حوار في التصوّف والسلفيّة
مع الدكتور امبارك حامدي
حاوره: خالد محمد عبده
التّصوف تيّار إسلاميّ ضخم جرت محاصرته ومحاربته من قبل الفقهاء والسلاطين في وقت ما، وتعود مشروعيّة اكتشافه وبعثه من جديد إلى ضرورة منهجيّة، وهي الحاجة إلى استعادة الشخصية الإسلاميّة كاملة لا كما جرى تكريسها تاريخيًا، وإلى أسباب نظرية منها: غنى هذه القارة الفكريّة وثرائها الفكري والدّلالي. ولا مراء في أن التصوّف، بما ينهض عليه من غنى روحي، جدير بأن يعيد إلى الإنسان المعاصر توازنه بعد أن علت أصوات تدعو إلى الصّراع وأخرى إلى القتل والتدمير. فضلا عن أن التصوّف، بما هو دين المحبّة العالمي، قادرٌ على إرساء أفق من العلاقات جديد بين الأمم والشعوب أساسه الإخاء والتعاون والتسامح.
من هذا المنطلق كان هذا الحوار مع الأستاذ مبارك حامدي عضو مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بكلية الآداب سوسة/ تونس، أنجز مبارك حامدي الدكتوراه حول موضوع: إشكالية القطيعة في الفكر الحداثي المغاربي: بحث في مواقف بعض المفكرين المغاربة المعاصرين من التراث. وتمت مناقشتها في كلية الآداب بالقيروان في 4 فيفري 2015، بملاحظة: مشرّف جدّا، ومن بحوثه المنشورة: من إشكاليّات التّحديث في مؤلّفات عبد المجيد الشرفي: قراءة تحليلية، والتّرجمة ودورها في تطوير الثّقافة العربيّة المعاصرة، وإشكالية التحديث في مشروع الجابري الفكريّ: مقاربة تحليليّة نقديّة، من نقد الحداثة إلى الحداثة النّقديّة في الفكر الأركونيّ.
خالد محمد عبده: ما سبب اهتمامك بالتّصوّف الإسلاميّ؟ هل يعود ذلك لسلوكك طريقه أم لمحبتك له والتماسك فيه أضواء تساعد المسلم الحديث اليوم؟
مبارك حامدي: بعود انشغالي بالتصوّف إلى أربعة أسباب أساسيّة: ذاتيّ وفكريّ ومنهجيّ وسياسيّ
– السبب ذاتي: يتلخّص هذا الدّافع في شعوري بالحاجة إلى اكتشاف هذه القارّة الفكريّة الضّخمة التي أبدت صمودا عجيبا، بل انتشارا وتمدّدا مستمرّين لا مثيل لهما عند بعض التيّارت الإسلاميّة القديمة كالمعتزلة مثلا، وذلك بالرّغم من تلقّيها طيلة تاريخها الطّويل موجات متلاحقة من التّسفيه لمقولاتها والتّشنيع على معتقداتها، ومن التكفير والتّنكيل والتّقتيل لمريدي الطريقة والسّالكين إلى الله. وهو أمر يدفع الدّارس إلى محاولة البحث عن عناصر القوّة والصّمود في داخل الفكر الصّوفي لا في خارجه.
– السبب الفكريّ: يتمثّل في أنّ مفهوم العقل ما بعد الحداثي قد تجاوز تلك الدّائرة الضيّقة التي سجن العقل التقنويّ الأداتيّ الفكرَ فيها، فأصبح مفهوم العقل يتّسع لكلّ الفعاليات الفكريّة من روحانيّات وأساطير وخرافات وسحر… وكلّ ما يصنّف في العقلانيات الكلاسيكيّة باللاّعقل إلخ… لا بوصفها نشاطا ذهنيّا هامشيّا مقارنة بالنّشاط العقلي والمنطقيّ، بل باعتبارها فكرا خلاّقا صانعا للحضارات، في حين اقتصر العقلانيون على تغييرها كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف والفيزيائي النّمساوي بول فيرابند (ت 1994) والنّمساوي الأنجليزيّ كارل بوبير وهو رياضيّ وفيزيائي وفيلسوف (ت 1994). هذا فضلا عمّا شهد به التّاريخ نفسه قديما وحديثا: فكثير من العلماء العرب المسلمين قديما كانوا يجمعون في ذواتهم نزوعا إشراقيّا وانشغالا بالعلوم الدّقيقة كالطبّ والرياضيات مثلا (ابن سينا، الفارابي)، وفي عصرنا يتربّع اليابان عل عرش نادي الأمم الأكثر تقدّما من النّاحبة التّكنولوجيّة، جنبا إلى جنب مع محافظته على معتقدات يراها أنصار العقل التّقنويّ ومعتنقو الفكر المادّي قروسطيّة دون أن يحاولوا فهمَ هذا التّساكن أو تفسيرَه.
