فلسفة السماع عند جلال الدين الرومي

فلسفة السماع عند جلال الدين الرومي

فلسفة السّماع عند جلال الدّين الرّومي

عبدالقادر النفاتي

يعود
الاهتمام بفلسفة السماع عند جلال الدين الرّومي إلى جملة من الاعتبارات أهمّها:

• إن المكانة المميّزة التي يحظى بها جلال الدين الرّومي في الفكر الإنساني عموما والفكر الصوفي خصوصا، تمثّل محفّزا هاما حقيقة، يشجّع العودة إليه وذلك للوقوف على أسباب التميّز، وعلى العوامل الأساسية التي خلّدت ذكراه وجعلته علما بارزا، وشاغلا للناس كثيرا في زمانه وبعده.

• من الاعتبارات أيضا ما يعود إلى محاولة التعرّف على آثار الرجل الفكرية والروحانية، والوقوف على مدى موضوعيّة الأحكام المنوّهة بكتاباته وشخصيته، فقد قيل في شأنه مثلا «لم يكن نبيّا، ولكنّه أوتي كتابا»([1]). وقيل عن كتابه المثنوي بأنه بمثابة القرآن أو «قرآن بهلوي » أي قرآن الفارسية، وقد وصفه صاحبه قائلا «هذا كتاب المثنوي وهو أصول أصول أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر وشرع الله الأزهر وبرهان الله الأظهر مثل نوره كمشكاة فيها مصباح يشرق إشراقا أنور من الإصباح وهو جنان الجنان ذو العيون والأغصان… الأبرار فيه يأكلون ويشربون، والأحرار منه يفرحون ويطربون»([2]).

• العودة إلى جلال الدّين الرّومي أيضا تندرج في إطار الاهتمام بالمجال الصوفي البنّاء بوصفه مجالا يهتمّ بعالم الروح، ويحاول أن يوجد التوازن المطلوب في ظلّ سيطرة المادة والضغوطات، فضلا عن كونه يمثّل نقطة التقاء بين الأديان والثقافات، تسعى كلّ المشارب والأطياف إلى اعتباره الجسر الأمثل للتواصل مع الآخرين وللالتقاء أيضا في بؤرة الحوار والتفاهم ونشدان الحقيقة.

• إنّ دراسة «السماع» عند جلال الدين الرّومي تشكّل مدخلا هاما يتيح الاطّلاع على فكر الرّجل وعلى مدى تميّزه في هذا الشأن، خاصة وأنّه قد طرق عدة مواضيع صوفية وإنسانية مختلفة ومتنوّعة، هذا فضلا عن كون «موضوع السّماع» ذاته يشكّل أفقا جذّابا يثير عدّة تساؤلات وإشكاليات لعلّ أهمّها مدى مشروعيّة اعتماد «السماع »أسلوبا لتهذيب الذوق، وتحقّق الحال، فضلا عن مدى تحقيق السماع للأهداف المرسومة له.

 

• إنّ معارضة بعض الأطروحات الفقهية لمنهج السّماع، وتبنّي جلال الدين الرّومي والطريقة المولويّة عموما له، يمثّل في حدّ ذاته، مبرّرا هامّا للاطلاع على حقيقة الإشكال، وعلى المسوّغات الفكرية والاعتبارات المنهجية التي اعتمدها جلال الدّين الرّومي ومن تابعه لتجاوز تلك المعارضة وتأسيس منهج ذوقي مختلف عمّا عهده الفكر الدّيني.

• إنّ طرق موضوع «فلسفة السماع عند جلال الدين الرومي،» هو محاولة أيضا للتعرّف على مدى نجاح هذا الأسلوب في التربية الصوفيّة وتحقيق الوجد المطلوب في الطريقة المولويّة، وكذلك مدى تأثيره في المناهج والطرق الصوفية الأخرى، خاصّة وأن شخصيّة جلال الدين الرّومي بلغت الشأو الكبير في العالمين الشرقي والغربي.

• إن تناول موضوع «السّماع» هو تناول لمنهج صوفيّ عمليّ خليق بنا أن ندرك ملامح الحكمة أو الفلسفة التي بلورته وأسّست معالمه ومشروعيته، إذ بذلك فحسب ندرك الهدف المحدّد لهذا السماع، وكذلك الدّور الذي يجب أن يفعله، هذا فضلا عن الفروقات بينه وبين أنماط السماع الأخرى المختلفة الأسلوب والغاية.

في فقه السّماع:

لعلّ أبرز الإشكاليات التي يثيرها موضوع «السّماع عند جلال الدين الرومي» هو موقف الشرع من هذا المنهج الطرقي أي من الرقص والموسيقى ودورهما في إحداث الحالة النفسية المطلوبة المعبّر عنها بالوجد، خاصة وأن اختلاف المواقف في هذا الإطار كان بيّنا وكبيرا نتيجة اختلاف النصوص والاجتهادات الفقهيّة المأثورة

ثم كيف استطاع جلال الدين الرّومي أن يتجاوز موقف المعارضين؟ بمعنى هل كانت المسوّغات الفكرية والاعتبارات المنهجيّة التي استند إليها شافية ومقنعة الإقناع اللاّزم الذي يرجّح كفّة الاعتماد والتجويز، أم أن جلال الدين الرّومي التجأ إلى أسلوب التجاهل وعدم الخوض في الإشكال درءً للتصادم، ولسوء الفهم وعيا منه بعدم استساغة المتقبّل وقصر إدراكه للمغازي الكامنة وراء ترجيح كفّة السّماع.

إنّه لخليق بنا إذن أن نعود إلى استنطاق النصوص النقليّة بداية ومن ثمّة الوقوف على أبرز التأويلات المعتبرة في هذا الشأن، فأمّا الشواهد النقليّة التي تعرّضت إلى هذا الموضوع، فإنها قد اختلفت في الواقع باختلاف السياقات التي وردت فيها، فنجد بعضها ملمّحا تلميحا خفيا بحكم الجواز أو المنع، ونجد بعضها الآخر مصرّحا تصريحا واضحا بحكم التحليل أو التحريم، ونتيجة لذلك حاول كلّ فريق التركيز على الأدلّة التي يراها ملائمة لتوجّهه الفكري العام واستنتاج المفهوم والتأويلات المناسبة والتي يعتبرها أساسيّة وخادمة لما ارتآه من تصوّر ومواقف حول السّماع من ذلك مثلا:

ذهب المعارضون إلى أنّ في القرآن الكريم استنكارا للموسيقى وللسماع عموما، ويتجلّى هذا مثلا في قوله تعالى: (ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ، وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)([3])، لقد ذهب أهل التأويل إلى أنّ «لهو الحديث» في هذه الآية هو إشارة إلى الغناء والاستماع له وما شابه ذلك، وقد ورد ذكر «لهو الحديث» في سياق الذمّ والتنبيه من سوء العاقبة([4])، ومن ثمّة فإن الحكم الشرعي للسماع هو أقرب إلى التحريم والاستنكار، منه إلى الجواز، ولعلّ هذا ما يستشفّ أيضا من خلال قوله تعالى(والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)([5])، فلقد ورد الحديث عن الشعراء أيضا في سياق الذمّ والاستنكار، وهذا يلزم السّماع أيضا بما أن الشعر أساس الموسيقى. ومن ثمّة فإن الإدانة شاملة للشعر ونتائجه ولما يتأسّس عليه أيضا من رقص وغناء.

الاستنكار القرآني للسّماع يستشف أيضا من خلال قوله تعالى: (واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُورًا)([6]) فالسّماع بهذا المنظار هو مدخل من مداخل الشيطان الذي لا يشير إلاّ إلى الغرور والفساد، ولهذا فإنه من البداهة أن يكون الحكم الشرعي محرّما لهذه المداخل محذّرا من مزالقها.

أمّا الأحاديث التي أيّدت هذا الاتجاه الرافض للسماع بغض النظر عن مدى صحّتها أو ضعفها، فهي عديدة لعلّ أهمّها قوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه عنه أبو أمامة: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ ولا تعلموهنّ ولا خير في تجارة فيهن وثمنهنّ حرام»([7]).

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»([8]). وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا: «إنّ الله تبارك وتعالى حرّم عليكم الخمر والميسر والكوبة وهو الطبل، وقال كلّ مسكر حرام»([9]).

ولعلّ هذه النصوص المانعة، والمحذرة هي التي دفعت الشافعي إلى القول بعدم تجويز شهادة المغنّي الذي يتّخذ الغناء صناعة له «ذلك أنّه من اللّهو المكروه الذي يشبه الباطل، فإن من صنع هذا كان منسوبا إلى السفه وسقاطة المروءة، ومن رضي هذا لنفسه كان مستخفّا وإن لم يكن محرّما بيّن التحريم»([10])، وكذلك دفعت الحنابلة إلى القول بأنّه: «لا يحلّ شيء من العود والزمر والطبل والرباب ونحو ذلك، كما لا يحلّ النرد والشطرنج ونحوهما، إذا اشتملت الوليمة على شيء منه فإنه لا يحلّ الإجابة إليها»([11]).

