فوائد من قراءة أبي حامد الغزّاليّ

فوائد من قراءة أبي حامد الغزّاليّ
فوائد من قراءة أبي حامد
مقداد عرفة منسية
بيت الحكمة-تونس
الغزالي وما بعد؟
ما شأننا والغزالي وهل هناك حقّا ما يبرّر الاهتمام به اليوم؟
 
يمكن أن يفهم هذا التساؤل وفق اتّجاهين على الأقلّ: أحدهما تاريخيّ يدرس فكره طِبْقَا لقواعد البحث المعهودة، وثانيهما تأويليّ ينشد المغزى من أعماله بالقياس إلينا نحن اليوم. والسؤال وفق الاتّجاه الثاني هو التالي: في ماذا يعنينا الغزالي؟ وهو يقتضي منّا تبيّن ما نعتبره أقوالا مميّزة في فكره والتوجّه عليها لاستثمار مغزى لنا؟
 
ولن نرصد هنا ما وصل إليه الاهتمام بنشر نصوصه ودراسة فكره، فلا يسع إلاّ التأسّف للحالة التي يعاني فيها هذان من حاجة إلى بذل الجهد. فنصوصه ما تزال تعاني من عدم النشر العلميّ وفكره ما يزال يعاني من تأخّر في البحث، بحث زادت من تعثّره دراسات مستعجلة تقدّم نتائج لا تعدو أن تكون قناعات مسبقة لأصحابها من غير احتكام إلى النصوص وفهمها فهما ملائما أدنى. وقد أضحى من أوكد الأمور مراجعة أحكامنا السطحيّة والمتسرّعة التي جنيْنا بها الكثير على فكر الغزالي وذلك بإطلاق عديد الأقوال التي لا تشهد لها كتبه.
 
فقد قيل وأشيع إِنّه من نظّار الأشعريّة الخلّص الملتزمين بالمذهب. وقد قيل وأذيع إِنّه أنزل بالفلسفة قاصمة الظهر، وبما أنّه فعل بها ذلك، وكان ابن رشد دافع عنها، اعتبر ذاك من دعاة التعتيم واعتبر هذا من دعاة التنوير. وقيل هذا وقيل أكثر من هذا، وأُخِذ هذا كلّه على أنّه نتائج تصلح مقدّمات يقينيّة مسلّم بها في كلّ بحث، بينما هي في حقيقة الأمر لا تتعدّى كونها أحكاما في أمسّ الحاجة إلى التدقيق والتنويع والتوثيق، هذا إن لم تستحقّ الإبطال مطلقا لأنّها تخالف أقوال الغزالي في نصّها وظاهرها ومؤوَّلها.
 
لذلك نقترح هنا أن نجرّب بعض هذه الأقاويل فنسبرها بمحكّ النصوص ونقدّر صمودها للفحص والتمعّن من عدمه. ومن هذه الأقوال قولان شهيران مرتبط كلاهما بالآخر، أوّلهما: الغزالي وعلاقته بالأشعريّة وثانيهما الغزالي وعلاقته بالفلسفة. لا محالة لا ينبغي أن نحاسب الغزالي على أنّه لم يمتط الطائرة للذهاب من طوس إلى نيسابور وعلى أنّه لم يستعمل الحاسوب لكتابة الإحياء (ولا أبالغ بالقياس إلى ما اقترفه البعض في محاسبة الغزالي بمعايير «الحداثويّة»). ولكن سنرى كيف أنّه إذا ما أزحنا حجب قناعاتنا المسبقة قد يتسنّى لنا حينئذ اعتبار أقواله اليوم والاستفادة منها سواء في تاريخ الفلسفة أو في المغزى بالنسبة إلى زماننا.
 
1-الغزالي والأشعريّة([1])
نعم انتسب الغزالي إلى الأشعريّة بحكم تتلمذه على أبي المعالي الجويني (ت 478هـ/ 1085م)، وتأليفه لعدد من الكتب في المذهب. ونراه فعلا يتحدّث في المنقذ من الضلال عن مطالعة كتب المحقّقين من أهل الكلام وتصنيفه فيه ما أراد أن يصنّف، ويتحدّث عن عقيدة أهل الحقّ التي يجد لها ميزة الاقتصاد والتي أحسن متكلّمو السنّة الذبّ عنها والتغْبير في وجه البدع. ([2]) ويمكن أن نرى في الاقتصاد في الاعتقاد ([3]) نموذجا كلاسّيكيّا من الأمّهات المعتمدة في المدرسة. ففيه وفي غيره يورد الغزالي ما يعتبره قواعد عقائد أهل السنّة وهي الأقوال الأساسيّة والمميّزة للأشاعرة، ومنها إثبات الصفات معاني زائدة على الذات (الاقتصاد، ص 151) وعموم تعلّق القدرة والإرادة الإلهيّتين والقول بالكسب (ص 126) والقول بالعادة ضدّ القول المعتزليّ بالتولّد وضدّ قول الفلاسفة بالعلّيّة (ص 130) وإثبات كلام النفس في مسألة خلق القرآن (ص 141) والتحسين والتقبيح الشرعيّان وعدم الإيجاب على اللّه (ص 168، 184) وتجويز رؤية اللّه في الآخرة (ص 107). ([4]) ولكن لا ننسى أنّه غابت من الاقتصاد أَقْوَالٌ مُمَيّزةٌ للكلام ومنها مثلا القول بالجواهر الفردة والخلاء وهما قولان متلازمان وملازمان لبنية الموجود المادّيّ في الكلام المعتزليّ والأشعريّ على حدّ سواء.
 
وقد نُسب الغزالي إلى الأشعريّة وكأنّ هذا أمر مفروغ منه وبِصِفَةٍ خاصّة في نظر عدد من الدارسين المعاصرين الذين وقعوا في كثير من الخلط والغلط بالقياس إلى ما امتازت به أقوال القدامى من تدقيق وتمييز. والحال أنّ مَنْ كَانَتْ لَهُ دِرايةٌ دُنيَا بالالتزامات النظريّة والفلسفيّة وكان له أدنى تبصّر بها يدرك استحالة أن يبقى الغزالي بلا شرط مع «الأصحاب» حسب عبارة شهيرة تحدّد علاقة الشيوخ بعضهم ببعض داخل المدرسة الواحدة. وفي واقع الأمر نُسب الغزالي إلى الأشعريّة بما يتجاوز كثيرا ملاءمة أقواله للمذهب.
 
ويمكن أن نرى في شيخ الغزالي، إمام الحرمين الجويني الذي تصدّر لإمامة المدرسة في عرض مذهبها وفي مراجعته ومخالفة «الأصحاب» في أنطولوجيا الذات والصفات وقوله بالأحوال، أو في ميتافيزيقا الفعل ونصيب الإنسان منه أو في أكسيولوجيا الأفعال في التحسين والتقبيح، يمكن أن نرى فيه آخر الأشعريّين في قرن أذعن فيه كلّ من المعتزلة والأشاعرة للخصم في جوانب من تعاليمه لم يعد من الممكن الاستمرار في إنكارها عليه وذلك سواء فيما يتعلّق بمعضلة الذات والصفات وقد دارت من الناحية الفلسفية على كيفيّة تعليل اتّصاف الموجود (الإلهيّ)، أو بمعضلة أفعال العباد والتي دارت حول نصيب الإنسان من الفعل وحكمه الميتافيزيقيّ بالقياس إلى الفعل الإلهيّ وحكمه الأخلاقيّ بالحُسْن والقُبح والمسؤوليّة الشرعيّة عنه. ولا ننسى أنّ الجويني نفسه طوّر موقف المدرسة في هذين المبحثين.
 
ثمّ لا ينبغي أن ننسى أنّ الصّراع لم يكن موجودا بين المدارس الكلاميّة فقط، بل كان موجودا بين الكلام والفلسفة أيضا. فلم يكن هذا القرن قرن القاضي عبد الجبّار المعتزليّ والجويني الأشعريّ فقط، بل كان أيضا قرنا استوى فيه ابن سينا على عرش الفلسفة من غير مزاحم، فكان قرنا عسيرا على علم الكلام بعد أن بلغ هذا اكتماله، فجهد في أن يصمد أمام التيّار السينويّ العارم الذي بدأ يبلغ أشدّه. وكان من قدر الغزالي أن وجد في هذا البحر الزاخر والمتلاطم.
 