– السّبب المنهجيّ: مدار هذا الدّافع على ضرورة استعادة التراث العربيّ الإسلامي بكلّيته في ضوء ما انتهت إليه المناهج الحديثة من حفر أركيولوجي وتفكيك وتأويليّة إلخ… التي لم تعد تسمح بتقديم خطّ واحد جرى تكريسه لغايات متعدّدة وطمس غيره من الخطوط مهما كانت وجاهتها. وبهذا وحده، في رأينا، يستعيد العقل العربي الإسلامي توازنه وثراءة وعنفوانه، بدل عمليّات التّفقير والتّسطيح التي أدّت إلى ظهور نزعة فيلستينيّة (philistinisme) معادية للفنّ والجمال، وأخرى صّنميّة فيتشيّة إزاء الألفاظ والكلمات والمصطلحات على نحو تعبّديّ لمذهب ما أو لمفاهيم هذا العالم أو ذاك (الغزالي، ابن رشد، ابن سينا، الخ…)، ونتج عنهما سلوك عنيف كلبيّ (cynique) في صفوف حركات الإسلام السياسيّ سليلة خطّ بعينه في التّراث الإسلاميّ.
– السبب السياسيّ: يكمن في ما آل إليه حال الإسلام والمسلمين في السّنوات الأخيرة من تسييس مفرط للدّين، وتحوّله إلى إيديولوجيا مجرّدة لحماية مصالح الأفراد أو الجماعات والدّول، أو للاحتجاج على الحكّام وتصيّد فرص الانقضاض على السّلطة، وكان ذلك كلّه على حساب البعد الرّوحي: البعد الأصيل للدّين ومقصده الأسمى. ولا شكّ أنّ الطريقة الصّوفيّة، بقيامها على تزكية النفس وتهذيبها ومحاسبتها، وطلب ما عند الله لا ما عند العباد، والاتّجاه صوب الباطن تعميقا للإيمان… هي خير من يعيد إلى التديّن توازنَه وطابعَه الأصيل.
خالد محمد عبده: ما الذي يقدّمه التّصوّف فكرا اليوم؟ أليس التصوف ظلاّ من ظلال المقدّس ؟ وهل من فوارق ترونها بين تعامل الصوفية مع مشكلات الحياة اليوميّة والسّلفيّة المعاصرة؟
مبارك حامدي: لا فكرَ تامّ وصحيح صحّة مطلقةٌ لسببين: أوّلا لأنّ مصدره بشريّ وإن وكان مُسنده نصوصا مفارقة. والعلم البشريّ لا يطابق العلم الإلهيّ لاختلاف المنزلتين أنطولوجيّا، وادّعاء المطابقة وامتلاك الحقيقة النّهائيّة التّامّة والمطلقة والوحيدة هي أوّل خطوة في طريق الإرهاب والإكراه. وثانيا: لأنّ مقياس الصّحّة لا يكمن في الأفكار ذاتها بقدر ما يحدّده الواقع ومتطلّباته في لحظة تاريخيّة ما، أي بالنّظر إلى الوظائف التي يمكن أن يؤدّيها.
وفي مقابل التصحّر الروحي للدّين على يدي حركات الإسلام السياسيّ، يُنظر إلى التّصوّف بوصفه تقشّفا فكريّا وتحرّجا دينيّا من الحكم على الآخرين، وباعتباره تجربة فرديّة تتّجه إلى إثراء النفس وإخلاص الدّين لله… على أنّه كفيل بإعادة التوازن إلى الكيان الإسلاميّ الفرديّ منه والجماعيّ، هذا فضلا عن أنّ التّجربة الصوفيّة تبدو معاصرة جدّا بل حداثيّة من زاوية اعتبارها تجربة التديّن مغامرة فرديّة وشأنا خاصّا بصاحبه بكل ما ينتج عن ذلك من قيم تنسجم مع روح الحداثة، كالتّسامح والمسؤوليّة الفرديّة، وحرّية المعتقد والضّمير … وهي، إلى ذلك تتوفّر على خصيصة استثنائيّة تدعم طابعها الحداثيّ الإنسانيّ، أعني الانفتاح على الآخر المختلف دينيّا وحضاريا قديما وحديثا, ويكفي أن نستحضر استلهام التصوّف الفلسفي لأفكار وقيم هنديّة وفارسيّة ويونانيّة، واتّساع المذهب الصّوفي لكلّ النّحل، واعتبار الحبّ دينا إنسانيّا شاملا، كما في الأبيات المشهورة للشّيخ الأكبر ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة فمرعى لغزلان وديـر لرهبان
وبيــت لأوثان وكعبة طائـــف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهـت ركائبه فالحـب ديني وإيمانـي
إنّ خصائص التّجربة الصوفيّة تلك إنّما تضعها في المقابل الضدّي التّام مع الحركات السّلفيّة المعاصرة لا من حيث السلوك الواقعيّ، أو من جهة العلاقة بإشكاليّة التّحديث ومشروع التقدّم المنشود فحسب، بل من جهة تصوّر علاقة الدّين بالدّنيا أيضا، وهو موقف يلخّصه أحد الصّالحين في عبارة شديدة التّكثيف والاكتناز، هي: كان السّلف الصّالح يستعينون على الدّين بالدّنيا، أمّا هؤلاء فيستعينون بالدّنيا على الدّين.
