نظرة في قصة سليمان وملكة سبأ
عبد المجيد الشرفي
موجز البحث
وردت قصة سليمان وملكة سبأ في العهد القديم وفي القرآن، ولكن عناصرها مختلفاً إختلافاً كبيراً بين النصين، ويتباين تبعاً لذلك الغرض من إيرادها. وقد أكتسب الخبر المتعلق باللقاء بين سليمان وملكة سبأ في الأدبيات اليهودية والمسيحية والإسلامية اللاحقة دلالات ذات صبغة ميثية وضحتها البحوث التاريخية في العصر الحديث. ومازال التفسير القرآني يجد صعوبة في التخلص من تلك الصبغة.
وردت قصة ملكة سبأ مع سليمان في “العهد القديم” في “سفر الملوك” أساساً([1][2])، وكذلك في “سفر أخبار الأيام”([3]). وما ورد في “أخبار الأيام” متعلقاً بسليمان وملكة سبأ إنما هو إعادة لما جاء في سفر الملوك بإختلاف طفيف في بعض التفاصيل، وهو متأخر عنه بإتفاق المؤرخين، وقد كتب بين 350و200 قبل الميلاد، ويرجع أن السفرين ينتميان إلى أصل واحد تفرعاً عنه. ولذلك فسينصب اهتمامنا على ما جاء في سفر الملوك نظراً إلى كونه أقدم من سفر أخبار الأيام. ووردت القصة في القرآن في سورة النمل 27/20 – 40[4]. وبما أنها لم ترد إلا مرة واحدة في كلا المصدرين – بإعتبار ما جاء في “سفر أخبار الأيام” تكراراً – فسنحاول وضعها في سياقها السردي، ويتبين أوجه الشبه والإختلاف بين الروايتين، والدلالات التي يمكن استخلاصها منها. ولهذا الغرض أستعنا بالأدبيات المتعلقة بهذه القصة سواء كانت تفاسير أو تواريخ أو دراسات مفردة، عسانا نقف على ما تفتضيه القراءة الحديثة من نتائج قد تبتعد إن قليلاً أو كثيراً عما هو سائد، ولا سيما لدى المتشبثين بالقراءة الحرفية للنصوص الدينية التأسيسية.
- في العهد القديم
يقدم الأستاذ السويسري ألبير دي بيري (Albert de Pury) المتخص في الدارسات المتعلقة بالعهد القديم لبحث بالفرنسية عن سليمان وملكة سبأ[5] في سفر الملوك بقوله:
“يبدو لنا الخبر الخاص بزيارة ملكة سبأ في الفصل العاشر من سفر الملوك الأول خبراً ستتعصى سطحيته على التعبير. ليكاد المرء يخال نفسه وقد نقل دكتاتورية من الدرجة الثالثة في الخمسينات، فكأنه يقرأ العنوان الرئيسي للجريدة المحلية أو للصحيفة الرسمية. ففي هذا الإطار كما يعلم الجميع، تكون مهمة التحرير أن يعيد كل صباح صياغة التسبيح بحمد رئيس الدولة، ولهذا الغرض فإن الحيلة الأبسط، ولكن كذلك الأكثر ابتذالا، تتمثل في تسجيل الصدى لمديح ما عبرت عنه من باب المجاملة شخصية أجنبية مرت بالعاصمة. فهي على الأقل، وهذا هو المضمر، لم يدفع لها أحد شيئاً لكي تثني على “هذا الرئيس الذي يحسدنا العالم عليه!”. فهو خبر يبدو وكأن لا شيء يحصل فيه: ولا صراع ولا تشويق ولا رهان حقيقي. تأتي ملكة من أطراف الأرض صحبة حاشيتها، فتعجب ويعجب بها، وتعبر عن ثنائها، ويتم تبادل الهدايا، ثم ترحل. والكل له مفعول النظرة السحرية ومفعول سراب لا تكاد تكون له نتائج في الحياة الواقعية أكثر مما له على الصعيد الخيالي البحت وعلى الصعيد الأدبي”.
رغم هذا الانطباع الأول الذي يشعر به القارئ المعاصر، فإن خبر الزيارة التي أدتها ملكة سبأ اليمنية للملك اليهودي سليمان في أورشليم/ القدس يثير مجموعة من الأسئلة تتعلق بالحدث في حد ذاته، وتتعلق كذلك بالرهانات الكامنة وراء هذا الخبر في السياق التاريخي الذي شهد ولادته:
- ما هو الإطار الذي يندرج فيه خبر الزيارة؟
- هل كانت ملكة سبأ معاصرة لسليمان حتى يمكن لهذه الزيارة أن تقع من الناحية التاريخية البحث؟
- ما دلالة إقحام ملكة عربية في الأحداث التي كانت المنطقة مسرحاً لها؟
- ما هو الأثر الذي كان محرر سفر الملوك، أو محرروه، يسعى، أو يسعون، إلى تركه في نفوس قرائه؟
- يندرج خبر الزيارة التي قامت بها ملكة سبأ إلى سليمان ضمن خبر أوسع يتعلق بوصف ملك سليمان (سفر الملوك الأول، 3-11، وسفر أخبار الأيام الثاني، 1-9)[6]، ونواة هذا الخبر الواسع هي تشييد سليمان الهيكل، تحيط بها حكايات وأحداث يقصد منها التأكيد على حكمة هذا الملك وقوته وثرائه. إلا أن خبر الزيارة لا يحدث أي أثر في سرد هذه الحكايات والأحداث. ورغم خلوه من أي رهان فإن فيه ما يشبه العقدة:1) تسمع ملكة سبأ بشهرة سليمان فتقرر اختبار حكمته، وتتوجه لذلك إلى أورشليم/ القدس صحبة حاشيتها محملة ببضائع ثمينة، ثم تسأل سليمان.
2) يجتاز سليمان الامتحان بنجاح، فيجيب على كل أسئلة الملكة وتنبهر هي لا بحكمة سليمان فقط بل أيضاً بقصره وبخدمه وأخيراً بالقرابين التي يقدمها ليهوه.
3) وتنحل العقدة عندما تعترف ملكة سبأ بأن حكمة سليمان لا تضاهي، وتحمد يهوه على أن تفضل بوضعه على عرش إسرائيل، ثم تهدي الملك 120 قنطار ذهب وأطياباً كثيرة وحجارة كريمة. ويعطيها الملك بدوره هدايا كثيرة. 4) وأخيراً تعود الملكة إلى أرضها مع حاشيتها.
