مقالات في تاريخ المصحف
(1)
بقلم: حسام طاهر
المصحف ذلك الكتاب المعظم، ذو الحلة القشيبة والخط المزخرف، الذي يعكف الصائمون على قراءته وتدبره، لا شك أنه لم يصل إلينا بحلته البديعة وزخارفه المنمقة على طريق من الورد، وإذا كنا اليوم نحمل مصاحف مفسرة على هواتفنا المحمولة، ونستطيع أن نحصل على نسخة من المصحف الشريف في كل مكان، ونوقن تماما بأن جميع نسخ المصاحف اليوم في العالم كله مضبوطة ضبطا تاما ومطابقة لبعضها تمام المطابقة، لا تزيد حرفا ولا تنقص حرفا، وإذا كنا اليوم نعرف المصحف على هذه الحالة فعلينا أن نعلم أنه مر بكثير من المراحل عبر عصور الإسلام الطويلة حتى وصل إلى هيئته المألوفة لنا.
ولكن ما هو مألوف ومعتاد لنا اليوم كان في زمن مضى مقصدا يسعى المسلمون إلى تحقيقه، فهل نتخيل مقدار العناء والمشقة التي وجدها المسلمون الأوائل في تدوين القرآن الكريم حين كانت وسائل التدوين غير ميسورة، فكانت كتابتهم له في الجلود والعظام واللخاف، بحيث إذا أرادوا أن يحتفظوا بنسخة واحدة من القرآن الكريم –كما يقول الشيخ طاهر الكردي رحمه الله- المكتوب بالخط الكوفي الغليظ على هذه الأشياء الثقيلة لاحتاجوا إلى مكان واسع حتى يمكن حفظها فيه!
وهل نتصور أنه منذ أكثر من مائة عام –وهو عهد قريب في تاريخ المصاحف- كانت الجهات الرقابية في مصر تمنع دخول أي مصحف من خارج البلاد، نظرا لوجود كثير من المصاحف المملوءة بالأخطاء في ذلك الوقت! وأنه منذ قرابة الستين عاما كانت محاولات تحريف المصاحف لا تزال قائمة، خاصة في بعض البلاد الإسلامية النائية!
إنها رحلة طويلة مر بها المصحف الشريف حتى انتهى إلى صورته المشرقة وحلته القشيبة التي نعهده عليها، وهي رحلة تثبت تحقق الوعد الإلهي بحفظ القرآن الكريم، فما من عصر مر على هذا الكتاب إلا وقد استخدم الله فيه طائفة من المسلمين وغيرهم لخدمة القرآن وتحقيق الوعد الإلهي بحفظه، فكيف بدأت هذه الرحلة وإلا انتهت؟
- 1. في العهد النبوي:
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن كله محفوظ في الصدور، ومسطور فيما تيسر للمسلمين الأوائل من وسائل التدوين، فكان بعضه مدونا على العُسُب “وهي جريد النخل”.واللِّخَاف: “وهي الحجارة الرقيقة”.والرقاع: “وهي القطعة من الجلد أو الورق”، وكان مرتب الآيات على وفق ما هو عليه الآن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنه لم يكن مرتب السور ولا مجموعا في كتاب واحد أو ما سمي فيما بعد في مصحف واحد، بل كانت مدونات القرآن الكريم متوزعة بين الصحابة.
وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا للوحي، بلغ عددهم ثلاثة وأربعين كاتباً، وكان بعضهم منقطعاً لكتابة القرآن خاصة، ومن أشهرهم : عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت .وكان تدوين الآيات يتم عقب نزولها مباشرة كما تشير إلى ذلك كثير من الروايات، كما تشير الروايات أيضا إلى نهي النبي عن كتابة ما سوى القرآن
ويعلل علماء القرآن لعدم جمع القرآن في مصحف واحد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لازم عن احتمال نزول آيات جديدة في حياته صلى الله عليه وسلم، إذ إن من آيات القرآن ما تأخر نزوله إلى قبل وفاته صلوات الله وسلامه عليه بأيام كما روي في نزول قوله تعالى (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) .