خالد محمد عبده: ألا يتخلّى المسلم عن بعض معتقداته حينما يسلك طريق التّصوّف، فيتهاون في الحقوق والواجبات الدينيّة ؟ أم أنّ ذلك فهم خاطئ وتصوّر يروّج له خصوم التّصوّف؟
مبارك حامدي: هذا السؤال يقع خارج أسوار التّجربة الصّوفيّة. أعني يطرحه من شُغل بغيره ونسي نفسه. ويطرحه من لم يدخل التّاريخ المعاصر، ولم يَعِ بعدُ قيمه وفتوحاتِه النّظريّةَ. وكلاهما يفترض أنّ العبادات والعقائد واضحة ونهائيّة، ولا يحقّ لأحد إعادةُ فهمها وفق ما تمليه مناهج القراءة الحدبثة التاريخيّة والاجتماعيّة والانتروبولوجيّة والنفسيّة… وكلاهما يرى كذلك أنّ البديهيّات والمسلّمات التي جرى تكريسها لم (ولن) تتغيّر مهما تطوّرت الآفاق المعرفيّة للإنسان، فالتّاريخ عندهما راكد أو هو كالرّاكد لأنّ كل ما كان وما سيكون قد تمّ تسطيره بشكل نهائيّ في لحظة ما مضت من التّاريخ. وهو أمر يجافي روح الفكر الحديث الذي يقوم على ضرورة استحضار الشّرط التّاريخيّ في معالجة القضايا الإنسانية عموما، وقد عبّر كثيرون عن هذا الموقف، ومنهم الكاتب ومؤرخ الأديان الروماني ميرتشيا إلياده (ت 1986) في قوله “إن مؤرخ الأديان يعتبر (…) الأسطورة أو الطقس أمرين مشروطين دائما من الناحية التاريخية” (البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، بيروت: 2007، ص 134).
بناء على ما تقدّم، وفي ضوئه يمكن القول إنّ الأمر لا يتعلّق بتهاون أو بحرص على الواجبات الدّينيّة على النّحو الذي مارسه المسلمون وما يزالون، وإنّما هو أبعد من ذلك لأنّه موصول بقراءة مخصوصة لكيفيّة آداء العبادات، ولفهم فلسفتها ومقاصدها. لنأخذ على ذلك مثلين:
1- حين يرى أبو عبد الله الحسين بن منصور الحلاج (ت 922 م) أن فريضة الحجّ يمكن أن تتمّ بالهمّة في غرفة طاهرة، فإنّه لا يجوز الاكتفاء بالإدانة لمجردّ مخالفته لما اعتاد عليه المؤمنون، بل ينبغي النّظر في المقدّمات وفي الدّلالات التي يرمي إليها، ومنها مثلا أنّ الحجّ ليس طقوسا وثنيّة تتعلّق بحركات بعينها وبمكان وزمان محدّدين إلخ… بل هو حجّ بالقلب والرّوح لا بالجوارح والأبدان، وهو اختيار أرقى في سلّم التّجريد والتسامي، وأدنى إلى مفهوم الألوهة بوصفها غير متحيّزة في مكان ولا زمان، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيم﴾. البقرة آية 115. نعم. قد يكون المفهوم التقليديّ أنسبَ للعامّة، أمّا من ترقّى في طريق الله، وتشبّعت روحه وذائقته بالعلوم فإنّه من السّذاجة أن نتوقّع منه إيمانا كإيمان العجائز أو الجهّال. فالتّمييز بين العامّة والخاصّة وبين الظاهر والباطن وبين الشريعة والحقيقة… عند المتصوّفة أكثر واقعيّة من الهوس التنميطيّ الذي يسعى إليه أهل الرّسوم. وهو ما تؤكّده الدراسات الحديثة في مسألة شبيهة هي مسألة تصوّر الذّات الإلهيّة واختلاف هذا التصوّر بحسب الفئات والطبقات والمستوى التّعليميّ والفكريّ إلخ… ويُنظر في هذا المعنى مثلا إلى دراسات جاك مايلز للصّور التي ينشئها النّاس عن الذّات الإلهيّة وفق شروطهم التّاريخيّة والاجتماعيّة والأنتروبولوجيّة، وهي: صورة الخالق والمدمّر وصديق العائلة والمحرّر والأب والجلاّد الخ… (سيرة الله، سورية: دار الحوار، 1988). وفي هذا المعنى كذلك يقول ميرتشيا إلياده “نحن نعلم أنه ليس بوسعنا إدراك المقدس إلاّ عبر تجلياته التي هي دائما تجليات تاريخية مشروطة”- ص 134.
. 2- يتبنّى التصوّف الفلسفيّ مفهوما واسعا للثواب والعقاب وللإيمان والكفر، وهو مفهوم يستوعب كلّ أشكال التديّن وجميع صور الإيمان بقوّة مفارقة تسيّر هذا الكون، فالذي يعبد شجرة أو بقرة أو صنما… إنّما يعبد تجلّيَ الله في هذه الكائنات. ذلك أنّ الإيمان باللّه وعبادتَه إنّما هو قضاء لا فكاك منه، وقد قُدِّر على جميع المخلوقات، لقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ الإسراء آية 23.
