تنويه: أرجو الانتباه إلى أن هذا المقال ليس نقدًا لتيار المدرسة التقليدية التي ينتمي إليها سيد حسين نصر، مع تسليمي بسهولة اكتساب القارئ الكريم لهذا الانطباع نظرًا لانطلاق المقال من إحدى أفكاره.
عن الحاجة للتواضع:
لماذا تفشل مشاريع تجديد الخطاب الديني الإسلامي؟
علاء الدين ربيع(*)
في عام 1998 بدأت استخدام الإنترنت، وحينها اطلعت لأول مرة على مقالات ونقاشات حية مستمرة بين أشخاص من تخصصات ودول شتى حول العلمانية والدين ومدى ملاءمة الحداثة للمجتمعات العربية الإسلامية. وبطبيعة الحال لم يصل أي نقاش إلى نتائج. اليوم وبعد 17 سنة، لا يزال النقاش دائرًا، ولا يزال بلا نتائج.
لعل تاريخ الجدال بين الدين والتطور طويل يمتد لمئات السنين، ومشاريع تجديد الخطاب الديني وتفاعله مع العالم سودت فيها ملايين الصفحات طوال القرنين الماضيين، إلا أن النظر إلى المسألة في حيز زمني غير مطلق هو عمر كل منا المعاش، حيز نحسه وندركه ولا يضيع في تجريد الزمن والأكاديميا، ومقارنة ذلك بما تحقق من تطور في الخطاب الديني الإسلامي في هذا الحيز الزمني، ينتهي بنا إلى مشهد شديد القتامة والإحباط: إن العمر يضيع كما ضاع عمر أجيال سابقة، ولا شيء يتغير، ولا شيء ينتج.
في هذا المقال أرصد ظاهرة تشكل موضع توتر في الخطاب الإسلامي العام، فأتتبع رحلة فكرة واحدة من المدرسة التقليدية إلى الخطاب الإسلامي العام، وذلك في محاولة شديدة التواضع في إطار البحث عن إجابة للسؤال: ”لماذا تفشل مشاريع تجديد الخطاب الديني الإسلامي؟“
- مدخل: الموقف من العلم والحداثة في المدرسة التقليدية
- القسم الأول: عن الدين والعصر الحديث – كيف تصاغ الفكرة عند انتقالها إلى الخطاب الإسلامي العام
- القسم الثاني: عن التناحرية
- القسم الثالث: لماذا تفشل مشاريع تجديد الخطاب الديني الإسلامية؟
- خاتمة: عن الحاجة للتواضع
مدخل: الموقف من العلم والحداثة في المدرسة التقليدية
تطل علينا طواسين هذه الفترة بملف تعريفي صغير وجميل عن المفكر الإيراني سيد حسين نصر، فتقدم نبذة عنه وترجمة لأحد مقالاته التي تعرض خلاصة قسم هام من طروحاته.[1]
تورد النبذة الفقرة التالية:
[يرى سيد حسين نصر أن] ”النظرة العلمانية للحياة [قد] قلعت الجذور الروحية للحياة البشرية فجعلته يعيش في فراغ روحي يعاني منه في شتی أنحاء الحياة الفردية والاجتماعية والتي سببت حروبا عالمية كبيرة لا نظير لها في العالم القديم. العلوم الطبيعية تاثرت بهذه النظرة العلمانية وهي بحاجة إلی مدّها بطاقة روحية تجعلها موائمة للنظرة الشاملة للحياة والحاجة للعلوم الطبيعية يجب أن تكون متناسقة مع سائر حاجيات البشر فهنا تأتي الضرورة للعلم المقدس فالعلوم الطبيعية يجب أن تُبني علی أسس معرفية وفلسفية جديدة تجعلها غير مناهضة للرؤية الروحية تجاه الكون والحياة والإنسان.“[2]
تلخص هذه الفقرة موقفًا للمدرسة التقليدية أو الإرثوية Traditionalist School التي ينتمي إليها سيد حسين نصر، وهو موقف موروث من الفلسفة الخالدة perennial philosophy عمومًا التي تصنف تحتها المدرسة التقليدية، ومفاده أن هناك حقيقة كونية واحدة باطنية للوجود استمدت منها الأديان والحكمة القديمة،[3] وأنها متأصلة في الإنسان لدرجة المطابقة مع طبيعته، وأنا أستخدم مصطلح ’المطابقة identity‘ هنا بالمفهوم الرياضي لأنه الأقدر على التعبير عن هذه الفكرة؛ فالمطابقة علاقة مساواة ينتج طرفاها نفس النتائج مهما اختلفت قيم المتغيرات المدخلة فيهما. بهذا الشكل يكون إغفال الأصل أو الإرث الروحاني في حياة الإنسان حتمًا وبالضرورة إغفالاً لطبيعة الإنسان وحقيقة الوجود نفسها يصل إلى حد اعتباره جريمة.[4]
بهذا الشكل تصوغ المدرسة التقليدية سرديتها الكبرى metanarrative لترسيخ التراثية ومعاداة الحداثة من خلال ثنائية ’الروح مقابل المادة‘، والتي تدفعها إلى أقصى امتداد لها من خلال خطاب ينظر بعين واحدة للإرث الفينومينولوجي في العلوم لتتحول إلى ’الإنسان مقابل العلم‘، مشكلة قاعدة النقد الرئيسة للتطرف في تطبيق المنهج العلمي (أو العلموية scientism).[5] صحيح أنها في ذلك تنصب لنفسها شركًا سرعان ما تقع فيه حين تقدم منظومة أصولية مقدسة قائمة على الدين ـ وهي منظومة اختزالية reductionist بطبيعتها ـ علاجًا لاختزالية تؤاخذ عليها منظومة أخرى، إلا أن هذا ليس المقام لنقد طروحات المدرسة التقليدية.
