رحلة المريد في معارج اليقين 

رحلة المريد في معارج اليقين 

رحلة المريد في معارج اليقين 

د. وفاء أحمد السوافطة

إن التقسيم، الذي توصل إليه فلاسفة التصوف، للتمييز بين علم اليقين (الإسلام)، وعين اليقين (الإيمان)، وحق اليقين (الإحسان)، لم يكن القصد منه الغضّ من قيمة أيٍ من مكوناتِ تلك المنظومة، بقدر ما كانوا يقررون حقيقة علمية مؤدّاها أن القدرات البشرية متفاوتة في استعدادها المعرفي؛ ولذا، فقد أوجد الله، عزَّ وجل، لكل فئة من الناس، ما يناسب قدراتهم واستعداداتهم المعرفية. يقول أبو يزيد البسطامي: ” اطلع الله على قلوب أوليائه، فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفاً، فشغلهم بالعبادة ” ([1]).

وورد، في رسالة لذي النون المصري (ت245هـ/ 956م)، عنوانها الكلام على البسملة، أن معرفة الله على ثلاثة أوجه: 

الأول، معرفة التوحيد، وهي لعامة المؤمنين؛ 

والثاني، معرفة الحجة والبيان، وهي للعلماء والحكماء والبلغاء؛ 

والثالث، معرفة صفات الوحدانية والفردانية، وهي لأولياء الله ([2])

وقد أُغرم المتصوفة بهذا التدرّج ـ التصنيف الثلاثي للمعرفة ـ، فلاقى صدىً عميقاً في فلسفتهم([3]). إذ اعتمد الغزالي عليه في تصنيفه المعروف بين إيمان العوام، القائم على التقليد؛ وإيمان المتكلمين، المعتمد على الاستدلال؛ وإيمان العارفين اليقيني، المعتمد على اليقين([4])

والشيخ علي نور الدين اليشرطي (1794-1898م) لا يبتعد عن هذه القاعدة، وخاصة أنها تنسجم مع نظريته في القابل والاستعداد، فهو، في حديثه مع مريديه، وهم متفاوتون، ركّز على المقام الثالث (حق اليقين). لكنه، تحدث مليّاً معهم عن المقامات السابقة على هذا المقام، لأنه كشيخ طريقة يريد تربية مريديه على تجاوز كافة المراتب، وصولاً إلى الهدف الذي سلكوا الطريقة من أجله. 

وعلى الرغم من أن الشيخ اليشرطي يقول: إن الصلة بين الشيخ ومريديه تتكون في عالم الذر، فإنه يعطي الأحكام ظاهرها، فيأمر مريديه بالعمل والجد والاجتهاد، ومع أنه مطّلع على قوابلهم واستعداداتهم، لكنه لا يريد سلب الحياة الإنسانية معناها، وتفريغها من محتواها. ولذا، فقد ركّز الشيخ على هذا التدرّج المعرفي، من الحس، إلى التجريد العقلي، إلى الكشف الباطني. يقول الشيخ اليشرطي: (( كل فرد، من الأفراد الكمّل، يربي أرواح مريديه، من عالم الذر([5])؛ وعند ظهورهم في عالم الشهادة، يعطي المريد على قدر محبته واستعداده ))([6]). وقال، في مناسبة أخرى: ((… روحانية الشيخ ترعى المريد في عالم الأرواح. وعند ظهوره في عالم الأشباح، ترعاه روحانية شيخه، وتجعل له سبباً يقرّبه، شيئاً فشيئاً، إلى شيخه، إلى أن يأتي إليه ويبايعه))([7]). وقال، أيضاً،: ((أرواح المريدين مربوطة بروح الشيخ… كذلك المشايخ يتسبّبون للفطرة لكي يربّوا قوابل المريدين فيها؛ لأنه إذا أُعطي المريد، بدون أن يكون عنده القابل، يخرج زنديقاً.. وإذا مضت حياة المريد، ولم يكن تربّى له قابل في ذلك الوقت، لابد أن يعطيه إياه، ولو في آخر نَفَس من عمره))([8]).