ولننظر إلى اجتهاد آخر للشّيخ محيي الدين بن عربي، فقد أقرّ قطبية المرأة وإمامتها للصّلاة وشهادتها ونبوّتها معتمدا في ذلك كلّه تأويلاتٍ عرفانيّةُ لأحاديث وآيات قرآنيّة، ويمكن العودة في هذا إلى بحث ممتاز، على إيجازه، للدكتورة سعاد الجكيم (كتاب: إشراقات 2006- 2007).
يستغلّ أعداء التصوّف مثل هذه الاجتهادات التي يمكن لا يسهل إنكارُ وجاهتها مهما كان اختلافنا أو اتفاقنا مع أصحابها للتّشنيع عليهم. ويتسقّطون قولَ بعضهم بسقوط التّكالبف الشّرعيّة على أهل الكشف وعلى من رفع له الحجاب لإدانة التصوّف ووصمه بالزّندقة والمروق من الدّين. وهو أمر يُعالج، في رأينا، من زاوية الأسس والمنطلقات لا من جهة النتائج والخلاصات. كأن نسأل مثلا: ألا يحقّ للعبد أن يختار الطريقة الأكثر إخلاصا عنده لـ “مناجاة” ربّه؟ كيف نسوّي في رسم العبادة بين من ربُّه في قلبه، ومن لا يذكر ربّه إلاّ على فترات؟ وهل يوجد تأويل واحد لنصّ ما أم أنّ التّأويلات غير محدودة؟ وهل ترى أنّ الحقيقة واحدة أم متعدّدة؟ وهل الإيمان والتديّن نمطيّ مهما تغيّرت الأزمان والأمكنة ومهما اختلفت المعطيات التّاريخيّة والثقافيّة للمؤمنين، أم هو دائر بدورانها، متغيّر بتغيّر الشّروط والأحوال؟ إلخ…
خالد محمد عبده: هل ترى أنّ الطرق الصّوفيّة تؤدّي دورا فعّالا في المجتمع الإسلاميّ المعاصر يمكن أن يغيّر من أوضاع المؤمنين وغيرهم؟
مبارك حامدي: تضمّنت أجوبتنا على الأسئلة السّابقة شطرا من الجواب على هذا السّؤال ذي الطّابع العمليّ. ودقّة هذا السؤال تتركّز في الاستفهام عن دور الطّرق الصوفيّة لا عن الفكر الصّوفي. ويمكن إجمال الجواب في القول إنّ من أهمّ الأدوار التي يمكن أن ينهض بها التيّار الصّوفي هو إعادة التّوازن إلى التديّن المعاصر بإيلاء البعد الروحي المنزلة التي يستحقّ عبر التّذكير بقيم الرّحمة والتقوى والزّهد التّواضع… في عالم يتّجه إلى القسوة والفجور والتّكالب على الشّهوات والكِبْر والغطرسة والطّغيان… ومن شأن الزّوايا أن تؤدّي أدوارا مهمّة متى اتّجهت إلى تأطير المؤمنين وانخرطت في أعمال اجتماعيّة تكافليّة، وبادرت بأعمال خيريّة واسعة، لا تميّز فيها بين منتسبيها وبين غيرهم كما تفعل التيّارات الدينيّة المتسيّسة. إنّ الفراغ الرّوحي، والخراب النفسيّ الذي بثّته قيم الحضارة المادّية لَيستدعي التصوّف استدعاءً لا سيما بعد أن انحرفت تيّارات دينيّة كثيرة عن القيم السامية للدّين وتورّطت في تلك الحضارة من حيث لا تدري. على أنّه من الأهمّية بمكان التّأكيد على ضرورة بقاء التّصوّف وأنشطته بعيدا عن السّياسة والسّياسيّين حتى لا يتمّ توظيفه في معارك ظرفية دنيويّّة، فيتحوّل إلى إيديولوجيا تابعة لهذا الطّرف أو ذاك، ويفقد في النهاية عمقه ومصداقيته تماما كما جرى لكثير من التيارات الدّينية قديما وحديثا.
ولو شئنا أن ننظر من زاوية أوسع لأمكننا القول إنّ التصوّف تيّار ثريّ ملهم في شتّى الميادين: الروائيّ والشعريّ والفلسفي والنفسي والفنّي الغنائيّ والموسيقيّ… ولا شكّ أنّه رموزه وإشارته ومواجيده ومقالاته معين ثرّ للمبدعين والدّارسين، ومن شأن هذا الثّراء الفنّي والرّوحيّ أن يُخصب النّفس والروح في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة المعاصرة. تلك المجتمعات التي توشك أن تفقد روحها وأن تتيبّس ينابيع الخيال والإبداع فيها، فتعيش ما سمّاه الباحث الفرنسي مارسيل غوشيه بخيبة العالم في كتابه الذي يحمل عنوان ذاته (histoire politique de la religion. Paris 1985 Le désenchantement du monde. Une مع اختلاف التّرجمات).