ويتبين من هذا الخبر أنه يدور حول حكمة سليمان في المرتبة الأولى وحول ثرائه في المرتبة الثانية. فقد كان كلا الشخصين اللذين تدور حولهما الحكاية غنياً وحكيماً، إلا أن حكمة سليمان وغناه فاقا حكمة الملكة وغناها. ولكننا لا نعرف من خلال الخبر ما دار بينهما، فكأنه لا يرمي إلى الاستدلال على أن حكمة سليمان أقوى وأرفع من حكمة الملكة، بل إلى إثبات هذا الأمر على أنه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها. ولهذا فهو يتبسط في وصف إعجاب الملكة وانبهارها في مقابل تحفظ سليمان، إذ هو لا ينبس البته ببنت شفة.
ويعمد السارد لهذا الخبر إلى وضعه في زمن سحيق، سواء بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى قارئة:”لم يرد بعد في الكثرة مثل ذلك الذي وهبته ملكة سبأ للملك سليمان”؛ “ولم يرد مثل ذلك الخشب الصندل ولا رؤى مثله إلى هذا اليوم”. كما أن الإطار وسلم القيم قد حددا بأبعد ما يمكن عن عالم القارئ الواقعي: هو عالم البلاط المتميز بالتأنق والذوق الرفيع. والخبر لا يغفل بطبيعة الحال الإشارة العابرة إلى عبادة يهوه: “تبارك الرب إلهك الذي رضي منك وأجلسك على عرش إسرائيل”. أما ملكة سبأ فهي لا تقدم بصفتها من المعجبات بسليمان عن بعد فحسب بل بصفتها شاهدة على إشعاع يهوه. فهي امرأة استغلت كل طاقتها وكل ثروتها للبحث عن الحقيقة، ووجدت ضالتها في الاجتماع بسليمان والاعتراف بإلهه. وكان السارد يتوجه ضمنياً إلى قرائه، وإلى اليهود منهم بصفة خاصة، ليدعوهم إلى النسج على منوالها.
وقد عمل نقاد العهد القديم في مرحلة أولى على تبين الطبقات التأليفية في الخبر، فرأوا فيه جذراً ينتمي إلى عهد سليمان في القرن العاشر ق.م، وإضافات متأخرة في زمن السبي البابلي، ولكن النقاد المعاصرين صاروا في مرحلة ثانية، ومنذ نحو الثلاثين سنة، شبه مجمعين على أن الخبر كله متأخر، وهذا ما يخلصه كناوف (Knauf) بقوله:
“لقد تبلورت أسطورة”بلاد العرب السعيدة” في العهد القديم في زيارة” ملكة سبأ”، ولم تكن لتلك الزيارة حظوظ في أن تقع، أكثر من الحظوظ في وجود سفن طرسيس. فلا وجود لملكات في سبأ، وبالأحرى في القرن العاشر ق م، ولكن كانت توجد نساء رئيسات قبائل من بين عرب الشمال في القرنين الثامن والسابع ق م. وبعد أن جعلت الأسطورة من سليمان الملك الحكيم والغني بإمتياز، كانت ثروته في حاجة إلى أن يعترف بها الملوك الأغنياء (بين القرنين السابع والخامس). كانت “ملكة سبأ”، منبئة عن إسهام السبئيين في حج الأمم نحو صهيون (أشعيا60، 9). فهذا النص يعود تاريخه إلى بداية العهد الفارسي، عندما كانت ملكة سبأ في أوج قوتها وشهرتها. وحين نرى أن سفن طرسيس كانت تشير، بالنسبة إلى يونس(يونس1)، إلى أقصى موقع في الغرب، وأن السبئيين هم عند جويل 4، 8 أبعد الشعوب من جهة الشرق، نفهم أن أولئك المؤلفين في العهد الفارسي والهلينستي كانوا يتحركون دائماً في حدود ذلك العالم الذي تكون في القرن الثامن / السابع ق م، والذي هو عالم الخبر المتعلق بملك سليمان”[7].
وتعود هذه النظرة الجديدة التي تشك شكاً قوياً في إمكان زيارة ملكة سبأ لسليمان إلى عاملين أساسيين: الأول هو المعرفة الجديدة بطبيعة المصادر “ الكتابية” وبصلتها بالتاريخ، والثاني هو المعرفة الأكثر عمقاً بتاريخ الشرق الأدنى في النصف الأول من الألفية الأولى ق م. فمن الثابت اليوم لدى العلماء أن داود وسليمان بالخصوص ينتميان إلي عهد سابق للملوك الذين وصلتنا عنهم وثائق تاريخية, أي في القرن السابع قم, وأن ملكهما إنما هو رواية تاريخية ذات مقصد وعظي, لا تاريخ بالمعني التام للكلمة. أما مملكة سبا فلم تظهر قبل القرن الثامن, إذ تأسست بين 730و700ق م, وكان أوج ازدهارها في النصف الثاني من القرن السابع أي إنها متأخرة بما لا يقل عن قرنين عن فترة حكم سليمان.
وحين نعود إلي تاريخ المنطقة في الفترة الممتدة من منتصف القرن الحادي عشر إلي منتصف القرن السابع ق م نلاحظ بالخصوص أنها فترة صراع بين الأشوريين من جهة، وكانوا يحتلون الأراضي الداخلية من الهلال الخصيب، والفينيقيين من جهة ثانية، وكانت دويلاتهم ومدنهم واقعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. فأستطاع المد الأشوري التوسعي أن يقضي في النهاية على الدول القائمة في الأراضي الداخلية وخصوصاً في دمشق سنة 732، والسامرة سنة 720، ولكن المدن الفينيقية الساحلية تمكنت من مقاومته ولم تسقط إلا في أخر العهد الفارسي (صيداً هدمت سنة 351، وصور سنة 333 على أيدي الأسكندر).