لكن ماذا يقصد الشيخ اليشرطي بقوله: (( بدون أن يكون عنده القابل ))، وقولـه: (( ولم يكن تربى له قابل ))؟ هل هذا يعنى أن بعض المريدين لا يمتلكون القابل؟ أو أن بعضهم لا يكون قد تربى له القابل؟. إن الشيخ اليشرطي يرى أن القابل، وهو ” الإيمان بالقوة ” ([9])، موجود في كل إنسان. لكنه، حتى يخرج من ” الإيمان بالقوة” إلى ” الإيمان بالفعل”، يحتاج إلى شيخٍ صوفي مربٍ، يصوغ قابله ويصهره، حتى يتبلور ويصير قادراً على التمييز، وإدراك ” اليقين “. لذا، يرى الشيخ اليشرطي أن المريد يظل يُراوح ((بين الشك والتردّد واليقين، حتى يَرِدَ عينَ اليقين ))([10])

وهذا معناه أن علم اليقين، هو مقام يقوم على الاستنباط والاستنتاج، وهي فعاليات عقلية؛ والعقل عُرضة للشك والتردد، ما لم يصل إلى درجة عين اليقين. ففي مقام العلم، قد يظهر لكل قضية نقيضها، ولا يتحقق للعقل الاستقرار والطمأنينة، حتى يرد مقام عين اليقين، وهو أرض الإيمان، التي تعتبر أول مدارج الثبوت أو اليقين، وهي اللحظة التي يصفها الشيخ اليشرطي، في حديثه السابق، بأنها تجري فيها تربية قابل المريد، أو صياغته، وتهيئته لبدء رحلة “الاستعداد” والعمل للوصول إلى عالم الملكوت والروح.

إذن، فـ “علم اليقين ” لم يكن في لحظة من اللحظات يعني للعارف إلا محطة سفر باتجاه “حق اليقين“. إنه مجموعة من الفَرَضيات التي تحتاج إلى تحقيق. أما عين اليقين فهو المعبر أو المدخل الذي يفصل بين الظاهر والباطن، أو بين الشريعة والحقيقة؛ أو هو، بلغة أخرى، “التجربة” الإيقانية التي تحدد موقف العارف من الفرضيات التي تعرض أمامه. فهل يسلّم العارف الذي يصل إلى عين اليقين بكل المعارف التي يصل إليها؟ أم يظل يعاني من خلَجات الشك والتردد؟.

إن من تفاصيل نظرية الشمول الصوفي اتحاد الشريعة والحقيقة، بلا تناقض، وبلا خلط أو لبس. وفي الوسط، تقف البوابة التي يدخل منها العارف إلى عالم الغيب، أو عالم الروح. ولذلك، سُمّيت (عيناً)، لأن العين أداة معرفية متقدمة تتجاوز الحواس الأخرى، وتعطي العارف نسبة من اليقين، يمكن أن تتطوّر جدلياً، لتصل إلى درجة اليقين المطلق، حين ينفرد التصوف، هنا، بأنه لا يفترض وجود حقيقة مطلقة وحسب، بل حقيقة مطلقة يمكن معرفتها والاتصال بها ([11]).

إن مجرد استخدام مصطلح (عين) يقودنا، هنا، إلى إشكالية الأداة المعرفية، إذ ميّز فلاسفة التصوف بين “شعاع البصيرة، وهو نور العقل المنبسط على الوجود”، وبين “عين البصيرة، وهي نور القلب المنبسط في بساط الإيمان”، و “حق البصيرة، وهو نور القلب المنبسط في بساط العرفان ” ([12]). وقد تابع الشيخ أحمد زروق شيخه ابن عطاء الله السكندري، في تمييزه بين أدوات الإدراك؛ فجعل ما كان للتمييز ” بصيرة “، وما كان للتحقيق ” سريرة “. ” ومورد التجلي هو الروح، كما أن موقع الشهوات هو النفس؛ ومحل الفهم هو القلب، وبساط الأحكام العقلية هو العقل”([13]). وجرياً على ذلك، ميّز السكندري، كذلك، بين ثلاثة أنواع من العارفين، بالقياس إلى شهود الأحدية، وهم: 

1 ـ عارف يتوصل إلى شهود الأحدية بشعاع البصيرة، أو نور العقل.