ومن ثم كان من الطبيعي ألا يجمع القرآن في مصحف واحد في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكتب مفرقا في الرقاع والعسب، وقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: “كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نوَلِّف القرآن من الرِّقاع، أي نجمعه لترتيب آياته من الرقاع، وروى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول: “ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا”
فلما انتقل رسول الله إلى جوار ربه، انقطع الوحي، وتيقن المسلمون أن ما بأيديهم من الآيات المحفوظة في صدورهم ومدوناتهم هو مجموع القرآن دون زيادة أو نقصان.
- في زمن أبي بكر:
بعد موقعة اليمامة التي استشهد فيها سبعون صحابيا من حملة القرآن (وهم الذين كانوا يوصفون بالقراء)، استشعر المسلمون تخوفا ما على القرآن الكريم، دفعهم إلى التفكير في طريقة جديدة لتثبيت حفظه وتيسير تلاوته، فكان هذا الخبر الذي يرويه زيد بن ثابت رضي الله عنه:
” أَرْسَلَ إِلِيَّ أَبُوبكرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامةِ وعندهُ عُمرُ فقالَ أبو بكرٍ إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامةِ بالنّاس وإِنِّي أخشَى أن يستَحرَّ القَتْلُ بالقرّاءِ في المواطن فيذْهبَ كثيرٌ من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمعَ القرآن. قال أبو بكر قلتُ لعمرَ كيفَ أفعلُ شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرُ: هو واللهِ خيرٌ فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالسٌ لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ ولا نتهمك كنتَ تكتبُ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفني نقل جبلٍ من الجبال ما كانَ أثقلَ عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلتُ كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر هو والله خيرٌ فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرحَ الله له صدر أبي بكرٍ وعمر فقمتُ فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسُبِ وصدور الرجال”.
وكان زيد رضي الله عنه لا يعتمد على الحفظ في الصدور فحسب، فبرغم أنه كان من كتاب الوحي ومن الذين جمعوا القرآن حفظا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تحرى أن يكون مع المحفوظ نص مكتوب وأن يشهد عليه شاهدان، فنودي في الناس: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب.
وهكذا دون القرآن الكريم للمرة الأولى في كتاب واحد يجمع بين دفتيه جميع آياته وسوره، ثم إنهم اختلفوا في الاسم الذي يطلقونه عليه، فقال بعضهم نسميه (السفر) وقال بعضهم نسميه (المصحف) واختار أبو بكر رضي الله عنه هذه التسمية، وصار هذا الاسم علما بالغلبة على القرآن الكريم.
وقد ظل مصحف أبي بكر في بيته حتى وفاته ثم انتقل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم انتقل إلى دار حفصة أم المؤمنين بعد مقتل عمر وتركه الأمر شورى بين ستة من أصحاب رسول الله، فيقي في بيتها إلى أن طلبه عثمان بن عفان رضي الله عنه، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ المصحف الشريف
- في زمن عثمان:
تلقى المسلمون القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوه في صدورهم ودونوه في صحفهم، ومع فتح مكة رخص لهم رسول الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف، وقد أدت هذه الرخصة إلى وقوع بعض الاختلاف في تلاوة القرآن، لكنه اختلاف تنوع لا تناقض فيه ولا تضاد، ومضى المسلمون على ما تلقوه من رسول الله وما رخص لهم فيه من أوجه القراءة، وجمُع القرآن في مصحف واحد في زمن أبي بكر الصديق وظل السماع هو الأصل في تلقي القرآن وروايته، ولم يؤد اختلاف القراءات إلى فتنة بين المسلمين الأوائل لقرب عهدهم برسول الله وصحابته الكبار الذين يعلمون حقيقة الترخص في قراءة القرآن بالأحرف السبعة، ويتقبلون ما يظهر من اختلاف في تلاوة بعض الآيات لكونها بإقرار الرسول الكريم.