وينبغي لنا بالتالي الآن التعديل من الإطلاق في نسبة الغزالي هذه، فهو لم يبق أشعريّا بصفة خالصة. وكيف تصحّ هذه النسبة على إطلاقها دون بقائه على القول الصريح في مستوى منهج النظر بنقلة حكم الشاهد -إذا ثبت -إلى الغائب، شرط أن يكون أحد جوامعها حقيقة واحدة؟ وكيف يبقى المرء أشعريّا دون البقاء في تعليل أحكام الذات الإلهيّة على القول بصفات هي معان زائدة على الذات؟ وكيف يبقى متكلّما فضلا عن أن يبقى أشعريّا دون الحفاظ على القول بالمَذْهب الذرّيّ، أي القول بالجواهر الفردة التي تحلّ بها أعراض فردة في أزمان فردة بما هي جانب أساسيّ من الأنطولوجيا؟ فكيف يبقى على أشعريّته من بدّل ذلك بهيلومورفيّة مشائيّة، أي بقول بالمادة والصورة باعتبارهما مُقَوّمَيْن أساسيّين لموجودات متّصلة في بنيتها ومتناهية بالفعل في تجزئتها وإن لم تكن متناهية بالقوّة؟ وكيف يبقى أشعريّا من لَمْ يعزل التحسين والتقبيح عن العقل ويردّهما إلى أمر الشرع ونهيه؟ وكيف يكون أشعريّا من لا…؟ وكيف يكون أشعريّا من لا…؟
 
ومع ذلك لم ير الغزالي أنّ الكلام عديم القيمة، ولم ينف عنه كلّ قيمة علميّة «في البحث عن حقائق الأمور» ([5]). ولكن لمّا لم يكن ذلك مقصود علم المتكلّمين «لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى» ([6]). وهذا يعني أمرا بسيطا ولكنّه خطير يتعلّق بما تعلّقت به همّة المتكلّمين في نظر الغزالي، ويعني الحكم عليهم بالمنزلة الجدليّة ونفي التحقيق عنهم، أي أنّهم لم يبلغوا الغاية في العلم اليقينيّ وتحصيل حقائق الأشياء. تذكرون قول الغزالي في المنقذ في نهاية الأمر «فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي.» ([7]) فلم يف بمقصوده ولم يكْف في حقّه ولم يشفه من دائه. ([8]) فكان عليه أن يحسم أمره فيختار بين الأصحاب وبين الحقيقة. وفي ذلك كلّه حكم على أهل الكلام بالقصور من حيث المنهج المنطقيّ ومن حيث المضمون المعرفيّ، فكان فعله بهم تماما كفعل أيّ فَيلسوفٍ بهم، وكان شديدا.
 
وإذن لم يكن ابتعاد الغزالي عن المذهب الأشعريّ الكلاسّيكيّ بالسكوت عن الأقوال المميّزة للمذهب وعدم التصريح بها دوما، وإنّما كان بتبديلها والذهاب إلى أقوال وخيارات نظريّة منافرة لانتماءات المذهب. ويمكن التفطّن إلى تبنّيه المنطق الفلسفيّ منذ الاقتصاد في الاعتقاد، فكان سبق أن ألّف فيه محكّ النظر ومعيار العلم، اللذين يذكرهما في الاقتصاد. ([9])
 
ولم يتعلّق هذا التولّي عن المذهب بالنّظر الفكريّ وجهازه المنطقيّ وحدههما، وإنّما كان كذلك في كتابات التصوّف. ويبدو أنّ النموذج الأساسيّ في تفكيره كان صوفيّا، وهو يصرّح في المنقذ ([10]) بكونه ارتضى التصوّف، ومن المؤكّد أنّه سعى إلى أن يعيش تجارب تدلّ على تجذّره فِيه، وذلك مهما اختلف اللاحقون في تقييم عمقها. ولم يكن انتصاره هذا على مستوى المضمون المذهبيّ النظريّ منه والعمليّ بقدر ما كان في الطريق إلى الحقيقة، إذ يقول إنّه ظهر له «أنّ أخصّ خواصّهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلّم، بل بالذوق والحال وتبدّل الصفات.» ([11]) والسرّ في رفض الغزالي الفلسفة والكلام -في المواضع التي صرّح فيها برفضه إيّاهما- هو عدم كفاية النظر في بلوغ الحقائق والخيرات: هو رفض القول إنّ «الكشف موقوف على الأدلّة المحرّرة» فمن ظنّ ذلك فقد ضيّق رحمة اللّه الواسعة. ([12]) فتبدو هنا أنظار المتكلّمين والفلاسفة (كتاب ابن سينا الشفاء وملخّصه النجاة، وحتّى الإشارات والتنبيهات) غير كافية دون النهل من تقليد صوفيّ عريق، كانت للغزالي به علاقة متميّزة. ونراه يعتذر للصوفيّة الذين كانوا قد كُفّروا، مثل البسطامي («سبحاني ما أعظم شأني») والحلاّج («ما في الجبّة إلاّ اللّه» و«أنا من أهوى ومن أهوى أنا») قائلا إنّ «كلام العشاق في حال السكر يُطوى ولا يحكى.» ([13]) أمّا في خصوص اللاحقين في تاريخ التصوّف فهو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام التجهيز النظريّ الفلسفيّ، وفسح المجال أمام تجارب التصوّف الفلسفيّ وصياغاته الجديدة.
 
وقد آخذته الأشعريّة على ذلك وهاجمته، فسعى إلى الدفاع عن نفسه وتبرير توجّهه. وهو ما يتّضح من فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة وفيه يتحدّث عن «طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنّفة في أسرار معاملات الدين وزعمهم أنّ فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدّمين والمشايخ المتكلّمين، وأنّ العدول عن مذهب الأشعريّ ولو في قيد شبر كفر ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر». ([14])
 
ونرى هنا كيف يلتقي المنقذ وهو السيرة الذاتيّة التي يصف فيها الغزالي الطريق الذي سلكه والفيصل الذي يعطي فيه قواعد الطريق ويدفع فيه التهمة التي لحقته من جرّاء رأي ارتضاه وأُخرِج به عن الجماعة.
 
ولقائل أن يقول إنّ هذه المنافاة التي رُمي بها الغزالي مبدئيّة، أي أنّها همّت الاختيارات الأساسيّة في التصوّف أو أنّها همّت مبادئه النظريّة، أي أنّ لها جانبين: اقتصر الأول على المضامين المميّزة لكتابات التصوّف في أمّهاته، وفي هذا كان بين يدي الغزالي كتابان أساسيّان من أمّهات التصوّف السنّيّ وهما الرعاية لحقوق اللّه للحارث المحاسبي وقوت القلوب لأبي طالب المكّي. والجانب الثاني من هذه المبدئيّة هو الذي تعلّق بالتصوّف في علاقته بغيره، وهنا كان هذا الغير علم الكلام الأشعريّ أوّلا.
 
ولكن لم تتوجّه هذه المنافاة التي رُمي بها الغزالي على صياغة الرؤية الصوفيّة بالقياس إلى الصياغات السابقة، كما لم تتوجّه على الأسس التي قامت عليها صياغة وفّقت بين الكلام الأشعريّ والتصوّف السنّيّ. فلا ينبغي إذن أن يذهب بنا الظنّ إلى أن هذه المنافاة مبدئيّة. نعم يمكن أن نقول إنّ لبّ التصوّف إرادةٌ بينما جوهر الكلام نظرٌ، وإنّ مقولتي المجاهدة والمحبّة، وهما جوهر التصوّف، لا تعنيان الشيء الكثير في نظر المتكلّم في صياغة العقيدة صياغة عقليّة: استدلاليّة ونظريّة، وهي عقلنة الدّين. ولكن هذا التعارض وغيره (كالذي كان بين الفقهاء والصوفيّة والذي بلغ أشدّه مع مقتل الحلاّج وكان هذا حُكما على التصوّف) كان قد زال مع القشيري. فكان صاحب الرسالة قد أرجع التصوّف الذي كان منبوذا إلى الدائرة السنّيّة فأصبح مقبولا. ووفّر بذلك على الغزالي مؤونة التوفيق بين التصوّف السنّيّ وتعاليم الأشعريّة، بما أنّه قُبل هذا الاتفاق داخل المدرسة ولم يلق معارضة ذات بال. ونرى الغزالي فعلا يقرّ بهذا التوفيق بين التصوّف والأشعريّة في ميزان العمل. ([15])
 
إذن فالجمع الذي أنكره الأصحاب على الغزالي لم يكن بين التصوّف ومقالات الأشاعرة، وإنّما كان بين التصوّف ومقالات أخرى. ومؤاخذة الغزالي كانت إذن بأمور أخرى وردت في إحياء علوم الدين ومشكاة الأنوار بصفة خاصّة، وحتى إن وردت في كتب أخرى ([16]) فهي لا تضيف الكثير إلى هذين. فماذا نجد فيهما؟ نجد بالأساس رؤية للوجود وإثباتا لحقائق ميتافيزيقيّة قصوى وقولا بأولويّة المعاني الروحانيّة المعقولة على الأجسام الماديّة المحسوسة، ورؤية لتجربة الإنسان الوجوديّة والمعرفيّة تركّز على القلب والعقل واللبّ. ويعطي الغزالي فيهما بالأساس مضمونا نظريّا، وهو ما يبرز المعنى الدفين من الدين، ويعطي فقها باطنيّا يعتمد أسرار العبادات والمعاملات ويوازي أحكام فقه الظاهر في ذلك وينافسها. وبذلك يتنزّل الإحياء في تاريخ أمّهات كتب التصوّف بين قوت القلوب والرعاية لحقوق اللّه من ناحية وبين الفتوحات المكّيّة لابن عربي من ناحية ثانية.
 