2 ـ وآخر يتوصل إلى شهود عدمه هو، بالقياس إلى أحدية الله، بعين بصيرته.

3 ـ وثالث يتوصل إلى شهود الأحدية، في حال الفناء عن نفسه وعن عالم الأشياء، بالذوق([14]).

وتتوسع أزمة المصطلح لتتعدى الأدوات الإدراكية، إلى تحديد لكلمة (معرفة)، لتصبح (عرفاناً). فقد ظهرت هذه الكلمة عند متأخري متصوفة الإسلام، لتدل على نوع أسمى من المعرفة يلقى في القلب على صورة كشف أو إلهام. وعندما نقول أسمى، فمعنى ذلك أن هذا النوع من المعرفة يتعدى معرفة المؤمنين البسطاء، لأنه، من جهة، هو معرفة بالأمور الدينية تخصيصاً، وهو، من جهة أخرى، أرقى من معرفة علماء الدين الذين يعتمدون النظر العقلي، كاللاهوتيين والمتكلمين([15]).

بقي الآن أن نتعرف إلى الهدف أو الغاية التي من أجلها تم تحديد أو صياغة الترتيب المتدرج. فما هو المطلوب من المؤمن في أرض عين اليقين؟ المطلوب، هنا، أن يتجاوز الحسيات والاستدلال العقلي، للوصول إلى الحقيقة المختفية عن الأنظار، وهي حقيقة (( قيومية الحق… المتجلية في الوجود، والقائمة في كل ذرة من ذراته. ولا يكون لشيء حكم بدونها. وبدونها، لا يثبت أي شيء… ))([16]). فالمتصوف في هذه الأرض، لم يصل إلى الحقيقة الكاملة، لكنه يعيش مجموعة من المعارف التي تجمعت لديه نتيجة وقوفه في منتصف الطريق بين العقل والكشف. لذا، فالمطلوب منه أن يؤمن بأن ما تقع عليه حواسه، من مظاهر وجودية، إنما هو مظاهر لحقيقة واحدة. إذ يرى الشيخ اليشرطي أن هذه المخلوقات إنما هي مظاهر الحق. ولكن أطوارها متعددة، فمنها الثابت ومنها المتلوّن. وهو يدرك أن هذا لا يُدرك بالعقل المقيّد، بل ((بمعرفة الله، ذوقاً وحالاً ))([17]). إن معرفة الله “ذوقاً وحالاً ” مرتبطة، بصورة أو بأخرى، بمعرفة حقيقة القابل المحمدي. 

لكن في هذا المقام، مقام (عين اليقين)، طالما أن الإنسان تتنازعه أرض العلم النسبي (العقل الاستدلال، والنفْس الشهوة)، وسماء المعرفة المطلقة (الحقيقة الإلهية ـ المحمدية). فالمتصوف يظل في حركة جدلية دائبة وصاعدة، تتحكم فيها تجليات الأسماء الإلهية وتنـزّلاتها على قلبه، حتى يصل سماء السكون ـ اليقين([18]). وسماء السكون لا تعني أن حق اليقين سكوني “جامد” لا حركة فيه، بل هو يقصد سكون أحوال العقل، من شك ويقين، وحركة القلب، باتجاه تحصيل المعارف والمقامات. يقول الشيخ اليشرطي: ((الإنسان مخلوق من الحركة، وما تزال تتجدد معه. انظروا هذه الأشجار، كيف تتقبل تجليات الأسماء والصفات، دون أن تنتقل من مكانها. أما الإنسان، فهو ما يزال بمجلى تجليات الأسماء والصفات. فحينما يتجلى عليه الاسم (القابض)، لا يصبر عليه. فإذا تجلى عليه الاسم (العليم)، يعلم الشيء من ناحية، ويجهله من ناحية أخرى. فينبغي عليه أن يكون عبداً لتجلّي المتجلي عليه، ويصبر، حتى يأخذ التجلي حكمه))([19])