إلى أن جاء زمن عثمان رضي الله عنه فانطلق المسلمون إلى أنحاء الأرض ولكل منهم إمام في القراءة يأخذون عنه القرآن ويتعلمونه منه، وقد حدث أن التقى المسلمون من أهل الشام والعراق في بعض المغازي فاختلفوا في القراءة حتى كفر بعضهم بعضا، فهرع حذيفة بن اليمان إلى خليفة المسلمين عثمان ليدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصاري، فأمر عثمان على الفور بإحضار مصحف أبي بكر الذي كان قد استقر في بيت حفصة أم المؤمنين، وأمر بنسخه عدة نسخ، وأن يبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة منه، واحتفظ لنفسه بنسخة سميت بالمصحف الإمام.
وتدور تساؤلات كثيرة حول الفرق بين جمع القرآن في زمن أبي بكر وفي زمن عثمان، وتختلف الأجوبة عنها تبعا لاختلاف المسلمين حول مفهوم الأحرف السبعة، ومهما كان هذا الخلاف فإن الثابت أن النسخ التي أمر عثمان رضي الله عنه بكتابتها قد ارتضتها الأمة وتلقتها بالقبول، بالرغم مما حدث وقتئذ من تحريق بعض المصاحف لكبار الصحابة وغيرهم، وكانت تشتمل على اختلافات لما عليه المصاحف العثمانية، فإن هذه الاختلافات على الأرجح لم تستند إلى رواية متواترة تثبت صحة كونها قرآنا، فلذا أهملتها المصاحف العثمانية ومُنع من القراءة بها.
والذي استقر عليه علماء القراءة أن المصاحف العثمانية لم تهمل شيئا من القراءات القرآنية المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تيسر لها ذلك من طريقين:
الأول: أنها لم تكن منقوطة ولا مشكولة، فأتاح لها ذلك أن يصح قراءة الكلمة الواحدة بغير وجه من القراءة، ولكن من المهم أن نشير إلى أن اختلاف القراءة لم يكن لمجرد احتمالية الرسم لها، بل لابد أن يكون لها سند صحيح متواتر من الرواية السماعية، التي هي الأصل في تلقي القرآن وتلاوته.
الثاني: أن المصاحف العثمانية راعت اختلاف القراءات في الكلمات التي لا يحتملها رسم واحد، بأن وزعت هذه الكلمات على المصاحف، فبعض القراءات تثبت كلمة وبعضها تسقطها، وهذا لا يتيسر أن يكون في مصحف واحد، فكتبت بعض المصاحف بإثبات الكلمة وبعضها بإسقاطها، تبعا للصحيح المتواتر من روايتها.
وعندما أرسل عثمان هذه المصاحف إلى الأمصار بعث مع كل مصحف منها مقرئا يقرئ الناس، فلم يخرج عن الأصل السماعي في تلقي القرآن، وإنما نسخت المصاحف لضبط الخلاف الذي اتسع وكاد أن يفضي إلى فتنة كبيرة بين المسلمين في تلاوة كتابهم.
يقول القاضي أبو بكر الباقلاني عن الفرق بين جمع القرآن في زمن أبي بكر وجمعه في زمن عثمان: “لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبتٍ رسمه ومفروضٍ قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد”.
وقد ارتضت الأمة طريقة الرسم الإملائي للمصاحف العثمانية الذي سمي (بالرسم العثماني)، وبالغ بعضهم فقال بتوقيفيته وحرمة مخالفته في كتابة المصاحف، وهذا وإن كان محل خلاف بين العلماء فإن واقع كتابة المصحف يشير إلى احترام كبير للرسم العثماني، حتى عده علماء القراءة شرطا أساسيا لقبول القراءة واعتماد صحتها.
ولا يزال الرسم العثماني معتبرا إلى يومنا هذا في كتاب المصاحف، لكن ثمة تعديلات طرأت عليه، وذلك في مرحلة جديدة من مراحل تاريخ المصحف.