(الملثم البدوي)
تعالوا إلى كلمة سواء في السيد أحمد البدوي
أ.د.محمد فكري الجزار
لا يزال التصوف يشغل أقواما بالحق كما يشغلهم بالباطل ، ولقد يود بعضهم لو أنه لم يوجد أصلا ، وكأن أمة يمكن أن تخلو من منجز وجداني يقاسم منجزها العقلي في الحق بالوجود ، ودون رعاية لطبيعة التكوين الإنساني المتكامل عقلا ووجدانا حيث لا فرق ، إلا إذا حدث خلل عقلي أو نفسي ، فأقام هذا الفرق في شخص بعينه . وقد عرف ذلك التكامل على المستوى الديني ، فقدم الفقهاء ما لديهم من معرفة في أمور الدين ، وقام المتصوفة بمنحه البعد الروحي على علم بالأساس المعرفي ، حتى كان الإمام الجنيد شيخ الطائفة يستفتيه فقهاء عصره في معرفتهم فيجيب . وكما ينفرد الفقيه بمذهب يخالف فيه الجميع كما كاان حال المذهب الظاهري ، ينفرد الصوفي بسلوك يخالف فيه الجميع . ومن شاء تابع ومن شاء لم يفعل ، سواء في هذا وذاك . هنا نضع مصطلح “الشطح” ، وقد نضع فلسفة الوجود كذلك ، في هذا الموضع من الاختلاف . لكن الحقيقة التاريخية تثبت وجود صوفية عملية ، لا فلسفية ولا شطحية ، ومن أكابر رجالها العلوي الحسيني الثابت نسبه الشريف السيد أحمد البدوي …
ولم تكن سابقة أن يخرج أحدهم من بلده حيث أهله ويتوجه إلى مصر ، وكان من بين المرتحلين إلى مصر كثير من الصوفية ، حتى إنه ليقال ليس بين كبار أولياء الله الصالحين من هو مصري المولد إلا السيد إبراهيم عبد العزيز أبو المجد الهاشمي النسب الدسوقي المولد . وكذلك رحل إلى مصر ، ليقيم بطنطا (طندتا) محافظة (مديرية) الغربية ، السيد/أحمد بن السيد/علي بن السيد/ابراهيم بن السيد/محمد بن السيد/ابوبكر بن السيد/اسماعيل بن السيد/عمر بن السيد/علي بن السيد/محمد بن السيد/الحسن بن السيد/جعفر الزكي بن السيد الإمام/علي الهادي بن السيد الإمام /محمدالجواد بن السيد الإمام/على الرضا بن السيد الإمام/موسى الكاظم بن السيد الإمام/جعفرالصادق ابن السيد الإمام/محمد الباقر بن السيد الإمام السجاد/علي زين العابدين بن سيدنا ومولانا الشهيد السعيد الإمام الحسين بن سيدنا ومولانا أميرالمؤمنين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام .
ولا أريد أن أجعل ولابة السيد/أحمد البدوي ، ولا كراماته الموثقة في كثير من الكتب الصوفية وغير الصوفية موضوع حديث في البداية ، فهذا مما لا يعنيني وربما لا يعني السيد البدوي نفسه ، إنما يهمني ــ ها هنا ــ أن أمره لم يجاوز أمر سابقيه في التربية الدينية الروحية على قاعدة الاتباع وليس الابتداع ، وتشهد وصيته لخليفته الأول السيد/عبد المتعال بذلك ، فلم تخرج في جملة واحدة عن منهاج النبوة قيد ظفر في أصغر أنملة ، ويمكن إعادة كل أجزائها إلى تعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم . يقول مولانا السيد أحمد البدوي : اشفق علي اليتيم واكس العريان واطعم الجوعان واكرم الغرباء والضيفان عسي أن تكون عند الله من المقبولين ، ولا تشمت بمصيبة أحد ، ولا تنطق بغيبة ولا نميمة ، ولا تؤذ من يؤذيك ، وأعف عمن ظلمك واعط من حرمك ، واحسن إلي من أساء إليك .