لكن ما يلفت الانتباه هنا هو تبني هذه الفكرة في الخطاب الإسلامي العام لينادي بها ـ مع بعض التعديلات الضرورية التي سيعرض لها المقال ـ مفكرون ودعاة وحتى شخصيات عامة وإعلاميون اتخذوا الخطابة التحفيزية والفلسفة الشعبية مدخلاً لنشر الخطاب الإسلامي العام بين الشباب والعامة،[6] وذلك برغم التناقض بين طروحات المدرسة التقليدية ومبادئ جوهرية في الإسلام.[7]
القسم الأول: عن الدين والعصر الحديث، أو كيف يبني الخطاب الإسلامي العام عداءه للحداثة؟
في البداية لا بد من تحليل الملخص الموجز في الاقتباس أعلاه مع انتقاله إلى الخطاب الإسلامي العام.[8]
1. الربط الدلالي بين العلم والعلمانية والحداثة والعصر الحديث
ينطلق الطرح الأصلي في المدرسة التقليدية من رفض للتطرف في تطبيق المنهج العلمي scientism، أو الإصرار على استخدام المنهج العلمي التجريبي ورفض كل ما لا يمكن قياسه، وهو المنهج الذي تتبعه الوضعانية المنطقية logical positivism تحديدًا، والتي لم يعد لها مكان في فلسفة العلوم منذ ستينات القرن الماضي، وتتخذ من هذا الرفض مدخلاً للهجوم على الحداثة أولاً، ثم إقامة ثنائية التراث أمام الحداثة تمهيدًا لفرض هرمية تضع التراثية فوق الحداثة.
حين انتقل الطرح إلى الخطاب الإسلامي العام ـ وهذه السمة قائمة في طرح المدرسة التقليدية أيضًا بالمناسبة كما نرى عند سيد حسين نصر ـ فإننا لا نجد أي إشارة إلى السياق التاريخي أو أي تمييز بين الوضعانية المنطقية كتيار متطرف والتيارات اللاحقة عليه التي لا تعاني من مشكلاته كالواقعية العلمية scientific realism، ولا حتى بينه وبين المنهج العلمي، ولا بينه وبين العلم نفسه.
إن هناك ما يشبه التعمد في توظيف ممارستين لغويتين بشكل رئيس:
ا. أخطاء التأثيل (الإتيمولوجيا etymology)، ومنها استخدام ما يعرف بالقريب الكاذب false cognate، وفيه يفترض خطأً أن كلمة ما مشتقة من كلمة أخرى، أو أن الكلمتين تتشاركان في الاشتقاق من أصل واحد، لمجرد أنهما تتشابهان في النطق.
في حالتنا هنا تقام علاقة اشتقاق مفترضة وخاطئة بين كلمة ’عِلم‘، التي تملك أصلاً في العربية، وبين مصطلح ’العلمانية‘ المعرَّب عن secularism (من ’عالَم‘ وليس ’عِلم‘)، والذي يشير إلى الموقف الإداري المحايد الذي تتخذه الدولة لضمان التعايش بين مواطنيها من الأديان المتنوعة، وكذلك صفة ’علمانية‘ secularity التي تستخدم كتصنيف غير قِيَمي يميز بين من يمتهن أو يشتغل بالدين وكل ما هو سواه بدءًا من الأشخاص كالمأموم في المسجد وحتى الأفعال كالأكل والشرب.
