بقلم الدكتورة سعاد الحكيم
ولد الإمام علي بن الحسين رضي الله عنه حوالى سنة 38 هجرية.. والده هو الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، وابنه الذي يحبّه ويسأل الله تعالى أن يحبّه ويحبّ من يحبّه، ويخبر الأمة بمكانته منه صلوات الله عليه، فيقول: ((حسين مني وأنا من حسين)). ووالدته هي سلافة بنت يزدجرد ملك الفرس. نشأ على فطرة سليمة سامية، وفي بيئة مطهرة طاهرة، وسار على سيرة أبيه الإمام الحسين رضي الله عنه، حتى لقّب بزين العابدين.
رافق الإمام زين العابدين والده الإمام الحسين عندما سار إلى كربلاء. وعندما وقعت المعركة واستُشهد الوالد رضي الله عنه في سبيل الحق، وسُفكت دماءٌ مع دمه الطاهر، شاء الله تعالى أن يكون الابن الشاب (تقريباً 23 عاماً) مريضاً لا يستطيع القيام من فراشه.. فكان الوحيد الذي بقي حياً من نسل الإمام الحسين رضي الله عنه، وكافة الحسينيين من آل البيت النبوي الطاهر هم من ذريته رضي الله عنه..
كان رضي الله عنه كثير البكاء، فقيل له في ذلك. فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضّت عيناه على يوسف ولم يعلم أنه مات، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يُذبحون في غداةٍ واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبداً؟! كان رضي الله عنه أميناً على سنّة رسول الله عليه صلوات الله.. عن الإمام جعفر بن محمد (= جعفر الصادق)، عن أبيه (الإمام محمد الباقر)، قال: جاء رجل إلى أبي – يعني زين العابدين – فقال: أخبرني عن أبي بكر؟ قال: عن الصّدّيق تسأل؟ قال: يرحمك الله، وتسميه الصدّيق؟ قال (زين العابدين): ثكلتك أمّك، قد سمّاه صدّيقاً من هو خيرٌ مني ومنك، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار، فمن لم يسمّه صدّيقاً فلا صَدّق الله قوله في الدار الآخرة، إذهب، فأحبّ أبا بكر وعمر وتولّهما.
تواترت الأخبار بأنه رضي الله عنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، ومع ذلك لا يركن إلى عمله، بل يتطلع – راجياً – إلى مغفرة ربه.. وكان يقول: «إن قوماً عبدوا الله رهبةً.. فتلك عبادة العبيد. وآخرون عبدوه رغبةً.. فتلك عبادة التجار. وآخرون عبدوه محبة وشكراً.. فتلك عبادة الأحرار الأخيار».
1 – دخول الجنة دون حساب: دلنا الإمام زين العابدين على أمور ثلاثة تُدخل الجنة دون حساب وهي: الفضل والصبر والأخوة في الله تعالى، يقول: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم أهل الفضل. فيقوم ناسٌ من الناس، فيُقال لهم: انطلقوا إلى الجنة. فتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: قبل الحساب ؟ قالوا: نعم. قالوا: من أنتم ؟ قالوا: نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم ؟ قالوا: كنا إذا جُهل علينا حلمنا، وإذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أُسِيء إلينا غفرنا، قالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي منادٍ: ليقم أهل الصبر. فيقوم ناسٌ من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون: نحن أهل الصبر. قالوا: فما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله وصبرناها على البلاء، فقالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي المنادي: ليقم جيران الله في داره. فيقوم ناسٌ من الناس وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون: بم استحققتم مجاورة الله عز وجل في داره؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله ونتجالس في الله ونتباذل في الله عز وجل، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين».
2 – وصية زين العابدين لابنه محمد الباقر رضي الله عنهما: حرص الإمام زين العابدين على نقاء بيئة أبنائه من كل صحبة مؤذية، وأوصاهم بحراسة حماهم من كل نابت. يقول الإمام الباقر رضي الله عنه: «أوصاني أبي قال: لا تَصْحَبَنَّ خمسةً ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق. قلت: جُعِلْتُ فداءك يا أبت من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبنّ فاسقاً فإنه يبيعك بأكلةٍ فما دونها. قلت: يا أبهْ وما دونها؟ قال: يطمع فيها ثم لا ينالها. قلت: يا أبهْ ومن الثاني؟ قال: لا تصحبنّ البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه. قلت: يا أبهْ ومن الثالث؟ قال: لا تصحبن كذّاباً فإنه بمنزلة السراب يبعّد منك القريب ويقرّب منك البعيد. قلت: يا أبهْ ومن الرابع؟ قال: لا تصحبن أحمقاً فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. قلت: يا أبهْ ومن الخامس؟ قال: لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع».
3 – قدرته على العفو عن أحداث جسام: نذكر حادثتين الأولى تعرّض فيها وجهه للجرح العميق، والثانية قُتل فيها ولده. تروي الحادثة الأولى، أن جارية لعلي بن الحسين سكبت عليه ماءً ليتوضأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران/ 134]، فقال: وقد كظمت غيظي. قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران/ 134]. فقال: عفا الله عنك. فقالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران/ 134]. قال: أنت حرّة لوجه الله تعالى. وتروي الحادثة الثانية، أن خادماً سقط من يده عود من حديد وهو يشوي لحماً في التنور، فوقع على رأس صبي لعلي بن الحسين فقتله، فنهض علي بن الحسين مسرعاً، فلما نظر إليه قال للغلام: إنك لم تتعمد، أنت حر، ثم شرع في جهاز ابنه.