وحتى يتغلب المتصوف على معوّقات فكره، وتردّده بين شكٍ ويقينٍ، وينعم بجنّة اليقين، عليه أن يوسّع مُكناتِ قلبه، وأن يطلق طاقاته الروحية الحبيسة داخل وعيه، حتى يصبح قلبه عرشاً للحق، وعندها، تتجمع في قلبه صفات الحق، ويسمو بعرش قلبه لمرتبة العرش الأصغر، سعياً للوصول إلى العرش الأكبر، مرتبة الثبات والتوحيد، التي هي من أخصّ خصائص الحضرة الإلهية. يقول الشيخ اليشرطي: ((العروش عرشان: عرش أكبر، وعرش أصغر؛ فالعرش الأكبر باطنه ثابت وظاهره متلوّن [ ربما يقصد، هنا، الوريث المحمدي ]. والعرش الأصغر ظاهره ثابت وباطنه متلوّن [ لعل ما يقابل ذلك، بحسب ما يعنيه الشيخ، هو المريد الصادق ] ))([20]).      

يصف الشيخ اليشرطي حيرة الواقف أمام حضرة الحقيقة الإلهية، وكيف تبدأ الحضرة بامتحان قدرات الداخل إليها، حتى تتحقق من إخلاصه وصبره وقدرته على الاستمرارية، فيقول: (( الفقير يتجلى عليه الحق بالقهر. فينظر من أين جاء هذا التجلي، فلا يرى له سبباً، فيرجعه لأصله. عندها، يتغيّر معه الحال، وينقلب تجلي الحق عليه من الجلال إلى الجمال. أما الذي يرى القهر حصل له مِن صورة مِن الصور، فيغيب بالصورة عن المصوّر. فهذا بتوحيده شك، والعياذ بالله ))([21]). ويقول، أيضاً،: (( اسم ( المنتقم ) للعبد كثوب الحرير الخزّ. فالمعلم، بعد حياكة الثياب، يكويها بالمكواة، ليظهر لها لمعان))([22]). وهنا، يدعو الشيخ، بطريقة بلاغية غير مباشرة، مريده للثبات، وعدم التراجع إلى أرض الشهوة والنفس، والسعي حثيثاً نحو مقام التمكين الذي يلوح أمامه. يقول، أيضاً،: (( الرجل هو الذي لا تزحزحه التجليات عن مقام التمكين ))([23]). كما يصف الشيخ، للمريد الواقف على باب الإيمان، أن هناك مدخلاً يجب عليه الولوج منه، لتكميل مسيرته، فيقول: (( أنتم أبصرتم بنور الإيمان، ولكنكم ما أبصرتم بنور التوحيد. فلو أبصرتم به، لصرتم متكمّلين ))([24]).

فمحصّلة الصعود، في المعراج الصوفي، عامة، هي الوصول بالمريد إلى حالة من الشفافية والصفاء وانعدام الكثافة، حتى تتناسب نورانيته مع نورانية الحق، أو حتى تزول عن قابله الحجب والران، فيتأهل لتلقي المدد الإلهي، ودخول سماء ( حق اليقين ).  فحين يولد الطفل الصغير يُنعم عليه الله بالفطرة والقابل، مِن فيض فضله. ولكن الطباع البشرية تمتزج بتلك القابلية، فتحجبها عن الحقائق المبثوثة فيها. مِن أجل ذلك، يقول الشيخ اليشرطي: ((… لما بلغ الإنسان الرشد، كلّفه الشارع أن يكون ظاهره مملوكاً للشرع، وباطنه ثابتاً بحق اليقين… ))([25]). ويقول كذلك إن المحبة، أيضاً، تكون موجودة في القلب، أصلاً، لكنها تتعرض لطغيان ظلمات الطبيعة عليها ([26]). كما يتعرض العبد ((فيخرج إلى الفضاء، عيسوياً، طياراً من أهل النفخة))([27]). ولذا، فالشيخ يرى أن: ((مَن التفت إلى آدميته بالكلّية، سُلبت عنه الحقائق الإنسانية. ومَن سُلبت عنه الحقائق الإنسانية، جهل حقائق العلوم الإلهية))([28])

