من شأنها أن تكون عامة، أي أن تأخذ بعين الاعتبار الشريعة الإلهية، طالما أنها – الشريعة الإنسانية – هي نتيجة حوار ونقاش وتفكير مشترك بين المواطنين والمؤمنين. وبهذا الحوار العقلاني المنفتح، والإنصات المتبادل نستطيع خلق حداثتنا التي تناسب أفقنا التاريخي.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!