4 – دعاء الفرج: وقعت حادثة افتراء على الحسن بن الحسن (الحسن المثنّى) أيام عبد الملك بن مروان، فذكّره الإمام زين العابدين بدعاء الفرج، فأخرجه الله سبحانه من المكيدة دون تدخّل من أحد، بل ألهم تعالى المسؤول أن ينظر إلى نقاء وجهه فيبصر صدقه.. تقول الرواية؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى هشام بن إسماعيل عامله بالمدينة المنورة، أنه بلغه أن الحسن بن الحسن يُكاتب أهل العراق. ويأمره بأن يبعث إليه ويؤتى به. جيء بالحسن بن الحسن رضي الله عنه، ولكن عامل المدينة انشغل عنه بأمر، فقام أثناء ذلك زين العابدين إلى الحسن بن الحسن وقال: يا ابن عم قل كلمات الفرج: «لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين». بعدها تفرّغ عامل المدينة إلى الحسن بن الحسن، ونظر إليه، وقال: أرى وجهاً قد قُشِبَ بكذبة، خلّوا سبيله، وليُراجع بشأنه أمير المؤمنين.
5 – صدقة الليل: كان رضي الله عنه يفرح بالسائل ويقول له: «مرحباً بِمَنْ يحمِلُ زادي إلى الآخرة»، وكان يحب أن يعطي الصدقة بيده، ويقول: «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل».. ويربط بين السيادة والانفاق، فيقول: «سادة الناس في الدنيا: الأسخياء».. وعندما توفي رضي الله عنه، وجدوا في ظهره وأكتافه أثراً من حمل أكياس الدقيق ليلاً إلى بيوت الأرامل والمساكين.. فكان يعول مائه أهل بيت بالمدينة المنورة ولا يدرون بذلك حتى توفي رضي الله عنه.. وكان يقول: «صدقةُ الليلِ تطفِئُ غَضَب الرب، وتُنَوِّرُ القلبَ والقبرَ، وتكشف عن العبدِ ظلمةَ يومِ القيامة».
6 – الإمام زين العابدين تعرفه العُرْب والعَجم: كان الإمام زين العابدين مكيناً في وجدان الناس، رفيع المقام في أعين الخاصة والعامة.. يكفي أن يطل بقامته المهيبة حتى تشرئب إليه القلوب والأعناق.. ومن القصص التي سارت في البلاد، تصدّى الشاعر الفرزدق لهشام بن عبد الملك عندما أراد تهميش زين العابدين في أعين أهل الشام. تقول الرواية: «إن هشام بن عبد الملك حجَّ في خلافة أبيه، أو أخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكّن حتى نُصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله. فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين رضي الله عنه، فلما دنا من الحجر ليستلمه تَنَحّى عنه الناسُ إجلالاً له وهيبةً واحتراماً، وهو في بَزَّةٍ حسنةٍ، وشكلٍ مليحٍ، فقال أهلُ الشام لهشام بن عبد الملك: من هذا؟ فقال: لا أعرفه، فقال الفرزدق وكان حاضراً: أنا أعرفه، فقالوا: ومن هو؟ فأنشأ الفرزدق يقول:
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ اللهِ كُلّهِمُ هذا التّقيُّ النّقيُّ الطّاهِرُ العَلَم إذا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ
مُشْتَقّةٌ مِنْ رَسُولِ الله نَبْعَتُهُ طَابَتْ مَغارِسُهُ والخِيمُ وَالشّيَمُ
هذا ابنُ فاطمَةَ إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
سَهْلُ الخَلِيقَةِ لا تُخشى بَوَادِرُهُ يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ
لا يُخلِفُ الوَعْدَ مَيْمونٌ نقيبتُهُ رَحِبُ الفِناءِ أرِيبٌ حينَ يَعْتَزِمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمُ كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ أوْ قيل: من خيرُ أهل الأرْض؟ قيل: هم
فلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
قال (الراوي): فغضب هشام من ذلك وأمر بحَبْسِ الفرزدق بعَسْفان بين مكة والمدينة. فلما بلغ ذلك علي بن الحسين رضي الله عنه بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: إنما قلتُ ما قلتُ لله عز وجل، ونصرة للحق، وقياماً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته، ولسْتُ أعْتاضُ عن ذلك بشيء. فأرسل إليه علي بن الحسين رضي الله عنه يقول: قد علم اللهُ صدق نيّتك في ذلك، وأقسمتُ عليك بالله لتقبلنها، فتقبلها منه».
وختاماً، تردد نبضات قلوبنا كلمات الإمام زين العابدين في دعائه: «اللهم، إني أعوذ بك أن تحسّن في لوامع العيون علانيتي، وتُقبّح في خفايا العيون سريرتي. اللهم، كما أسأتُ وأحسنتَ إليّ، فإذا عُدْتُ.. فَعُدْ علي».