إنّ ما يمكن ملاحظته في هذا السّياق أن هذا الموقف الرافض للسماع وإن كان صارما في حكمه عاما في شموليته هو موقف موجّه بالأساس إلى السّماع الذي يكون ثمرته الفسق، واتّباع هوى النّفس وإفساد الطّبع، خاصة وأن هذا الرّفض يستمدّ شرعيته أيضا من قاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المصالح»، فإذا كان السماع عند بعضهم وسيلة أو أسلوبا لتحقيق الوجد والوصل، فإنّه فضلا عن سوء توظيفه أحيانا عند من لم يحط الإحاطة الكافية بمغازي السماع ومن ثمّة نسقط في مزالق الاستدراج والبعد عن الهيبة والوقار، بل وعن الأهداف المقرّرة، والآداب اللاّزمة لحصول الذوق والحال.

أمّا المؤيّدون للسماع فإنهم يستندون بدورهم إلى جملة من الشواهد النصيّة تأييدا للموقف الذي ارتأوه وتفنيدا للطرح المعارض فذهبوا مثلا إلى أن في قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)([12]) استنكارا لهذا الاحتجاج أو بالأحرى لهذا الموقف المحرّم للسّماع، بما أنّ «الأصل في الأشياء الإباحة»([13])، والسماع نمط من أنماط الزينة، ومن ثمّة فهو مشروع ومباح للبشر، وما منعه أو تحريمه إلاّ حكم متسرّع لم يترشّد بعد، وكذلك قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ)([14]) إشارة إلى الصوت الحسن، وإلى كل وصف محمود، والله عز وجل على كل شيء قدير وبإمكانه أن يزيد وأن يمنّ على عباده ما يشاء وما يريد، ولعلّ الصوت الجميل هو أحد هذه المنن وبما أنّه يلتقي مع السماع في المنطلق والمرجعية والهدف، فلا ريب أن حكم الإجازة والاستحسان سيشمله أيضا، بما أنه أي السماع ينتمي إلى دائرة المحمود والمقبول.

ومن الآيات المعتمدة في هذا السياق أيضا قوله تعالى: (إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ)([15]) فالآية لا يفهم منها رفض الأصوات جميعا، وإنّما كان التشهير والإنكار لصوت من الأصوات، ومن ثمّة، فإنه لا يحسن بنا أن نقف عند حدود معنى الاستنكار والتنديد فحسب، بل حريّ بنا قياسا على ذلك أن ندرك المغزى المطلوب وهو الدّعوة إلى اعتماد الأصوات الحسنة والجميلة لما فيها من تأثير إيجابي، واستحسان مقبول أي بمعنى آخر إلى إمكان اعتماد السّماع الحسن والإيجابي.

إن هذا الطرح الإيجابي في تقرير مسألة السّماع يتأكّد أيضا من خلال تأويل قوله تعالى: (ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ)([16]) وقوله عزّ وجلّ أيضا: (وإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا)([17])، أي أن الدعوة صريحة إلى إيلاء الاهتمام بمسألة الاستماع للقرآن الكريم والتأمّل في معانيه السامية، وفي هذه الدعوة العامة دعوة ضمنيّة أيضا إلى الاهتمام بالسماع بوصفه أداة أساسية لحصول الإدراك والوعي وتحقّق المغازي المرسومة له بدءا.

واستند المجوّزون أيضا إلى جملة من التأويلات والتفاسير التي استخلصوها من بعض الأحاديث المرويّة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم من ذلك مثلا: أن أبا بكر دخل على عائشة وعندها جاريتان في أيّام (منى) تضربان على الدفّ، والنبيّ (صلى الله عليه وسلم) (صلى الله عليه وسلم) متغشّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عن وجهه وقال «دعهما يا أبا بكر فإنّهما في أيّام عيد»([18])، فالإقرار إذن بحسب هذا الحديث هو إقرار نبوي صريح وواضح على تجويز ضرب الدفّ، وعلى إمكان اعتماد هذا الشكل من أشكال السّماع، ولعلّ هذا يتجلّى بصورة أكبر في حكاية عائشة التي أنكحت ذات قرابة لها من الأنصار «فجاء رسول الله، فقال «أهديتم الفتاة» قالوا: «نعم» قال «أرسلتم معها من يغنّي» قالت: «لا»، فقال رسول الله «إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيّانا وحيّاكم»([19]).

وكذلك من تفضيل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) تذوّق القرآن بالسماع، وهذا يظهر من خلال حديث عبد الله بن مسعود الذي يقول: «قال لي النبيّ (صلى الله عليه وسلم) » اقرأ عليّ، قلت: «يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل»، قال: «نعم»، فقرأت سورة النساء حتّى أتيت على هذه الآية (فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)([20])، قال: «حسبك الآن»، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان»([21]) ومن خلال دعوته عليه الصلاة والسّلام أيضا: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»([22])، وقوله أيضا: «أعطي أبو موسى رضي الله عنه مزمارا من مزامير آل داود»([23]) وفي حديثه أيضا: «الله عزّ وجلّ أشد أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته»([24]).

إن ما يمكن ملاحظته إذن أنه في جلّ هذه الأحاديث ترغيب بشكل أو بآخر في اعتماد الصوت الجميل لأن النفوس تميل بطبعها إلى السّماع، وإلى الترنّم، ثم لأن للترنّم أثرا حسنا في ترقيق القلوب، وتنمية الأذواق، وللتطريب انعكاسا إيجابيّا أيضا في تذوّق معاني الكلمات وفي الوقوف على مغازيها وأبعادها.

هذا ويستدلّ المؤيّدون للسماع على موقفهم أيضا بتجويز النبيّ (صلى الله عليه وسلم) للشعر، وهو أساس الموسيقى، والمحور الذي تحوم حوله الألحان، فهو لم يستنكر استقبال الأنصار له بالدفوف وإنشاد أبيات شعريّة مطلعها: «طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع»، وكان يستمع مثلا لشعر حسّان بن ثابت، وعبّر عن إعجابه بقول لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»، فقال عليه الصلاة والسلام: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم»([25]).

أي أن موقف النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن سلبيا تجاه الشعر المتّزن الذي يفيد الحكم والمواعظ والاعتبار، إذ أن ذلك الكلام حسنه حسن، أما الشعر الذي يعكس الذمّ والغيبة والفحش والبهتان فهو كلام قبيح ومستشنع ومذموم، وعلى هذا الأساس فإن السّماع الذي يعتمد الشّعر الهادف هو مقبول ومحمود ما لم يحد عن صراطه القويم، وهدف تغذيته الرّوح وصقل الأذواق. ولعلّ هذا ما انتهى إليه الحنفية قائلين: «التغنّي المحرّم ما كان مشتملا على ألفاظ لا تحلّ كوصف الغلمان والمرأة المعينة([26]) التي على قيد الحياة ووصف الخمر المهيّج لها، ووصف الحانات، وهجاء المسلم أو الذمّي إذا كان غرض المتكلّم الهجاء، أمّا إذا كان غرضه الاستشهاد أو معرفة ما فيه من الفصاحة والبلاغة، فإنه ليس بحرام، وكذا إذا اشتمل على وصف الزهريّات المتضمّنة وصف الرياحين والأزهار أو اشتمل على وصف المياه والجبال والسّحاب، ونحو ذلك فإنّه لا وجه لمنعه»([27]).

وكذلك المالكية حينما صرحوا أن «آلات اللهو المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه خاصة كالدفّ» «الطبل» والغربال «الطار» إذا لم تكن فيه صلاصل والزمارة والبوقا إذا لم يترتب عليها لهو كثير ويباح ذلك للرجال والنساء، وقال بعضهم إنّه يباح بالوليمة خاصّة، وبعضهم يقول إنّه يجوز ذلك في العرس وعند العقد وفي كلّ سرور حادث فلا يختصّ بوليمة النكاح أمّا الغناء، فإن الذي يجوز منه هو الرّجز الذي يشبه ما جاء في غناء جواري الأنصار: «أتيناكم أتيناكم، فحيّونا نحيّيكم ولولا الحبّة السّمراء لم نحلل بواديكم([28]).