ب. مغالطات المجاز المرسل، كاستخدام جزء للدلالة على الكل أو استخدام الكل للدلالة على جزء منه. في حالتنا هنا يستخدم الكل ’عِلم‘ بدلاً من الجزء ’الوضعانية المنطقية‘ أو ’العلموية‘ بدون توضيح العلاقة، وهكذا فإن المعلومة التي تنقل ليست أن تيار كذا المتطرف من العلم سيء، بل أن العلم كله سيء.
إن الاستمرار في ربط العلمانية بالعلم ـ والوضعانية المنطقية بالتبعية ـ على الرغم من توافر مصادر التأثيل لكلا المصطلحين، وعلى الرغم من محاولات البعض تمييز ’العلمانية‘ بوضع فتحة فوق العين لإبعاد نطقها عن ’عِلم‘ مكسورة العين لتبيين أنها تشير إلى العالَم لا العِلم، والإصرار على عدم توضيح السياق المصطلحي أو التاريخي عند استخدام المجاز المرسل لبيان أن المقصود بالمادة أو العلم في ثنائية ’الإنسان مقابل المادة‘ أو ’الإنسان مقابل العلم‘ هو الوضعانية المنطقية مثلاً، كل ذلك يجتمع ليشير إلى وجود ممارسة سياسية ممنهجة تهدف إلى وصم العلم والعلمانية معًا أدى التواتر وتكرار توظيفها إلى خلق دائرة مغلقة مؤسفة.
الأمر لا يختلف كثيرًا عن استخدام كلمة ’الإسلام‘ وحدها للإشارة إلى أكثر تياراته تشددًا وعنفًا، أو استغلال مسمى ’الدولة الإسلامية‘ الذي تعتمده حركة داعش للدلالة على الإسلام ككل.
2. كل ما هو حديث وسيء سببه العلم والعلمانية، بما في ذلك الحروب العالمية
هنا نرى تكرارًا لنفس الظاهرة في الربط بين ’الحداثة‘ كمصطلح معرَّب، و’العصر الحديث‘ كحقبة تاريخية، وصفة ’حديث‘ العربية، ثم تحميل جميع تفاصيل الحقبة التاريخية على العلم باعتباره المنظومة الفكرية الأبرز والأكثر سيادة في العصر الحديث.
هذه المقولة السياسية مثلاً تنطلق من علاقة دلالية بين ’حديث‘ و’عِلم‘ وتوقيت الحروب العالمية قائمة على الممارسات اللغوية المذكورة في النقطة 1، لتنتهي إلى نتيجة أن العلم مسؤول عن كل شيء شرير، والأهم: تجعل هذه النتيجة مستساغة جدًا للسامعين، مع أن المقولة غير واقعية؛ كأنهما تفترض أن الصراع بين القاعدة والولايات المتحدة الذي استُخدم فيه الله على الجهتين هو صراع علم لا دخل له بالدين، أو أن الحروب الأهلية في سوريا والعراق المنطلقة من أسس طائفية هي حروب علم لا دخل لها بالدين. لقد قامت النازية نفسها في أدبياتها من ضمن ما قامت عليه على جانب ديني أصولي مشتق من المسيحية والفلسفة الشعبية، واستخدم أدولف هتلر الدين في خطبه ورعى كنيسة الدولة بنفسه،[9] ولم يكن الأمر مجرد تأويل أدبي يدمج نظريات أنثروبولوجية عرقية بعلم الأحياء. حين التقى مفتي القدس أمين الحسيني بهتلر في نوفمبر 1941 وتعهد له بدعم المسلمين للنازية ذكر السبب أن عدوهم مشترك ـ اليهود وبريطانيا ـ ولم يقل إن السبب هو أن المسلمين يشاركونه الاقتناع بتفسير القومية الاشتراكية لتطبيقات الداروينية في علم الاجتماع أو طروحات الدكتور هانس غيونتر.[10]
هذه النماذج وغيرها من التاريخ حديثه وقديمه هل كان سببها ”فراغ روحي“ سببته ”النظرة العلمانية“؟
لكني لن أقع في نفس خطأ المقولة فأبدل المفردات وأقول بأن الدين هو سبب كل شيء سيء، حتى مع عدم وجود نموذج واحد لحرب قامت وقتل فيها بشر دفاعًا عن نظرية علمية مثلاً؛ فإجابة هذا التساؤل واضحة بالفعل: إن الرغبة في السيطرة وإبادة كل من يختلف عنك أو يخالفك هي أصل كل شيء سيء، أيًا كان انتماء صاحب الرغبة.