أي أنّ الشأن الأساسيّ مع الغزالي كان التالي: لم تعد الإرادة وحدها أو الإرادة المجهّزة تجهيزًا نظريّا بالرؤية الأشعريّة للوجود وللمعرفة كافية في الرؤية الصوفيّة لصياغة تجربتها بالقياس إلى الوجود. وإنّا نرى أنّ هذا التجهيز النظريّ لشؤون الإرادة التي تخرج عن التصوّف السنّيّ وجهازه النظريّ الأشعريّ اقتبسه الغزالي من الفلاسفة: إخوان الصفاء الذين يذكرهم ([17]) وابن سينا الذي لا يذكره.
 
وبذلك نأتي إلى الأمر الثاني وهو الغزالي والفلسفة.
 
2-الغزالي والفلسفة
 
وقد قيل في شأنهما الكثير. ولعلّ ما يجدر التحقٌق منه هو: ماذا فعلت الفلسفة بالغزالي ثمّ ماذا فعل هو بها؟ وسنرى أنّه يجب التدقيق سواء في أحكامه في الفلسفة، هذه الأحكام التي بدت متشدّدة في نظر البعض، أو في مواقفه الأخرى المرتبطة باقتباس الجهاز الفلسفيّ والنظريّات الفلسفيّة.
 
وكثيرا ما لا نتفطّن إلى العرض الذي نجده عند الغزالي لتاريخ الفلسفة وهو مأخوذ من تواريخ للفلسفة كانت معروفة يحدّد فيه مكانة الفلاسفة ممّن قبل سقراط (فيثاغورس) إلى الإلهيّين (أرسطو وأفلاطون) وهو يضيف إليهم الإسلاميّين (الفارابي وابن سينا على وجه الخصوص). ([18])
 
ويميل كثير من الدّارسين إلى نسيان أنّ الغزالي لم يَرْمِ بالفلسفة برمّتها وإنّما وردت أحكامه فيها مغربلة ومتنوّعة حسب المذاهب الفلسفيّة وحسب العلوم وفوائدها المرجوّة منها وآفاتها المتولّدة منها. «فإنّي رأيتهم أصنافا، ورأيت علومهم أقساما، وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر والإلحاد، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم في البعد عن الحقّ والقرب منه.» ([19]) أليس إطلاق الحكم الفقهيّ بالتبديع والتكفير يقتضي أوّلا التخلّص من آفتي الردّ والقبول والتثبّت من تعلّق شيء من العلوم الفلسفيّة بالدين (المنطق والطبيعيّات والإلهيّات والسياسات والخلقيّات) نفيا أو إثباتا؟ فالدين لا يُنصر بالجهل. «ولقد عظم على الدين جناية من ظنّ أنّ الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم.» ([20]) لقد عاين الغزالي قصور المتكلّمين عن فهم مذهب الفلاسفة وعن الردّ عليهم ردّا ملائما، فلم يجد في كتب المتكلّمين حيث «اشتغلوا بالردّ عليهم إلاّ كلمات معقّدة مبدّدة، ظاهرة التناقض والفساد، لا يُظَنُّ الاغترار بها بغافل عامّيّ فضلا عمّن يدّعي دقائق العلوم.» ([21]) هكذا حكم الغزالي على نقد المتكلّمين للفلاسفة الذي دام عدّة قرون، ابتداء من أبي الهذيل العلاّف وانتهاء إلى شيخ الغزالي الجويني. وقد ينبغي أن نرى في تهافت الفلاسفة تتويجا لهذا المجهود المَدِيد أراد فيه الغزالي أن يبلغ بالنقد تمامه. ومهما كان من أمر، قدّر الغزالي أن يعرض أقوال الفلاسفة بصفة نسقيّة، فوجب تأليف مقاصد الفلاسفة قبل تهافت الفلاسفة الذي ألّفه في الردّ على إلهيّات الفلاسفة دون غيرها من علومهم. ([22])
 
ولعلّ رؤية سليمة توجَد في تبيّن الفروق بين مؤلّفات الغزالي المختلفة من حيث المقصد من تأليفها ومضمونها ومرحلة كتابة كلّ واحد منها في تطوّره الروحيّ. وبذلك توجِد فروقا بين كتابات سالبة أي ذات طبيعة جداليّة وعلى رأسها تهافت الفلاسفة والتي لم يكن قصده فيها إثبات الحقائق بقدر ما كان إفساده على الفلاسفة أقوالهم وتزييفها، مع ما لهذه الجدليّة في ذاتها من قيمة فلسفيّة، وبين كتابات موجبة يثبت فيها مذهبه وفيه الكثير ممّا تبنّاه من أقوال الفلاسفة، أي ابن سينا في المقام الأوّل أو الأوحد. تذكرون احتجاجه في التهافت ([23]) ليفسد على الفلاسفة قولهم بتجرّد النفس الإنسانيّة وذلك بتعجيزهم عن إقامة البرهان العقليّ على أنّ النفس الإنْسانيّة جوهر روحانيّ قائم بنفسه، ثمّ تذكرون كيف يتبنّى هذا القول ذاته في كتبه الأخرى. وهو قول ألجأه إليه التصوّف ووافق فيه الفلسفة. وهو نفسه يقول في جواهر القرآن إنّ الذي أثبتّه في كتاب التهافت هي أقاويل جدليّة وإنّ الحقّ إنّما أثبته في المضنون به على غير أهله. وهو ما نبّهنا إليه ابن رشد في الكشف عن مناهج الأدلّة. ([24])
 
ونرى أنّه لا يمكننا أن نقدّر كلّ ذلك حقّ تقديره إلاّ بالعودة ثانية إلى ابن سينا الذي استبدّ عن جدارة بالشأن الفلسفيّ وعرج بالفلسفة متصدّيا على طريقته لمعضلاتها القديمة والمحدثة. فقد أحدث منعرجا لم يُسبق إليه. ولا يصحّ ذلك على مدرسة الحقيقة القديمة وهي الفلسفة فقط، وإنّما يصحّ كذلك على قطاعين أساسيّين ومميّزين للفكر الإسلاميّ وهما علم الكلام والتصوّف. وابن سينا هو الذي بادر إلى هذه الأبكار: استعار بل انتزع من المتكلمّين مباحثهم لمّا استوفيت وانتظمت واكتملت بأدلّتها وتنسيق ردودها وتنظيم تفريعاتها، ليصوغها الصياغة الملائمة وفق مقتضيات البرهان وطبق الحقائق الفلسفيّة. وكذلك فعل بالتصوّف في الإشارات والتنبيهات ([25]) وغيره، بعد أن اكتملت الأمّهات في صياغة علم التصوّف وعرض تجاربه، أي بعد أن أصبح التصوّف علما له صياغة تقنيّة.
 
وفعل ابن سينا فعل الفيلسوف، أي ذاك الذي له قول في الشؤون طبقا للحقائق التي تثبت في الفلسفة بالبرهان. وبذلك تناول هذين العِلْمين الإسلاميّيْن بامتياز ([26])، وهما التصوّف والكلام، ليقول فيهما القول الفصل وفق التحقيق، أو قول ما تمليه الحقيقة البرهانيّة. ولكن هذا الانتزاع الذي قصد به ابن سينا المعالجة الفلسفيّة الملائمة وفق الحقائق لم يتمّ دون ترك أثر من الكلام والتصوّف في ميتافيزيقاه، وتَأْثير عِلْم الكلام هو جوهر مؤاخذة ابن رشد إيّاه لمسايرته للمتكلّمين «من أهل ملّتنا» ([27]). ثُمّ إنّ ابن رشد لم يعترف للتصِوّف بقيمة نظريّة، وكان أقصى ما اعترف له به هو قيمته العملية الخُلُقيّة.
 