إن ما يمكن إذن الخلوص إليه في هذا المستوى أن المواقف المتخذة تجاه السّماع سواء أكانت بالرفض أو التأييد هي مواقف تهتمّ أساسا بما ينجم عن السّماع وبالسّياق الذي يوجد فيه فضلا عن الهدف الذي يوظّف إليه، فإذا كان المرام محمودا كانت المواقف أميل إلى الإباحة والتجويز، أمّا إذا كان الأمر عكس ذلك والسياقات مشبوهة الأهداف، فإن المواقف الاجتهادية تتمسّك حينها بشواهد التحريم ونصوص الرّدع والمنع.

شرعية السّماع في منظور جلال الدين الرومي:

إن الإشكال الذي يطرح في هذا السياق هو كيف تجاوز جلال الدين الرّومي هذه المراوحة في المواقف، وخاصّة تلك النصوص الناهية التي قد تقوّض صرح السّماع لديه هل كان ذلك بتجاهلها أم بترجيح كفّة المجوّزين واعتبار أدلّتهم هي الأقرب إلى الصّواب إنّه لجدير بالذكر أن جلال الدين الرّومي لم يتعرّض إلى مسألة شرعيّة السّماع بالشرح والتحليل على اعتبار أن القضية محسومة لديه، بما أن نصوص التأييد المعتمدة لدى الفريق المجوّز طافحة بالأدلّة الضافية، وكفيلة أيضا بردّ أو تفنيد الآراء المخالفة هذا فضلا عن أن القدامى وخصوصا كبار الصوفيّة أمثال: (الجنيد ت 289ه وابراهيم بن أدهم ت 161ه والقشيري ت 465ه والهجويري وأبو سعيد أبو الخير ت 440ه وشمس تبريز ونجم الدين كبري) قد خاضوا في الموضوع، وانتصروا إلى الفريق المجوّز([29])، ومن ثمّة فإن إعادة طرح القضية يعتبر رميا في عماية، والأولى هو تجاوز الحديث عن الشرعية ومسألة الجواز والتحريم إلى الحديث عن السّماع فلسفة وتطبيقا، علما وأننا نعثر في ثنايا كتابات جلال الدين على جملة من الإشارات والتلميحات التي تروم دعم شرعية السماع وإثبات أهميّته وجدواه وذلك بواسطة التنويه بأسلوب السماع، وبمدى تأثيره الإيجابي في تحقيق النشوة الروحية، وبواسطة التمييز أيضا بينه (بوصفه سماعا للقلوب)، وبين سماع اللّهو والمجون الذي لا يمتّ إلى مغازي الصوفيّة بصلة.

تقول إيفادي فيتراي ميروفيتش في هذا السياق :«ولم تمض حفلات السّماع دون إثارة جدل، وفي مقدورنا أن نجد صداه في تواريخ الأحداث التي تروي اعترافات العناصر المتمسّكة بظاهر الشرع في قونية على مولانا، والإسلام المنطلق من ظاهر الشرع لا يجيز الاستماع إلى الموسيقى سبيلا للحصول على النشوة الروحيّة ويحرّم القرآن الصلاة أثناء السّكر، وفي مقدور الرّوح أن يظفر بالسّكر من خلال الإيقاع والرّقص على غرار ما يحصل عليه بالخمر، أو على نحو أكثر دقّة من حالته الروحيّة، وقد حذّر الصوفية الكبار دائما مريديهم من التصوّف الزائف الذي يتمثّل هدفه في مراوغة الذّات، ولا أحد أدان هذا على نحو أكثر صرامة مثل جلال الدين الرّومي الذي أبغض أي فجور روحيّ بقسوة مساوية لبغض القديس يوحنا للصليب، ولا ينبغي أن يغفل دعوته القوية إلى أن لا يكون الإنسان متيّما بالحب بل بالمحبوب»([30]).

لقد كان جلال الدين الرّومي إذن رافضا لسوء توظيف السماع الذي قد يخرج به عن آدابه المحدودة وغاياته المضبوطة مؤيّدا لنمطه الهادف، المحقق للنشوة الروحيّة المرجوّة، ولعلّ هذا ما دفعه إلى أن ينظر إلى الرافضين بإطلاق نظرة إشفاق وقصر إدراك، إذ تحدّثنا الأستاذة أنّيماري شيمل قائلة: «في يوم من الأيام – هكذا تروي الحكاية – اعترض رجل على اهتمام الرّومي بالموسيقى، وهو اهتمام لم يكن على الحقيقة مقبولا حسب معايير الشريعة المباركة، لكن شيخنا جلال الدين أجاب: «صوت الرّباب هو صرير باب الجنّة الذي نسمعه» قال المنكر: «نحن أيضا نسمع الصوت نفسه لكنّنا لا ننفعل مثل مولانا» قال: «حضرة مولانا… ما نسمعه نحن هو صوت فتح باب الجنة وما يسمعه هو صوت الإغلاق»([31]).

على هذا الأساس إذن يمكن أن نخلص إلى أن نظرة جلال الدين الرّومي للسّماع تختلف عن نظرة عامة الناس له، إذ المقصد الصوفي منه هو سماع المعنى لا الصوت، والحرص على بلوغ النشوة الروحيّة، بلوغا يجعل القلب مطهّرا ومجلوّا، ومحلاّ لواردات الحق والكشف، بينما سماع العامة أو سماع الأصوات هو إثارة لطبع الفساد، ومتابعة للنفس، حيث تكون ثمرة ذلك: السّكر والمجون، ولعلّ هذا يتجلّى بوضوح في فلسفته للسماع، وفي أبرز الإيحاءات والتصوّرات التي ضمّنها إياه.

فلسفة الحب من دواعي السّماع:

لئن كان الحبّ الصّوفي سببا في تواجد بعضهم، وإحساسا جارفا أدى ببعضهم إلى الشطح والتجديف تعبيرا عن أذواقهم وأحوالهم، وببعضهم الآخر إلى الإيماء والترميز واعتماد لغة الإشارة إدراكا منهم بعجز اللغة عن البيان والوفاء بكلّ المعنى، وببعضهم الآخر أيضا إلى الكتمان والصمت درءً لسوء الفهم وضنّا بالعلوم الكشفية على غير أهلها، فإن جلال الدين الرّومي وجد في السماع السبيل الأفضل والملجأ الأمثل لكي ينفث فيه ما في روعه من حبّ وحرقة وشوق، وكي يعبّر أيضا عن مدى العذاب والعذوبة اللّذين يتلقّاهما في رحلته الروحانية، بل ووجد فيه الطريق الأنجح لتحصيل الذوق والتواجد الصوفيين، خاصّة وأن التقاءه بشيخه «شمس تبريز» كان له الدور البارز في تدعيم وثوقه بهذا المنهج وفي مزيد التعلّق به أيضا وتفضيله على غيره، فقد قال له «ضع نفسك في السّماع، ابحث في هذه النشوة عمّا لم تجده في حياتك العاديّة، إذا كان الدين قد حرّمه، ذلك لأن الناس لهم شهوات حيوانية قد تتطوّر عند سماعه… إنّه جيّد أن يمنع هذا، ولكن بالنسبة لأولئك المنشغلين بالحب الإلهي، فإنّهم يخسرون بواسطته مدلول المادة، ولا يشعرون بشيء في ذواتهم خارج الإله»([32]).

ولعلّ اختيار جلال الدين الرّومي للسماع بوصفه أسلوبا للتّعبير عن العشق وبوصفه إطارا مناسبا لتحقّق الأذواق والمواجد يتجلّى بصورة أوضح في استهلاله «المثنوي» أعظم مؤلفاته وأشهرها بقصيدة الناي التي تختزل هي الأخرى قصّة حبّ وحنين عاليين وتذكّر في الوقت ذاته بعالم علوي كانت فيه الرّوح في إطارها السرمدي المميّز أي أن قصّة الناي هي شبيهة إلى حدّ ما بقصّة الإنسان الذي فصل عن معين وجوده الأزليّ، عن ذلك الوجود الأسنى الذي قال فيه عزّ وجلّ: (فَإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)([33])، وقال فيه أيضا: (وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)([34])، فلقد مثل الناي إذن بالنسبة لجلال الدين الرّومي الصورة المثلى للتّعبير عمّا يختلج الذات من حنين وعشق وشوق إلى أفقها السرمدي، فهو يئنّ أنين الرّوح العاشقة والنفخ فيه يذكّر بالنفخة الإلهيّة، والثقوب بالأعين المرئية إلى محبوبها، كما أنّ تكوينه المرتبط بقصب السكّر يحيل بدوره إلى كمون حلاوة الحبيب وطلاوته فيه.