ولم يترك رضي الله عنه وأرضاه مريديه ليحت عليهم المحتالون بادعاء الولاية ، وادعؤها قديم قدم التصوف نفسه ، فحدد مولانا علامات أولياء الله الصالحين بدقة وتفصيل شديدين ، يقول : علامات الولي اثنتا عشرة علامة : 1ـ أن يكون عارفا بالله . 2ـ مراعيا لله . 3ـ متمسكا بسنة نبيه . 4ـ أن يكون دائم الطهارة . 5ـ راضيا عن الله . 6ـ موقنا بما وعده الله . 7ـ يائسا مما في أيدي الناس . 8ـ أن يتحمل أذى الناس . 9ـ مبادرا لأوامر الله . 10ـ أن يكون شفوقا علي خلق الله . 11ـ متواضعا للناس . 12ـ أن يكون عالما بأن الشيطان عدو له . وإذن ، فلا ولي بغير اجتماع هذه العلامات فيه .
ويواصل السيد البدوي : يا عبد العال أوصيك بتقوى الله في السر والعلانية و ملازمة السنة والجماعة في كل وقت . وإياك وحب الدنيا فإنه يفسد العمل الصالح كما يفسد الخل العسل .وعليك بكثرة الذكر وإياك أن تكون من الغافلين عن الله واعلم أن ركعة بالليل خير من ألف ركعة بالنهار ومن لم يكن عنده علم لم تكن له قيمة في الدنيا ولا في الآخرة . ومن لم يكن عنده حلم لم ينفعه علم . ومن لم يكن عنده سخاء لم يكن له من ماله نصيب . ومن لم تكن عنده شفقةعلى خلق الله لم تكن له شفاعة عند الله . ومن لم يكن له صبر لم تكن له في الأمور سلامة . ومن لم يكن عنده تقوى لم تكن له عند الله منزلة. واختتم وصيته بقوله : طريقتنا بنيت على كتاب الله وسنة رسوله و الصدق و الصفاء و حسن الوفاء وتحمل الأذى و حفظ العهود . كلما حسنت أخلاق المريد حسن إيمانه” … هذا هو السيد البدوي الذي فيه يمترون .
سوى هذه الكلمات النبوية الأصل والمصدر ، لم يترك سيدي أحمد البدوي خلفه كتابا ، اللهم إلا ما تناقله خلفاؤه ومريدوه من أحزاب وأوراد وصلوات ، وكلها إما من الذكر الشرعي الوارد في كتب العلماء ، أو من القرآن الكريم ، أو أدعية وصلوات على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والحقيقة أن القضية ليست قضية السيد أحمد البدوي أو غيره ، ولا هي قضية التصوف أصلا . ولئن كان ثمة قضية فهي قضية مقام النبوة التي ابتدع فيه الوهابيون ما لم يعرفه الصحابة أو التابعون أو تابعو التابعين مكفرين التوسل به صلوات الله وسلامه عليه ، ومنكرين وجود قبره الشريف في مسجده ، ومستنكرين زيارته على من زاره إذ لا يرون فيه واجبا دينيا . وظاهرهم على إفكهم ما اجتزأوه من أقوال فقيه عصر اللبس والالتباس “ابن تيمية” ، وربما دلسوا عليه بعض النقول ليوافق لا مذهبهم المذهبي .
ونظرا لمركزية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفكر والسلوك الصوفيين ، ونظرا لأن أكابر علماء الأمة قديما وحديثا من المتصوفة ، فقد رأى الوهابيون وتابعوهم من السلفيين المعاصرين أن التصوف وحده هو ما يقف حجر عثرة في وجه انتشار فتنتهم ، فاختاروا رمز أكبر الطرق الصوفية في مصر والعالم العربي السيد أحمد البدوي ليصبوا عليه لعناتهم واتهاماتهم له بالتشيع وأنه جاء إلى مصر لنشر المذهب الشيعي ، والغريب أنهم لم يتعرضوا لسيدي أبي الحسن الشاذلي أو سيدي أبي العباس المرسي بالاتهام نفسه ، بالرغم من كونهم أئمة صوفيين ، وجاءوا كما جاء سيدي أحمد البدوي إلى مصر . ولم تكن فتنة المنكرين على التصوف العملي ورمزه الأكبر سيدي أحمد البدوي إلا أن استشهدوا بسلوك العوام والجهلة على خروج طريقته عن المنهج القويم . وليت شعري متى كان للجاهل العامّيّ حكم ، ويا لعدالة المنتقدين إذ يتجاوزون كلمات الرجل ووصايه وأوراده وأحزابه ثم ينحون عليه باللائمة بسبب ما يأتيه عوام الناس وجهلتهم .