3. ”العلم عديم الروح يحتاج إلى الدين لإحيائه“: الغرض السياسي
الغرض من هذه المقولة ـ السياسية أيضًا ـ يتضح في نهاية الاقتباس الذي استهل به المقال: ”فالعلوم الطبيعية يجب أن تُبني علی أسس معرفية وفلسفية جديدة تجعلها غير مناهضة للرؤية الروحية تجاه الكون والحياة والإنسان“، أي يجب أن يطوَّع العلم ليسير في الطريق الذي يحدده الدين، أو بعبارة أخرى فإن العلم الذي نرضى به ـ أو ’العلم الأليف‘ ـ هو ذلك العلم عديم الحياد.
لا يستطيع أصحاب هذا الرأي استيعاب أن الحياد وإزالة الهوى البشري هو أهم ما يقوم عليه المنهج العلمي. لنفترض أن نيزكًا في طريقه لتدمير الأرض، ومجموعة من الناس يملكون قناعة ما بأن النيزك عبارة عن كرة من النار ضئيلة الكتلة، وعليه فإنهم لو صنعوا عازلاً حراريًا ضخمًا حول منطقة سقوطه فسيكون ذلك كافيًا لاحتوائه. هكذا يقيمون منطقة العزل الحراري، ويسقط النيزك محدثًا مع اصطدامه المروع اضطرابًا هائلاً impact يبيد 75% من الكائنات الحية (مثل انقراض العصر الطباشيري). ما هي الفائدة التي عادت بها القناعات المسبقة المريحة لأصحابها لكن غير المستندة إلى الواقع؟
إن أصحاب القناعات المسبقة الذين يرون في فرض تلك القناعات مهمة مقدسة حتى لو خالفت الواقع مصيرهم الانقراض. من يصر على الخروج إلى العاصفة على اعتبار أنها مجرد هواء قوي يكفيه حمل مظلة للوقاية منه يمكن لنا جدًا أن نترحَّم عليه من الآن.
إصدار الأحكام المسبقة عن جهل هو روح الموت.
لهذا قام المنهج العلمي ليقدم بديلاً لإصدار الأحكام المسبقة عن جهل يتقبل التغيرات ويقبل الواقع، وعندما يحاول تطويعه فإنه يفعل ذلك باستخدام سمات هذا الواقع الفعلية، لا حزمة أفكار مسبقة غير واقعية عن تلك السمات.
4. ”العلم عديم الروح يحتاج إلى الدين لإحيائه“: الغرض الظاهري
أما المعنى الظاهري للعبارة فمشكلته ـ لحسن الحظ ـ يمكن التعلم منها.
مع تقدم المنهج العلمي والعلوم الطبيعية أصبحت الفلسفة تفقد نفوذها تدريجيًا في المنظومة المعرفية. انفصل المنطق وانضم إلى الرياضيات وأنتجا الحاسوبيات ليحققوا سويًا قفزات هائلة، وانفصلت الفيلولوجيا وشكلت اللسانيات الحديثة التي أصبحت أداة مفيدة وفعالة في جميع العلوم بأكثر مما كانت الفلسفة تحلم أن تكون. هكذا تتابع انفصال كل مبحث تطبيقي من مباحث الفلسفة، فكانت الحاجة لإعادة موضعتها في المنظومة المعرفية الحالية للاستفادة منها، ومن هنا تحول اهتمام الفلسفة الأساسي إلى ثلاثة مجالات رئيسة:
ا. فلسفة العلوم philosophy of science، وتعنى بمرحلة الميتا، أو ما قبل البحث العلمي، ولا تتدخل في موضوع البحث أو توجهه.
ب. الأخلاق التطبيقية applied ethics، أو مبحث الأخلاق في كل فرع من فروع العلوم، كالأخلاق في الطب، والأخلاق في الدوائيات، والأخلاق في البيولوجيا وما إلى ذلك.
ج. تيارات الفلسفة القارية continental philosophy التي انشغلت بالمجتمع والنظرية الأدبية والنقدية وتطبيقاتها في الآداب والفنون والعمارة وغيرها.[11]
إن القناعة المنتشرة في مجتمعنا اليوم عن أن الفلسفة هي التفلسف حول وجود الله أو إثباته وما شابه هي قناعة كلاسيكية تجاوزها ركب التطور. الفلسفة اليوم في صورتها الأكثر تطبيقية تبحث عن كيف يكون العلم دقيقًا وأخلاقيًا معًا، وهي في سبيل ذلك أسست مدارس كثيرة تغطي هذه الحاجة.