وكان للأشوريين عدو أخر متمثل في عرب صحراء الشام وعرب الجزيرة حتى جنوبها مروراً بالحجاز، فكان الصراع مع هؤلاء العرب الرحل المالكين لقوافل تجارية والمحتمين بالواحات التي ينفردون بإمكان الوصول إليها بفضل أبلهم، صراعا مستمراً حاولوا فيه مراراً الإستيلاء على المراكز التي تنتهي إليها تجارة العرب في الشمال، إلا أنهم لم يسعوا قط إلى احتلال الواحات وأعماق الصحراء العربية. وإذا كان العرب من هذا الوجه شبيهين بالفينيقيين فإن ما تشهد به الحوليات الأشورية هو أنهم كانوا يختلفون عن هؤلاء وعن سائر خصوم الأشوريين من أراميين وإسرائيليين بأن لهم ملكات – لا ملوكاً زجالاً فقط – ذكرت منهن خمس : زبيبة سنة 738 وسمسي سنة 734 وتئلهنو سنتي 691 و 689 وأبنتها حسب المرجح تبوأة، وقد حملت رهينة إلى نينوي، وأخيراً عدية حوالي 652[8].
على ضوء هذين المعطيين اللذين لا شك في أنهما تركا إنطباعاً عميقاً في نفوس المعاصرين للإمبراطورية الأشورية: الفنيقي الغني العارف بأسرار البحر فلا يمكن التغلب عليه، والعربي الغني كذلك بتجارته بالمواد الثمينة من ذهب وعطور وبهارات، العارف بأسرار الصحراء فلا يمكن القبض عليه، وتحكمه بالإضافة إلى ذلك امرأة، على ضوئهما إذن نشأ ذاك الغرض الأدبي الذي يدور حول الملك الفينيقي والملكة العربية، كما نجده متمثلا في خبر زيارة ملكة سبأ لسليمان.
ومن القرائن التي ترجح أن الخبر قد تم تأليفه في زمن متأخر عن الفترة التي توحي بأن أحداثه دارت فيها أن الأنموذج الذي حيكت القصو على منواله هو أنموذج الحكم الأميني البابلي، ولا سيما في عهد داريوس (Darius) (486-522) وكيا كسريز (Xerxes) (465-486). فسليمان يحاكي في إتساع ملكه وتهاطل الثروات عليه الملك الفارسي، وملكه يتصور قائماً مثل الملك الفارسي، وخلافاً للملك الأشوري، على التآلف والتوافق بين الأمم لا على قوة السلاح. ومعلوم أنه لا وجود لملك في القدس في العهد الفارسي وأن غرض تشييد سليمان للهيكل لم يظهر إلا بعد الأسر البابلي في القرن السادس، بالإضافة إلى أن أخبار سليمان كلها – ومن بينها الخبر الذي يعنينا هنا – خالية من كل إحالة على تاريخ إسرائيل أو إشارة إلى ناموس موسى إلى خصوصية يهودية ما.
وهكذا يتبين أن خبر اللقاء الذي تم بين سليمان وملكة سبأ لا يستحق أيه ثقة لدي المؤرخ، وليس البتة خبراً تاريخياً جملة وتفصيلاً: فلا سليمان كان الملك الغني ذا النفوذ الواسع، ولا كان لسبأ ملك، وبالأحرى ملكة، في عهده، ولا أرقام الثروات المذكورة دالة على الوقع. فخبر سليمان مع ملكة سبأ موضوع في فترة متأخرة عن عهده بثلاثة قرون على الأقل، وفيه إسقاط لأوضاع عاشها مؤلفو كتب العهد القديم بعد الأسر على أوضاع متصورة في الماضي، وذات اغراض لها علاقة بالظروف التي حقت بيهود الشتات بعد ذلك الأسر، ولا صلة لها بالحقائق التاريخية، أي أنه من جملة “الأساطير التأسيسية” التي يعج بها العهد القديم، ولا مناص من تأويله على هذا الأساس وأخذ السياق الذي وضع فيه بعين الاعتبار.
- في القرآن:
حين ننتقل إلى ما جاء في القرآن عن سليمان وملكة سبأ فأول ما نلاحظه اختلافه الكبير عن خبر الكتاب المقدس، بل لعل الالتقاء بين الخبرين لا يمكن إلا في ورود ملكة سبأ الغنية (وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) على ملك بني إسرائيل سليمان الحكيم (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا؛ وأُوتِينَا العِلْمَ مِن قَبْلِهَا). أما فيما عدا ذلك فأغراض النص القرآني لا علاقة لها من أي وجه بأغراض النص الكتابي، والأحداث التي يقصها القرآن لا تشبه الأحداث التي يوردها سفر الملوك لا من قريب ولا من بعيد، فملكة سبأ لا تأتي من تلقاء نفسها للاستفادة من حكمة سليمان، والملك الإسرائيلي يقوم بأفعال ويتكلم سائلاً وأمراًن و”أشخاص” القصة أكثر من “أشخاص” الخبر الكتابي. فليست القصة القرآنية حتى صدى للقصة اليهودية أو إعادة تركيب لعناصرها. هي من كل النواحي قصة أخرى، ورغم ذلك فقد أستعان العلماء المسلمون في تفسيرها بالإسرائيليات، أي بالتراث اليهودي الشفوي الذي نشأ على هامش الكتاب المقدس.
ولعل الخاصية الغالبة على القصة الواردة في سورة النمل[9] أندراجها بصفة لافتة في سياق عجائبي يحشر فيه لسليمان ” جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنسِ والطَّيْرِ “، ويتكلم النمل ” قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ …” وطائر الهدهد ” فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ “، ويلقى هذا الطائر بكتاب سليمان إلى الملكة وقومها ثم يرى ردة فعلهم ” اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ” ويعود إليهم بجواب سليمان ” ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ …”، ويتكلم كذلك ” عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ ” كما يتكلم ” الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ “، ويؤتى لسليمان بعرش ملكة سبأ لا قبل أن “يقوم من مقامه” فحسب بل “قبل أن يرتد إليه طرفه”، وحين يؤتى له به يأمر بأن “ينكر لها” إختباراً لمدى “إهتدائها”، فتشك فعلاً في أمره ” قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ “، وتدخل إثر ذلك ” الصَّرْحَ ” فتحسبه ” لُجَّةً ” بينما هو ” صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ “. وينتهي الخبر بإعلان الملكة إسلامها فتقول: ” رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ “.