إنّ الإنسان والناي في نظر جلال الدين الرّومي إذن كلاهما يئن من ألم الفراق، وكلاهما يطلب المحبوب بزفرات عشقه ونداءاته الروحيّة، وكلاهما يرقص أيضا آملا الظفر بلقاء يطفئ نار اللّهيب، وممّا جاء في قصيدة الناي في هذا السّياق:

اسمع الناي معربا عن شكاته بعد أن بات نائيا عن لذاته

قائلا في شكاته للعباد بعد صحبي ما ذقت طعم الرقاد

من جروح ترى بصدري الحزين أبعث الصوت مشبعا بالأنين

كل من فارق الدّيار اقتسارا يطلب الوصل ليله والنهارا

………….. ………………

نوحة النايل فحة من سعير لا هواء فلا تكن بالغرير

تلك نار بقلبه وهيام حين جاشت من الغرام المدام

……………… ……………

شفتي لو تحالفت مع قلبي كنت أفشي كالناي أسرار حبي([35])

إنّ نشدان الروح لعالمها السرمديّ ولمحبوبها الأبدي عبّرت عنه أيضا الفلسفة الأفلاطونية سابقا حينما أشارت إلى أن الذّات هي غريبة في هذا العالم المادي، وخليق بها أن تسعى جاهدة لتحقيق التّسامي والعودة إلى عالمها المثاليّ الأسنى.

لقد وجد جلال الدين الرّومي إذن في هذه الأمثلة والرؤى والتصوّرات التي تكابد لوعة الفراق والحب والشوق للمحبوب الرّمز المناسب والملاذ الأمين خاصة وأنّه بإمكانها أن تتقبّل تصوّراته وتستوعب ما يقول، وتحيط بكلّ المغازي بما أنّها ذاقت وعرفت وكابدت وجاهدت وأدركت شدّة الوجد وسحر المعاني والكلمات.

ضمن هذا الأفق إذن ندرك أن «فلسفة الحبّ» هي المحور الذي تحوم حوله كلّ أفكار جلال الدين الرّومي وكتاباته، بل يمكن القول إن كلّ ما كتب سواها هو شكل من أشكال التّعبير، وإيحاء يعود في أصوله إلى مرجعيّتها. إن الحبّ عند جلال الدين الرّومي هو «ذلك اللّهب الذي عندما يتأجّج يحرق كلّ شيء ولا يبقى إلاّ الله»([36])، إنّه عذاب وعذوبة في آن معا، عذاب لأن فيه تذلّلا ومكابدة وألما ودمعا وحنينا، وعذوبة لأن فيه سعادة كبرى لا تنمحي وسرورا أبديّا لا يفنى ثم لأنّ الحب «لا نهائي هو إلهي، هو أكبر من ألف قيامة، القيامة محدودة والحبّ لا محدود»([37]).

الحبّ إذن في منظور جلال الدين الرّومي هو التاج الذي يؤسّس الكيان ويسوس دولة الرّوح ومن دونه يفقد المحبّ لذّة الوجود، ومعنى الحياة جاء في هذا المعنى «عزيزي إن تاجك هو ذوقك ووجدك وتحرّقك، إذا ضاع منك الذوق (الوجد) صرت ذابلا باردامال تاجك»([38])، بل هو أيضا ذلك الغذاء الذي تتحقّق به الاستمرارية والنّبع الذي يستمدّ منه القوّة، يقول جلال الدين الرّومي في هذا السياق: «الحبيب شيء رائع لأن الحبيب يستمدّ قوّة وحياة وزيادة حتّى من خيال حبيبه، فيا للعجب، كان خيال ليلى يعطي قوّة للمجنون، وصار غذاء له، عندما يكون لخيال المعشوق المجازيّ هذه القوّة وهذا التأثير اللّذان يمكّنانه من أن يعطي قوّة لحبيبه، فلمَ تستغرب أن خيال الحبيب الحقيقي يمنحه القوّة في الحضور والغياب على السّواء؟»([39]).

على هذا الأساس إذن طفق جلال الدين الرّومي ينشد الحبّ أحيانا وينوّه بدوره الإيجابي، وبتأثيره السّاحر في النفوس، وأحيانا أخرى يصوّر ألمه ويشكو وقع الوجد وشدّة الفراق، إذ يقول مثلا في هذا السّياق:

لو هبّت الريح على طرّتك الشعثاء

لقال لك القمر من أعماق قلبه طال بقاؤك

فيا من تسدي لي النّصح لو ذاق قلبك

ما ذقت لذهلت ونسيت النصح([40])

ويقول أيضا:

في هذه اللّيلة أطلّ خيال ذلك المعشوق الرشيق

يبحث في منزل الجسد عن مقام للقلب

وعندما وجد القلب امتشق خنجره سريعا

فطعن قلبي وقلت قوّاه الله([41])

ويقول في موضع آخر أيضا:

من فطره الله على العشق

يعرف الاستماع إلى آهات العشّاق

وحيثما رأى حبّه فرّ من المكان

طار إلى مكان لا يطير نحوه طائر([42])

الحب عند الرّومي إذن هو إكسير([43]) الحياة، وهو البؤرة التي تنشدها كل آهاته وآماله ومشاعره، بل إن القلب الذي لم يذق طعمه، وطعنه، ولم يمتلئ دما من آلامه وشدّته هو قلب قاس، بمثابة الحجارة أو أشدّ قسوة إذ يقول في هذا الإطار:

الحبيب الذي تعجز الصفة عن وصف جماله

دخل البيت وقال كيف حال قلبك

جرّ ذيله وقال له القلب

ارفع ذيلك إن البيت مليء بالدم([44])

ويقول أيضا:

الماء الذي ينهل من العين

كالدم هو دم فتعال وانظر كيف ينهل

وإنه لواضح أنّ دمي لا يظفر بشيء

لأنّ القلب يشرب الدم والعين تقذف الدّمع([45])

الحبّ أيضا عند جلال الدين الرّومي هو فلسفة تحتوي كلّ التناقضات وتتجاوز كلّ البديهيات وتقوّض كلّ المعايير المعتادة إذ تصبح الحياة مماتا وفناء، والموت لقاء وحياة وتمسي الدّماء رمزا للطهارة وصدق اليقين، بل إن الأشواك قد تنبت فوق القبور معلنة أبديّة العشق واستمرارية الحبّ حتى بعد الوفاة يقول الرّومي في هذا المعنى:

في الموت حياة لأهل العدل والدّين

وفي الموت تمكين للرّوح الطاهر

وذلك الموت لقاء، لا جفاء ولا حقد

والحيّ يظل يموت وهذا ألمه([46])

ويقول أيضا:

لا يتحدّث القلب إلاّ عن ربيعك

ولا يتحدّث الرّوح إلاّ عن شقائق النعمان في رياضك

ولو نبتت شوكة فوق قبري

لطلبتك تلك الشوكة الآن([47])

الحبّ أيضا جعل جلال الدّين الرّومي يتجاوز حدود المعتاد، ويقبل كلّ المشارب والأطياف، ويقول بوحدة الحب والأديان، فقلبه العاشق أصبح قابلا كل صورة بل إن العاشق في نظره لا يكون صادقا ما لم ينفتح أفقه على كلّ الخلق بوصفهم مجلى من مجالي الحبّ، إضافة إلى ذلك فإنه في عالم الحب لا يوجد إلاّ العشاق ولا يوجد إلاّ المتيّمون، ومن ثمّة فإن الانتماء الدّيني يمسي لا معنى له، بما أن الجميع ينشدون معشوقا واحدا ويكابدون نفس الألم مع اختلاف بسيط يوحي بمدى تقدّم بعضهم عن الآخر، ينشد جلال الدين في هذا الإطار قائلا:

اعلم يقينا أن العاشق ليس مسلما

ففي مذهب العشق ليس ثمّة كفر ولا إيمان

وليس في العشق جسم وعقل وقلب وروح

وكلّ من لا يغدو كذلك ليس عاشقا([48])

ويقول أيضا:

إذا لم تخرب المدرسة والمئذنة

فلن تكتمل أحوال القلندريّ

وإذا لم يغد الإيمان كفرا والكفر إيمانا

فلن يغدو عبد الحق مسلما حقّا([49])

العشق أيضا في فلسفة الرّومي لا قيمة للعقل فيه، ولا مكان لبديهياته ومقولاته وتعليماته، إنّه تمرّد عن المعايير الموجودة، وتأسيس لعالم آخر منطلقه الحب وغايته الحبّ أيضا، إذ يقول في هذا:

جاء العقل وبدأ بنصح العشّاق

وجلس في الطريق وجعل قطع الطريق دينا له

وعندما لم يجد في رؤوسهم موضعا للنصح

قبّل الأقدام ومضى إلى شأنه([50])

الحبّ أيضا عند الرّومي يورّث الرّضا والتّسليم، والإيمان بالقضاء بما أن كلّ شيء بقدر وكلّ شيء بفعل الحبيب وبإرادته، وكلّ ما كان منه هو مقبول ومحبوب إذ يقول في هذا الصّدد:

«الناس جميعا يقولون «سندخل الكعبة»، بعضهم يقول: إن شاء الله سندخل» هؤلاء الذين يستثنون هم عشاق للحق، ذلك لأن العاشق لا يرى نفسه قادرا ومختارا، يعدّ القادر والمسؤول إنّما هو المعشوق، ومن هنا يقول: «إن شاء المعشوق فسأدخل»([51]).