لقد شكل المنهج العلمي أداته لتقويم وضبط بوصلته الأخلاقية بدون أن يؤثر ذلك على حياده أو يفرض عليه توجهًا سياسيًا بعينه. أليس هذا تحديدًا ما يحاول الرأي الوارد في الاقتباس الهجوم على العلم ـ والمجتمع الحديث والعلمانية والحداثة وما إلى ذلك بحكم الإحالة الدلالية ـ من خلاله؟ هل يكفي ذلك لإقناع أصحاب الرأي الوارد في الاقتباس بأن المنهج العلمي يملك بوصلة أخلاقية ولا يحتاج إلى وصاية سياسية، أو أن ثنائية ’الإنسان مقابل العلم‘ والحاجة للعلم المقدس مبالغات تخالف الواقع حين نحاول اختبارها؟
القسم التالي محاولة للبحث عن شيء من الإجابة.
تعد التعددية الدينية religious pluralism من أهم المبادئ الأساسية في المدرسة التقليدية كأساس منطقي لكون الديانات والحكمة القديمة تتشارك في انطالقها من حقيقة كونية واحدة، وما الاختلاف بينها إلا في تأويل هذه الحقيقة الكونية تبعًا لظروف المجتمع والحقبة التاريخية التي نشأت فيها، وليس اختلافًا في الجوهر حتى لو ظهر تعارض شكلي في أدبياتها مع بعضها البعض، وعليه فإنه لا وجود لدين وحيد أو طريق وحيد صحيح.
تخالف التعددية الدينية وحدانية الطريق في الإسلام، وهي السبب الرئيس في رفض الخطاب الإسلامي العام للعلمانية والتاريخانية historicism وحتى عقائد كالبهائية مثلاً، فلماذا يأخذ مفكرون إسلاميون عن المدرسة التقليدية مع أنها تنادي بما يخالف مبادئ جوهرية في الإسلام؟
إن في الطبيعة الأصولية لتراثية المدرسة التقليدية بالتأكيد ما يسهِّل استمثال بعض طروحاتها، ولا يجد الخطاب الإسلامي العام مشكلة في الاستعارة مما تقوله المدرسة التقليدية لكن بشرط واحد: أن يكون المقصود بالدين الخالد أو الفلسفة الخالدة perennial philosophy هو الإسلام والإسلام وحده كدين الفطرة. بعبارة أخرى: يقبل الخطاب الإسلامي العام المدرسة التقليدية وتعدديتها الدينية بشرط إسلامها الكامل، وهو نفس الشرط الذي يضعه الخطاب الإسلامي العام لقبول الحوار مع العلم والعلمانية والحداثة والعصر الحديث.
بيد أن الاستهواء في التبني بغرض ’تدعيم الحجة‘ يشير بوضوح إلى إطار ذهني اعتراكي beleaguering mindset قائم على السياسة، أو بتعبير أكثر دقة: فرض نفوذ سياسي-اجتماعي، وهو ما يحول كل تجربة حوار إلى مناظرة أو محاججة الغرض منها إفحام الآخر وربما استتابته بعد ذلك، ويزداد الأمر سوءًا حين يكون شرط الحوار أن يوقع الآخر مسبقًا على إعلان استسلام غير مشروط قبل البدء في أي تفاصيل.
ربما تكون حاجة الخطاب الإسلامي العام إلى النصر بالتزكية nolo contendere المميزة للفكر المتمحور حول الدعوة والتبشير عاملاً بالغ الأهمية في فهم سر فشل كل محاولات المصالحة بينه وبين أي ’آخر‘، بدءًا من الأديان الأخرى ومرورًا بالعلم وانتهاءً بالواقع.
لكن هذه المشاهدة تقود إلى أمر أكثر تحديدًا من مجرد الترجيح التحليلي للخطاب: إن الحاجة للنصر بالتزكية على مر تاريخ الإسلام تعني أن الخطاب الإسلامي ظل قائمًا على التناحر منذ نشأته—على رغبة في الإقصاء المتبادل لاكتساب أو تأكيد نفوذ سياسي-اجتماعي حتى في حواراته داخل البيت الإسلامي نفسه.[12] ولهذا السبب فإنه عندما يطرح أي مبدأ أو قيمة للحوار حولها، مثل الواقعية أو الحرية أو الأخلاق، فإنه يفعل ذلك ليوظِّفها في خدمة هذا التناحر والانتصار على الخصم وتأكيد النفوذ، وليس بغرض أي نوع من المساهمة الحقيقية في الحضارة.[13]
ربما لهذا السبب كثيرًا ما يظل الخطاب الإسلامي العام عالقًا في تناحرات حتى بعد زوال الطرف الآخر من الساحة، مثل التناحر مع العلم برغم انزواء نفوذ الوضعانية المنطقية في الستينات وزوالها من المشهد المعرفي في السبعينات، أو التناحر مع المادية التاريخية برغم تراجع الشيوعية، أو حتى التناحر مع الحداثة التي تجاوزها العالم بحقبتين.