إذن، فالحقيقة ثابتة لا تتغير، أما ما يحصل من احتجاب، أو خفاء فهو مجرد عرض طارئ على المريد تجاوزه للوصول إلى الثبات؛ لذلك، فهناك صعود في مسيرة المريد. وهذا أمرٌ لا يناقش فيه صوفي، ولا خلاف على هذه المسألة. إنها جدلية صاعدة نحو هدف محدد يعرفه شيخ بصير، وهي، أيضاً، جدلية نــازلة تجد تحقيقها في (قابل) المريد. لكن، ما الوسيلة لتحقيق هذه القفزة في حياة المريد؟

الشيخ اليشرطي يجعل لتحقيق ذلك وسيلتين، هما: 

أولاً ـ تصفية باطن المريد، بالذكر والعبادات المختلفة، حتى تذوب الحجب بينه وبين الحق؛ أو حتى تتهيأ عوالمه البشرية الكثيفة لاستقبال الأنوار الإلهية. وقد اعتبر الشيخ اليشرطي أن الذكر هو أحد أهم الوسائل التي تساعد المريد على الانتقال من مقام إلى مقام، وصولاً به إلى الهدف المنشود. يقول الشيخ اليشرطي: ((أوصيكم بذكر الله، تعالى؛ فالذكر يورث نور القلب، ونور القلب يورث نور الإيمان، ونور الإيمان يورث العلم اللدنّي، والعلم اللدني يورث المقام الرفيع))([29])

ثانياً ـ اتباع شيخ مربٍ، يعبُر به مقامات النفس، رقيّاً به إلى سماء الوصول. يقول الشيخ اليشرطي: ((امتثال أمر الشيخ يوصل المريد إلى أعلى المقامات))([30]). لذلك، يشخّص الشيخ اليشرطي أحوال المريدين، بقوله: (( الإنسان ثلاثة أقسام: قسم ظلمة شيطانية، وقسم نور الإيمان، وقسم نور الإحسان. فإذا أخذ أحدهم الطريق عن شيخ، مثل هذا الشيخ، ربنا سبحانه وتعالى يخلّصه من الظلمة الشيطانية، ويبقى بين نورين: نور الإيمان يزيد على نور قمر الآفاق، ألف ألف ضعف؛ ونور الإحسان يزيد على نور شمس الآفاق، ألف ألف ضعف ))([31]). والشيخ البصير هو الذي يعرف كيف يتعامل مع قوابل المريدين، ويظل يعالجها حتى يقودها إلى مقام حق اليقين. وهنا، نرى الشيخ اليشرطي يقول: (( الشيخ أمين؛ فإذا وجد قابل المريد حاضراً، أعطاه))([32])

في النتيجة النهائية، لا بد من اختلاف أحوال المريدين، بحسب اجتهاداتهم في الطريق الصوفي. فهناك من يبدأون مسيرتهم الصوفية بطريقة متعبة ترهق الشيخ المربي، كما يقول الشيخ اليشرطي: ((يوجد فقراء يتعبون الشيخ، تبقى روح المريد كالحرير المعلّق على الشوك، الشيخ يشدّ، والمريد يشدّ ))([33]). إنها صورة بليغة لحال المريد المعلّق بين التراجع إلى أرض الشهوات والنفس، أو التقدم نحو سماء اليقين. والأمر، في النهاية، عائد لعاملين: إرادة الشيخ المربّي؛ واستعداد المريد ذاته. فمِن المريد الاستعداد، ومن الشيخ الإمداد([34]). وكلما تفاوت استعداد المريد،  كلما اختلفت درجته المعرفية، وفي هذا، فهناك مَن لا يتعدى استعداده درجة الإسلام، وهناك مَن يبلغ بحقيقة استعداده الإيمان، وهناك مَن يبلغ بحقيقة استعداده الإحسان([35])

