التصوف وتجربة الإنسان بين الطبيعة والثقافة
بقلم: محمد رضى بودشار
يُعرَّف الصوفية عادةً بأنهم أهل العزلة والانقباض عن الناس، والسياحة في الأرض، والحياة في الخلاء، بعيدا عن الحياة المدينية، وهو أمر أثار انتباه الباحثين، عساهم يجدون تفسيراً لهذه الأفعال ومسوّغا لها، لهذا تطرقت كثير من الدراسات، لعلاقة الصوفية بالمدينة والطبيعة، وقد اختلفت في النتائج نظرا لاختلاف المادة المصدرية المعنية بالدراسة، والمناهج المعتمدة في الدراسة والتحليل.
وقد اعتمدت تلك الدراسات على مقاربة الكرامات الصوفية من خلال ربطها بسياقها التاريخي وشروطها الاقتصادية والاجتماعية، أو انطلاقا من مناهج التحليل النفسي، والإناسة، والسيميائيات؛ أي دراستها باعتبارها بنية دالة. لهذا نروم في هذا السياق تقديم تأويل للتجربة الصوفية، أساسه النظري هو دراسة النص الكرامي ضمن المرجعية الصوفية في شموليتها، استنادا إلى كون الكرامة الصوفية لا تمثل طموحا نحو الخارق ونقدا ضمنيا لخيارات اجتماعية بكاملها فحسب، بل تعبر أيضا عن تصور للوجود والتاريخ والإنسان والطبيعة، وهي إذ تطمح إلى إقامة علاقة بين الإنسان والنبات والحيوان، تعيدُ ترتيب علاقة الإنسان بالطبيعة وتجاوز قوانينها أحياناً.
1ـ الفقه للمدينة والتصوف للبادية:
وظف كثير من الباحثين الأجانب النظرية الانقسامية، لتفسير مجموع المظاهر الاجتماعية والثقافية والسياسية لبلاد المغرب، معتمدين في ذلك على المعاينة المباشرة، فراحوا بذلك يسقطون هذه النظرية على تجربة تاريخية بكاملها، وميزوا على إثر ذلك بين “إسلام رسمي” يدور في فلك السلطان في المجال الذي اصطلح عليه بـ”بلاد المخزن”، و”إسلام شعبي” يقوم على تقديس الأولياء في البوادي أي في ما اصطلح عليه بـ”بلاد السيبة”. وتميزت هذه الأخيرة، من ذلك المنظور، بغياب الجهاز الدولة عنها، واضطلاع رمزية الولي الصالح بضمان استمرار الحياة الاجتماعية وأنشطتها، لا سيما وأنه يمتلك من الكرامات ما يجعله يتغلب على الطبيعة وقوانينها، فينال الحظوة والتبجيل، ويدخل مجال المقدس.
فالدراسات الاستعمارية المتبنية للأطروحة الانقسامية، التي أنجزها علماء الحركة الاستعمارية رأوا في المجتمع المغربي مجرد تقابل بين ثنائيات: العرب والبربر، والشرع والعرف، والفقه والتصوف، والمدينة والبادية. وهي نظرية جاهزة تفتقد إلى الموضوعية العلمية وتغفل كثيراً من الحقائق التاريخية، حائمة في فلك إيديولوجية استعمارية تَعُدّ الإسلام عنصراً دخيلاً، لتخلص إلى أن انتشار التصوف في المغرب ما هو إلا استمرار لمعتقدات وثنية سادت قبل الإسلام والمتمثلة في السحر وتقديس الكهنة. وتجعل هذه النظرية من البادية مجالاً للفكر الصوفي الذي هو امتداد للمعتقدات القديمة التي عرفها المغرب قبل “الغزو” الإسلامي، أما المدينة فتجعلها مجالا للفقه والفقهاء. فصورت بذلك تاريخَ المغرب بوصفه تاريخا للصراع بين المدينة والبادية، أو بين الفقه والتصوف (1).
2ـ الصوفي بين عالمين:
أمام جملة الإشكالات التي يطرحها الخطاب الصوفي من هذا الجانب، اشرأب كثير من الباحثين المغاربة إلى إخراج الدراسات التاريخية والاجتماعية المغربية من قفص النظرية الانقسامية وتحريرها من قبضة النزعة الاستعمارية، متحصنين برؤى جديدة ومتسلحين بمناهج العلوم الإنسانية، محاولين دراسة المدونات المنقبية وكرامات أوليائها من حيث شكل من أشكال علاقة الإنسان بالعالم، وهكذا يمكن استخلاص التصورات الآتية:
1ـ الطموح إلى عام مثالي خالٍ من التناقضات: انتهى إليه إبراهيم القادري بوتشيش في دراسته لواقع الصوفي في الخلاء حيث يقتات هذا الأخير من النبات المر ويستأنس بالحيوانات، ويرى الباحث في هذا السلوك طموحا نحو عالم مثالي تنعدم فيه التناقضات والفوارق حتى بين الإنسان والحيوان، يقول القادري بوتشيش: “تسمح قراءة الحكايات الكرامية المتناثرة في كتابي التشوف والمستفاد بمعرفة تصورهم لهذا المجتمع المنشود الذي هو مجتمع خال من كل التناقضات، يعيش فيه الإنسان والحيوان والنبات في علاقة حميمية لا تنفصل عراها، وينعدم فيها الاستغلال والروح العدوانية بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والحيوان. وفي هذا الصدد تكشف بعض الكرامات مدى استئناس الإنسان بالحيوانات المفترسة كقاعدة سائدة داخل الكيان الصوفي […]، بل إن الحيوانات المتنافرة تجد مناخ التعايش السلمي مع بعضها في هذا العالم الذي رسمه المتصوفة. […] ولا يقتصر الاندماج في هذا المجتمع الصوفي على الإنسان أو الحيوانات المتنافرة فحسب، بل يشمل كذلك النبات والطبيعة وعلاقتها بالإنسان إلى درجة أن نظرة هذا الأخير تتغير تجاه المألوف والشائع، فعسلوج الكلخ والدفلى المعروفان بمذاقهما المر، يصبحان حلوي المذاق وكل من دخل في عداد هذا المجتمع الجديد الذي نادى به المتصوفة، لتغدو العلاقات بين مكوناته منسجمة تسودها روح المحبة والوئام (2).
ويحق لنا أن نتساءل: كيف يمكن لفكر أسَّسَ لتراتبية اجتماعية تفصل بين الصوفية الذين هم الخاصة، وغيرهم الذين نعتوهم بالعامة، وتراتبية أخرى داخلية تنظم المدارج والمسالك الصوفية، أن يدعو إلى مجتمع تنعدم فيه التناقضات حتى بين العاقل وغير العاقل. ومع ذلك فإن هذا التأويل قد أشار إلى طموح كامن لدى الصوفية، مفاده رغبتهم الأكيدة في بناء مجتمع وعالم تسودهما قيم معينة، فما هو هذا العالم؟
2ـ بناء عالم ممكن: يخلص محمد مفتاح في تحليله لإحدى مناقب كتاب التشوف، استناداً إلى ثنائية وجود عالمين، إلى أنه توجد “دينامية بين العالم الواقعي والعالم الممكن. إذ يمكن الذهاب من العالم الواقعي لبناء العالم الممكن” (3).
تصور منطقي لكنه لا يوضح طبيعة العالمين، فإذا كان العالم الواقعي معروفاً وهو المرفوض لدى الصوفية صراحة أو تضمينا، فإن هذا الباحث لم يكشف عن العالم الممكن ولا عن طبيعته، فهل العالم الممكن مجرد عالم أنتجته الكتابة الصوفية؟ ولنساير هذا التأويل ونقول، إن كان الأمر كذلك فإن هذا العالم الممكن لن يخرج عن كونه موجوداً في الفكر البشري عامة، والتصوف الإسلامي خاصة. فهذا العالم لا يرتبط بالعجيب والغريب، كما يمكن أن توحي به القراءة الأدبية والجمالية للكرامات، وإنما أكثر من ذلك يرتبط بعالم حقيقي يستند إلى تصور ديني ميتافزيقي. 3ـ الانتماء إلى المجال الطبيعي البري: ذهب إليه أحمد التوفيق في وصف حال الولي أبي يعزى يلنور، انطلاقا من ثنائية وجود مجالين: مدني وآخر بري، يقول: “يظهر أبو يعزى من خلال مناقبه وكأنه مسكون بهاجسين: هاجس الطبيعة بعنفوانها وصفائها، وهاجس الدعوة بالتذلل والمثال. وهذان العنصران يقع نقيضهما في مدن الأمراء والعلماء. فلا شك أن فرص السياسة والتجارة قد جعلت المدن تضيق بأنواع من التجاوزات للمبدإ الكوني للعدل، فكم من وحوش ضارية لا مروض لها، وكم من إسراف لا محتسب له، بينما فقد خطاب الدعوة كل حرارته […] ففي أزمة تحول حضاري، كانت المدن تمثل العلم والثقافة، وكانت البوادي غارقة في أميتها وأسلوبها في العيش الطبيعي، فكل ما كان يمسه أبو يعزى كان امتدادا لتلك الطبيعة، ولم يدخل في التصور الثقافي الجديد، أي إنه ظل في دائرة المجال البريء” (4).
يربط الباحث، إذن، بين سيادة الولي الصوفي على الطبيعة ببيئته الاجتماعية والثقافية، وشروطه التاريخية، حيث يظهر الصوفي شخصاً “محافظاً” على الأصالة؛ والأصالة هنا هي حالة الطبيعة، فهو يرفض الاندماج بل حتى الاقتراب من المؤسسات التي تشكل في مجموعها نسقا يُعرف بالمدينة، وهذا النسق هو الذي يحدد قواعد السلوك والانضباط. إلا أنه كلما تفشت فيه مظاهر الفساد كلما افتقد الإنسان لإنسانيته أو بالأحرى لطبيعته، لذا يلجأ الصوفي إلى إقامة علاقة جديدة مع مكونات الطبيعة، ورغم معقولية هذا التأويل فإنه يغفل البعد الوجودي وخيار الإنسان المصيري في تأسيس هذه العلاقة، ويتجلى هذا الخيار في البحث عن مساحة كبرى للذات لاستنشاق رائحة الحرية ورائحة “الانتصار” على الطبيعة.
هذا من جانب آخر، من جانب آخر لامس الباحث الموضوع وفق منظور إناسي، حين تحدث عن حياة المدينة (العمران)، ونقيضها المتمثل في الحياة في عالم الطبيعة، متجاوزا بذلك في دراسته للتصوف وكرامات الأولياء ثنائيةَ المدينة ـ البادية المتداولة في النظرية الانقسامية، إلى ثنائية جديدة: المدينة والطبيعة، بمعنى أن الباحث بتيَّن البعد الإناسي في التجربة الصوفية المعيشة وخطابها، من خلال رصد حركية الولي بين المدينة والخلاء، أو بين الثقافة والطبيعة.
4 ـ العودة إلى الأصل الحيواني: استنتجه الميلودي شغموم من الممارسات والطقوس الاحتفالية لبعض الطوائف المغربية حينما لاحظ “كيف يتحول الناس إلى “وحوش مفترسة” وكيف يتنافسون في هذا وكأن كل واحد منهم يريد أن يبرهن أنه أقدر من غيره على العودة إلى حيوانيته الأصلية” (5).
ويستلهم الباحث، هنا كما يتضح، أطروحة المفكر مرسيا إلياد، الخاصة بفكرة العودة إلى الأصل. إلا أنه لم يلامس العلاقة التي يقيمها الولي أو الصوفي مع الطبيعة، بقدر ما تطرق إلى سلوكات تبدو غريبة في التصوف وفي غيره من أشكال التفكير والسلوك عند الإنسان بوصفها تصرفات شاذة، وهنا نجد أنفسنا أمام إشكال بالغ الأهمية: ما هو الجانب الطبيعي في الإنسان، وإلى أي حد استطاع التصوف الكشف عن هذا الجانب؟ وهل هو عام يشمل جميع البشر، أم إنه متعلق بالصوفية فقط؟ وهل شكل الصوفية، فعلاً، جماعة لها التصور نفسه تجاه الطبيعة؟
5 ـ الحنين إلى الطبيعة/ الأصول: وهو تصور منصف عبد الحق انتهى إليه فيما يتعلق بعلاقة الولي بالطبيعة، بعد أن انتقد التفسير الفرويدي، قائلاً: “إن أطروحة الكبت الجنسي لن تفسر بما فيه الكفاية حب الطبيعة والأرض لدى المتصوفة الإسلاميين المتأخرين” (6).
يقرر الباحث انتفاء علاقة اللقاء بالطبيعة عن طريق الحلم والتخييل، وهو المجال الذي ينتعش فيه التحليل النفسي وأطروحة الكبت الجنسي؛ إذ يعدو حب الطبيعة من هذا المنظور تصعيداً لحب المرأة، ولرغبة جنسية مكبوتة، ليصل الباحث إلى أن علاقة الصوفي بالطبيعة “علاقة معيشة وممارسة عبر حياة الصوفي بكاملها. وقد سبق أن رأينا علاقة الفناء الصوفي بالرحلة الجغرافية والسفر داخل الطبيعة، بل يوجد الكثير من الصوفية الذين فضلوا الحياة والانزواء بين أحضان الطبيعة حتى يتمكنوا من رصد مظاهر الجمال الإلهي” (7). فماذا تمثل الطبيعة للصوفية حسب منصف عبد الحق؟ يمـيز الباحث، إذن، بين “طبيعتين” للطبيعة:
- الطبيعة الترابية، المذكرة بالجمال الإلهي المطلق، وبالعهد القديم المتمثل في رمزية آدم وحياة النعيم.
- الطبيعة المثالية، المعبرة عن الرغبة في عالم الخلد الأصلي (8).
وبعد تحليل الباحث لنصوص كل من ابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي توصل إلى أن “حب الطبيعة ـ لدى الصوفي الإسلامي ـ يجمع عناصر العبادة والافتتان وإرادة الخلود والحياة … إلى جانب الإحساس بالانفصام عن الأصول. غير أنه إضافة إلى كل ذلك، يتميز بخاصية فنية مرافقة لعنصره التراجيدي أيضاً: إن المتصوف يعتبر بأنه اقتلع غصباً عن أصوله، ولذلك ارتبط الحنين إلى الطبيعة بالحنين إلى تلك الأصول. هذا الحنين المزدوج الذي يغذي تجربة الحب الصوفي يعني إحساسا ًبغياب ما أو بوجود فراغ في الوجود الإنساني ووعيه يحاول الصوفي ملأه…” (9). ومن ثمة، تكون التجربة الصوفية في علاقتها بالطبيعة بمثابة استعادة لأصول وحنين إليها.
والحاصل أنه هذه الدراسات لتجربة الصوفي في المجال الطبيعي البري، أو في نظرته إليه، يمكن إجمالها في كونه يتراوح بين عالمين، أو بين مجالين، أو يعيش في عالم ويحن إلى آخر، ويتحدد ذلك في:
- طموح الصوفية إلى عالم مثالي.
- انتقال الصوفي بين عالميْ الواقع والممكن.
- رفض الصوفي لثقافة المدينة وارتماؤه في أحضان العالم البري الذي تمثله الطبيعة.
- خضوع بعض المتصوفة لقاعدة العودة إلى “الأصل الحيواني” للإنسان.
- حنين الصوفي إلى أصليْه الطبيعي والمثالي.
نلاحظ، إذن، أننا تجاوزنا الثنائية التي تقدمها النظرية الانقسامية باعتبارها مفتاحاً سحرياً لفهم ظاهرة التصوف ببلاد المغرب، إلى ثنائيات أكثر عمقاً ودلالة وارتباطاً بالفكر الصوفي وتجربة المتصوف، وتنتظم هذه الثنائيات ضمن حدود منزعين:
- المنزع الفلسفي: الواقع والمثال، والواقع والممكن، فيبرز مدى طموح الإنسان إلى عالم مثالي تتجسد فيه تجسيداً ملموساً إرادته الحقيقية، وينتفي فيه كل ما يعوق حريته وانطلاقه.
- المنزع الإناسي: المدينة والطبيعة، والإنسان والحيوان، بحيث يبرز كيف عبر الصوفي عن حجم معاناته في العالم، ومن ثم كيف بحث عن علاقات جديدة يجد فيها ما يجعل من تجربته الصوفية تجربة معيشة نظراً وعملاً.
وبعد الجمع بين المنزعين المذكورين نخلص إلى أن الصوفي يحنّ إلى أصل ما، وعالم يعبر حقيقة عن كنهه الإنساني، وفي هذا السياق يقول مرسيا إلياد: “إن التصوف هو الذي ينم ــ أكثر من غيره ــ عن إعادة الحياة النعيمية. ويتمثل أول أعراض هذه الإعادة في استعادة السيادة على الحيوانات” (10)، لكن السؤال الذي يطرح كيف تشكل لدى الصوفية هذا الحنين نحو عالم أصلي؟ وما هو هذا العالم؟
نكون في هذا السياق أمام أطروحة متينة؛ وهي أطروحة “الأصل“. فالصوفي كائن غريب في المدينة، أو في العمران البشري بحسب تعبير ابن خلدون. فعودته إلى الطبيعة، على هذا الأساس، تعني أنه كائن طبيعي، ما دام أنه جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الطبيعية، فهو ليس دخيلاً أو أجنبياً أو غريباً عنها بقدر ما هو منها وإليها، بحيث تشكل أصلاً من أصوله. لأن العودة إلى الطبيعة ما هي إلا عودة إلى الأصل الظلماني، أو بكل بساطة إلى أصله الترابي. لكن الأمر بالنسبة إلى الصوفي، فهذه العودة ليست من أجل إشباع متطلبات جانبه الجسدي الظلماني، وإنما من أجل تحرير جانبه الروحي النوراني من أسْر الجسد، حينما يجد نفسه في فضاء للتأمل والتدبر في الكون باعتباره آية على العظمة والجمال الإلهيين، عبر مسار التخلية والتحلية والتجلية. وكأن الصوفي حينما يريد أن يصير كائناً طبيعياً صرفاً، يحاول عبر هذه الطبيعة، أن يقف على الجمال الإلهي، فتتحقق له المعرفة والمحبة والقرب، يشعره حينها بالسعادة والامتلاء الوجداني كما لو أنه في الجنة.
وهذه الطبيعة المعَّبر عنها في كتب التصوف والكرامات ما هي إلا صورة للجنة الأولى التي طرد منها الإنسان؛ فالتصوف، على هذا الأساس، هو محاولة من الإنسان للتحرر من قيود العلاقات الإنسانية وغيرها، وتحرير روحه من مستلزمات الجسد، من أجل الوقوف على الحقائق والتقرب من الله؛ أي أن التصوف الذي هو معرفة وتجربة، هو طريق إلى الله والقرب منه، أي هو طريق إلى الجنة ونعيم المعرفة.
يمكن القول إن الحنين إلى الطبيعة هو حنين إلى الجنة، وإن حياة الإنسان في الطبيعة، هي استعادة للحياة في الجنة والطموح إليها. فالتوجه إلى الطبيعة جزء من حركية الصوفي على المستوى المجالي، وجزء من تجربته الحياتية، في خضم بحثه عن الحقيقة المتأرجحة بين الشك واليقين، وفي هذا الصدد يقسم أبو الحسن المراكشي الأولياء من حيث حركيتهم بين العمران والخلاء، أو بين الثقافة والطبيعة، إلى ثلاث طبقات (11):
- أولياء يستقرون ببلد من البلدان.
- أولياء ينتقلون من بلد لآخر.
- أولياء يتركون العمران البشري ويتجهون إلى الخلاء.
وتتحكم في هذه الحركية أهداف علمية تعليمية أو عملية أو تأملية، تنتهي بهم إلى الاستقرار في غالب الأحيان بالمدن أو الحواضر الكبرى التي هي في الواقع أكثر استقطاباً لرجال التصوف (12). وإذا حاولنا توضيح علاقة الأولياء بالمجال المنتمى إليه، أمكننا الحديث عن ثلاث مراحل:
- مرحلة الخروج من العمران البشري.
- مرحلة الاستقرار بالخلاء خارج العمران البشري.
- مرحلة العودة إلى العمران البشري خاصة المدينة.
وكما رأينا، استرعت انتباه المصادر القديمة والدراسات الحديثة لحظةّ خروج الولي في الطبيعة البرية حياته بها، وعلاقته بمكوناتها النباتية والحيوانية، مما يوحي أن هذه الحياة لها دلالتها. فما هي الوظيفة التي تؤديها الطبيعة في هذا النوع من الفكر الإنساني؟ وكيف تحضر باعتبارها عنصراً له أهميته في الإجابة عن أسئلة الصوفي في مسلكه الحيوي وتجربته الفكرية؟
3ـ الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة:
تحضر الطبيعة في المعجم العربي، وفي الفكر الفلسفي، بمعنى الماهية والأصل، كما تحضر بمعنى القوة الكامنة في الشيء والحركة (13)، فتجسد بالنسبة للصوفية العودة إلى الأصل، وإلى الفطرة والحالة الأولى، مادام التصوف يتوخى العودة بالإنسان إلى حالته الطبيعية؛ أي إلى فطرته. وتجسد أيضاً القوة السارية التي يسعى بها الإنسان (الصوفي)، إلى تقديم التصوف ثقافة بديلة للعمران البشري. وهي على هذا الأساس ليست مجالاً للخوارق فحسب، كما تصور ذلك كتب المناقب، وإنما تحمل دلالة الأصل والفطرة. إن الإنسان لا يمكن أن يكون كذلك إلا من حيث كونه كائنا طبيعيا، تقبله المنظومة الطبيعية ويقبلها، ويتفاعل معها إلى أبعد حد.
فالانتقال من المدينة والثقافة إلى الطبيعة هو بمثابة رفض لثقافة المدينة، وطلب لثقافة طبيعية يكون فيه الإنسان حراً طليقاً، ينعم فيه بالقرب من الله، وبعلاقات متميزة مع مخلوقاته. ولهذا، تكون العودة إلى المدينة تعبيراً عن النزعة الاجتماعية في الإنسان التي لا يمكن له أن يتجرد منها، ورغبة في إصلاح المنظومة الثقافية الفاسدة، بتقديم البديل الطبيعي وهو التصوف، الساعي إلى استعادة الإنسان. والتصوف يظهر في هذا المقام بوصفه نزعة إنسية، يعمل على الرفع من الإنسان من حيث هو قيمة عليا، وهو بذلك يحتوي على مضمون فكري وفلسفي عميق حينما يتخذ من الإنسان موضوعاً له.
إن حياة الصوفي في الطبيعة، كما تصورها لنا المدونات الصوفية عامة والمنقبية على وجه الخصوص، تروم الدفاع عن الولاية الصوفية وتأكيدها. والسقوط في دوامة دحض كرامات الأولياء، أو الدفاع عنها، غير مجدٍ علميا، وإنما ينبغي البحث عن المضمر في هذه الكرامات والخوارق، وفي العنصر الناظم لمختلف أنماط السلوك والتفكير الصوفيين. من هذا المنطلق أمكننا القول إن التصوف، يسعى عبر الطبيعة، إلى الالتحاق بالعالم العلوي، للتخلص من إكراهات الحياة ومستلزماتها، والتحرر من القيود التي تلحق الإنسان من جراء ارتباط الروح بالجسد، أو ما يسميه ابن الخطيب بـ”أسر الوجود” (14)… وبذلك تكون جملة تلك الخوارق، أو الانتصارات على الطبيعة وقوانينها، تعبيراً عميقاً عن الرغبة في بلوغ “الإنسان الأعلى”، ولأم الجرح الذي أصاب الإنسان من جراء نزوله إلى العالم الدنيوي الأرضي بعدما كان ينعم في الجنة بحياة سعيدة، حيث تسببت الخطيئة في خروجه منها وهبوطه إلى هذا العالم.
4ـ استعادة الجنة:
يُميز محمد إقبال، بعد تطرقه لفكرة خروج آدم من الجنة، بين حالتين للإنسان؛ حالة الجنة وحالة الأرض، مميزا بين خصائص كل واحدة على حدة، يقول: “وعلى هذا فإنني أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها في القرآن تصويرا لحالة بدائية يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش فيها، ومن ثم فإنه لا يحس بلدغة المطالب البشرية التي تحدد نشأتها، دون سواها من عوامل بداية الثقافة البشرية” (15). إذن، فمحمد إقبال يحدد انتقال الإنسان من حالة مرحلة الطبيعة إلى مرحلة الثقافة من منظور فلسفي لا من منظور إناسي، فهو ينتقل من هذه الحالة البدائية إلى حالة الثقافة بفعل “ارتقاء الإنسان من بداية الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان” (16). وهذا ما قاده إلى نفي أي معنى قيمي عن هذه العملية؛ أي ليس له أي دلالة “فساد أخلاقي، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس وهو نوع من اليقظة من حلم الطبيعة أحدثتها خفقة من الشعور بأن للإنسان صلة علية شخصية بوجوده” (17).
إلا أن المتفحص للفكر الصوفي وفنونه يدرك أن الوجود الأرضي للإنسان وجود شقاء، من جراء سعي الإنسان إلى كسب قوته، وتنظيم حياته في مختلف أبعادها، وكذلك من جراء ارتباط الروح بالجسد لأن رغبات الجسد تختلف عن نظيرتها الروح، اللهم إلا إذا استأنست هذه الروح بها. كما أن التصوف يرى أن الإنسان يتحرر إذا ما تحررت روحه من جسده، لترتقي نحو عالمها العلوي، ويتحقق ذلك بفعل الموت، انطلاقاً من كون الأرض مجال لعذابات الإنسان، وهذا ما انتقده محمد إقبال من المنظور الإسلامي، الذي يجعل من الأرض مجال الاختبار والاختيار للإنسان. وهو الأمر الذي يتجلى في مقاساة الروح في الجسد، بمعنى أنّ عليه أنْ يختار بين مطالب الجسد، ومطالب النفس الأمارة بالسوء، أو أن يتسامى لسمو الروح. إذن، فمحمد إقبال يجعل الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة انتقالا من حالة بدائية للإنسان كغيره من المكونات الطبيعية إلى حالة الثقافة باعتباره ذاتا حرة واعية لها علاقات بالبيئة ومرتبطة بالمطالب البشرية.
والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن التصوف تعبير عميق عن معاناة الإنسان في العالم الدنيوي وسعيه الحثيث نحو العالم الآخر. إنه يعمل على استعادة العالم الأول؛ عالمه الأصلي ومكانه الطبيعي. فالانتقال من الجنة إلى الأرض هو انتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة؛ الجنة تمثل حالة الطبيعة، والأرض تمثل حالة الثقافة؛ فإذا كانت الدراسات الإناسية قد صورت الانتقال من الطبيعة الثقافة كان عبر اكتشاف النار، والانتقال من حال العري إلى اللباس، والانتقال من النيئ إلى المطبوخ، ووضع قواعد العلاقات الاجتماعية عن طريق الزواج المحرم (18)، فإن الأمر مختلف هنا من المنظور الصوفي، لأنه لم يتخذ شكل “انتقال”، وإنما خروج أو بالأحرى هبوط من الجنة إلى الأرض؛ فالحركة هنا عمودية في حين أنها أفقية في علم الإناسة.
….
الهوامش
1ـ انظر: المغرب والأندلس في عصر المرابطين، إبراهيم القادري بوتشيش. دار الطليعة، بيروت، 1993، ص. 126. التصوف المغربي في القرن السادس الهجري، مقدمة لدراسة تاريخ التصوف بالمغرب، عبد الجليل لحمنات، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، كلية الآداب الرباط، 1988- 1989 (مرقون)، ص. 32-36.
2ـ تاريخ الغرب الإسلامي، قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة، ابراهيم القادري بوتشيش، دار الطليعة، بيروت، 1994، ص. 114.
3ـ الواقع والممكن في المناقب الصوفية، لمحمد مفتاح، ضمن: التاريخ وأدب المناقب، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، الرباط، 1989، ص. 31.
4ـ التاريخ وأدب المناقب من خلال مناقب أبي يعزى، لأحمد التوفيق، ضمن: التاريخ وأدب المناقب، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، الرباط، 1989، ص. 90.
5ـ المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي، الحكاية والبركة، الميلودي شغموم. مكناس، 1991، ص. 223.
6ـ الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج ابن عربي، منصف عبد الحق. منشورات عكاظ، الرباط، 1988، ص. 411.
7ـ الكتابة والتجربة الصوفية، ص. 411-412.
8ـ الكتابة والتجربة الصوفية، ص. 412.
9ـ الكتابة والتجربة الصوفية، ص. 419.
10ـ الحنين إلى الجنة في التقاليد البدائية، دراسة أنثربولوجية، مرسيا إلياد، ترجمة محمد يشوتي، العلم الثقافي، س 28، 31 يناير 1998 ، ص. 11.
11ـ المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، عبد الحق البادسي، تحقيق سعيد أعراب، الرباط، 1993، ص. 20ـ25.
12ـ الولاية الصوفية والمدينة، محمد رضى بودشار، مجلة أمل، ع. 41 (خاص بـ: التصوف في المغرب؛ قراءات وتأويلات)، 2013، ص. 35ـ36.
13ـ انظر: لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، 1997، ج. 8، ص. 238. التعريفات، الشريف علي بن محمد الجرجاني، مكتبة لبنان، بيروت، 1978، ص. 140. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية، جورج صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ص. 13.
14ـ استنزال اللطف الموجود في أسر الوجود، ابن الخطيب، تحقيق عبد الرحيم علمي يدري، المناهل، ع. 53، س. 21، 1997، ص. 276.
15ـ تجديد الفكر الديني، محمد إقبال، ترجمة عباس محمود، القاهرة، 1968، ص. 99.
16ـ تجديد الفكر الديني، ص. 99.
17ـ تجديد الفكر الديني، ص. 99.
18ـ دراسات ميثولوجية، حوار مع كلود ليفي ستروس، أجراه معه ريمون بيللو، ترجمة مصطفى كمال ومصطفى المسناوي، بيت الحكمة، ع.4، س. 1، يناير 1987، ص. 5ـ7.
لماذا تستعملون الغزو الاسلامي فهو الفتح الاسلاني