والجدير بالذكر أيضا أن لهذا الحب في نظر جلال الدين أدبا خليقا بالعاشق أن يلتزم به، يتحدّث عنه قائلا: «ما دام فيك شعرة من حبّ نفسك لن يظهر لك وجهه، ولن تكون أهلا لوصله، ولن يعطيك إذنا إليه، ينبغي أن تغدو مهملا تماما لنفسك وللعالم، أن تغدو عدوّا لنفسك لكي يظهر الحبيب وجهه. وهكذا فإن ديننا في أي قلب استقرّ لا يسحب يده من ذلك القلب حتّى يأتي بذلك القلب إلى اللهّ، ويفصله عن كلّ ما هو غير لائق»([52]).

على هذا الأساس إذن يمكن القول إن جملة الأفكار والفلسفات التي صاغها جلال الدين الرّومي حول الدين والوجود تعود في أصولها إلى الحب الجارف الذي كان يكتنف روحه بوصفه الإحداثيّة الأمّ والمرجعيّة الأساس التي صاغت كلّ أفكاره وصبغتها بوشاح العشق والهيام ولا ريب أن التجاءه إلى «السّماع» وسيلة للتعبير وملاذا للنفث والترويح ليندرج ضمن هذا الأفق، على اعتبار أن الحب لديه لهيب محرقة، وفي بحر السماع ماء معين ترتوي منه الرّوح ما تريد وكيفما تشاء ويشفى بواسطته المرضى ويبعث الأموات يقول الرّومي في هذا:

قلت تعال فقد بدأ السماع

قال انصرف فقد مرضت

قلت إن كنت ميتا فستصير حيّا

لأن عيسى الزمان قد بدأ عمله([53])

ويقول أيضا:

لن تكون خاسرا في عشق الحق

أين تذهب بلا روح وأنت ستصير روحا

في البدء جئت إلى الأرض من السماء

وفي النهاية ستذهب من الأرض إلى السماء([54])

لحظة الشماع وإيحاءاتها:

إن اختيار جلال الدين الرّومي للسّماع منهجا للذوق وأسلوبا للتحقّق الروحاني مقارنة مع بقية الطرق الأخرى يعود في الواقع إلى ما يمثّله هذا المنهج بالنسبة إليه، أي إلى تلك الرؤية الفلسفيّة التي تعتبره إطارا مناسبا تسكن إليه الروح، وتجد فيه الذوق والوصل المطلوبين، وملاذا مميّزا أيضا لتجليّات الحبّ، حيث يرتوي كل العاشقين ماء زلالا يطفئ ظمأهم، ويبدّد سرابهم إلى حقيقة ومعرفة، فهو يقول في هذا الإطار معلنا هذا التوجّه «ثمّة طرق كثيرة توصل إلى اللّه» أمّا أنا فقد اخترت طريق الرقص والموسيقى»([55])، هذا الطريق إذن هو الأسلوب الأمثل والأفضل بالنسبة إليه بما أنّه يحقّق المبتغى ويؤسس لتواصل مميّز مع المحبوب فضلا عن كون المقصود يظلّ دوما واحدا وإن اختلفت الطرق وتنوّعت يقول الرّومي موضّحا هذا: «وبرغم أن الطرق مختلفة يظلّ القصد واحدا، ألا ترى أن ثمّة طرقا كثيرة إلى الكعبة فعند بعضهم الطريق من الرّوم، وعند بعضهم من الشّام وعند بعضهم من فارس، وعند بعضهم من الصّين وعند بعضهم بطريق البحر من ناحية الهند واليمن، وهكذا إذا أنت تأمّلت الطرق وجدت اختلافا عظيما ومباينة لا حدود لها، أمّا عندما تنظر إلى المقصود فإنك تجدها جميعا متفقة وواحدة، قلوب الجميع متفقة على الكعبة، للقلوب ارتباط وعشق ومحبّة عظيمة للكعبة وليس فيها مجال للاختلاف»…([56]).

إن ما يمكن ملاحظته في هذا المستوى أن جلال الدين الرّومي يدافع بشكل أو بآخر عن مشروعيّة طريقه، ويبرز أن الاختلاف وإن كان حاصلا فهو اختلاف طرق ومناهج لا اختلاف مقصد وغاية، كما أن أسباب تفضيله لهذا المنهج تتجلّى بصورة أكبر، خاصة عند تبيّن معالم رؤيته وفلسفته لهذا الطريق أي في عمليّة السماع وفي كيفيّة أدائها، بوصفها لحظة تحمل جملة من الرّموز والمعاني والإيحاءات، مع الملاحظ أن عمليّة السماع ذاتها تمّ تنظيمها فيما بعد بشكل جيّد من طرف سلطان ولد ابن جلال الدين الرّومي: وقد أصبحت بذلك قونيّة مركزا أساسيّا للسماع المولوي، هذا وقد رقص جلال الدين الرّومي في «لقائه الحاسم مع صلاح الدين زركوب صدرا إلى صدر وعانقه عناقا حميميّا في سوق الصّاغة في قونيّة، وفي أوقات أخرى دار وحيدا أو محاطا بمريديه المخلصين»([57]).

يستهلّ السماع إذن بقراءة آيات قرآنية وبالصلاة على النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم كذلك ثم «بالمقدّمة الشهيرة للمثنوي التي يكون فيها الناي رمزا لروح الصوفيّ الذي ينوح لأنّه بعيد عن عالم الرّوح»([58]).

ثمّ ينطلق السماع بدخول الدراويش الرّاقصين في باحة السماع وهم يرتدون ثيابا بيضاء توحي بأنّهم بمثابة الأموات في أكفانهم يرومون البعث في لحظة السماع، وتحيط بهم أيضا معاطف سوداء تشير إلى القبور وحلكة ظلامها وفوق رؤوسهم قبعات عالية تحيل بدورها إلى شواهد القبور وعلاماتها، أمّا الشيخ الذي يمثّل نقطة المركز، ومحور الدّائرة فإنه يدخل بعدهم، وبعد أن يلقي التحيّة، ويردّ عليه الدراويش الإيماءة يتّخذ مكانه المعتاد وسط الدائرة بوصفه رمزا لمحور الوجود ومركز الكون الذي تحوم حوله الأشياء، ثم ينطلق الدراويش في الدوران بالمكان حول محورهم في الاتجاه المعاكس لدوران عقارب السّاعة، وبعد استكمال ثلاث دورات هي رمز إلى «المراحل الثلاث التي تقرّب الإنسان من الله: طريق العلم، الطريق إلى الرؤية، الطريق المؤدّي إلى الوصال»([59])، يقف الشيخ مستويا على البساط ويتبادل التحيّة مع الدراويش، إثر ذلك يأخذ الرّاقصون في التخلّص من المعاطف السّوداء، وفي ذاك إشارة إلى التحرّر من المادّة ومن علائق الدّنيا وشواغلها لكي يولدوا ثانية في عالم السّماع والرّوح ويستأنف الدوران والطّواف من جديد مصحوبا دوما بألحان الناي والدفوف والرباب والموسيقى([60]) كي تصبغ على المكان والأذواق رونقا من السّحر والعذوبة والجمال، ولكن هذه المرّة يكون الدوران بأيد مبسوطة كالأجنحة، فاليد اليمنى تدار راحتها إلى السماء بشكل يوحي أنّها محلّ تقبّل الإلهامات والمعارف والرحمة الإلهيّة، أمّا راحة اليد اليسرى، فهي توجّه إلى الأسفل ولكي تنقل إلى العالم الأرضي ما تلقته من عالم السماء، وما أكرمت به من منن وعطاءات، بعد أن تمرّ تلك المنن والعطاءات بالطبع بمجال القلب حيث تضيء جنبات أفقه بأريج عطرها، ويضفي عليها هو أيضا من دفء محبّته وشوقه، وبهذا يكون هذا المرور أو التحويل للعطاءات الإلهية، أوّل سرّ للسماع، ويمسي الدرويش الراقص رمزا لالتقاء السماوي بالأرضي والروحاني بالمادي، والكوني بالكائن.