أن تظل تحاول طعن جثة أو شبح خصمك الميت، هذا مؤشر مقلق على هوس بالنصر الشامل وليس الحوار أو البناء.
القسم الثالث: لماذا تفشل مشاريع تجديد الخطاب الديني الإسلامية؟
هنا لا بد من وقفة تقييم: هل هذا الاتجاه في تحليل الخطاب الإسلامي العام صحي؟ ألا يمكن ـ بطريقة ما ـ اعتبار أسلمة العلم والعلمانية والحداثة ضرورة محلية مشروعة؟ ألا يمكن عد الخصوصية الإسلامية مبررًا؟
قد تبدو هذه التساؤلات عادلة للوهلة الأولى، إلا أنه عند تحليلها نجد أن:
1. أسلمة المنهج العلمي تعني توجيهه سياسيًا، وبالتالي القضاء على حياديته ورفضه اتباع الهوى البشري، وهو ما يعني فعليًا تدمير العلم والمنهج العلمي، ولنا في العلوم العرقية التي ازدهرت في ألمانيا النازية نموذجًا لما ينتهي إليه العلم الموجه سياسيًا؛
2. أما أسلمة العلمانية فتعني قبول التعددية الدينية طالما تقر بأن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الصحيح، وطالما تطبق أحكامه وحدها في معاملة الأديان والمعتقدات الأخرى، وهو ما يعني فعليًا تدمير العلمانية؛
3. وأما أسلمة الحداثة فتعني تأييد ما تنادي به الحداثة طالما لا يقترب من الإسلام، وبالتالي جعل الحداثة أداة للهجوم على كل ما سوى الإسلام، كقبول الديموقراطية والمشاركة الفاعلة فيها طالما يحكم فصيل غير إسلامي، ثم وقفها عند وصول فصيل إسلامي إلى الحكم، وهو ما يعني فعليًا تدمير الحداثة.
هكذا تتكون علامات استفهام كبيرة حول مشروعية وغرض دعاوى الخصوصية الإسلامية في هذه المسائل وما إن كانت ممارسة صحية من الأساس.
يمكن توسيع العينة لاستيضاح الأمور أكثر والوقوف على مشهد أكثر اتساعًا؛ فنجد أن تقنيات التناحر المذكورة أعلاه (المغالطات اللغوية وأسلمة الخصم كشرط للحوار) تقع في منتصف مجموعة أكبر تتراوح بين الأقل جهدًا، مثل إعادة التعريف القسري للمصطلحات بما يكفل تلويث سمعتها،[14] والقديم كالتعرض لحياة الأفراد الأخلاقية وأنماط معيشتهم كمدخل رئيس لنقض طروحاتهم،[15] وممارسات أحدث مثيرة جدًا للاهتمام في الأوساط الأكثر أريحية وثقافة، وأحيانًا من جهات غير محسوبة على الطيف الإسلامي التقليدي، مثل دعوة حسن حنفي لرفض التراث والحداثة معًا واللجوء إلى اللاوعي الجمعي لدى الشعوب المحلية،[16] وهي دعوة تبدو في ظاهرها عادلة وعاقلة، إلا أنها تستند أساسًا إلى كون الدين العنصر المكون الرئيس في اللاوعي الجمعي لدى الشعوب المسلمة، وبالتالي فإن المنظومة التجديدية المزمعة يجب أن تقوم على الفكر الديني التراثي الذي أخرج مع الحداثة من الباب ليعود ويدخل منفردًا من النافذة(!) ولا أعلم أيها أسوأ: أن يصل تفجير نفسك في خصمك إلى المشهد الثقافي على هذا النحو في محاكاة تطبيقية للعمليات الانتحارية، أم تحكيم طرف ثالث تعرف أنه منحاز لك سلفًا.