ولئن وردت الآيات الثلاثون المتعلقة بقصة سليمان وملكة سبأ (من 15 إلى 44) بين الحديث عن موسى وتلقيه النداء الإلهي ثم علاقته بفرعون وقومه (الآيات 7 – 14) من جهة، والحديث عن ثمود وموقفهم من “أخيهم” صالح (الآيات 45 – 53)، متبوعاً بالحديث عن لوط وقومه (الآيات 54 – 58) من جهة ثانية، فإن مفتتح سورة النمل (الآيات 1 – 6) قد خصص لبيان وظيفة القرآن بما هو هدى وبشرى، ومصدره الإلهي، والآخرة وما ينتظر المكذبين بها من عذاب، وأشتمل القسم الأخير والأطول من السورة (35أية : من 59 إلى 93) على خطاب حجاجي بامتياز فيه دفاع عن التوحيد في مقابل الشرك، وذلك بتعديد أوجه الاختصاص الإلهي بخلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء، وإنبات الشجر، وجعل الأرض قراراً وجعل أنهار خلالها وجعل رواسي لها وجعل حاجز بين البحرين، وإجابة المضطر وكشف السوء وجعل الناس خلفاء الأرض، وهدايتهم في ظلمات البر والبحر وإرسال الرياح بين يدي رحمته، وبد الخلق ثم إعادته والرزق من السماء والأرض والانفراد بعلم الغيب، والفضل على الناس وإن كان أكثرهم لا يشكرون، والعلم بما ” تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ومَا يُعْلِنُونَ “، وجعل الليل ليسكن فيه الناس و” النَّهَارَ مُبْصِرًا “. وكلها آيات ” لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “. يتخلل ذلك تشنيع على الكفار إذ أنكروا البعث وقالوا ” إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ “، وأمر الرسول بحثهم على السير في الأرض حتي ينظروا ” كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ “، ودعوته إلى أن لا يحزن عليهم وأن لا يكون ” فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ “. وبما أن الكفار يستعجلون “الوعد” فإن الرسول يؤمر بتبليغهم أن بعض ما يستعجلونه ” عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ ” لهم.
وفي هذا القسم من السورة كذلك تقرير بأن القرآن ” يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ” ، ” وإنَّهُ لَهُدًى ورَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ “. وفيه أيضاً خطاب للنبي كي لا يحزن على الكافرين ولا يكون في ضيق مما يمكرون، وأن يتوكل على الله إذ هو ” عَلَى الحَقِّ المُبِينِ “، ولكنه عاجز عن هداية الضالين، فهؤلاء موعدهم خروج الدابة والنفخ في الصور يوم الحشر. أما وظيفة الرسول فتنحصر في أن يعبد ” رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا”، وأن يكون من المسلمين، وأن يتلو القرآن. فهو من المنذرين، ولذا تختم السورة بوعد ووعيد: “وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ”.
من هذا الاستعراض لمحتوى القصص القرآني الخاص بلقاء سليمان وملكة سبأ يبدو جلياً أنه عديم الصلة بخبر هذا اللقاء في العهد القديم، وأنه يندرج في سياق مختلف كل الاختلاف عن السياق الذي ورد فيه ذلك الخبر، ولكنه في الآن نفسه مواز له: كان كلاهما يدور حول نفس الشخصيتين، سليمان وملكة سبأ، تركز الخبر الكتابي على حكمة ملك بني إسرائيل وثروته، وتمحورت القصة القرآنية حول قدرة هذا الملك الذي خضع له الجن والإنس والطير، وينتهي اللقاء في الخبر باعتراف الملكة بإله سليمان، كما ينتهي في القصة القرآنية بإسلامها ” مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ “، إلا أن هذا الإسلام أتى بعد الدعوة التي أبلغها إياها الهدهد ” أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ ” وبعد مماطلة ” وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ” فتهديد ” َلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا ولَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وهُمْ صَاغِرُونَ “، ونتيجة لاختبار أول حين نكر لها عرشها، ورغم ذلك ” صَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ “، ولاختبار ثان كان حاسماً وتمثل في الصرح الذي حسبته لجة بينما هو ” صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ “.
نحن إذن بإزاء قصة تعكس تصوراً لقوة خارقة للعادة ينفرد بها الملوك، وما سليمان إلا رمز لهذا الذي سيسميه ابن خلدون لاحقاً “الانفراد بالمجد”، والذي من شأنه أن يحدث في نفوس الرعية رهبة لا تقاوم وفي نفوس الأعداء خشية لا ترد. ولكن القوة التي يتميز بها سليمان مستمدة من كونه مسلماً يدعو إلى عبادة الله الواحد، على خلاف فرعون المذكور في نفس السورة والذي كان هو وقومه ” قَوْمًا فَاسِقِينَ” فساءت عاقبتهم. وكأن هذا التصور يعكس في جانب أخر منه توق العرب الذين يتوجه إليهم الخطاب القرآني في الفترة النبوية إلى ملك يتمتع بالقوة والسؤدد ويخرجهم بفضل الإسلام من تشرذم النظام القبلي السائد.
ونحن كذلك بإزاء قصة توجد فيها في مقابل الملك سليمان ملكة كان، رغم قوته، يجهل أمرها جهلاً تاماً حتى أتاه الهدهد من سبأ بنبئها وأنها ” امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ”. وفي الإشادة بامرأة ملكة عظيمة الشأن اهتدت إلى التوحيد بفضل دعوة سليمان دلالة ما رأينا أحداً من المفسرين وقف عندها، وهي كفاءة “الجنس اللطيف” في النهوض بأعباء الحكم، خلافاً لما سيستقر عليه موقف العلماء المسلمين، عمدتهم في ذلك حديث مستل – إن صح – من سياقه، وهو “ما أفلح قوم ولوا أمرهم أمرأه”[10]. وفي ذلك برهان إضافي على أن المفسر إنما يسقط على النص القرآني بدون وعي قيم مجتمعة، فيبرز ما يتلاءم وتلك القيم، ويغيب ما لا ينسجم معها، وإن أدعى أنه لا يفعل سوى ترجمة النص الإلهي إلى لغة معاصريه.