أما الولاية مطلقا ، فإنها ثابتة بالقرآن الكريم وفي أكثر من موضع ، وفصّلت مجملها السنة المطهرة ، ولا ينكر القرآن والسنة في أمر الولاية إلا من سفه نفسه واجترأ على ربه . ثم إن الولاية درجات ومراتب ، تبدأ بمرتبة العبد الصالح وتنتهي بمرتبة العبد الرباني ، كما هو معلوم من نص الدين مباشرة وليس من ضرورات نصه ولا من تضميناته فضلا عن اقتضاءاته . وإذ لا خلاف في هذا الأمر ، فهل من المعقول أن نؤمن بالولاية ثم ننكر أن تتحقق في ولي !! وإذا تحققت في ولي ، ألن يكون له اسم ونسب وصهر !! وبالرغم من هذا وغيره ، فلم يناد المريدون الأُوَل شيخهم سيدي أحمد البدوي بمولانا ولا بسيدي ولا بولي الله ، وإنما اللقب الذي أعطوه له هو “الأستاذ” ، ويبدو أنه هو ، رضي الله عنه وأرضاه رضاء الرضا ، من وجههم إلى هذا تأكيدا على دوره كمربٍّ للأرواح ومهذب للسلوك ومعلم للأخلاق النبوية .
أما عن كرامات “الأستاذ” ، فلا خلاف على الاختلاف فيها ، إذ الكرامة ملزمة لمن شاهدها ، وليس على من سمع بها من سبيل في إنكارها . إن الأستاذ منهج ولعل أعظم كراماته بقاء الحجة التي أقامها على المنكرين عليه حتى يوم الناس هذا ، أعني ما تركه من منهج يتحدى به كل المتآمرين على الإسلام تحت قناع الهجوم على التصوف والمتصوفة . نعم ، فهم يريدون إسلام محمد بن عبد الوهاب وليس إسلام سيدنا محمد بن عبد الله . يريدون إسلام داعش لا إسلام الأزهر الشريف الذي كان جل أعلام مشايخه من المتصوفة من لدن الإمام عبد الوهاب الشعراني إلى مولانا الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود والإمام محمد متولي الشعراوي … وكأني بأبي وشيخي وسيدي “الأستاذ أحمد البدوي” يشد على يدي هامسا بي : يا ولدي اجمعهم على نبيهم وليختلفوا عليّ ما شاء لهم الاختلاف …
نعم ، إنهم يختلفون الآن على كل شيء . على القرآن الكريم من مُقِرّ بالنسخ فيه إلى ناف للنسخ عنه ، ويختلفون على صحيح السنة النبوية الشريفة أصحيح هو أم لا . ولا يصيب قلوب أولئك بالعمى إلا هذه الطائفة التي شغلت نفسها بحب الله وحب رسول الله وحب آل بيت رسول الله . وألزمت جوارحها بالفرائض والسنن والنوافل . وزادت على ذلك بأن جعلت لقلوبها أعمالا من مراقبة وخوف ورجاء ومجاهدة … ، وألزمتها بها . طائفة لا تدعو سواها ولا ترد من أتاها ، وتنشغل باتهام نفسها عن اتهام سواها ، ظنها بالناس ــ كل الناس ــ حسن ، وظنها بالله عز وجل أحسن . لهم في سلوكهم إلى ربهم مناهج وللمناهج أساتذة ، ومنهم “الأستاذ” السيد أحمد البدوي . ثم إنهم لا يفرقون بين منهج ومنهج ، ولا بين أستاذ وآخر ، شعارهم في هذا : “كل من رسول الله ملتمس” ، وقانونهم : “من فرق بيننا فليس منا” ، فكانوا على قلب عاشق واحد . في حين صارت الأمة الواحدة أحزابا وشيعا ، يكفر بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا ، وفي أسلم الأحوال يبغض بعضهم بعضا ، وكل هذا باسم “الله” عز وجل .
من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا