التفاسير الصوفيّة- ألكسندر كنيش

التفاسير الصوفيّة- ألكسندر كنيش

التفسير الصوفيّ للقرآن

حقبة التأسيس والفترات اللاحقة[1]

ألكسندر كنيش

ترجمة: علي السعيدي

[يعرض ألكسندر كنيش في هذه الدراسة عرضًا لأهم التفاسير الصوفية للقرآن الكريم، ونقدّمها للقارئ العربيّ على حلقات متتابعة]

الحلقة الأولى

مقدمة

تتناول هذه الدراسة نمو التراث التفسيريّ الصوفيّ للقرآن الكريم، منذ نشأته في القرن الثامن الميلادي، مروراً بحقبة التأصيل في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وحتى نضوج ثمرته في نهاية العصور الوسطى. وتولي هذه الدراسة اهتماماً خاصاً بمفسري القرآن الكبار من السُنّة، وبتقنيات وأساليب التأويل التي وظفوها لاستنباط المعاني الباطنية للقرآن، من أجل إثبات تفوق طريقتهم الإشراقية في التأويل على مفسري الظاهر من غير المتصوّفة، المهتمين بالبعد التاريخي ـــ اللغوي والأخلاقي والتشريعي للتفسير. كذلك توضّح هذه الدراسة الفرق بين نمطي التفسير الصوفي، المتسم بالنزعة الاعتدالية، والتفسير المتميز بالجرأة، جنباً إلى جنب مع مدرستي التصوّف المعروفتين: المدرسة الكبروية، نسبة إلى نجم الدين كبرى (ت 618 ه/1221 م)، والمدرسة الأكبريّة نسبة إلى الشيخ الأكبر ابن عربي (ت 638 ه/ 1240 م).

التصوّف: نظرة عامة موجزة

التصوّف حركة روحية إسلامية اتسمت بالزهد والتنسّك، وقد نشأت في العراق في العصر العباسي الأول (حوالي منتصف القرن الثالث الهجري/ العاشر الميلادي). وبعد ذلك انضوى المهتمون بهذه النزعة إلى ما صار يسمّى بـ’ التصوّف’.  وفي القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أوجد مشايخ الصوفية بُنية معيارية كلامية وميراثًا أدبيًا، أصبح مرجعاً ومصدراً للهوية الصوفية، وحجر الأساس لأتباع التصوّف في القرون الوسطى وما تلاها. ومع الظهور الأول للطرق الصوفية في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، أصبح التصوّف جزءاً أساسياً من الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإسلامية.

وفي العصر الحديث، تعرَّض التصوف إلى انتقادات قاسية من المسلمين الحداثيين والأصوليين واليساريين، بوصفه مجرد أثر من الماضي وأنَّه المسؤول عن ديمومة الخرافات الباطلة والبلادة والكسل الاجتماعي والطقوس الفارغة. ومع ذلك، تمكن التصوّف من تجاوز حملات النقد، وبقي مرتبطاً بحياة المجتمعات الإسلامية في كل أنحاء العالم (Knysh, 2010 and 2017 ).

التديّن الصوفيّ والقرآن

يعد القرآن الكريم، منذ نزوله الأول، المصدر الرئيس للتأمل والإلهام لكل مسلم متديّن، سواء أكان صوفياً من الناحية الرسميّة أم لا. لقد اكتسبت العديد من المفاهيم والمصطلحات الصوفيّة أصلها من النص القرآنيّ، الأمر الذي منحها المزيد من الشرعيّة التي تحتاجها في عيون المتصوفة والمسلمين الآخرين، على حد سواء. وفي الوقت نفسه، واجهت التفسيرات الصوفية للقرآن -وكذلك الممارسات والقيم والمعتقدات الصوفية- وبشكل متواصل تحدياً من ممثلي المؤسستين الدينيتين السنّية والشيعية من ذوي التأثير، ما نتج عنه أحياناً اضطهاد وتنكيل ببعض الشيوخ من المتصوفة (de Jong and Radtke 1999) . ولطالما اتُهم المتصوّفة بالمبالغة في توظيف النواحي الرمزية في القرآن، وأنّهم يزعمون امتلاكهم فهماً حدسياً خاصاً لمضامينه، متجاهلين معناه الحرفي الظاهري. وللرد على منتقديهم، استخدم المدافعون عن التصوّف وبدقة كبيرة آيات من القرآن، لإضفاء الشرعية على نمط فكرهم وممارساتهم الإسلامية.

وتؤكد تلك الآيات على حالة القرب والحميمية بين الله وعباده من البشر، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ  فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ( البقرة:١١٥) وقوله تعالى : ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ  فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ ( البقرة:١٨٦) وقوله: ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه: ٧) والآية ﴿ ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ  إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ( المجادلة: ٧)، وغيرها من الآيات. وهكذا، يوضح الله بقوة في الآية ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ  وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ( ق:١٦) قربه المباشر من عباده إذْ يعلن أنّه أقرب لعبده ‘من حَبْلِ الْوَرِيدِ’. ويتم أحيانا تناول حالة القرب الحميمة بين الله والإنسان بتعابير الحبَّ المتبادل بينهما، كما في الآية ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ( المائدة:٥٤) ( انظر السور3 : 31 ، 3 : 76 ، 3 : 134 ، 3: 146، 3 : 148 ، 5 : 93).

كما يعتبر المتصوفة أنفسهم الأمثلة العليا للتدين والاخلاص لله، وأنهم الورثة الحقيقيون للنبيّ، ويفهمون تلك الآيات بشكل أساسي، إنْ لم يكن بشكل حصري على أنّها تشير لهم.  ومن خلال تشكيل عالم كوني صوفي ماورائي متميز، تعاطى المفكرون المتصوفة مع القرآن بأساليب جديدة ومبتكرة. وهكذا، تعد الآية الشهيرة  التالية في سورة النور ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ  الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ  الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ  نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ  يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ  وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ  وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ( النور:٣٥) مصدراً للاستفاضة بتوليد المعاني الصوفية حول موضوع النور والظلمة والصراع الأزلي بين الروح والمادة. وحسب المفسرين المتصوفة الأوائل، فإنَّ الله يهدي لنوره من يشاء، كما في الآية ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة:٢٥٧). ومع ذلك، فإن لله عناية خاصة بالأتقياء المتواضعين الخاشعين من عباده الذين كرسوا أنفسهم بإخلاص منقطع لعبادته. وبالمقابل، يضمن الله لهم الخلاص في الحياة الآخرة كما في الآيات التالية: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ( البقرة:٣٨) والآية ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى  لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ( البقرة:٢٦٢)  والآية ﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ( ال عمران:١٧٠)… وغيرها من الآيات.

ويصف المتصوفة المسلمون أنفسهم، بشكل ثابت، بأنّهم أخلاّء الله أو أولياءه، مستندين  للآيات التالية: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ  إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ( الأنفال:٣٤) والآية ﴿َألَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ( يونس:٦٢) والآية ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ( الجاثية:١٩).  وفي التراث الصوفي، يوصف هؤلاء الصفوة المختارة على الدوام أنّهم الهُداة والشفعاء للمؤمنين العاديين، وأنّهم يتمتعون بمرجعية مشايخ الصوفية من الأموات والأحياء.

ويقدم القرآن من الأدلة للمتصوّفة ما يبرر زهدهم في الدنيا وأوبتهم إلى الله. وبالتالي، فإنّ الآية ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ  قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف:١٧٢)، والتي ترد بشكل واضح في التفاسير الصوفية، تصف الميثاق الأبدي بين الله وعباده (Bowering, 1980: 146-65). وخلال هذا الحدث العظيم، بدا الجنس البشري أمام الله كحشد من الأرواح الخالصة. لقد طلب الله تعالى من هذه الأرواح أنْ تشهد له بالربوبية المطلقة، وقد أقرّت له بذلك. ومع ذلك، وبمجرد أنْ وهبهم الله أجساداً حرونة ومفعمة بالشر، نسي معظم البشر عهدهم، ولهذا يحتاجون دائماً لمن يذَّكرهم به من رسل الله وأنبيائه. ويدرك عباد الله المطيعون له أنَّ وجودهم الجسماني في هذه الدنيا ليس سوى اختبار. لهذا، تراهم يجاهدون لتجنّب إغراءاته وحبائله، والعودة دائما إلى حالة الإيمان الفطري وإلى ربهم الذي شهدوا له بالربوبية يوم الميثاق. ويتحقق هذا الهدف عبر تضييق دائرة الدوافع الفاسدة للنفس التي تسحب المؤمنين إلى الشر، أيّ النفس الأمّارة، كما في الآية ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (يوسف:٥٣).