خالد محمد عبده: ما رأيك في إحياء الصّوفيّه والسّلفيّة لمشكلات الكلام القديم؟ أليس في ذلك بعدٌ عن الواقع وهروب من مشكلاته وتعبير عن العجز على خلق الجديد؟ أم أنه لا مفرّ من الاهتمام بموروث المشكلات الكلاميّة؟
مبارك حامدي: أبدأ الجواب بملاحظة: إن كثيرا من مشكلات علم الكلام لم تجد طريقها إلى الحلّ أو التوافق عبر الحوار الفكريّ الخالص، بل إنّ ما جرى غالبا هو حسم سياسيّ لصالح هذا الرأي أو ذاك، أو لهذا الاعتقاد أو ذاك. خذ مثلا صفات الله والقولَ بخلق القرآن أو الجبر والاختيار، والثواب والعقاب والجنّة والنار والكفر والإيمان والنفاق والفسق… مصيبة الفكر الإسلاميّ إذن هو أنّ السياسة كانت هي الفاعل الأوّل في التّرجيح أو الحسم في المشكلات الفقهيّة والكلاميّة وفي القضايا الفكريّة والفلسفيّة. فقد كانت السياسة تمارس من خلال الدين كما قال المفكر المغربي محمد عابد الجابري عاكسا مقولة المفكّر الفرنسي ريجيس دوبري (Régis Debray) في كتابه: نقد العقل السياسي. وهكذا لم يكن التّفاعل الفكريّ الحرّ هو الفيصل في تكريس مقولة دون أخرى، فظلّ الخلاف قائما، ويتجدّد كلّما تغيّرت الشّروط السّياسية ووالتّاريخيّة. من هذا المنظور ليس غريبا أن يتمّ إحياء المعارك التّراثيّة في مختلف فروع المعرفة التي سادت في ذلك العصر، بل وفي الخصومات السياسيّة أيضا. انظر مثلا الخصومة المسمّاة بالفتنة الكبرى، وما تكوّن حولها من سرديّات مؤيّدة ومعارضة لهذا الشقّ أو ذاك، أو مكتفية بمجرّد التّسويغ والتّلطيف والتّوفيق لمداواة الجرح الذي أصاب الضّمير الإسلامي بسبب تقتيل الصّحابة بعضهم لبعض. وصولا إلى قيام الحملات الانتخابيّة المعاصرة على وحي استلهامها لجمع الأنصار.
ومن جهة سؤال الدّلالات والمشروعيّة التي يمكن من خلالها الحكم على هذه “الظاهرة”، يمكن القول إنّ معالجة المسائل الكلاميّة، وإحياء معاركها بالرّوح ذاتها يغفل عامل الزّمن، وتحوّل الابستيميه (epistémè) الذي تُعالج في أفقه القضايا والمشكلات حديثا، وهو تحديدا إبستيمية التاريخ وظهور الإنسان موضوعا للبحث كما أكّد ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (ت 1984) (Michel Foucault). ولعلّ من التجلّيات الواضحة لسيادة نظام الفكر المذكور ما يسمّى بـ “لاهوت التحرير” المسيحي الذي نشأ في أمركا الجنوبية سنة 1968، وجعل مدار الدّين على الإنسان (على الفقراء تحديدا) لا على الله، وهو ما نجد صدى له في كتابات المفكر المصري حسن حنفي في اللاهوت الجديد الذي دعا إلى تأسيسه.
بناء على ما تقدّم من تفسيرٍ لعودة الظّاهرة ومن نظرٍ في دلالاتها ومشروعيّتها، يمكن القول إنّ اجترار قضايا قديمة دون تغيير يذكر للمنظور أمرٌ يجافي روح العصر ويتجاهل مكتسباته، ولا يمكن أن يظلّ إلا نقاشا عقيما خارج التّاريخ.
خالد محمد عبده: يزخر التّراث الصّوفيّ بألوان عدّة من الإبداع، فنقرأ فيه مثلا النّحو بصورة جديدة مع القشيريّ، إذ يتحوّل الاهتمام من العامل وعلامات الإعراب والخلاف بين البصريّين والكوفيين… إلى نحو القلوب فكلّ شيء كتبه النحاة يمكن أن يؤوّل في صورة عرفانية، وكما يحدث ذلك مع علم النّحو يحدث مع الكتاب العزيز فتختلف تفاسير الصّوفيّة للقرآن عن التّفاسير الأخرى كلاميّة كانت أو بيانيّة أو تلك التي اهتمت بالقرءات والأساليب.. في رأيكم كيف يمكن الاستفادة من هذه الطّاقة الإبداعيّة للمقاربة الصوفيّة اليوم في شتّى الميادين؟
مبارك حامدي: من نافلة القول التذكير بأنّ التّراث الصّوفيّ برمّته يقوم على الذّوق لا على العقل في مفهومه الضّيق الحسير، وعلى الباطن لا على الظّاهر، وعلى التأمّل لا على الاستدلال أو القياس. فمن البديهي، بناءً على ذلك، أن يتّسم هذا التّراث بالثراء والتنوّع لأنّه لا حدود لمعرفةٍ الإنسانُ فيها بذوقه وتأمّلاته وخيالاته هو المقياس والمرجع، وقد يَعِزُّ أحيانا على المتصوّف سكبُ مواجيده في عبارات مفهومة للكافّة. ولذلك قال الشّيخ النّفّري عبارته الشّهيرة: كلما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة، وهو ما يفسّر كذلك حضورَ المجازات والكنايات والتلويحات عند المتصوّفة، واعتماد الإيجاز والتّكثيف، ولجوءَهم إلى الشّعر للتعبير عن أشواقهم ومواجيدهم، بل ولإنتاج معرفة تعبّر عن رؤيتهم للوجود والإنسان كما هو شأن الشيخ ابن عربي والشيخ ابن الفارض والحلاّج ورابعة العدويّة وغبرهم. وكانت مجالس الاستماع مجالا فسيحا للذّكر والغناء طلبا للحظة وجدانيّة يغيب فيها المريد عن نفسه وعن شرطيْ الزّمان والمكان للسّباحة (والسّياحة) في عالم الملكوت.
