التصوف في السودان

التصوف في السودان

التصوف في السودان: الجذور والتطور

بقلم: مختار خواجه 

  يبدو لي من المهم إثراء القارئ الكريم بنبذة عن تاريخ الإسلام والتصوف في السودان قبل الحديث عن سماته، ذاك أن تاريخ السودان بالنسبة لكثيرين من القراء خارجه أمر غير واضح، لا ينافسه في ذلك إلا غموض حاضره بالنسبة لهم، ولذا ارتأي قبل الخوض في سمات هذا التصوف الحديث ابتداء عن تاريخه وتطوره.

  وقد اتسم انتشار الإسلام في السودان بإرادة طرفين هما المسلمون من خارجه وسكانه الأصليون، واحتكاك العرب بالسودان قديم، وكذلك احتكاك المسلمين به، حيث انجلى غبار الاشتباكات العربية – النوبية عن إصابات في أعين العرب كثيرة، حملتهم على قبول الصلح عبر اتفاق البقط، مقابل جزية مالية وبشرية من الرقيق، تطورت لصيغة تقايضية بين الطرفين، ولكنها في الوقت ذاته، لم تخل من عدم التزام الطرفين، فالعرب المسلمون الذين منعتهم اتفاقية البقط من الإقامة الدائمة، ومنحتهم حق المرور وحسب، فانساحوا في البلاد مقيمين بطرق مختلفة، وتجاوزوا المملكة الشمالية لرفيقتها الجنوبية، بينما لم يلتزم النوبة دائما بجزية الرؤوس والرقيق، ولم يمنع هذا من ظهور شخصيات نوبية يشار إليها على أن أصلها من الموالي، كيزيد بن أبي حبيب، أو أن أصلها نوبي كذي النون المصري الإخميمي، أو تحية النوبية العابدة التي دخلت مصر من بلد النوبة النصارى.

  وتوضح بعض المصادر الشفاهية كذلك أن ملك النوبة راسل المعتصم العباسي طالبا بعض الفقهاء ليعلموا مسلمي بلاده الإسلام، فأرسل سبعة من الفقهاء ينتمون للأسرة العباسية نسبا، وعلى أي حال، فالعباسيون لم يعدموا من بينهم فقهاء أو محدثين، لكن الظاهر أنهم لم يتركوا أثرا عميقا، بل الأقرب أنهم كانوا مجموعات ممن هاجروا طلبا للرزق خاصة مع اضطراب شؤون الخلافة والعراق والجزيرة العربية عموما بسبب بداية تسلط الأتراك، وهو الأمر الذي يعضده اندفاع القبائل العربية من مصر باتجاه السودان بعد مضايقات عديدة، امتدت طوال الفترات اللاحقة لخلافة المعتصم تلك.

 وعقب سقوط مملكة دنقلا مطلع القرن الرابع عشر بيد المماليك، ساد نوع من الاضطراب السياسي، وتكونت إمارات النوبة المحلية والقبائل العربية المختلفة، بدون دور في نشر الإسلام بصورة رسمية، بل بدا الأمر شأنا طوعيا بيد المجتمع وتقبله ومبادرة الدعاة في ذلك.

  وأقدم من يذكر اسمه باتفاق المصادر من هؤلاء الدعاة، كان الشريف حمد أبو دنانة المغربي، الذي نشر فقه الإمام مالك والطريقة الشاذلية وسط النوبة والقبائل المجاورة على شاطيء السودان النيلي، حتى بلغ السودان الأوسط، وذلك منتصف القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي،  وترك مصاهرات في كل قبيلة سودانية، نتج منها عدد من علماء الدين، يذكر كذلك وفي مطلع القرن العاشر الهجري الشيخ غلام الله بن عائذ الركابي القادم من مرفإ اللحية اليمني بسهل تهامة، حيث نزل بالسودان وبدأ ينشر العلوم الدينية منطلقا من دنقلا كذلك، وذلك في نهاية القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلاد، والذي ترك أثره في منطقة النوبة ودنقلا العجوز –العاصمة النوبية القديمة-، ليعقبه أولاد جابر الأربعة في الامتداد التاريخي له، وإن كان امتدادهم جنوبا باتجاه مناطق قبيلة الشايقية.