هذه الممارسات التناحرية كلها وجهت كل جهود وموارد المفكرين الإسلاميين بعيدًا عن محاولات التجديد الفعلي، فاحتفظ الخطاب الإسلامي العام بشكله كما كان عليه لقرون، وسيظل كذلك إلى أن يحدث تغير جاد في وعيه بوظيفيته في الحضارة الإنسانية.
حين يخرج الداعية ليبشر بدينه فإنه لا ينتظر مناقشته فيما يعتقد، ولا حتى مناقشة الآخرين فيما يعتقدون، وإنما ينتظر إقناعهم أنهم على خطأ. هذا هو توصيف وظيفته في نهاية الأمر. لقد ظل الخطاب الإسلامي العام لا يغادر عقلية الداعية التبشيري في تفاعله مع العالم المحيط، ولهذا فإن كل تنازلاته الظاهرية لم تترجم على الأرض الواقع إلى إنجازات من أي نوع، لا على هيئة مساهمة في الحضارة الإنسانية، ولا على هيئة تجديد للذات.
ربما يحتاج الخطاب الإسلامي العام إلى الاعتبار من تجربة الفلسفة التي أعادت موضعة دورها repositioning لتصبح داعمًا للتطور الإنساني، متنازلة بذلك عن نفوذها وطموحها الكلاسيكي الاختزالي في تفسير الكون بأكمله وتفاصيله.
ربما يحتاج الخطاب الإسلامي العام إلى وضع حدود واضحة للعقلية الدعوية التبشيرية، فلا يسمح لها بالتأثير على قيم كتعمير الأرض وأهمية البحث العلمي.
ربما يحتاج الخطاب الإسلامي العام إلى التسليم بأن مواجهة الأرض ومن عليها ليست شطارة، وبأن من الضروري التوقف عن محاربة الجثث وابتداع الوحوش المتطرفة تخييلاً ليقاتلها، فيراها هو وحده بينما ما يظهر للجميع أنه يحارب طواحين هواء.
في نهاية رواية ثيربانتيس تطلب الأمر أن يتعرض دون كيخوته للهزيمة في نزال مع فارس القمر الأبيض الذي فرض عليه بصفته المنتصر أن يتوقف لمدة سنة عن حملته التي حارب فيها العالم لاستعادة زمن الفرسان الجميل الذي ينشده، وأمله أن هذه الفترة ستكفي ليشفى الرجل من ضلالاته التي ألحقت الأذى بالكثيرين، فيرضخ دون كيخوته مضطرًا ويشفى بمرور الوقت، وفي نهاية الرواية يحاول إصلاح بعضًا مما أفسده.
لقد فرض على دون كيخوته أن يتواضع كما حدث مع الفلسفة في العصر الحديث، وهذه الصفة ـ التواضع ـ هي ما يحتاجه الخطاب الإسلامي العام الآن ليعود إلى الواقع قبل الحديث عن نوايا للحوار أو التحديث.
(*) باحث سيميوطيقا
[1] (نصر 2015)
[2] (المعموري 2015)
[3] (Coomaraswamy 1977)
[4] (Schuon 1982)
[5] (Kalin 2015)
[6] معاداة الحداثة وعناصرها انطلاقًا من الحجة الروحانية أو الأخلاقية تشكل جزءًا عضويًا في الخطاب الإسلامي العام. فيما يلي نماذج سهلة الوصول:
محمد عمارة (مجمع البحوث الإسلامية، الأزهر). ”ماذا صنعت العلمانية بأوروبا؟“. الأهرام. 2011.
http://www.ahram.org.eg/Archive/606/2011/7/26/4/91896.aspx (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2011)
نصر فريد واصل (مفتي الديار المصرية الأسبق). برنامج الإيمان. قناة الرحمة.
https://www.youtube.com/watch?v=DHlSY_JSUWk (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015)
عبد الوهاب المسيرى. ”بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة“. 1 فبراير 2007.
http://www.elmessiri.com/articles_view.php?id=31 (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015)
معز مسعود. ”تقليد الغرب“. برنامج الطريق الصح. قناة اقرأ. 2007.
https://www.youtube.com/watch?v=4nMpGwx-Dvg (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015)
[7] لا أفترض تراتبية زمنية معينة في هذه الرحلة أدت لخلق الفكرة في الخطاب الإسلامي العام، وإنما أهتم بفعل تبني أدبيات من منظومة كالمدرسة التقليدية عبر الترجمة والاحتفاء برغم تعارضها مع الإسلام في مبادئ جوهرية.