وإذا ما راعينا في أذهاننا عمل ابن سينا هذا وعدنا إلى الغزالي لوجدناه في إحياء علوم الدين ومشكاة الأنوار يتابع الثورة الميتافيزيقيّة التي خطّ ابن سينا نهجها والتي قامت على ثنائيّتي الوجوب والإمكان والوجود والماهية ثمّ التوحيد بين نظام الوجود وبين حقيقة النور ومراتبه وتجربة الذات البشريّة المجرّدة في اختراقها طبقات الوجود وعروجها الروحيّ والمعرفيّ. وهو ما كان ابن سينا سبقه إليه في رسالة في إثبات النبوات ([28]) التي واصل فيها اتّجاهات أفلاطونيّة محدثة فسّر بها سورة النّور من القرآن. ([29])
 
ويكفي أن نراجع مواقفنا مراجعة يسيرة حتّى تلوح لنا الثورة التي أحدثها الغزالي في الإحياء وفي المشكاة، ثورة روحيّة وميتافيزيقيّة ومعرفيّة وذلك بتأويل الدين وقراءة الوجود والمعرفة بميتافيزيقا الأنوار، بحيث ينجلي الوجود ويتلوّن لا إلى غاية وفق أنطولوجيا الأنوار وينفسح طولا وعرضا بإزاء ذات متبدّلة تكتسب ثراء إلى ما لا نهاية له بقدر ما ترتقي في مراتب الأنوار. فيتراءى لناظرينا مشهد رائع تتضايف فيه أُفقيّا طبقة الوجود المدرَكة وعموديّا المستوى الذي تبلغه النّفس في عروجها: الوجود ينير الذات والذات بدورها تشعّ على الوجود في ما يشبه انفجارات نورانيّة متضايفة ومتتالية. وهنا أيضا لم يكن ذاك ممكنا دون عمل ابن سينا الذي بادر إلى فتح ثغرات قد تبدو ضئيلة، وقامت على نظر فلسفيّ وصياغة معتقد وإقرار بالذوق وتفسير قرآن. ولكنّ هذه الفتحات كانت جليلة: أفضت إلى تطوّرات هائلة وخطيرة لم تكن تخطر على بال، فعمد الغزالي إلى تضخيمها فأضحت واضحة للعيان، وأثراها في بعدها الروحيّ بعبقرتيه الخاصّة.
 
ولذلك لم يجانب ابن طفيل الصواب في حكمه في الغزالي. نعم آخذه في حيّ بن يقظان ([30]) على تناقضه وتأليف كتبه بحسب مخاطبته للجمهور وأنّه يربط في موضع ويحلّ في آخر ويكفّر بأشياء ثمّ ينتحلها. ولكنّه ذكره في تاريخ «الحكمة المشرقيّة» التي أعلن عنها الشيخ الرئيس والتي كانت تطرح إشكاليّة الحكم المعرفيّ للنظر وللذوق وتحديد العلاقة بينهما. بحيث يُعيننا في رسم نهج للفلسفة سنّه الفارابي وختمه ابن رشد، في تواز مع نهج ثان سنّه ابن سينا وسار فيه الغزالي والسهرورديّ وابن طفيل ثمّ مذاهب وحدة الوجود مع ابن عربي ومن بعده.
 
وفي المنطق –وقد سبق ذكره -تبنّى الغزالي موقف الفلاسفة، ومنهم الفارابي وابن سينا، في شمول المقاييس المنطقيّة لكلّ ضرب من ضروب التفكير الذي يكون نصيبه من الصحّة واليقين بقدر مراعاته قوانين المنطق الصوريّة والماديّة. وفي هذا الشأن كان فضل ابن خلدون هو تفهيمنا ذلك وتفهيم الأسس التي قام عليها هذا الاختيار والنتائج الوخيمة التي كانت لذلك على العلوم غير الفلسفيّة ومنها علم الكلام. وكان ذلك كلّه من صنيع الغزالي. تذكرون أنّ ابن خلدون -على عادته -أشار في الفصل الذي خصّصه من المقدّمة لعلم الكلام ([31]) إلى منعرج تاريخيّ داخل علم الكلام كان قد تكرّس منذ زمن قبله، وتمييز بين طريقة الأقدمين وطريقة المتأخّرين. والأولى أحدثها الباقلّاني باعتماد مقدّمات نظريّة معروفة وأقامها على قاعدة تعاكس الدليل بالمدلول (وهو في الواقع قد واصل فيها صياغة نسقيّة أخرى صاغها أبو الهذيل، وهو ما يسكت عنه ابن خلدون). وأمّا الثانية فقد انتشرت بعد الجويني ومع الغزالي الذي عزل المنطق عن العلوم الفلسفيّة وفكّ وثاقه بها قصد استخدامه آلة يحتاج إليها كلّ علم ولا تلزم صاحبها التصديق بما عداها من أقوال الفلاسفة الميتافيزيقيّة التي تتعارض وعقائد الإيمان. وهذه الطريقة الثانية اعتمدت مقدّمات نظريّة تختلف عن التي كانت تميّز الطريقة القديمة وتتعارض معها. فبدلت المقّدّمات وبطل العمل بقاعدة تعاكس الدليل والمدلول. وهو ما خطّه الغزالي وتابعه فيه الفخر الرازي.
 
ولذلك ما كان ابن تيميّة في نقض المنطق أو في الردّ على المنطقيّين مخطئا في حقّ الغزالي. فقد قدّر أنّ منطق يونان أبعد ما يكون عن أن يضطرّ إليه كلّ ناظر، وأنّه ما كان من الممكن أن نُبقي على المنطق في براءة الآلة وحيادها (كما يقول ابن رشد في فصل المقال مبرّرا استخدامها) ([32]) وننفكّ عن الالتزامات والاقتضاءات المنطقيّة الميتافيزيقيّة. وما كان من الممكن لمنطق التصوّر في مستوى الحدّ (الذي يقول الماهية)، والتصديق في مستوى البرهان (الذي يصحّح الحكم أو الحمْل) أن ينفكّا عن ميتافيزيقا الكلّيات وحكمها الوجوديّ. لقد ذعر ابن تيميّة من فعل الغزالي، بحيث يبدو أقرب إلى ابن رشد مجدّد الأرسطيّة منه إلى الغزالي، من جرّاء ما استبطنه هذا من تعاليم ابن سينا في مشكاة الأنوار. ولم يكن من اليسير على ابن تيميّة التهجّم على من اعتُبر حجّة الإسلام السنّيّ، إلاّ أنّه أقدم على ذلك لمّا رأى أن حجّة الإسلام كما قدّره كان خطرا على الإسلام كما فهمه. وتعرفون ردّه المنهجيّ في بغية المرتاد (الرسالة المعروفة بالسبعينيّة) ([33]) وغيرها ليبرز المعدن الفلسفيّ الذي أخذ منه الغزالي أقواله في المشكاة وليبيّن أنّه مهّد لما هو أخطر منه وهو القول بوحدة الوجود، وإن لم يقل الغزالي بها صراحة، وليفنّد أقواله بصفة دقيقة ومنهجيّة. ولعلّه لم يغلط تمام الغلط على الغزالي عندما لم يعترف في قرارة نفسه أنّه حجّة الإسلام حقّا، فكيف يكون حجّة للإسلام من هو في تقديره وليد الجهميّة السينويّة؟
 
ونقول إذا ما أردنا الإنصاف إنّنا لا ندري حقّا في شأن ابن رشد وابن تيميّة أيّ الرجليّن كان يقصي أكثر من صاحبه الغزالي عن حجّيّة الإسلام. وعلى كلّ حال، وافق هنا، في شأن أبي حامد، حكمُ الفقيهِ الحنبليّ حكمَ القاضيَ الفيلسوف.
 
وجماع الأمر هو أنّ الغزالي لم يتبنّ من الفلسفة المنطق وحده، وإنّما تبنّى كذلك غيره من العلوم والنظريّات الفلسفيّة (الإبستيمولوجيّة منها والطبيعيّة مثل علم النفس والماورائيّة)، وأنّه يمكن أن نعدّه في نهاية المطاف ولا نبالي تلميذا للشيخ الرئيس.
 
وبذلك تبدو لنا جوانب من علاقة الغزالي المعقّدة بالنسبة إلى من سبقه في الكلام وفي الفلسفة وفي التصوّف ودوره في تاريخ الفكر اللاحق: ابن رشد وابن عربي وابن خلدون.
 
والدرس الذي نتعلّمه من الغزالي في تاريخ الفلسفة هو التلازم في تاريخ الفكر بين ما قبله وما معه وما بعده. فإن صاحبناه بحقّ في هذه المعيّة أمكننا أن نقدّر بعض التقدير موقعه في ديناميكيّة فكريّة تقتبس ممّن قبلها وتفتح لمن بعدها. وقد رأينا فيما يتعلّق بالفلسفة علاقته بابن سينا، وبقي على الدراسات اللاحقة أن تقدّر ما يدين به الغزالي إلى ابن سينا. وقد شرعت فعلا بعض الدراسات الجادّة في اتّباع هذا النهج. ([34])
 
ولذلك نتائج في خصوص الفلسفة وعلم الكلام والعلاقات التاريخيّة التي وجدت بينهما. ويمكن الجزم بأنّ الغزالي أنهى سيادة الكلام -والأشعريّ منه على وجه الخصوص -بتحديد حكمه المنطقيّ، وهو كونه جدليّا. ([35]) ولذلك ذهب إلى تحريم الخوض فيه على العوامّ. ([36]) ألا يبدو الغزالي -وهذا هو الأصحّ والأسلم -أنّه هو الذي أدخل الفلسفة ومنطقها في الفكر الإسلاميّ فأصبحت مقوّما من مقوّماته، وأخرج من هذا علم الكلام ومنهجه، وذلك بصفة تكاد تكون لا معقّب لها؟ ألم يقض على علم الكلام أكثر ممّا قضى على الفلسفة؟ بحيث أنّه لم يدفع عن الإسلام فلسفة القدامى اليونانيّين ووَرَثَتهم الإسلاميّين بقدر ما أبطل نظريّات المتكلّمين من الإسلاميّين وأدلّتهم على العقائد.
 