وفي حال نجاحه، تتحول نفس المتصوّف العنيدة إلى النفس المطمئنة كما في الآية ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ (الفجر:٢٧)، وهي النفس العاجزة عن معصية ربِّها. ويقدم التراث الصوفي الوسيلة لتحقيق تلك الغاية: حياة قائمة على الزهد والتدبير، وتأمل خاشع، وذكر الله على الدوام. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا﴾ (الكهف:٢٤). وفي النهاية، تعمل الآيات التي تصف الخبرات الإشراقية للنبي محمد ( صلوات الله عليه وعلى آله) ، خصوصا الآية ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير﴾ُ (الإسراء :١ ) والآيات ( 1- 18 من سورة النجم) على تحفيز المتصوفة على محاولة تمثّل حالات النبي الروحية، خصوصا وأنَّ القرآن يشجع المؤمنين على الاقتداء بالنبي بشكل متكرر، كما في الآية ﴿ كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ  إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ( البقرة:١٤٣) والآية: ﴿وإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ  وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ  فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا  وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ ﴿ آل عمران:٢٠﴾ وغيرها.

وفي حين تتناغم تلك الآيات مع تطلعات الجيل الأول من المتصوفة والزهاد المسلمين، فهنالك آيات لا تعبِّر عن تلك الغاية؛ لأنَّها توجب الاعتدال في العبادة، والاستمتاع بالعائلة، والقيام بالمسؤوليات الاجتماعية، كما لا تشجع على التأثُّر بالغلوّ الموجود في الرهبنة المسيحية، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ ( النساء٣- ٤) والآية ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ  وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ  بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ  ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ  وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ  وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ  وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ ( النساء ٨ــــ٢٥) ، والآية ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ  سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ( التوبة:٣١)، والآية ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا  فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ  وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ( الحديد:٢٧). ومع ذلك، فإنَّ هذه النصوص القرآنية مضافةً للعديد من الأوامر التي تنهى عن السلوك الداعي للانسحاب من الحياة الدنيا والموجودة في سنة النبي، قد تم تجاهلها أو جرى فهمها بشكل مجازي، خصوصاً أنَّ بعضها غير قطعي الدلالة أو مُلغَز، كما في الآية ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا  وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ  ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ( المائدة: ٨٢) التي يمكن تفسيرها كنقد ومديح للرهبان المسيحيين، في الوقت نفسه. بيد أنَّ وزن الدليل القرآني والضغوط الاجتماعية كانت وبشكل مستمر تجبر غالبية المتصوّفة على أنْ يتبنوا موقفاً وسطاً، يسمح لهم بالمساهمة في الحياة الاجتماعية، وإنشاء الأُسر الخاصة بهم، في الوقت الذي بإمكانهم مواصلة رسالتهم الصوفية. وبينما بدأ كيان المعرفة الصوفيّة بالتَشَّكُل والنمو مع مرور الزمن، وأصبح التصوَّف نظاماً من الطقوس والتعاليم واضح المعالم، برز نوع من التفسير الصوفيّ الخاص الذي يهدف إلى ضبط النصوص الصوفية وتسويغها، وتشجيع المريدين.

[1] . صدرت هذه الدراسة عام 2020 بعنوان:

The Oxford Handbook of Qur’anic Studies, ed. By Mustapha Shah and Mohammad Abdel Haleem, 2020, pp.746-766, London: Oxford University Press.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!