ج) في النصوص الثواني
ويجرنا هذا الأمر إلى النظر في تقبل الخبرين، الكتابي والقرآني، المتعلقين بلقاء سليمان وملكة سبأ. فالملاحظ أن تاريخ تلقي هذا الخبر يكشف عن انزياح واضح عن اهتمامات السارد، فكان السؤال الرئيسي الذي ربما لم يخطر البتة بذهنه وطرح لاحقاً هو التالي: من هي هذه المرأة التي تعمل وتتكلم وتسافر من تلقاء نفسها، وتقرر بنفسها ما يصلح لها، وتمارس الحكم، وتبادر بإلقاء أسئلة على أكثر الرجال تمتعاً بالمجد في زمنها؟ هل هي باحثة حقا عن الحقيقة؟ هل هي قديسة أو ليست سوى غانية؟ وقد طرح هذا السؤال في الأدبيات اليهودية المتأخرة عن زمن تأليف “الكتاب المقدس”، نظراً بالخصوص إلى ما عرف عن سليمان من ولع بالنساء الأجنبيات. وهكذا شخص لقاؤه بملكة سبأ يبعد إيروسي، بكل ما يحمله ذاك البعد من رغبة ومن سوء ظن. وأفترق المهتمون بشأن ملكة سبأ بين الإحتراز منها من جهة، ورفعها إلى مرتبة الأم المؤسسة والإيقونة من جهة أخرى. يظهر الإحتراز بالخصوص في الشك في أنوثتها نظراً إلى كثرة شعر رجليها، و في ما شاع من شبه رجليها بحافر الحمار، مما يقربها من عالم الشياطين أو الجن, بينما تجلي التعظيم في جعلها بداية السلالات الملكية العريقة[11].
ولئن لم يخامر الشك قديماً مفسري الكتاب المقدس ومفسري القرآن في تاريخية اللقاء فإن ما نسج حول الخبر في الأدبيات اليهودية والمسيحية لا يرتقي زمنياً إلى ما قبل القرن الثامن الهجري / الثامن الميلادي. ويبدو أنه متأثر إلى حد ما بالقصة القرآنية وتفاسيرها، فيذكر ألفباء بن سيرا في القرن الخامس/الحادي عشر أن بختنصر (Nabuchuodonsor) هو ثمرة زواج سليمان بملكة سبأ، وتتوسع الملحمة القومية الأثيوبية كبرى نجست في أحداث اللقاء وتجعل منيليك الأول، جد الأسرة الحاكمة في بلاد الحبشة، أبناً لسليمان وبلقيس[12].
وسيحصل في الأديبات الإسلامية المتأخرة عن زمن الوحي القرآني ما حصل في الأدبيات اليهودية والمسيحية المتأخرة من إنزياح عن مقاصد النص المفسر. ولعب الخيال دوراً كبيراً في تضخيم أحداث القصة القرآنية، سواء في كتب التفسير أو في قصص الأنبياء. كعهد المفسرين في سائر القصص القرآني فإنهم يفصلون ما جاء مجملاً فيه، فإذا بإسم ملكة سبأ عند جميعهم بلقيس، ويعرفون بنسبها وبأسماء أجدادها، وتذهب بعض الروايات إلى أن أمها جنية، وتختلف روايات أخرى في زواجها بسليمان، وتربط هذا الزواج بكشفها عن ساقيها إذا كانتا شعراوين، وبصنع الثورة لإزالة الشعر خصيصاً لذلك.
ويمكن إعتبار الروايات التي جمعها الطبري (تـ310) وأثبتها في تفسيره جامع البيان [13] عمدة المفسرين اللاحقين. ومما جاء فيها أن “سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحدا له مملكة معه، وكان مع ذلك (صلى الله عليه وسلم) رجلاً حبب إليه الجهاد والغزو” وأن الهدهد “دله على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل”. أما ملكة سبأ فهي “امرأة يقال لها بلقيس… أبنة شراحيل، أحد أبويها من الجن، مؤخر أحد قدميها كحافر الدابة، وكانت في بيت مملكة، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة وأثنا عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض يقال لها مأرب، من صنعاء على ثلاثة أيام”. وهي في خبر آخر “أمرأه لبيبة أديبة في بيت ملك”، وقد أدارت اختبار نبوة سليمان لما بلغها كتابة بأن “بعثت إليه وصائف ووصفاء وألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى”، أو “أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الأجر بالذهب ثم أمر به فألقي في الطرق”، فلما جاؤوا فرأوه ملقى ما يلتفت إليه صغر في أعينهم ما جاؤوا به”.
وتختلف الروايات التي يوردها الطبري في شأن زمن إحضار سليمان لعرش بلقيس، وهل كان قبل إلقاء الهدهد كتابه إليها أو بعده، فيعقب عليها بقوله:
“وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خص سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضاره عرش هذه المرأة دون سائر ملكها عندنا ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته ويعرفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه، أنها خلفته في جوف أبيات بعضها في جوف بعض، مغلق مقفل عليها، فأخرجه الله من ذلك كله بغير فتح أغلاف وأقفال حتى أوصله إلى وليه من خلقة وسلمه إليه، فكان لها في ذلك أعظم حجة على حقيقة ما دعاها إليه سليمان وعلى صدق سليمان فيما أعلمها من نبوته”[14]
كما تتسم الروايات المتعلقة باللقاء بين سليمان وملكة سبأ بالإغراق في الصبغة العجائبية التي طبعت القصة القرآنية من جهة، وبإيراد التفاصيل العديدة الرامية إلى إضفاء صبغة حسية على الخبر وتقريبه من عناصر المتخيل الشعبي من ذلك مثلاً أن سليمان “كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير. وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرية…” ، وأنه “بينا هو في مسيرة إذ أحتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض … فدعا الهدهد، فجاءه فنقر الأرض، فيصيب موضع الماء…. ثم تجئ الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب”، وأن ملكة سبأ “كانت لها كوة مستقبلة الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها، واستبطأت الشمس فقامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه، وطار حتى قامت تنظر الشمس”، وأن الملأ من قومها – وكانوا أثني عشر ألف قيل، مع كل قيل مائة ألف – أجابوها إذ شاورتهم في شأنها وشأن سليمان: “نحن ذوو القوة على القتال والبأس الشديد في الحرب، والأمر أيتها الملكة إليك في القتال وفي تركه”، وأن “الذي عنده علم من الكتاب هو رجل من الإنس عنده علم من الكتاب فيه اسم الله أكبر الذي إذا دعي به أجاب” وأن “أسمه بليخا”، وأن سليمان “أمر الشياطين فبنوا له صرحاً وهو كهيئة السطح من قوارير، وأجرى من تحته الماء .. فلما بصرت [بلقيس] بالصرح قالت: ما وجد أبن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق، فحسبثة لجة وكشفت عن ساقيها … فإذا أحسن الناس ساقاً وقدماً”.