ترافق ذلك مع سقوط مملكة علوة المسيحية التي كانت عاصمتها تقع جنوب الخرطوم الحالية بمنطقة سوبة، حيث نجح الفونج المتحالفون مع عرب القواسم عام 1501 في دخول سوبة عاصمة المملكة جنوب الخرطوم، ودشن ذلك ظهور مملكة سنار كإطار سياسي شمال السودان النيلي وساحل البحر الأحمر عدا سواكن، وترافق ذلك مع ظهور الفور كقبيلة قوية، حكمت كردفان ودارفور غرب البلاد، وارتبط ملوك المملكتين بشيوخ الطرق الصوفية، وبينما ظهر الرواق السناري ورواق دارفور في الأزهر الشريف، ظهرت المؤسسات الدينية التي تجمع بين علوم الشريعة والتصوف معا، فتكونت المؤسسات الدينية من الخلوة أو المسيد التي تتضمن عادة المسجد ومكانا لدراسة القرآن والفقه والعقائد والتصوف، حيث كان الخيار بيد الطلاب للسلوك في الطريقة من عدمه، مع بقاء احترامهم لشيوخهم، وإن لم يأخذوا طريقتهم، حيث يرافق هذه المؤسسة الدينية ظهور التجمع الحضري المصاحب، الذي ينشأ عادة على الزراعة، والتي يعمل فيها التلاميذ أسوة بغيرهم من السكان، وتحولت تلك المؤسسات والمناطق لأسواق كبيرة ومحطات للتجار.

لكن التحول الأبرز، والذي ترك بصمته على التصوف في السودان، كان قدوم الشيخ تاج الدين البهاري البغدادي حاملا الطريقة القادرية معه، وذلك في النصف الأخير من القرن السادس عشر الميلادي، حيث يؤرخ البعض قدومه بعام 1577م، حيث استقدمه من الحجاز الوجيه التاجر المتدين داود بن عبد الجليل، حيث وقف الشيخ البهاري طالبا ممن يريد أخذ الطريقة القادرية أن يتقدم، ويدخل معه الخيمة، ليذبحه.

وأحجم الناس إلا قلة قليلة بادرت بذلك، ومن بينهم عدد من المشايخ، تقدموا، واحدا تلو الآخر، فأدخلهم الخيمة، وقام بذبحهم، بينما الجماهير تهتف في الخارج، وهي ترى الدم ينساب من تحت قماش الخيمة.

وانتهى الأمر، بمبايعة سبعة مشايخ على أخذ الطريق ونشره، وتضطرب الروايات الشفاهية لكل أسرة، تقديما وتأخيرا، وإضافة وحذفا، لكن جوهر القصة هو ما أوردناه أعلاه، مع كامل التحفظ على التفاصيل، فهي موضع نقاش طويل.

لعل القصة أعلاه، تفيدنا في فهم مدى ارتباط وتعلق السودانيين بالمبادئ التي يؤمنون بها، حتى لو اقتضى الأمر الموت في سبيلها، حيث لا يمكن إنكار العاطفة الجياشة التي يحملها السودانيون في دواخلهم لتلك المبادئ، فمن يجازف ليموت فقط ليحشر تحت راية الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، بالضرورة يمكنه فعل أي شيء، وهنا نلمح مسألة في غاية الأهمية، وهي أن المتصوف في هذه الحالة، لا ينظر لمنفعة أو جاه ولو كان روحيا، بل ينظر لما ينتظره من ثواب، وما يتوقعه من شفاعة الولي الذي يعتقد بأنه وسيلته لله تعالى.

مع القرنين السابع والثامن عشر الميلادي، كانت الصوفية قد تطورت، وتكرست النسخ المحلية منها عبر الفروع السودانية للطرق الوافدة، وأصبح لكل قبيلة تقريبا شيخها الصوفي، سواء كات فرعه فرعا خاصا به، أو كان تابعا لفرع أكبر، فظهرت قادرية العركيين وسط السودان، وقادرية المجاذيب شمالا، وظهرت الطريقة السمانية الطيبية كفرع سوداني للطريقةا لسمانية الوافدة من المدينة المنورة، كما انتشرت في شمال السودان الطريقتان الإدريسية التي أسسها السيد أحمد بن إدريس الفاسي، والطريقة الختمية التي احتضنها الحجاز وآل الميرغني.