وأمّا الملابس البيضاء وخاصّة (أردية الرقص البيض – التنّورة –) والتي ترمز أيضا إضافة إلى الأكفان، إلى التطهّر وإلى الجسد الروحاني بعد التخلّص من الجسد الأرضي (المعاطف السوداء)، فإنّها «تظلّ» مفتوحة تماما كما لو أن فراشات بيضا كانت تدور حول اللّهب»([61])، وذلك للتأكيد على أهميّة الدوران بوصفه فعلا تجرّدي التحصيل التسامي والتحرّر الرّوحانيين وبوصفه «معراجا للذات الإنسانية نحو خالقها»([62])، ولعلّ الدوران الذي يؤدّيه الراقصون حول الباحة وحول الشيخ في آن معا، يمثل خير محاكاة للقانون الكوسمولوجي الذي يحكم الكون حيث تدور الكواكب حول نفسها وحول الشمس معلنة بذلك ارتباط أو تعلّق الجميع بمحور المحبوب والمنشود.

مع العلم أن الشيخ رمز النقطة والمحور يدخل أحيانا في الدوران، خاصة «عندما تتضاعف سرعة الإيقاع ويغدو سريعا جدّا، يدور الشيخ نحو مركز الدائرة وهو يمثّل الشمس وشعاعها، وعندما يدخل الرقص يبدأ الناي ثانية، هذه الحركة هي الحركة الأسمى للوصال المحقّق، وعندما يعود الشيخ إلى موضعه ينتهي السماع ثم يتلو المنشد القرآن، ذلك أن كلمات الله تجيب الدّراويش، بعدئذ تحدث التحيّات الأخيرة ويذكر اسم الله «هو»، فإليه وحده يرفع هذا الهيام»([63]).

إن ما يمكن ملاحظته في هذا السّياق أن السّماع المولوي بنوعيه الاثنين (الموسيقى والرقص) هو أيضا محاولة لتحرير الجسد من علائق المادة والانفتاح على أفق الروحانيات حيث المنن والعطاءات السامية، وهو أيضا محاولة لمحاكاة الكون في حركيّته وبيان لارتباط الجميع بالمبدأ والمركز، فالدوران مثلا هو نسج على منوال ما تقوم به الكواكب والأجرام السماويّة في الفضاء، وهو أيضا عبارة عن تمدّد لنقطة المركز للتأكيد على الانتماء والارتباط الوثيق الذي يجمع الإنسان بمبدئه، فهو لا يستطيع أن يغادر نقطة المبدأ، وما دورانه حولها إلاّ دليل على ذلك ونمط من أنماط التمظهر والتجلّي، بل يمكن القول إنّه محاولة لتمثّل المبدأ، واستكناه الأسرار والمعرفة من خلاله، ولعلّ الطواف حول الكعبة أيضا هو صورة أخرى تعكس هذا الأمر وتؤكّده.

أمّا الموسيقى المصاحبة فهي إشارة إلى تناغم الحركات، وانسجام الأفعال فالراقص يدور حول نفسه، وحول نقطة المركز في اتساق مطّرد وفي ذاك دلالة على تناغم الأكوان وانسجامها فيما بينها في إشارة واضحة إلى النظام المقدّر والمسطّر بدقّة وإحكام عاليين، قال عزّ وجلّ: «إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»([64])، وقال أيضا: «وهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ والشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»([65])، إن هذه الفلسفة هي التي حفّزت جلال الدين الرّومي في الواقع إلى اختيار السّماع منهجا للتواجد والتذوّق، ومن لم يذق لم يعرف، وهي التي دفعته أيضا إلى الإشادة بهذا الطريق ودعوة العشاق بالخصوص إلى تذوّق طعمه وتنسّم أريج عطره، فنجده في الرباعيات مثلا يقول:

ضع قدمك فإن هذا ماء الحياة

ودر مثل الفلك ما دام قمرك يدور

لك روح دائر حول الحضرة

وهذا الرّوح دائر من دوران ذلك الرّوح([66])

ويقول في موضع آخر:

ليس عاشقا من لا يكون خفيفا مثل الرّوح

ولا يكون دائرا حول القمر كالنجم ليلا

استمع إليّ فهذا القول ليس ببهتان

ذلك أن تراقص العلم غير ممكن من دون الريح([67])

ويقول أيضا:

اليوم يوم السّماع والسّماع والسّماع

اليوم يوم النّور والشعاع والشعاع والشعاع

وهذا العشق مشاع ومشاع ومشاع

هو وداع للعقل ووداع ووداع([68])

أمّا في كتاب «فيه ما فيه» وفي فصل «عبير المعشوق» فإنّه يقول: «عندما يسمع أي إنسان هذه الكلمات التي هي وصف للحق وذكر له يحصل له اضطراب وشوق وذوق لأنّه من هذه الكلمات يأتي عبير معشوقه ومطلوبه»([69])، أي أن السّماع بهذا المنظار هو انعكاس طبيعي لما يخلّفه عبير المعشوق في النفس ومن ثمّة فإن اعتماده وإن بدا ظاهريا بشكل اختياري وتلقائي، فإنّه في حقيقة الأمر يتمّ اللجوء إليه بشكل اضطراري بما أن الذات التي تتنسّم أريج عطر محبوبها لا تتمالك أن تهتزّ وتتمايل وتضطرب «وهكذا يغدو معلوما أنّه لا بد من الارتعاش والعشق في طلب الحقّ، ومن ليس لديه رعشة العشق فعليه أن يخدم من لديهم هذه الرعشة، أمّا رؤوس الفروع فترتعش لكن جذع الشجرة يقوّي رؤوس الأفرع، وبواسطة الثمار يأمن ضربات الفأس»([70]).

إن الاهتزاز والارتعاش والرقص والتمايل إذن هي من صفات العاشقين المتيّمين بمحبوبهم إذ كلّما بدا منه باد أو تجلّى منه مجلى إلاّ وكانت تلك الصفات علامة أساسية من علامات المحبين، علما وأن هذه الانعكاسات قد تكون في درجة من الدرجات داخليا وحركات الوجد باطنية في الأعماق، ولعلّه من هذا الباب نفسّر حديث الصوفية عن النار الداخلية والحرقة والدماء، وحديثهم أيضا عن سريان الحبّ في كلّ الكون لذلك، فإن الأفلاك والأجرام كلّها تدور وتجري وترقص طربا بعطر مجبوبها وحتّى الجبال الراسيات التي نحسبها جامدة فإنها تمرّ مرّ السحاب، بل إنّها تترنّح وترقص وتدكّ إذا ما تجلّى الحبيب لها، قال الله عزّ وجلّ: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًا وخَرَّ مُوسَى صَعِقًا»([71]).

بناء على ما تقدّم إذن يبدو السّماع حركة كونيّة تشمل كل الوجود، وجد فيها جلال الدين الرّومي صدى كبيرا لما يختلج بذاته من حبّ ووجد، ومنهجا مميّزا لتحقّق الوحدة مع المحبوب، بل وسبيلا مفضلا لتحصيل النشوة للجسد والروح معا مع العلم أن هذا السّبيل ليس مقصودا في حدّ ذاته، فكلّ شيء أداة ولا بدّ أن يترك بعد الوصول، وإذا وقف المرء عند الأداء (السماع) فلن يصل إلى المقصود بل ولن يحمل لأي شيء معرفة ولن يتمّ الوصل، أمّا إذا أدرك الغاية الحقيقية وسعى إليها، فإنّه سيحصل على المطلوب ويحمل لكل شيء معرفة يقول الرّومي في كتابه المثنوي مشيرا إلى هذا المعنى: «إن الحق وهبني عمرا وليس سواه يعرف قيمة اليوم الواحد منه، ولقد أنفقت عمري لحظة لحظة ونفخته كلّه في النغم الخفيض والعالي، آها فإني لإمعاني الفكر بموسيقى العراق وأنغامه لم تخطر ببالي لحظة الفراق المرّ وآها فإنّ طراوة مقام «زيرا فكند»([72]) الصّغير قد أذبلت زرع قلبي، فمات القلب، وآها فإني لانشغالي بالأصوات الأربعة والعشرين تركتني القافلة وانقضى النهار»([73]).

ضمن هذا الأفق إذن خليق بالمعتمد للسماع أو «للسمائي» الذي يروم وصل السماء بالأرض في حركاته واهتزازاته أن ينظر أو أن يهتم بالمعطي ولا يغفل عنه بعطاءاته ومننه، لأنه إن وقف هناك كما سبق الذكر انشغل بها عن محبوبه وغاب القصد في ظلّها، ولعلّ هذا ما نبّه إليه جلال الدين من خلال عرضه لقصّة الثعلب حينما استمع لصوت الطبل المرتفع فاجتهد في البلوغ إليه ولكن عندما وصل إليه وقطّعه عساه يظفر بمراده، لم يظفر بالمطلوب وأدرك أنّه ضيّع الهدف والمقصود، ولذلك يقول الرّومي: «أمّا بصراء الأعين بنور المعرفة، ومكتحلو الحضرة فإنهم في غابة الثعلب هذه لا يلتفتون إلى صوت الطّبل، بل يطلبون اصطياد الصّيد الباقي»([74]).