وهناك درس آخر يمكن أن نستثمره من فكر الغزالي وهو يهمّ علاقة لم تعد ثنائيّة (بين الكلام الأشعريّ والفلسفة) وإنّما أضحت ثلاثيّة بالتحاق التصوّف بهما، وبذلك تزيد العلاقات تعقيدا. وهنا لا يسعنا إلاّ التنبيه إلى شيء غريب حدث والتقت فيه الفلسفة والأشعريّة وإن كانت المنطلقات (أي المواقف النظريّة الأصليّة) مختلفة اختلافا جذريّا فلا يمكن التوفيق بينهما: كانت الفلسفة في بعض النتائج على الأقلّ أقرب إلى الأشعريّة منها إلى المعتزلة. ومن هذه النتائج مقطوعة عن أدلّتها وأصولها، أي مقدّماتها النظريّة، هي وحدة الفاعل وأنّ الفاعل المختار هو اللّه وحده، وضرب من حتميّة في الفعل الإنسانيّ. وهي السكّة التي لعلّ الغزالي فهمها من ابن سينا فسار عليها واتّبعها فحل آخر من فحول النظّار وهو الفخر الرازي في تبنّي المنطق وإعادة ترتيبه وفي عرضه التأليفيّ بين مباحث الكلام ومسائل الفلسفة وإعادة ترتيبها والجمع بين شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا وتفسير القرآن (مفاتيح الغيب).
 
وهناك أمر هامّ ينبغي مراجعة الآراء الشائعة فيه وهو علاقة ابن رشد بالغزالي. فرغم خصومة ابن رشد للغزالي والردّ عليه ينبغي أن نكفّ عن الاقتصار على هذا الجانب من العلاقة بين الرجلين وأن نرى كذلك الأمور المشتركة التي وافق فيهما أبو الوليد أبا حامد. ([37])
 
نعم، كثيرا ما رماه بالسفسطة أي بالتمويه، ورماه في أفضل الحالات بالجدل في أرقى مراتبه، الذي هو أعلى درجة في سلّم القيمة من حيث الحقيقة (دون درجة البرهان) يدركها احتجاج الغزالي على الفلاسفة في كتابه التهافت. وابن رشد يقول ذلك في كتاب حكمه المنطقيّ هو نفسه أنّه لا يتعدّى الجدل إلى البرهان واليقين وهو تهافت التهافت. ([38]) ويبدو أنّه لم تكف السنتين ومعهما سنة ثالثة للغزالي في معرفة كلّ الفلسفة حتّى يلخّص كلّ تعاليمهم في مقاصد الفلاسفة. وهو ما جعل ابن رشد يعاين قصوره في ذلك. وكان هذا من دوافعه إلى أن يعمد إلى كتب أرسطو ليجرّد منها الأقاويل العلميّة التي تقتضي مذهبه. ([39]) ولكن لم يفعل ذلك بسبب الغزالي وحده وإنّما بسبب ابن سينا كذلك، إذ كانت صياغة الغزالي باعتماد ابن سينا والتعويل عليه في رواية مذهب الفلاسفة في مقاصد الفلاسفة.
 
وإذا ما كنّا منصفين نقول إنّ ابن رشد لم يحمّل مسؤوليّة ما لحق الفلسفة الغزاليَّ وحده، وإنّما حمّلها ابن سينا بصفة أخصّ، فهو المسؤول الأوّل الذي انحرف عن أرسطو والفلسفة العلميّة، الأمر الذي يسّر على الغزالي مهاجمة الفلسفة وهو يظنّ أنّه يُبطل فلسفة أرسطو، بينما هو يبطل في الحقيقة صيغة محرّفة منها. وكأنّ ابن سينا ضاعف الفلسفة بإحداثاته، ممّا أوجد ما يشبه الحَوَل في عينيْ الغزالي جعل المرمى يلتبس عليه فأخطأه لمّا رماه.
 
وإنّما أراد ابن رشد النجاة بالفلسفة لأولي العلم أصحاب الحق في التأويل لئلاّ تنقرض الفلسفة فتجهل البشريّة نهائيّا. أراد العودة بالأمور إلى نصابها في الحكمة وفي الشريعة، مقتنعا أنّه تكفي العودة إلى التعاليم الأرسطيّة الحقّة وإلى تعاليم الشرع الحقّة حتّى يتّفق الحقُّ والحقُّ وتتعانق الأختان من الرضاعة وتتطابق الحكمة والشريعة. فكان الحلّ في نظره التصدّي لإبحار ابن سينا نحو ما لم يكن معهودا والتصدّي لأقوال الغزالي الجدليّة والمغالطيّة وتأوّلات متكلّمي الأشاعرة على الشرع، وهو انتصار ابن رشد لنوع من ظاهريّة أرسطيّة ضدّ تأويليّة أفلاطونيّة محدثة. وتمثّل هذا الإصلاح في رجوعين أو ارتدادين إلى الأرض الثابتة، أرض الحقيقة (نوع جزيرة يتعانق فيها الأختان من الرضاعة: حكمة يونان وشريعة الإسلام) التي يتوافق فيها الظاهر من الشرع للجمهور والمعنى الأرسطيّ لأولي العلم. نعم وجّه ابن رشد للغزالي تهمة تجعل حكمه الكفر إذ أنّه صرّح بالتأويلات للجمهور عندما ضمّنها الكتب التي تختلط فيها الأقاويل الخطابيّة بالجدليّة. ([40]) ثمّ أدرك في الكشف عن مناهج الأدلّة ([41]) تمام الإدراك الصعوبة في ردّ السيل بعد أن طمّ الوادي على القرى. ولكن وكأنّه أدرك حسن النيّة من الغزالي في سعيه إلى نشر العلم والحكمة باعتباره دافعه الأساسيّ فيما جناه على الأمّة. فسعى أحد الرجلين إلى أن يضمن بقاء العلم بتعميمه على الجماهير وسعى الثاني إلى أن يضمن بقاء الحكمة في متحف لا يُفتح بابه إلاّ لثلّة من أهل الصناعة، هذا مع أنّه للغزالي عامّته وخاصّته، ولكنّهما من نوع آخر. ويبدو أبو حامد مع تبنّيه زوجيْ العامّة والخاصّة وأحكامهما ([42]) أقرب من أبي الوليد إلى القول بإمكانيّة تأديب الجمهور، إذ كان هذا يرى أن لا حقّ للجمهور في العلم الذي يشوّش عليه دينه ويحرمه من النجاة. ولذلك كان الحمل على الظاهر من مقاصد الشرع، وهو ما كان من الثوابت في نظريّة الفلاسفة في الدين مع الفارابي ومع ابن سينا: تصوّر الحقائق المحقّق الذي يستبدّ به العلماء في الفلسفة والتخييل المحاكي لها الذي يقدّم للجمهور.
 
3 –فوائد بالقياس إلى الزمن الحاضر
والآن -وبعد هذه المقترحات التصحيحيّة -إن أردنا أن نستثمر فكر الغزالي بالقياس إلى حاضرنا وتأويله وفق اهتمامات زماننا فقد ينبغي علينا استخراج ما نرى فيه أنّه من مميّزات فكره وأخصّ صفاته.
 
ومن الصعوبات القديمة التي تعترضنا في تأويل فكره للاستفادة منه صعوبة أشير إليها دوما وهي اختلاف آرائه اختلافا يبلغ حدّ التناقض. نعم لا سبيل إلى إنكار هذا الاختلاف الذي عابه القدامى (ابن العربيّ، المازريّ، إلخ) عليه، وقد سبق أن أشرنا إلى جوانب منه. وترديد الأقوال هو أنّه «لم يلزم مذهبا واحدا بعينه» حسب عبارة ابن رشد. وهو يشير في فصل المقال ([43]) إلى تردّد الغزالي في «صفات المعاد وأحواله» وأنّه استعمل الطرق غير البرهانيّة «فخطأ على الشرع وعلى الحكمة».
 