ولئن أثبت الطبري في أثناء هذه التفاصيل شكه في صحتها، فقال: “والله أعلم بأي ذلك كان، إذ لم يأتينا بأي ذلك كان تنزيل ولا خبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحيح ، فإن ذلك لم يمنع الزمخشري (تـ538) في تفسيره الكشاف، وهو المعتزلي والمحسوب على أصحاب التيار العقلي، من أن يسير في نفس الإتجاه ومن أن يورد التفاصيل العجيبة الزائدة على ما أثبته الطبري[15]” . من ذلك مثلاً ما يرويه من أن معسكر سليمان “كان مائة فرسخ في مائة ، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش . وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ. وكان يوضع منبره في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين. وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر “، وأن النملة المذكورة في القصة “كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس فنادت: يا أيها النمل، الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل كان أسمها طاخية”، وأنها “أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن”.
ويذكر قصة الهدهد بطريقة تتضمن، علاوة على العجيب، إسقاطاً واضحاً لما هو معروف من طقوس الحج والصلاة الإسلامية على ممارسة نبي يهودي عاش قبل الإسلام بما لا يقل عن الخمسة عشر قرناُ:”إن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره، فوافي الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً، فوافي صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي، فلم يجدوا ماء، وكان الهدهد قنا قنه (كذا) وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، ألخ”[16]. ويمضي على هذا النحو بالنسبة إلى عناصر القصة الأخرى.
ولا يخلو مفاتيح الغيب[17] من التفاصيل التي أثبتها كل من الطبري والزمخشري، إلا أنه لا يركز عليها ويهتم على عادته بالمباحث الكلامية التي تثيرها القصة. من ذلك مثلاً قوله:
“إن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه: أحدها أن هذه الآيات أشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء، وذلك يجر إلى السفسطة، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه، وكذا الثول في القملة والصبان، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب، وثانيها أن سليمان عليه السلام كان بالشام، فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطفية من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه؟ وثالثها كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وأنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال أثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟ ورابعها من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه. “والجواب عن الأول أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع. وعم البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك”[18]
وبعبارة أخرى فقد كان المعترضون على فهم النص القرآني فهما حرفياً منعوتين بالملاحدة، وإن ما جاء في قصة سليمان وملكة سبأ إنما هو حكاية عن واقع معجز لا سبيل إلى إنكاره نظراً إلى خروجه عن العادة، استنادا إلى قدرة الله الخارقة وإلى حصول الإجماع عليه. أما الاختلاف فجائز فيما سكت عنه النص من مثل زواج سليمان من بلقيس، فيقول في آخر تفسير القصة:
“وأختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا، وأنه تزوجها في هذه الحالة أو قبل أن كشفت عن ساقيها. والأظهر في كلام الناس تزوجها. وليس لذلك ذكر في الكتاب ولا في خبر مقطوع بصحته. ويروى عن أبن عباس أنها لما أسلمت قال لها: أختاري من قومك من أزوجك منه، فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني. فقال: النكاح من الإسلام، فقالت: إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان. فزرجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكاً. والله أعلم”.
وإذا كان هذا شأن المفسرين قديماً على إختلاف نزعاتهم المذهبية[19]، فلا غرابة أن تكون أدبيات قصص الأنبياء أكثر إيغالاً في إيراد التفاصيل العجيبة والغريبة التي تشد إنتباه جمهور القصاص من العامة، متكيفة بالتنسيق بين عناصر القصة وتقديمها ضمن محاور لا تلتزم مثل التفاسير القرآنية بتتبع ماجاء في النص القرآني آية آية. فيعقد الثعلبي(تـ427) في مصنفة عرائس المجالس باباً لـ”قصة بلقيس ملكة سبأ والهدهد وما يتصل به” ويهتم ضمن هذا الباب بـ”صفة القصر الذي بنته بلقيس”،و”صفة عرشها”[20]. وكانت المحاور التي بني عليها الكسائي (آخر القرن السادس) أخباره المتعلقة باللقاء بين سليمان وملكة سبأ في كتابه بدء الخلق وقصص الأنبياء هي :”حديث مدينة سبأ وأخبار بلقيس رضي الله عنها”، “حديث تزويج سليمان عليه الصلاة والسلام ببلقيس”، “حديث وادي القردة”، “حديث القصر الذي بناه سليمان لبلقيس”[21]
لا فرق إذن في هذا المستوى بين النصوص الثواني التي أنتجها أصحابها لتفسير النصوص المقدسة، فكلها، في اليودية والمسيحية كما في الإسلام، كانت تنطلق من مسلمة أن الأحداث المروية ذات صبغة تاريخية واقعية. وتطور التفسير الكتابي في العصر الحديث بالإنطلاق مما أثبتته البحوث التاريخية، فتخلص إلى حد كبير من ضغوط الإعتبارات اللاهوتيه. كما تطور التفسير القرآني إلى حد ما، فضمر فيه جانب العجيب ولم يعد يعتمد مثل إعتماد القدماء على ما يسمى بالإسرائيليات، وأصبح يبحث عوضاً عن ذلك عن الدلالات الرمزية للقصة، إلا أنه لم يجرؤ بعد على إعتبار قصة اللقاء بين سليمان وملكة سبأ لا تعكس الواقع التاريخي. وأحسن مثال على ذلك موقف الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير[22]، فقد تقلص فيه العجيب تقلصاً واضحاً، ففي علم سليمان منطق الطير يقول إنه “أوتيه من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وإرادتها”، وفي كلام الهدهد يقول: “وليس للهدهد قبل بادراك ما أشتمل عليه القول المنسوب إليه ولا بإستفادة الأحوال من مشاهدة الأقوام والبلدان حتى تخطر في نفسه وحتى يعبر عنها بمنطقة الذي علم سليمان دلالته … فهذا وحي لسليمان أجراه الله على لسان الهدهد”.