بهذا المنظار إذن ندرك أن السّماع الذي تميّز به جلال الدين والمولويّون عموما وإن كان انعكاسا لوجد جارف ألمّ بالرّوح، ومحاكاة لحركة كونية شاملة يهزّها الحبّ بدورها وانعتاقا من سلطة الجسد والمادّة، فإنّه يظلّ في النهاية سبيلا إلى مقصد أسنى وهدف أرقى، ومحاولة للانقطاع عن النفس وسعيا للتجرّد الروحاني وإن لم يكن كذلك فإنّه سيمسي هراء وانشغالا عن المطلوب إذا لم يحقّق المرام، يقول الرّومي في هذا السّياق:

يا خضرة كل شجر وبستان وعشب

يا سعادتي وإقبالي يا عظمتي وجلالي

يا من الخلوة والسماع والإخلاص والرّياء

هذه جميعا من دون حضرتك هراء فتعال([75])

ويقول أيضا في مقام آخر:

يداك اثنتان وقدماك اثنتان وعيناك اثنتان هذا جائز ولائق

أمّا أن يكون في القلب معشوقان فهذا خطأ وغير لائق

وما المعشوقة إلاّ ذريعة والمعشوق على الحقيقة هو الله

وكلّ من ظنّهما اثنين يهوديّ ونصرانيّ([76])

إنّه بهذه المعاني حقيقة أراد الرّومي أن يؤسس منهج الاعتماد على السّماع لكي لا يظلّ المرء في مستوى السّماع، بل خليق به أن ينزّه السّماع بداية عن المقاصد التي قد تشوّه صورته الناصعة وذلك باعتماد جملة من الآداب والضّوابط والتعليمات أسهب الصوفية في بيانها([77])، وفي مرحلة ثانية وبعد تأدية السماع المطلوب وتحرير الإحساس من أفقه المادّي حريّ به أن يتحرّر هو من السّماع، فكلّ شيء رغم قيمته لا بدّ أن يترك ويطرح كليّا ويظلّ المقصود واحدا، لأنّه لا يمكن أن يكون في القلب معشوقان، ولا يمكن أن تكون الأداة هدفا، وإلاّ أمست حجابا مانعا، بدلا عن كونها أسلوبا هادفا.

إنّه لجدير بالذكر أيضا في هذا المستوى أن هذه المقاصد التي عمل الرّومي على ترسيخها في لحظات السماع بقيت حاضرة أيضا في الطريقة المولوية عموما، وقد عمل سلطان ولد على جعل عمليّة السماع مصطبغة بخاصيّة احتفالية، منظّمة، بعد أن كان الاهتمام مركزا في السابق على الخصائص الطبيعيّة والداخليّة للسماع، علما أيضا وأنّه توجد اليوم مجموعتان أساسيتان للدراويش الراقصين، واحدة في قونيّة والثانية في إسطنبول وهما يقومان بتنظيم حفلات سماع في أواخر سبتمبر من كلّ سنة([78]) تخليدا لذكرى جلال الدين الرّومي وللمنهج الروحاني المميّز الذي اتّخذه سبيلا مفضّلا للتواجد ولتحقيق الوصل مع المحبوب، ومشاركة للكون في حركيته ودورانه ونشدانه المطلوب وذلك في حياته وكذلك أوصى به بعد مماته إذ قال في هذا الصّدد: «حين تقبل زائرا لقبري ستجد ضريحي المسقوف يرقص فلا تأتينّ يا أخي دونما دفّ إلى قبري، فليس هناك من مكان للحزين في الوليمة»([79]).

ملاحظات ونتائج:

• لئن مثّلت بعض الأطروحات الفقهيّة المندّدة بمنهج السماع تهديدا واضحا يقوّض البناء برمّته، فكرا وممارسة، فإن الفلسفة التي كان يحملها جلال الدين الرّومي لهذا المنهج التربوي الروحاني حاول أن يتجاوز بها تلك العقبة ويؤسس مشروعيّة قيّمة تحقّق الحسنيين التأسيس الثابت وتحصيل الأهداف المحدّدة.

• إن اعتبار جلال الدين الرّومي للسماع مجرّد أداة لتحقيق وصل أسمى، خليق بالمحبّ أن يتحرّر منها إذا ما أمست عقبة كأداء في طريق السالك وحجابا يمنع عنه لذّة الوصل، وتلقّي الأسرار والمعرفة، هو أمر هامّ أيضا أن يزيح الحجب عمّا قد يعلق بهذا الأمر من شوائب وشبهات.

• وجد جلال الدين الرّومي في السماع الملاذ الأمثل للوجد والتواجد وللإحساس بالارتفاع والمعراج الروحانيين، بل ووجد فيه أيضا الغذاء المميّز لإطفاء لهيب الحب الذي كانت تحوم حوله كلّ كتاباته وإشاراته.

• تمثّل عملية السماع عند جلال الدين الرّومي محاكاة لحركة كونية شاملة سواء أكان ما في الكون ذرّات صغيرة أو أجراما سماويّة كبيرة، إذ جميعها يحوم حول المركز بقوّة جذب متّحدة تعكس تعلّق الفرع بالأصل، والروح بالمبدأ والجسدي بعالم المثل وكذلك المخلوقات بالخالق.

• إن لحظة السماع عند جلال الدين الرّومي لا تقتصر على المجال الخارجي للجسد فحسب بل يصاحبها سماع داخلي أيضا، في نغم وانسجام عاليين، معلنة بذلك الاغتراب عن عالم المادّة والفناء أو الانبعاث في عالم الوجد والحب الإلهيّين ومن ثمّة فإنّه لا مشروعيّة للاتهّامات التي تروم، صبغ السماع المولوي بالتلذّذ الماديّ والتجاوز الوقتي.

• لفهم السماع عند جلال الدين الرّومي خليق بنا أن نحيط بالاعتبارات المنهجيّة التي حتّمت اعتماده له وبالأهداف التي حدّدها له بداية، هذا فضلا على جملة الإيحاءات والرموز المضمّنة في كلّ حيثياته ومراحله، وحري بنا أيضا أن نضع في اعتبارنا أن المسألة تحيط بها جملة من الآداب والتعليمات التي تربو بها وتنزّهها عن كل تصوّر مادّي قد يحط من قيمتها أو عن كل مثلبة جارحة قد تزرع الريب في أهدافها.

• إن بلوغ الطريقة المولوية الشأو الكبير في الشرق والغرب يعود إلى عدة عوامل، ولا ريب أن السّماع يمثل أحد أبرز تلك العوامل سواء أكان ذلك تأثّرا به بوصفه منهاجا مميّزا لتحصيل الوجد والذوق الروحانيين أو تعلّقا به من أجل التعرّف على خصائصه وكيفيّته وكذلك على موقف الشّرع منه. وعلى هذا الأساس فإن البحث فيه والإلمام بأبرز حيثياته يظلّ دوما أمرا محبّذا ومطلوبا خاصة وأن القضايا المنبجسة تباعا عند تناوله مثل (مدى تأثير السّماع في المناهج الطرقية الأخرى وفي التعريف بالطريقة المولوية بالأساس لتمثّل خير دليل على ذلك، وخير محفّز جذّاب أيضا إلى أفق السّماع المولوي).

________________________________________

الهوامش

[1] القولة لعبد الرحمان جامي، نقلا عن الدكتور عيسى علي العاكوب، في تقديمه لكتاب «فيه ما فيه»، لجلال الدين الرومي، دار الفكر ، دمشق، الطبعة الأولى ،صفر 1423ه، أيار (مايو) 2002 م، ص 23.

[2] الرّومي (جلال الدين)، «المثنوي»، ترجمة وشرح ودراسة الدكتور محمد عبدالسلام كفافي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت 1966، ج1، ص 70.

[3] لقمان 6 – 7.

[4] انظر في هذا مثلا تفسير القرطبي، دار الكتب العلمية، ج 14، ص 50 وما بعدها.

[5] الشعراء 224 – 226.

[6] الإسراء 64.

[7] الترمذي، « السّنن»، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المغنيات، رقم 51، حديث رقم 1282، مع العلم أن الترمذي علّق على الحديث قائلا: «حديث أبي أمامة إنّما نعرفه مثل هذا من هذا الوجه، وقد تكلّم بعض أهل العلم في علي بن يزيد، أحد رواة الحديث، وضعّفه وهو شاميّ».

[8] البيهقي، «كتاب الشهادات، باب الرجل يغني فيتّخذ الغناء صناعة يؤتى عليه ويأتي له ويكون منسوبا إليه مشهورا به معروفا أو المرأة»، دار الفكر، م 10، ص 223.

[9] البيهقي، «كتاب الشهادات، باب ما جاء في ذمّ الملاهي من المعازف والمزامير ونحوها»، م 10، ص 221.