ولكن لم يخلُ رمي الغزالي بالتناقض من مبالغة نظرا إلى وجوده في زمن كثرت فيه الحقائق وتعدّدت السبل إليها وتعقّدت الأقوال وصعب الحسم فيها. ([44]) ويمكن، دون أن ننكر ترديد الغزالي في الأقوال، أن نبحث عن تأليف بين الأقوال القابلة للتأليف، في منزلة اعتباريّة توجد بين التناقض المنطقي والبحث عن المعنى والمغزى. وابن رشد نفسه يصرّح بحسن ظنّه بالغزالي وقصده من التصريح بالحكمة: «وإن كان الرجل إنّما قصد خيرا، وذلك أنّه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكنّه كثر بذلك الفساد بدون أن يكثر أهل العلم». ([45]) ويبدو لنا ابن رشد وكأنّه يتبنّى الاختلاف والتعارض الذي يجده عند الغزالي، ويعامله هنا كما كان يرى ما يرد في الشرع عمدا من تعارض ظاهر، وإنّما المقصود منه هو إعمال العقل للتفكّر والاعتبار والاهتداء إلى وجه التوافق الذي هو في الحكمة في جوهره. ([46]) وهذا القول لابن رشد في نيّة الغزالي ليس خاليا تماما من الصواب، هذا وإن ألجم الغزالي العوام لا عن علم الكلام فقط بل وعن لطائف المعارف ودقائق البراهين أيْضًا لأنّها محال على الجمهور منالها.
 
وهناك ميزة أخرى نراها في بعض هموم الغزالي الثابتة والمترابطة فيما بينها، وهي همّ الحقيقة ونبذ التقليد والاحتراز من التكفير.
 
أمّا عن الحقيقة، فلا نرى ما يدعو حقّا إلى الشك في صدق الأزمة الحادّة التي عاشها ولا في قوله عن نفسه في المنقذ ([47]): «فأعضل هذا الدّاء ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال».
 
فقد كان الغزالي متعلّقا بالحقيقة وميزان النظر في تحصيلها، وهو تعلّق بلغ مستوى التديّن بالحقيقة:
 
«قد كان التعطّش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أوّل أمري وريعان عمري.» ([48])
 
وبذلك ترتبط خاصّية أخرى هي نبذ التقليد. فأكثر ما حارب الغزالي رابطة التقليد دون الاستفسار. ونراه يذمّ التقليد منذ الاقتصاد في الاعتقاد. وهو ما نجده من الثوابت في فكر الغزالي في كلّ فترة من فترات حياته وكلّ مرحلة من مراحل تفكيره وكلّ تأليف من مؤلّفاته. ([49])
 
نذكر قوله الشهير في المنقذ ([50]) المتعلّق بالحقّ وبالرجال، وهو «إنّ الغالب على أكثر الخلق، مهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسُن فيه اعتقادُهم قبلوه وإن كان باطلا وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردّوه وإن كان حقّا. فأبدا يعرفون الحقّ بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق. وهو غاية الضلال». وهذا عادة ضعفاء العقول.
 
ولكنّ الغزالي لا يقتصر على نبذ التقليد في معناه المعهود، أي كما يفعل كلّ متكلّم يشترط نبذ التقليد على كلّ مكلّف ويوجب مباشرة النظر لتحصيل العلم، وإنّما يرفض كذلك تقليد المذهب والبقاء داخله وقبوله. وهذا التقليد في تصنيف المنقذ ([51]) هو من آفات القبول وليس من آفات الردّ. فالواجب هو الإذعان للحقّ، إذ تعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحقّ بالرجال.
 
وهناك خاصّية أخرى يمكن وجودها عند الغزالي وهي دعوته الدائمة إلى الاحتراز من التكفير السهل. فهو يقول في الفيصل: ([52]) «ومهما حصل تردّدٌ فالوقف فيه عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنّما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل». وهذا الاحتراز له أكثر من مبرّر واحد. فقد يكون له مبرّر خلقي باطنيّ في التصوّف حيث لا يقف تحديد الأحكام الشرعيّة على التقنين الفقهيّ الخارجيّ. وقد يكون له أيضَا مبرّر نظريّ تعليليّ وَلَوْ داخل الفقه نفسه. ومع أنّ التكفير من اختصاص الفقيه فكم يجب عليه من المقدّمات التي يجهلها؟ فلم يعد من الممكن للفقيه، بمجرّد الفقه أن يستقلّ بهذا الخطب العظيم. ([53]) وقد يكون لهذا الاحتراز مبرّر نظريّ يكون داخل المذهب. يلاحظ الغزالي في الفيصل ([54]) أنّ «من أشدّ الناس غلوّا وإسرافا طائفة من المتكلّمين كفّروا عوامّ المسلمين وزعموا أنّ من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعيّة بأدلّتنا التي حرّرناها فهو كافر. فهؤلاء ضيّقوا رحمة اللّه الواسعة على عباده …». وهو يذكّر في المنقذ إنّه ذكر في فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة «ما يتبيّن فيه فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كلّ ما يخالف مذهبه.» ([55]) بينما من المفروض أن تقوم الأحكام على طبيعة الأقوال وطريقة التثبّت منها، أي العلم والمنطق. يقول الغزالي عن النظّار «لا ينبغي أن يكفّر بعضهم بعضا بأن يراه غالطا فيما يعتقده برهانا، فإنّ ذلك ليس أمرا هيّنا سهل المدرك وليكن للبرهان بينهم قانون متّفق عليه يعترف كلّهم به، فإنّهم إذا لم يتّفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن.» ([56]) وهذه الموازين هي موضوع كتاب القسطاس المستقيم ([57]). إذن صلح المنطق ميزانا يحتكم إليه لا ليغني عن المتكلّم فحسب بل وعن تعليم الإمام أيضا. والشرع نفسه نزل على موازين منطقيّة. ها قد خلعنا على أرسطو ثوبا قرآنيّا!
 
يقول الغزالي عن نفسه إنّه قد رمي بالكفر. ويبدو من أقواله في الفيصل أنّ هذه التهمة صدرت من أوساط أشعريّة توجهت على ما ورد في تآليفه في التصوّف. ويتّضح أنّه رأى من الضروريّ مراجعة حدّ الكفر والإيمان والتكذيب والتصديق وحقيقتهما ووضع قانون في ذلك. وبذلك نراه ضيّق في الفيصل من دائرة التكفير حتّى حقّ لنا طرحُ السؤال التالي: هل ما زالت وصمة الكفر تلحق بالفلاسفة؟ وإن أجاب الغزالي بنعم، فهل بقي ذلك بالحدّ نفسه والمعنى ذاته؟ وما من شكّ في أن شدّة لهجة الغزالي إزاء منتقديه جعلته يسلّ ثيابه من ثياب الأشعريّة بصفة تكاد تكون نهائيّة: «ولعلّك إن أنصفت علمت أنّ من جعل الحقّ وقفا على واحد من النظّار بعينه فهو إلى الكفر والتناقض أقرب.» ([58]) ونرى أنّ الغزالي راجع شيئا ما تكفير الفلاسفة إذ وضعهم من حيث اعتماد التأويل في التكفير أو عدمه في منزلة وسطى بين المعتزلة (المعتزليّ لا يجوّز الكذب على الرسول) والزنادقة (الزندقة المطلقة وهو أن تنكر أصل المعاد عقليّا وحسّيّا وتنكر الصانع للعالم أصلا ورأسا). أمّا الفلسفيّ فهو «لا يقتصر على مجاوزة للظاهر على ما يقبل التأويل على قرب أو بعد.» ([59]) وقد أشار ابن رشد في فصل المقال «إلى أنّ الظاهر من قوله [أي قول الغزالي في تكفير فيلسوفيْ الإسلام أبي نصر وابن سينا في تهافت الفلاسفة] في ذلك أنّه ليس تكفيره إيّاهما في ذلك قطعا، إذ قد صرّح في كتاب التفرقة [فيصل] أنّ التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال، وقد تبيّن من قولنا أنّه ليس يمكن أن يتقرّر إجماع في أمثال هذه المسائل» … ([60]).
 
ألا يبلغ الغزالي المنتهى في القول الصريح عندما يأمر أو ينصح في بداية الفيصل «استصغر من بالكفر أو الضلال لا يُعرف واستحقر من لا يُحسد ولا يُقذف»؟ ([61])
 
وهو لا يقصر شمول رحمة اللّه على المسلمين، وإنّما يجعلها تشمل غيرهم. «وأنا أقول إنّ الرحمة تشمل كثيرا من الأمم السالفة وإن كان أكثرهم يعرضون على النار إمّا عرضة خفيفة … وإمّا في مدّة … بل أقول إنّ أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء اللّه». ([62]) «فاستوسع رحمة اللّه ولا تزن الأمور الإلهيّة بالموازين المختصرة الرسميّة… واعلم أنّ أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة وشمولها بأسباب ومكاشفات سوى ما عندهم من الأخبار والآثار.» ([63]) كم حضّ أبو حامد على ترك التكفير وفتح باب الرحمة!
 