أما ما اعتبره القدماء حقيقة فيقول فيه: “والظاهر أن قوله”قبل أن تقوم من مقامك” “وقوله” قبل أن يرتد إليك طرفك” مثلاًن في السرعة والأسرعية”
لكن بقيت رواسب ذلك العجيب نظرا إلي إيمان الشيخ بالمعجزات, فيقول مثلا:” ويجوز أن يكون قد خلق الله علماً في النملة علمت به أن المار بها يدعى سليمان على سبيل المعجزة وخرق العادة”. ولئن رفض رفضاً قطعياً ما شاع من الأخبار عن ملكة سبأ: “وللقصاص أخبار لا تصح”، “ولا أصل لما يذكره القصاصون وبعض المفسرين من أن سليمان تزوج بلقيس ولا أن له ولداً منها”، فإن معرفته التاريخية بقيت في الجملة في المستوى الذي بلغته عند المؤرخين القدامى، ولذا يؤكد: “والموثوق به أنها [بلقيس] كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عشر قبل الهجرة، وكانت امرأة عاقلة”، ألخ. ويحيل صراحة على الإصحاح 4 من سفر الملوك الأول ليبين أن مملكة سليمان كانت أصغر من ممالك جيرانه، خلافاً لما شاع عند القدماء من أنها كانت أكبر وأقوى من الممالك المعاصر لها.
وبعبارة أخرى فإن علم المفسرين المسلمين لما ورد في سورة النمل حول لقاء سليمان بملكة سبأ قد بقى من هذه الناحية في مستوى المعرفة التاريخية القديمة التي تجاوزتها البحوث الأثرية المعاصرة وثورتها المعلومات التي وفرتها النقوش.
والوثائق المكتشفة في منطقتي الشام واليمن. ولا شك أن أخذ هذه المعرفة الجديدة بعين الاعتبار سيؤدي إلى العدول النهائي عن التفسير الحرفي للقرآن وإلى البحث عن وظيفة القصص القرآني خارج نطاق الأحداث التاريخية البحث. ولكن الصعوبة التي يوجهها هذا المنهج الحديث تتمثل في أنه ينعكس على المفهوم الإسلامي التقليدي للوحى ذاته، وعلى دور صاحب الرسالة في تبليغه. وذلك ما نحسب أن الفكر الإسلامي عموما ما زال غير مهيا لإعادة النظر في المقولات الكلاسيكية المتعلقة به.
ملحق
- سليمانوملكة سبأ في العهد القديم (سفر الملوك الثالث- الفصل الحادي عشر)
(1) وسمعت ملكة سبإ بخبر سليمان واسم الرب فقدمت لتختبره بأحاجيّ. (2) فدخلت أورشليم في موكب عظيم جدا ومعها جمال موفرة أطيابا وذهبا كثيرا جدا وحجارة كريمة وأتت سليمان وكلمته بجميع ما كان في خاطرها. (3) ففسّر لها سليمان جميع كلامها ولم يخف علي الملك شئ لم يفسره لها. (4) ورأت ملكة سبإ كل حكمة سليمان و البيتّ الذي بناه (5)و طعامّ موائده و مسكن عبيده و قيام خدّامه و لباسّهم و سُقاته و مُحرَقاته التي كان يُصعِدها في بيت الرب فلم يبقي فيها روح بعدُ (6) وقالك للمك حقا كان الكلام الذي بلغني في أرضي عن أقوالك وعن حكمتك(7) ولم أصدق ما قيل حتي قدمت وعاينت بعيني فإذن إني لم أخبر بالنصف فقد زدت حكة وصلاحا علي الخبر الذي سمعته(8) طوبي لرجلك طوبي لعبيدك هؤلاء القائمين دائما بين يديك يسمعون حكمتك(9) تبارك الرب إلهك الذي رضي منك وأجلسك علي عرش إسرائيل فإنه لأجل حب الرب لإسرائيل إلي الأبد أقامك ملكا لتجري الحكم والعدل.(10) وأعطت الملك مائة وعشرين قنطار ذهب وأطيابا كثيرة وحجارة كريمة ولم يرد بعد في الكثرة مثل ذلك الطيب الذي وهبته ملكة سبإ للملك سليمان (11) وكذا سفن سيرام التي كانت تحمل ذهبا من أوفير جاءت من أوفير بخشب صندل كثير جدا وبحجارة كريمة.(12) فعمل الملك خشب الصندل درابزينا لبيت الرب وبيت الملك وكنارات وعيدان للمغنين. ولو يرد مثل ذلك الخشب الصندل ولا رؤي مثله إلي هذا اليوم.(13) وأعطي الملك سليمان ملكة سبإ كل بغيتها التي سألتها فوق ما اعطاها من العطايا علي حسب كرم الملك سليمان. وانصرفت وذهبت إلي أرضها هي وعبيدها.
- سليمان وملكة سبأ في القرآن(سورة النمل 27)
ووَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ (16) وحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنسِ والطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجُنُودُهُ وهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلَى والِدَيَّ وأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22) إنِّي وجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وجَدتُّهَا وقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ويَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ ومَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وإنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ والأَمْرُ إلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا ولَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وأُوتِينَا العِلْمَ مِن قَبْلِهَا وكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (44)
[1] [2] هو السفر الأول في الترجمة الفرنسية (ص ص 645 – 646 في T O B ، و ص ص 352 – 353 في La Bible dejursalem)؛ وهو السفر الثالث، ص 589، وفي الترجمة العربية، المطبعة الكاثوليكية، بيروت.
[3]وردت القصة في “”سفر الأيام الثاني”،(Le Livre des Chroniques)، ص ص 734 – 735 في الترجمة العربية، و ص ص 1840- 1841 في T O B، وص ص 439 – 440 في La Bible de Jeursalem.
[4] أثبتنا نص القصة كما وردت في المصرين في ملحق هذا البحث.
[5] أنظر:
- de Pury, “Salomen Et la Reine de Saba. L’analyse narrative peut-elle dispenser de poser la question du context historique?”, in Daniel marguerat (ed), la Bible en recits: l’exegese biblique a l’heure du lecture, Geneve, Labor et Fides 2005, pp 213-238
وقد أفدنا منه فوائد عديدة.
[6] تحيل الأرقام في كلا السفرين على الفصول في “الترجمة المسكونية” (T O B).