ويلاحظ أنّ سوء فهم الفقهاء كثيرا ما أودى بحياة متصوّفة كبار، فقتلوا شرّ قتلة ومُثِّل بهم أشنع تمثيل، لأنّ هؤلاء الفقهاء لم يدركوا خصوصيّة اللّغة التي يستعملها المتصوّفة. ولننظر مثلا في قول أبي عبد الله الحسين بن منصور الحلاج: ما في الجبّة إلاّ الله. فلو قال: ما في قلبي إلا الله أو ما في عقلي إلاّ الله… ما آخذوه لأنها عبارة مألوفة، أمّا أن يكون الله في كلّ الجوارح، أي في “كل ما تحت الجبّة” فهذا ممّا لم يألفوه فكان أن أنكروه عليه. وقد شاعت في أشعارهم كلمات صُرفت عن معناها، فكان لهم معجمُهم ولغتُهم الخاصّة داخل اللّغة العامّة، ومن ألفاظهم المصروفة عن معناها: الخمرة والسكر والهيام والحب والوجد والشوق والمحبوب والذوق والشرب…
ليس من الغريب إذن، أن تتلوّن جميع العلوم من نحو وعلم كلام وفلسفة وفقه وتفسير … بالرّؤية الصّوفيّة القائمة على نظر مخصوص للّغة وللعالم وللأشياء هي النّظرة القلبيّة العرفانيّة. ولننظر مثلا في تفسير بعض الآيات كيف اختصّ الصّوفيّة فيها ببعض التّأويلات: قال القشيري في قوله تعالى: ﴿وجعلنا نومهم سباتا﴾ سورة النبأ، آية 9. هذا دليل على أنّ من نام على الطّهارة يؤذن لروحه أن تطوف بالعرش وتسجد لله عزّ وجلّ، وقال في قوله: ﴿وهم في روضة يحبرون﴾ سورة الروم، آية 15، جاء في التّفسير: أنّه السماع. ونقل عن أبي عليّ الدقّاق في تفسير قوله: ﴿وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين﴾ الأنبياء أية 83. لم يقل (ارحمني) لأنه حفظ آداب الخطاب، وفي عيسى إذ قال: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك﴾ المائدة آية 118. وقال ﴿إن كنت قلته فقد علمته﴾ المائدة آية 116. ولم يقل (لم أقل) رعاية لآداب الحضرة.
خالد محمد عبده: كيف يمكن الاستفادة من هذه الطاقة الإبداعيّة اليوم في شتّى الميادين؟
مبارك حامدي: قد لا نجانب الصّواب إن قلنا إنّ التّراث الصّوفيّ وطاقاته الإبداعيّة تفعل فعلها، وما تزال، عبر التّاريخ الإسلاميّ الطّويل في شتّى الميادين. إنْ على المستوى الأخلاقيّ تهذيبا وتنقية وتطهيرا أو الاجتماعيّ تكافلا وتراحما وتحاببا في الله أو الفنيّ الأدبيّ تخصيبا للخيال وإثراء للتّجارب وارتقاءً بالأذواق أو الفلسفيّ بلورةً لرؤى ومقولات وتأسيسا لنظريّات ومذاهب في الحبّ والموت والكينونة…
وتأكيدا لما ذكرنا، ليتأمّلْ القارئ الحصيف كيف أنّ كثيرا من التجارب الفنّيّة الرفيعة رواية وشعرا قد ارتكزت على المَعين الصّوفي الثرّ، لا بوصفه مسلكا روحيّا إيمانيّا عقديّا، بل باعتباره تجربة فنّيّة ورؤية وجوديّة…والغريب أنّ المبدعين: شعراء وروائيّين، وهم يستدعون التصوّف ويستلهمونه في تجاربهم الشعرية والرّوائيّة، يتناسَوْن التّصنيفات الحدّيّة: تراثي/ حداثيّ حين يباشرون هذه التّجارب الإبداعيّة، ونذكر من هؤلاء المبدعين الشاعر السوري على أحمد سعيد (أدونيس) الذي وظّف التصوّف: صورَه ومجازاتِه ورؤاه… في شعره وهو من أعتى دعاة الحداثة. كما نذكر كذلك من شعراء الحداثة الذين تأثروا بالتّجربة الإبداعيّة الصّوفيّة رموزا وصورا ومواقف: من مصر صلاح عبد الصّبور (ت 1981)، ومن العراق سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي (ت 1999)، ومن لبنان شوقي بازيع ومن تونس محمد الخالدي ومنصف الوهايبي ومحمد الغزي، ومن عُمان سماء عيسى، ومن المغرب محمد بنّيس، وغيرهم كثير .. ومن الغربيين الذي اشتهروا باستلهام الأدب الصّوفي نذكر على سبيل التّمثيل: الشعراء الفرنسيين: شارل بودلير (ت 1867)، وآرثر رمبو (ت 1891)، وبيار ريفردي (ت 1960) وفرانسيس بونج (ت 1988)، والأنجليزي توماس ستيرنز إليوت (ت 1965) الخ…