[8] يقصد بالخطاب الإسلامي العام خطاب المنظومة الحضارية والتعبوية الجامعة للفكر الإسلامي التقليدي والفلسفة الشعبية القائمة عليه في المجتمعات الإسلامية العربية بشكل خاص، شاملاً ما استمثلته المنظومة من تيارات القومية واليسار وغير ذلك. يمكن عده تجاوزًا التجسد الخطابي للاوعي الجمعي في المجتمع الإسلامي العربي.
[9] راجع مثلاً خطاب هتلر للبرلمان الألماني قبيل قانون التمكين في 23 مارس 1933: http://www.worldfuturefund.org/Reports2013/hitlerenablingact.htm (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
[10] [Kaiser 2015]
[11] من المثير للاهتمام أن الفلسفة القارية طاغية في العالم العربي مقارنة بالمجالين السابقين الذين ينتميان إلى الفلسفة التحليلية analytical philosophy، ربما يمكن تتبع ذلك في التقارب بين الثقافة الفرنسية والعربية وبشكل خاص المغاربية، والتي انتقل أغلب المحتوى المعرفي العربي عن الفلسفة الحديثة من خلال جهودها في الترجمة وممارساتها في الآداب والنقد والتأويل. ربما يمكن أن نحمل غياب الفلسفة التحليلية وبريق الفيلسوف القاري المثقف المسؤولية الأولى عن انحراف المشهد في العالم العربي فيما يخص الحداثة وقيمة المنهج العلمي، واستقراره الكامل ـ بموافقة ورضا الطرفين التراثي والحداثي ـ في محاججات ومجادلات كلامية غير منتجة.
[12] (الحداد 2011)
[13] (محمد 2014)
[14] هذه مجموعة من النماذج لعمليات إعادة التعريف القسري في سياقات متفاوتة الجمهور:
الحبيب عمر بن محمد. ”الإسلام والحداثة“. 2011.
http://www.alhabibomar.com/Book.aspx?SectionID=6&RefID=160 (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
أحمد محمد زايد (كلية أصول الدين، الأزهر). ”ما الحداثة؟“.
https://saaid.net/mktarat/almani/70.htm (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
ناصر السيد الأسد (وزير التعليم العالي الأسبق ورئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن). ”الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة“.
http://www.asharqalarabi.org.uk/center/dirasat-i-s-1.htm (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
[15] وصل الأمر أن تصدر أعمال موسوعية في العصر الحديث توظف هذه التقنية بشكل مؤسف، مثل موسوعات الفلسفة لعبد المنعم الحفني.
[16] (الطيب 2013)
المصادر:
Austin Cain. “Adolf Hitler: Compromises with Atheism Destroy Religious, Ethical Values.” About.com Religion & Spirituality. http://atheism.about.com/od/adolfhitlernazigermany/a/HitlerValues.htm (Retrieved November 6, 2015).
Coomaraswamy. Coomaraswamy Selected Papers 2: Metaphysics. Edited by Roger Lipsey. Princeton University Press, 1977.
David Kaiser. “What Hitler and the Grand Mufti Really Said.” Time. 22 10, 2015. http://time.com/4084301/hitler-grand-mufi-1941/ (Retrieved November 6, 2015).
Kalin, Ibrahim. “Guenon, Rene (1886-1951).” In The Biographical Encyclopedia of Islamic Philosophy, by Oliver Leaman. Bloomsbury Publishing, 2015.
Schuon, Frithjof. From the Divine to the Human. World Wisdom, 1982.
أحمد محمد أحمد الطيب. التراث والتجديد مناقشات وردود . الهيئة المصرية العامة لدار الكتب والوثائق، 2013.
سيد حسين نصر. ”تأملات في الإسلام والفكر الحديث.“ طواسين. ترجمة محمد حسن قرينات، تقديم خالد محمد عبده. 2015. http://tawaseen.com/?p=2091 (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
علي المعموري. ”تراثي في عصر ما بعد الحداثة: عرض لرؤية وأفكار سيد حسين نصر.“ طواسين. 2015. http://tawaseen.com/?p=2068 (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
كريم محمد. ”النقد الأخلاقي للحداثة عند طه عبدالرحمن.“ التقرير. 17 أكتوبر 2014.
http://www.tahaphilo.com/النقد-الأخلاقي-للحداثة-عند-طه-عبدالرح/ (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
عنوان آخر: http://bit.ly/1Pf9dQD (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).
محمد الحداد. ”سؤال الأخلاق في الفكر العربي المعاصر: محمد أركون أنموذجا.“ مجلة التفاهم. 2011. http://tafahom.om/index.php/nums/view/4/81 (تاريخ الوصول 6 نوفمبر 2015).