واتسمت الطرق الصوفية رسميا بالحياد تجاه دخول الجيش المصري إلى السودان عام 1821م، بل ربما أيدته ضمنيا، وإن كان شاعر إدريسي مادح مشهور كحاج الماحي يسخر من الجنود المصريين وملابسهم الغريبة وسلوكياتهم الجديدة على السودانيين، وينتقد في بعض قصائده الرشوة والفساد الإداري والظلم المتفشي، مما لم يعرفه السودانيون من قبل.

ولكن المؤسسة المصرية الرسمية استطاعت احتضان الطرق الصوفية، وحيدتها عن السياسة، لكنها في الوقت نفسه استفادت منها في ترتيب أوضاع القبائل والاستفادة م منها في العمل الإداري، كما وقع في استفادة الحكم التركي من آل الميرغني في تهدئة ثورات الجنود السودانيين في كسلا.

لكن اشتباك المصالح بين الديني والاجتماعي والسياسي، ظهر في مواجهة الطرق الصوفية للدعوة المهدية، التي جاء مؤسسها محمد أحمد بن عبد الله من أوساط صوفية صميمة، حيث كان شيخا للطريق السمانية، حيث انقسمت الطرق الصوفية لفريقين، فريق آمن بالمهدية، وثار إما في منطقته أو ذهب للمهدي فبايعه وقاتل معه، وهم أغلبية كبيرة، منها الشيخ القادري العبيد ود بدر، والشيخ القرشي ود الزين، وآل المكاشفي، وعثمان دقنة من شرق السودان، وفريق أقلية ينتمي للمؤسسة الرسمية الحكومية عارض المهدية وفند عقيدة ظهور المهدي نفسها من الأساس، وهاجم محمد أحمد، ومن بينهم شيخه في الطريقة السمانية الشيخ محمد شريف بن نور الدائم، والذي هجا مريده السابق بقصيدة طويلة.

وانتهى الأمر بسيادة المهدية، التي وبعد أربع سنوات من رفع راياتها الأربع حاملة الشهادتين واسم واحد من الأقطاب الأربعة عليها، مرفقة بعبارة: ولي الله، وصلت العام 1884م للخرطوم، ودخلتها في 26 يناير من ذلك العام، أعلنت إيقاف العمل بالطرق الصوفية المتعارف عليها في البلاد، أسوة بالمذاهب الأربعة، ففيما حكم المهدي بالعودة للكتاب وصحيح السنة وحسب، وأعلن إلغاء المذاهب، أعلن معها إيقاف الطرق الصوفية، لأنه لا حاجة للناس بالسواقي ما داموا وصلوا للنهر الكبير.

وعلى كل حال، سكتت الصوفية على هذا الوضع، واندمج كثيرون في السياق المهدوي الذي عرف بالأنصار، وعملوا على تثقيف المجتمع، واختفت الصوفية كذلك عن ساحة السياسة، لتعود مع هزيمة الأنصار في موقعة كرري سبتمبر 1898م، وانتهاء المهدية.

وبرز من بين الزعماء المحليين في السودان السيد علي الميرغني مرشد الطريقة الختمية، وبرز السيد عبد الرحمن ابن الإمام المهدي نفسه، ليتسيدا المشهد السياسي، تاركين الطرق الصوفية تزدهر من جديد اجتماعيا، لتظهر ثنائية سياسية: الختمية ومن خلقها الطرق الصوفية يمثلها الميرغني سياسيا، والأنصار ويمثلهم المهدي سياسيا، ليشتركوا جميعا في الاحتفالات الدينية المختلفة، حيث تغيب السياسة، ويحضر الدين والتدين الصوفي وحسب..

ولي عودة.. للموضوع من زاوية أخرى .

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!