[7] أنظر نقلاً عن ألبير دي بوري، المرجع المذكور
Ernst Axel KNAUF, Die Umwelt des Alten testaments, NSK.At 29, Stuttgart, Katholisches Biblewerk, 1994, pp 151-152
[8] وردت اخبار هؤلاء الملكات في حوليات تغلث فلاسر الثالث (Tiglat Pilezer III) التي وصلتنا منها مقاطع في 4 نسخ مختلفة وقد جمعها ونشرها مترجمة إلى الأنقليزية إسرائيل إفال (I. Eph’al) في كتابة: The Ancient Arabs, Jerusalem/leiden, 1982. أنظر بالخصوص الصفحات 21 – 36 ، 87 ، 117 – 137 ، 152.
[9] ورد ذكر النمل، وهو أحد عناصر القصة، في الآية 18، وبه سميت السورة برمتها.
[10] ورد هذا الحديث في مسند أبن حنبل على النحو التالي: وقال أبو بكر : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : من يلي أم فارس؟ قالوا: إمرأة. قال: ما أفلح قوم يلي أمرهم أمرأة، موسوعة السنة، تونس/أستانبول 1413/1992، ج23،ص50. وهو متعلق ببلقيس في قصص الأنبياء للثعلبي (ت 427هـ): “وروى أبن ميمونة بإسناده عن الحسن بن علي عن أبي بكر، قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، فقال: لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة”، قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس القاهرة، البابي الحلبي 1374/1954، ص 313. ويمكن إعتبار موقف الماوردي في الأحكام السلطانية ممثلاً لما هو شائع عند كافة العلماء المسلمين قديماً. يقول مبرراً لأشتراط الذكورة في تولي منصب الوزارة: “ولا يجوز أن تقوم بذلك (أى الوزارة)أمرأة، وإن كان خبرها مقبولاً، لما تضمنه معنى الولايات المصروفة عن النساء، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) “ما أفلح قوم ولي أمرهم أمرأة”، ولأن فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهر مباشرة الأمور ما هو عليهن محظور”، ط البغدادي، الكويت 1989، ص 36. وهو إذ لم يشترط الذكورة صراحة في الخلافة فلأن الأمر بديهي عنده ولا ضرورة للتنبيه إليه. ويقول القاضي أبن العربي (تـ 543) في احكام القرآن، بيروت، دار الجيل، 1408/1988، III، 1457: “روي في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال حين بلغه أن كسرى لما مات ولى قومه بنته: لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة. وهذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه”.
[11] راجع في شأن الموقف الأول :
Jacob LASSNER, Demonizing the Queen of Sheba. Boundaries of Gender and Culture in Postbiblical Judaism and Medieval Islam, Chicago Studies in the ‘History of Judaism (CSHJ), Chicago, The University of Chicago Press, 1993
Matthias DELCOR, “La reine de Saba et Salomon. Quelques aspects de l’origine de la legende et de sa formation, principalement dans le monde juif et ethiopien a partir des textes bibliques”, in Tradicio i traduccio de la Paraula Miscellania Gum ‘Camps, Scripta et Documenta 47, F. Raurell ‘ed), Montserrat, 1997, pp 307-324
وكذلك
Fabrizio A. PENNACCHIETTI, “The Queen of Sheba, the Glass Floor and the .Floating Tree-Trunk”, Henoch 22, 2000, pp 223-246
[12] انظر هذا الغرض فصل Bill S في دائرة المعارف الإسلامية بالفرنسية Ullendorff E12,I,P 1256(E.
[13] الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، القاهرة، الحلبي، ط2، 1373/ 1954، ج19، ص، ص 141-170.
[14] ينحاز الطبري في ذلك إلى الروايه المرفوعة إلى وهب بن منبه، وقد جاء فيها أن ملكة سبأ ” أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ، فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض ثم أقفلت عليه الأبواب، وكانت إنما يخدمها النساء معها ستمائة أمرأة يخدمنها. ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: أحتفظ بما قبلك وبسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ولا يرنه أحد حتى أتيك. ثم شخصت إلى سليمان في إثنى عشر ألف قبل معها من ملوك اليمن تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جمع من عنده الجن والإنس ممن تحت يده فقال (يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (ص160).
[15] الزمخشرى، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأوقاويل في وجوه التأويل،بيروت، دار المعرفة، د ت، ج3، ص ص 141 – 151.
[16] ومن قبيل هذا الإسقاط تشنيعه على الخارجين على الملوك عموماً عند تفسيره للآية 34: ” قَالَتْ إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ” ، فيقول: “وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم. ومن أسباح حراماً فقد كفر ،فإذا أحتج بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين” ، الكشاف، ج3، ص 147.
[17] التفسير الكبير المشهور بمفاتيح الغيب ينسب إلي فخر الدين الرازي (تـ606)، ولكن يبدو أنه لم يتمه ووصل فيه إلى سورة الأنبياء 21 فحسب، وأكمله شهاب الين الخوني (تـ639) ثم نجم الدين القمولي (تـ727). أنظر في ذلك: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، القاهرة 1381/1961، ج1، ص ص 291 – 293. والملاحظ أن صاحب فصل “فخر الدين الرازي”في الطبعة الثانية من دائرة المعارف الإسلامية بالفرنسية لا يشير إلى هذا الأمر عند تعريفه بالكتاب: Anawati E 12, II, p 774 G. C), فيكون تفسير قصة سليمان وملكة سبأ الواردة في سورة النمل 27 ليس للرازي نفسه، وقد جاء في ج 24، صص 185 – 201 من الطبعة الثانية، دار الكتب بطهران، د ت ..
[18] يقول أبن العربي في أحكام القرآن، المصدر المذكور ، 1449/III: “”ولا خلاف بين العلماء في أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول”.
[19] لا تكاد توجد فروق هامة، عدا الإيجاز والتفصيل، بين التفاسير القديمة،وكلها تستعيد نفس الأخبار والروايات وبنفس الألفاظ أحياناً. أنظر مثلاً بالإضافة إلى تفاسير الطبري والزمخشري والرازي: الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، 1412/1992، ج7، ص ص 277-292، وأبن كثير، تفسير القرآن العظيم، دمشق – بيروت، دار الخير، 1410/1990، ج3، ص ص 394-404.
[20] الثعلبي، قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، القاهرة، الحلبي، ط4، 1374/1954، ص ص 311-322.
[21] الكسائي، بدء الخلق وقصص الأنبياء، تونس، دار نقوش عربية، 1998، ص ص 345 – 354.
[22] محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر – الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، د ت، ج19، ص ص 235-277.