خالد محمد عبده: تواصلا مع ما ذكرت، يوصف الأدب الصّوفي بأنه أدب كونيّ يستشرف مقاصد إنسانيّة عليا، ويجمع الأشتات على اختلاف مشاربهم ولغاتهم. كيف يمكن، في رأيكم، الإفادةُ من هذا البعد الكونيّ الإنسانيّ في خدمة الأخوّة الإنسانيّة وتلاقح الثّقافات؟
مبارك حامدي: التصوّفُ مسلكٌ في الحياة، ومنهجٌ في فهم الوجود، وقيمٌ وقواعدٌ في تواصل الإنسان مع أخيه الإنسان، بل مع الكائنات جميعا. وهو، إلى ذلك، مذهب في الحبّ والصّدق والإخلاص والمسالمة وكفّ الأذى. وبسبب خصائصه تلك، لم يكن من الصّدفة أن يتّسم بالعالميّة الإنسانيّة، وإن كان لكلٍّ طريقته في التصوّف: فللمسيحيّة تصوّفها ولليهوديّة وللبوذيّة كذلك. كما للفلاسفة والشعراء مذهبهم في التصوّف.
ومن هذا المنطلق أزعُم أنّ التّصوّف يمثّل الدّين العالمي الذي حلمت به البشريّة على مرّ التّاريخ، لا بوصفه عابرا للثّقافات والحضارات والأجناس فقط، بل باعتبار القيم التي ينهض عليها وتميّزُه عن غيره من المذاهب والنّحل. وفي ظلّ الدّعوات إلى صراع الحضارات والأديان كما ذهب إلى ذلك الأمريكي صمويل هنتجتون أو الزعم الكاذب بتحقّق سقف التّاريخ في النّظام اللّيبرالي في “نهاية التاريخ” لفرنسيس فوكوياما، وفي مقابل العنف الأعمى والوحشيّ والكراهيّة المنقطعة النّظير التي تمارسها بعض التيّارات المدعوّة إسلاميّة، يقوم التصوّف بديلا إنسانيّا سلميّا.
إنّ ما يؤهّل التصوّف، حقيقة، للنّهوض بهذا الدّور عاملان أساسيّان: الأوّل هو جملة القيم التي تميّزه (التّواضع، المسالمة، الأخوة الإنسانيّة، الزّهد في زخارف الدّنيا، الإيثار……)، والثاني كونه قاسما مشتركا بين شعوب وأديان كثيرة. فهو من هاتين النّاحيتين قادر على تهيئة مناخ من التّثاقف بين الشّعوب والحضارات في كنف الاحترام المتبادل والنّديّة. ألم تُترجم مؤلّفات كبار المتصوّفة المسلمين إلى شتّى اللّغات، وكانت ملهمة لآثار إبداعيّة رائدة، ومنها تأثير مؤلّفات الشيخ ابن عربي في الكوميديا الإلهية لدانتي، فضلا عن تخصّص بعض الباحثين الغربيين في التّراث الصّوفي وافتتانهم به أمثال لويس ماسينيون وشغفه بالحلاّج، وتلميذه هنري كوربان الذي انتهى إلى اعتناق الإسلام سنة 1945، بعد تبحّره في كتابات السهروردي وابن عربي الإسلام الفارسيّ عموما؟
إنّ تحوّل التّراث الصّوفيّ إلى موضوع للبحث والتّأمّل، بل إلى التمثّل والاعتبار لهو من العوامل المساعدة على التّقريب بين الثّقافات والشّعوب عبر المساهمة في خلق حساسيّة فكريّة وفنّية وروحيّة واحدة أو متقاربة، إذ قد يحدث أن نجد رواية أو مسرحيّة أو قصيدة أو نظريّة فلسيفيّة أو لوحة تتقاطع فيها تيّارات صوفيّة شتّى من جهات الإنسانيّة الأربع. فكيف إذا كانت تلك الحساسيّة مؤسَّسَة على قاعدة من القيم الرّفيعة النبيلة؟
خالد محمد عبده: سؤال أخير: يتحدّث كثيرون عن وجود أزمة في الخطاب الإسلاميّ عموما. ما طبيعة هذه الأزمة في رأيكم؟ وما ملامحها وتجليّاتها؟ وكيف ترون آفاق الخروج منها وتجاوزها؟
مبارك حامدي: الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربيّة عامّة وشاملة، وهي لا تقتصر على الخطاب الإسلاميّ وحده، ولا على الخطابات جميعِها فحسب، بل هي أزمة تلفّ الواقعَ العربيَّ الحديثَ في جميع المجالات. وباتت محاولة إثبات هذه الأزمة أمرا نافلا. ومع ذلك لا بأس من تفكيك المفهوم والنظر عن قرب في ما اصطلح على تسميته بالأزمة العربيّة والإسلاميّة أو بمفاهيم مكافئة.