الهوامش 

([1]) السلمي، أبو عبد الرحمن، طبقات الصوفية، ط 3، تحق نور الدين شريبة، القاهرة: مك الخانجي، 1997م، ص 71.

([2]) التفتازاني، أبو الوفا، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: الثقافة للطباعة، 1974م، ص 121.

([3]) لمتابعة هذا التقسيم الثلاثي انظر: غني، قاسم، تاريخ التصوف في الإسلام، تر صادق نشأت، القاهرة: النهضة المصرية،1970م، ص ص597-598؛ ونيكلسون، رينولد، في التصوف الإسلامي وتاريخه، تر أبو العلا عفيفي، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1969م، ص7.

([4]) ماسينيون، وعبد الرازق، التصوف، بيروت: الكتاب اللبناني، 1984م، ص74.

([5]) عالم الذر هو عالم الأرواح الذي سبق وجودنا فيه قبل خلقنا وتشكلنا البدني والمادي، حيث يقول الحق، عز وجل، عن هذا العالم {   … } سورة الأعراف، الآية 172.

([6]) اليشرطية، فاطمة، نفحات الحق، ص 289.

إن حديث الشيخ يشمل جميع المريدين، بمن فيهم أولئك الذين بدأوا حياتهم كأشقياء، تغطي قوابلهم الكثافة والصدأ، ثم هداهم الله إلى الإيمان، بأن هيأ لهم سبباً، يجلو قلوبهم، ويشدهم إلى روحانية شيخهم.

([7]) م. ن، ص ص 288-289.

([8]) خزعل، طه، أحاديث، خ، ص 112.

([9]) استخدمت مفهوم الإيمان بالقوة، فلسفياً، مقابل الإيمان بالفعل، تعبيراً عن وجود الإيمان بشكل خام، غير متشكل في صورة إمكانية، أو على شكل سلوك يبرزه، أو يترجمه. أما الإيمان بالفعل، فهو ظهور الإيمان في قوالب شكلية، أو سلوكية، أو طقوسية تترجمه.

([10]) اليشرطية، نفحات، ص 603.

([11]) عفيفي، التصوف، ص 16.

([12]) زرّوق، قرة العين، ج1، ص 164؛ نقلاً عن حكم ابن عطاء الله السكندري، ص164.

([13]) م. ن، ص 74.

([14]) أبو الوفا التفتازاني، ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، ط 2، القاهرة: الأنجلو المصرية، 1969م، ص 304.

([15]) الجابري، بنية العقل، ص ص 251و 253.

([16]) اليشرطية، نفحات، ص 144.

([17]) م. ن، ص 168.

([18]) من معاني اليقين: استقرار الماء في الحوض، إشارة إلى حصول السكون والاستقرار بزوال الشك. انظر: الشعراني، الطبقات، ص 19.

([19]) اليشرطية، نفحات، ص ص145-146.

([20]) م. ن، ص 170.

([21]) م. ن، ص 146.

([22]) م. ن، ص 147.

([23]) م. ن، ص 584.

([24]) م. ن، ص 120.

([25]) م. ن، ص 160.

([26]) م. ن، ص 68.

([27]) م. ن، ص 107.

([28]) م. ن، ص 516.

([29]) م. ن، ص 446.

([30]) م. ن، ص 291.

([31]) م. ن، ص 60.

([32]) م. ن، ص 220.

([33]) م. ن، ص 291.

([34]) م. ن، ص 245.

([35]) م. ن، ص 433.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!