خاتمة
كان همّ الغزالي هو الحقيقة وكان دينه الحقيقة فكان يقرأ الشرع بالمعاني الروحانيّة. والدرس الذي يلقّننا إيّاه الغزالي هو ما يغنمه الدين باكتساب أبعاد لا حدّ لها في رؤى للوجود وللإنسان في نظره وعمله. قد أضحت الفلسفة مقوّما من مقوّمات الثقافة الإسلاميّة بآلتها ونظريّاتها وجهازا نظريّا لها. ولم يبق التصوّف أخلاقا في الدّين بل وأضحى أيضا معرفة وميتافيزيقا وأخلاقا واستطيقا. فتقرأ من جديد المعايير الشرعيّة والخلقيّة وأحكام الحسن والقبح والأحكام الجماليّة. فتكون قراءة الشرع بشفيفيْ التاريخ والثقافة والقدرة على التوفيق بين المثال في إطلاقه (المثال الذي تنصبه البشريّة غاية في أفقها) والتاريخ في تنوّعه الذي يطعّم المثال ويثريه لا إلى غاية.
 
نعم كان هاجس الغزالي الحقيقة والحقيقة بِمَا هي شرْطٌ في السعادة. ولكن أيّة حقيقة من بين الحقائق التي كانت متوفّرة في سُوق الحقائق الذي يتحدّث عنه في المنقذ، ([64]) سوق الحقائق المعروضة من المتكلّمين والباطنيّة والفلاسفة والصوفيّة؟ والواجب في ذلك هو استخلاص «الحقّ من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق».
 
لا يسعنا إلاّ التأكيد على ثانويّة التمذهب بالقياس إلى أصليّة الاستقلال، استقلال العقل واستقلال الضمير، وعلى سعادة الاستقلال واسكاتولوجيا الاستقلال إذ هو الخلاص نَفْسُه. فبذل الجهد في النظر أهمّ من الاستقرار في الاقتناع بالمضمون، وحيرة الناظر أفضل من سكينة المذهب.
 
وهذا هو المغزى من قوله الشهير في ميزان العمل: ([65]) «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلاّ ما يشكّك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطّلب فناهيك به نفعًا إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحقّ. فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».
 
هذا يفرض علينا للتوّ التخلّي عمّا يقال عادة بصفة سطحيّة عن شكّ الغزالي. ولا نجد في نهاية المطاف من حاكم لا معقّب له إلاّ استفتاء الضمير، ولا نجد من معيار لا مدفع له إلا الاستقلال:)2(
 
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالعا لشمس ما يُغنيك عن زُحل ([66]) وهاتان ثمرتان نقتطفهما من جنان أبي حامد
 
فقد اشترط في المستوى النظري إطلاق العقل في أدقّ وألطف ما يصل إليه النظر والمنطق من معاني الحقّ المعقولة القصوى.
 
وفي المستوى العملي اشترط أرقّ ما يمليه الضمير في رهافة حدّه واقتضائه الخلقيّ في أفعال الخير. فالضمير كالحبّ يذهب لا إلى نهاية. وهذا هو المغزى من الانتقال من دين المعاملة في الفقه إلى دين الحبّ في التصوّف وموازاته بتقنين فقه باطنيّ.
 
وإنّه من الطبيعيّ أن تتجدّد في سير التاريخ قوانين الأنظار وأحكامها المعرفيّة، ولكن لا يبطل تحكيم العقل في العلم البشريّ.
 
ومن الطبيعيّ أن تتجدّد في التاريخ معايير الأفعال وأَحْكَامِهَا الخلقيّة، ولكن لا يتعطّل تشريع الضمير في العمل الإنسانيّ.
 
وهذان اقتضاءان في النظريّ والعمليّ في رهافة حدّ السيف لا يسعهما إلاّ أن يتكاملا ويتظاهرا كجناحي طير يحلّق نحو الحقّ ونحو الخير، أي نحو السعادة والاكتمال.
 
من ثمرات جنان أبي حامد هو تحقيق ما نضعه في العقل بتطوّر المعرفة البشريّة لا إلى غاية نقف بها عندها كما ادّعى أبو الوليد واعتبار التاريخ في سيرورته الثريّة ووجوب تأويل نصّ الشرع تأويلا من طبعه أن يتمنّع على التناهي، إذ المعقولات لا تتناهى. ([67]) وهذه من أوضح الفوائد من كتابات أبي حامد في المنقذ من الضلال أو فيصل التفرقة أو قانون التأويل أو إحياء علوم الدين أو مشكاة الأنوار.
 
وغاية سعينا هنا هي أن نبيّن كيف أنّ الاستفادة من الغزالي، التي هي من وحي آثاره، إنّما تكون بقدر فهمنا لنصوصه وتأويلها تأويلا معقولا يزيح الموانع، وإلاّ وقفنا عند تناقضه وأغلقنا ما كان مفتوحا وأضعنا ما كان متاحا.
 
الهوامش 
[1] راجع العلاقة بين الغزالي والأشعريّة كتاب رتشرد فرانك:
 
R. M. Frank, Al-Ghazàli and the Ash‘arite School, Durham and London, Duke University Press, 1994.
 
ومقال مايكل مرمورة:
 
Michael E. Marmura, «Ghazali and Ash‘arism Revisited», Arabic and Phillosophy, vol. 12 (2002), pp. 91-110.
 
[2] ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ج. 7، وضع حواشيه وقدّم له أحمد شمس الدّين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409 هـ/ 1988م)، ص 32-33. وانظر كذلك قواعد العقائد في التوحيد، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ج. 2، 1406/1986 ، صص 123-129؛ وانظر كتاب قواعد العقائد من كتاب إحياء علوم الدين، دار الشعب، القاهرة، دون تاريخ، ج 1، صص 153 -220.
 
[3] نشرة عادل العوّا، دار الأمانة، بيروت، 1388/1969 .
 
[4] يشير ابن رشد إلى أن الغزالي رام «في كتابه المعروف بـالمقاصد أن يعاند هذه المقدّمة أعني أنّ كلّ مرئيّ في جهة من الرائي) الكشف عن مناهج الأدلّة، منشور ضمن فلسفة ابن رشد، المكتبة المحموديّة التجاريّة، ط 2، 1353 هـ/1935 م، صص 103-104).
 
[5] المنقذ، ص 33.
 
[6] نفسه.
 
[7] ص 32.
 
[8] «فلم يكن الكلام في حقّي كافيا ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا» المنقذ، (ص . (33
 
[9] ص 78.
 
[10] «وما ارتضيته آخرا من طريقة التصوّف» (ص23).
 
[11] المنقذ، ص 58.
 
[12] في الواقع يتحدّث الغزالي هنا عن نفسه عند خروجه من مذهب السفسطة الذي كان عليه «ورجوع الضروريّات العقليّة مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه اللّه تعالى في الصدر فذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظنّ…» المنقذ، ص 29. بحيث أنّ ذلك يتعلّق أيضا بمبادئ الفكر النظريّ والاستدلاليّ، لا بالكشف الذوقي وحده
 
[13] مشكاة الأنوار، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1406 هـ/ 1986 م، ج4 ، ص 18.
 
[14] ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406هـ / 1986م، ج 3، ص 115. ويقول الغزالي في المنقذ (صص 45-46): «ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم، وزعمت أنّ تلك الكلمات من كلام الأوائل، مع أنّ بعضها من مولّدات الخواطر ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر، وبعضها يوجد في الكتب الشرعيّة، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفيّة. وهب أنّها لم توجد إلاّ في كتبهم، فإذا كان ذلك الكلام معقولا في نفسه، مؤيّدا بالبرهان، ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنّة، فلمَ ينبغي أن يُهجر ويترك».
 
[15] دار الكتاب العربي، بيروت، 1399/1979 ، ص 134: «لعلّك تقول كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفيّة وإلى ما يطابق مذهب الأشعريّة وبعض المتكلّمين ولا يُفهم الكلام إلاّ على مذهب واحد.»
 
[16] مثل الرسالة اللدنّيّة، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ج. 3؛ خلاصة التصانيف في التصوّف، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ج. 2؛ معراج السالكين، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ج 1، رسالة الطير، في ج. 4، كيمياء السعادة، في ج. 5، الدرّة الفاخرة في كشف علوم الآخرة، في ج. 6.
 
[17] يذكر الغزالي «صاحب كتاب إخوان الصفاء» (المنقذ، ص 46).
 
[18] م. ن، 35-38.
 
[19] م. ن، ص 35.
 
[20] م. ن، ص 39.
 
[21] م. ن، ص 34.
 