[10] البيهقي، «كتاب الشهادات، باب الرجل يغني فيتّخذ الغناء، صناعة يؤتى عليه ويأتي له ويكون منسوبا عليه مشهورا».

[11] عبد الرحمان الجزيري، «الفقه على المذاهب الأربعة»، دار الدعوة، إسطنبول، 1406ه/1986م، ج 2، ص 44.

[12] الأعراف 32.

[13] راجع في هذا مثلا كتاب «مقاصد الشريعة الإسلاميّة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور»، الشركة التونسية للتوزيع، 1988، الطبعة الثالثة، ص 15 وما بعدها.

[14] فاطر 1.

[15] لقمان 19.

[16] الأنفال 21.

[17] الأعراف 204.

[18] أبو الحسين مسلم، «الصحيح»، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللّعب الذي لا معصية فيه في أيّام العيد، رقم 4، حديث رقم 17

[19] سنن ابن ماجة، «باب الغناء والدفّ»، حديث رقم 1956.

[20] النساء 41.

[21] صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، «باب قول المقرئ للقارئ حسبك»، حديث رقم 4662.

[22] سنن الدارمي، «باب التغنّي بالقرآن»، حديث رقم 3498، سنن أبي داود، باب كيف يستحبّ الترتيل في القراءة، حديث رقم: 1469.

[23] جلال السيوطي، «جامع المسانيد والمراسيل»، دار الفكر، 1994، ج 17، ص.348

[24] مسند أحمد بن حنبل، دار إحياء التراث العربي، ج 7، ص 34، سنن البيهقي، دار الفكر، ج 15، ص 343.

[25] «صحيح البخاري»، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرّجز والحداء وما يكره منه»، حديث رقم 5681.

[26] المرأة المعينة: والعيناء: الخضراء، والقربة المتهيّئة للخرق والنافذة من القوافي، انظر مادة: «عين»: في القاموس المحيط للفيروز آبادي.

[27] الجزيري، «الفقه على المذاهب الأربعة»، ج 2، ص 43.

[28] المرجع نفسه، ج 2، ص 44.

[29] راجع في هذا مثلا، «الرسالة القشيرية في علم التصوّف»، لعبد الكريم القشيري، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية، 1410/1990 م، ص 335، وما بعدها وكتاب عوارف المعارف للسهر وردي، بالجزء الخامس من كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1409ه/ 1989م، ص 143 وما بعدها.

[30] ميروفتش – إيفادي فيتراي: جلال الدين الرّومي والتصوّف، ترجمة الدكتور عيسى علي العاكوب، مؤسسة الطباعة والنشر، التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، الطبعة الأولى، 1379ه/ 1421م، ص 74.

[31] شيمل (أنّيماري)، «الشمس المنتصرة»، دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي، ترجمة عيسى علي العاكوب، مؤسسة الطباعة والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، الطبعة الأولى، 1379ه/ 1421م، ص 357.

[32] Michel Random, «Mawlana Djalâl-ud-din Rûmi, le soufisme et la danse», introduction de Titus Burekhardt, postface de Maurice Bejart, Copyright sud-Editions, Tunis, 1980, p. 172.

أنظر أيضا: «جلال الدّين الرّومي بين الصوفية وعلماء الكلام لعناية الله إبلاغ الأفغاني»، الدار المصرية اللبنانيّة، الطبعة الأولى، 1407ه/1987م، ص 73 وما بعدها.

[33] الحجر 29

[34] الأعراف 172.

[35] الرّومي (جلال الدين)، «روائع من الشعر الفارسي»، ترجمة محمد الفراتي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مديرية التأليف والترجمة، دمشق 1383ه/ 1963م، ص 3-7 (بتصرّف)، انظر أيضا، المثنوي لجلال الدين الرومي.

[36] الرّومي (جلال الدين)، نقلا عن إيفادي فيتراي – ميروفتش، «جلال الدين الرّومي والتصوّف»، ص 138

[37] Shimmel Annemarie, «L’incendie de l’âme, l’aventure spirituelle de rûmi », édi-tions Albin Michel 1998, Paris, p. 210.

[38] الرّومي (جلال الدين)، «المجالس السّبعة»، دار الفكر، سوريا، الطبعة الأولى، ربيع الثاني، 1425ه/ حزيران يونيو 2004م، ص 25.

[39] الرّومي (جلال الدين)، «فيه ما فيه»، ترجمة عيسى علي العاكوب، دار الفكر بدمشق، الطبعة الأولى، صفر 1423ه/ أيار (مايو) 2002م، ص 179-180، راجع أيضا: المثنوي لجلال الدين الرومي، ج1، ص 360، وما بعدها.

[40] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، ترجمة عيسى علي العاكوب، دار الفكر، سوريا، الطبعة الأولى، جمادى الآخرة، 1425ه، آب أغسطس، 2004م، رباعيّة رقم 124، ص 52.

[41] نفسه، «رباعية رقم 179»، ص 65.

[42] المصدر نفسه، «رباعية رقم 828»، ص 233.

[43] الأكسير، هو الكيمياء، انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي، فصل الكاف.

[44] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، رباعية رقم 305، ص 97، راجع أيضا كتاب «المجالس السّبعة»، لجلال الدين الرومي، دار الفكر سوريا، ط1، ربيع الثاني، 1425ه، حزيران، يونيو، 2004م، ص 16 وما بعدها.

[45] المصدر نفسه، «رباعيّة»، رقم 558، ص 160.

[46] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، رباعية رقم 313، ص 99.

[47] نفسه، «رباعيّة»، رقم 712، ص 199.

[48] المصدر نفسه، «رباعيّة»، رقم 768، ص 213.

[49] نفسه، «رباعيّة»، رقم 804، ص 222.

[50] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، رباعية رقم 413، ص 124.

[51] الرّومي (جلال الدين)، «فيه ما فيه»، ص 155.

[52] نفسه، ص 174.

[53] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، رباعية رقم 191، ص 68.

[54] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، رباعية رقم 622، ص 176.

[55] نقلا عن إيفادي-فيتراي-ميروفيتش، «جلال الدين الرّومي والتصوّف»، ص 61.

[56] الرّومي (جلال الدين)، «فيه ما فيه»، ص 153.

[57] شيمل (أنّيماري)، «الشمس المنتصرة»، دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي، ص368، انظر أيضا:

Mortazavi: Soufisme et psychologie, p. 127 et suivantes.

[58] ميروفيتش (إيفادي فيتراي)، «جلال الدين الرّومي والتصوّف»، ص 66.

[59] ميروفيتش (إيفادي فيتراي)، المرجع السابق، ص 62، انظر: أيضا M Mortazavi: Soufisme et psychologie, p. 127 et suivant.

[60] راجع في هذا: أنيماري شيمل، «الشمس المنتصرة»، دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي، ص 357، وما بعدها.

[61] شميل (أنيماري)، «الشمس المنتصرة»، دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي، ص 369.

[62] Diana SteigerWald, «Folia orientalia », vol 35, 1999, p. 154.

[63] ميروفتش (إيفادي فيتراي)، «جلال الدين الرّومي والتصوّف»، ص 65.

[64] القمر 49.

[65] الأنبياء 33.

[66] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيّات»، رباعية رقم 284، ص 92.

[67] المصدر نفسه، رباعية رقم 379، ص 115

[68] المصدر نفسه، رباعية رقم 1046،ص، 282283

[69] الرّومي (جلال الدين)، «فيه ما فيه»، ص 152.

[70] المصدر نفسه، ص 311.

[71] الأعراف 143.

[72] زيرا فكندا، اسم لأحد الأنغام الموسيقية ومعناه النغمة الخفيضة أو نغمة القرار

[73] الرّومي (جلال الدين)، «المثنوي»، ج1، ص 279.

[74] الرّومي (جلال الدين)، المجالس السبعة، ص: 78.

[75] الرّومي (جلال الدين)، «الرباعيات»، رباعية رقم 67، ص 37.

[76] المصدر نفسه، رباعية رقم 166، ص 62.

[77] راجع في هذا مثلا: «كشف المحجوب للهجوبري»، دراسة وترجمة إسعاد عبدالهادي قنديل، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت سنة 1980، ص 667 وما بعدها، واللّمع في تاريخ التصوّف الإسلامي لأبي نصر السّراج الطوسي، ضبط وتصحيح كامل مصطفى الهنداوي، دار الكتب العلميّة، بيروت، الطبعة الأولى 1421ه/2001م، ص 237 وما بعدها.

[78] راجع في هذا:

Diane Steigerwald: Folia Orientalia,vol 35, 1999, p. 148 et suivant

[79] نقلا عن أنّيماري شيمل في مجلة «فكر وفنّ»، عدد سنة 1973، ص 22.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!