[22] وكان مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر، هذا بصرف النظر عن القسم الذي لا يجب إنكاره أصلا. وهو ما يقوله في المنقذ (ص 38) وفي خاتمة تهافت الفلاسفة (نشرة مريس بويج، تصدير ماجد فخري، ط. 3، دار المشرق، بيروت، 1982)، ص 254.
 
[23] ص 206 وما بعد.
 
[24] صص 99 -100: «ثم قال [أبو حامد] في كتابه المعروف بـجواهر القرآن إنّ الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدليّة وإنّ الحقّ إنّما أثبته في المضنون به على غير أهله. ثمّ جاء في كتابه المعروف بـمشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين فقال: إنّ سائرهم محجوبون إلاّ الذين اعتقدوا أنّ اللّه سبحانه غير محرّك السماء الأولى وهو الذي صدر عنه هذا المحرّك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهيّة». ويقول ابن طفيل إنّ الغزالي «ذكر في كتاب الجوهر (أي جواهر القرآن) أنّ له كتبا مضنونا بها على أهلها، وأنّه ضمّنها صريح الحقّ». (حيّ بن يقظان، نشرة ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، 1986، ص 23).
 
[25] نشرة يعقوب فرجة، بريل، ليدن، 1892، ص ص 198-207: في مقامات العارفين.
 
[26] لا نخوض هنا في الأصول قبل الإسلاميّة التي أمكن أن تكون لعلم الكلام وللتصوّف.
 
[27] يقول ابن رشد في الكشف عن مناهج الأدلّة (صص 57 -58): «وقد نجد ابن سينا يذعن لهذه المقدّمة بوجه ما، وذلك أنّه يرى أن كلّ موجود ما سوى الفاعل إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز… وهذا قول في غاية السقوط». والمقدّمة [سنجد لها صياغة عند الجويني] وهي أنّ العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه». إذن اتّجاه السير كان من علم الكلام ثمّ نحو فلسفة ابن سينا ثمّ نحو كلام الجويني في الرسالة النظاميّة.
 
[28] نشرة ميشال مرمورة، بيروت، 1968، صص 48 – 61.
 
[29] السورة، 24، آية 35.
 
[30] صص 22 -23.
 
[31] ابن خلدون، المقدّمة، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967، صص .836- 834
 
[32] منشور ضمن فلسفة ابن رشد، ص 12: «إنّ الآلة التي تصحّ بها التزكية ليس يعتبر في صحّة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملّة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحّة. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملّة الإسلام.»
 
[33] نشرة سعيد اللحّام، دار الفكر العربيّ، بيروت، 1990.
 
[34] Richard M. FRANK, Creation and the Cosmic System: Al-Ghazâlî & Avi-cenna, Carl Winter · Universitätverlag, Heidelberg, 9.29
 
[35] «الكلام المحرّر على رسم المتكلّمين فإنّه يشعر نفوس المستمعين بأنّ فيه صنعة جدل ليعجز عنه العامّيّ لا لكونه حقّا في نفسه» (فيصل التفرقة، ص 141).
 
[36] «وإذا ما تركنا المداهنة ومراقبة الجانب صرّحنا بأنّ الخوض في الكلام حرام لكثرة الآفة فيه إلاّ لأحد شخصين …» (م. ن، صص 141-142)
 
[37] يحيل ابن رشد إلى الغزالي مثلا في نهاية كتاب الكشف عن مناهج الأدلّة (ص 157) في ما يخصّ قانون التأويل وفق مستويات الوجود الخمسة الشهيرة «والقانون في هذا النظر هو ما سلكه أبو حامد في كتاب التفرقة». قال الغزالي قبل ابن رشد ما يلي: «مقام عوام الخلق، والحقّ فيه الاتّباع والكفّ عن تغيير الظواهر رأسا، والحذر عن إبداع التصريح بتأويل لم تصرّح به الصحابة وحسم باب السؤال رأسا والزجر عن الخوض في الكلام والبحث واتّباع ما تشابه من الكتاب والسنّة» (فيصل التفرقة، ص 129).
 
[38] «الغرض في هذا القول أن نبيّن مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان» (نشرة موريس بويج، ط 2، دار المشرق، بيروت، 1987، ص 3(. «كلّ ما وضعنا في هذا الكتاب فليس هو قولا صناعيّا برهانيّا وإنّما هي أقوال غير صناعيّة بعضها أشدّ إقناعا من بعض فعلى هذا ينبغي أن يفهم ما كتبناه ههنا» (ص (428.
 
[39] فيقول: وإنّما اعتمدنا نقل هذا الرأي من بين آراء القدماء، إذ كان قد ظهر للجميع أنّه أشدّها إقناعا وأثبتها حجّة. وكان الذي حرّكنا إلى هذا أنّ كثيرا من الناس يتعاطون الردّ على مذهب أرسطو من غير أن يقفوا على حقيقة مذهبه (جوامع السماع الطبيعيّ، نشرة جوزيف بويج، مدريد، 1983، ص 8).
 
[40] فصل المقال، ص 31
 
[41] «ثمّ جاء أبو حامد فطمّ الوادي على القرى وذلك أنّه صرّح بالحكمة كلّها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أدّاه إليه فهمه وذلك في كتابه الذي سمّاه بالمقاصد. فزعم انّه إنّما ألّف هذا الكتاب للردّ عليهم. ثمّ وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة فكفّرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها للإجماع كما زعم وبدّعهم في مسائل وأتى فيه بحجج مشكّكة وشبه محيّرة أضلّت كثيرا من الناس عن الحكمة وعن الشريعة. ثمّ قال في كتابه المعروف بـجواهر القرآن …» (الكشف عن مناهج الأدلّة، صص 99-100).
 
[42] في الاقتصاد في الاعتقاد (ص 102) يقضي الغزالي بإبعاد العوام عن التأويلات.
 
[43] ص 30.
 
[44] يحكي الغزالي في المنقذ (ص 23) عمّا قاساه «في استخلاص الحقّ من بين اضطراب الفرق، مع تباين المسالك والطّرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاستفسار». وهو يتحدّث في الكتاب نفسه (ص 33) أنّه كان ينشد «ما يمحو بالكليّة ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق».
 
[45] فصل المقال، ص 26-27.
 
[46] مثل ما ورد في الشرع -حسب قوله في الكشف عن مناهج الأدلّة (ص 123)- من تعارض الآيات في مسألة القضاء والقدر والظاهر من مقصد الشرع ليس هو تفريق هذين المعتقدين (الجبر والاختيار)، وإنّما قصده الجمع بينهما على التوسّط الذي هو الحقّ في المسألة.
 
[47] ص 29.
 
[48] المنقذ، ص 25.
 
[49] [في التقليد] «ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع أكثر من رأيته من المتوسّمين باسم العلم؛ فإنّهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل فهم في نظرهم لا يطلبون الحقّ بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقّا بالسماع والتقليد» (الاقتصاد، ص 173). راجع دراسة ريتشرد فرانك (R. M. FRANK) الهامّة:
 
Al-Ghazālī on Taqlīd. Scholars, Theologians, and Philosophers, in Zeitschrift für Geshichte der arabisch- islamischen Wissenchaften, Band 7, 1991/92, pp. 207-252.
 
[50] صص 46-47.
 
[51] ص 47.
 
[52] ص 136.
 
[53] فيصل، ص 139.
 
[54] ص 140.
 
[55] المنقذ، ص 43.
 
[56] فيصل، ص 130.
 
[57] نلمس منذ الاقتصاد في الاعتقاد القول بمحدودية الحاجة إلى علم الكلام والقول إنّ «المجادلة والمعاندة داء محض لا دواء له» فلينظر المتديّن إلى كافّة خلق اللّه بعين الرحمة (الاقتصاد، ص 76) «والذي ينبغي أن يميل المحصّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا» (الاقتصاد، ص 223) «ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير» (الاقتصاد، ص 224).
 
[58] فيصل، ص 119.
 
[59] م. ن، ص 133.
 
[60] يصرّح الغزالي بالقطع بتكفير الفلاسفة في الاقتصاد في ثلاثة مسائل (ص 223) وفيه يؤكّد ما كان قد ذهب إليه في تهافت الفلاسفة من رواية أقوالهم في قدم العالم (الاقتصاد، ص 134). أما الموضع من الفيصل الذي يشير إليه ابن رشد فهو الذي يقول فيه الغزالي: «فإذا من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو مخطئ وليس بمكذّب فلا يمكن تكفيره. والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير» (ص 139).
 
[61] ص 115.
 
[62] فيصل، ص 144.
 
[63] م. ن، ص 146.
 
[64] ص 31.
 
[65] دار الكتاب العربي، بيروت، 1399 هـ / 1979م، ص 137.
 
[66] ميزان العمل، ص 137.
 
[67] «الموجودات كلّها مجال العقل… والعقل يدرك المعقولات والمعقولات لا تُتصوّر أن تكون متناهية» (مشكاة، ص 10).
 
 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!