يحيل التحليل اللّساني لكلمة “أزمة” وما في معناها على معان ودلالات كثيرة منها: العضّ على نحو ما مع ما يوحي به من ألم حسّي (الأزْم: شدة العضّ بالفم كلّه وقيل بالأنياب، والأنياب هي الأوازم، وقيل هو أن يعضّه ثم يكرّر عليه ولا يرسله)، والفقر والمحل (الأزْمَة: الشدّة والقحط وجمعها إِزَمٌ والمُتأزِّم: المتألم)، وصفة لسنين الجدب (الأوَازِمُ: السنون الشدائد كالبوازم). ولا مراء في أنّ المجتمعات العربيّة تعاني من جميع هذه الأدواء منقولة من معانيها الأولى إلى معانيها الثّواني الحافّة. أمّا على مستوى التحليل التّاريخيّ فأزمة المجتمعات العربيّة تتمثّل في تأخّر الثورة والنّهوض في جميع المجالات الثّقافيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة، رغم كلّ المحاولات التي جرت. عل خلاف ما تمّ في أوروبا أين كانت الثّورات متتابعة يؤثّل بعضها بعضا ويتجاوزه بدءًا من الثّورة الدينيّة وصولا إلى الثورة الصّناعية فالتكنولوجيّة مرورا بالثّورات السياسية كما يذهب إلى ذلك المغربيّان عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. وهكذا فإنّ الأزمة العربيّة تزداد تعقّدا لأنّ العرب والمسلمين المعاصرين مطالبون بثورات متعدّدة في الوقت ذاته: ثورات وصل سبق أوروبا لنا فيها إلى ستّة قرون (نعني تحديدا الثورة الدينيّة في ق َ15م). فلا عجب أن يسود في الفكر العربيَّ كلُّ هذا الارتباك والفوضى، وأن تظهر حركات عدميّة وأخرى إجراميّة ساديّة… على أنّها جميعا يمكن أن تعدّ إفرازا طبيعيّا لواقع الأزمة.
خالد محمد عبده: بعد هذه المقدّمات عن الأزمة العربيّة عامّة يمكن أن نخلص إلى النّظر في أزمة الخطاب الدّيني تخصيصا.
فهل الخطاب الدّيني في أزمة حقّا؟
مبارك حامدي: قد يجيب كثيرون بالنّفي مستندين إلى ما يرون من كثرة المنخرطين في التّيّارات الدّينيّة بمختلف اتّجاهاتها، بل وتزايد أعداد أولئك المنخرطين باستمرار، وهو ما يشرّع عندهم الحديث عن “صحوة إسلاميّة”. ويضاف إلى ذلك وصول أحزاب إسلاميّة إلى سدّة الحكم في بعض البلدان الإسلاميّة إثر عمليّات انتخابيّة نزيهة. ومع ذلك فالرّأي عندنا أنّ كثرةَ المنتسبين والوصولَ إلى الحكم لا ينفي وجود أزمة في الخطاب الدّينيّ، ولا يدلّ البتّة على حالة صحيّة، إذ “الحقّ لا يصير حقّا بكثرة معتقديه ولا يستحيل باطلا بقلّة منتحليه” كما قال أبو حيّان التوحيدي منذ ق 4هـ، ذلك أنّ الكثرة العدديّة (الإجماع قديما) لا تؤسّس سوى حقيقة سوسيولوجيّة قد تكون معاكسة تماما للحقيقة الحقّة كما يقول بيير بورديو.
وتأكيد لما تقدّم من تشديد على وجود الأزمة يمكن أن نذكر بعض الخصائص والسّمات التي تميّز التّيارات الدينيّة عموما، ومنها:
– الضّحالة الفكريّة والنّظريّة مقارنة، لا بالفكر العصريّ فقط، بل بالفكر التّراثي نفسه حين اجتهد الأجداد وأبدعوا في حدود ما سمح به أفقهم المعرفيّ والتطوّر العلميّ في عصرهم. فنحن لا نكاد نعثر على فكر “إسلامي” مبتكر وأصيل بقدر ما نسمع من شعارات ودعوات للعودة إلى ما كان عليه السّلف. وهم في هذا مختلفون عن المذاهب الإسلاميّة التي كانت تمارس السياسة بقناع دينيّ ولكنّه قناع سميك من الاجتهاد والتّأويل.
– نكوص اللاّحق على ما حقّقة السّابق. والعودة إلى قضايا وإشكاليات كان الفكر العربي الإسلامي كان يظنّ أنّه تجاوزها في ما يمكن أن نَسِمَه بالردّة الفكرية التّكراريّة، فكأنّ الزمن الثقافيّ يتّخذ هيئة دائريّة عودا على بدءٍ بشكل دوري. لنأخذ مثلا: تجاوز الفكر الإصلاحيّ العربيّ في ق19 وبداية ق 20م لبعض القضايا من قبيل تعدّد الزوجات (محمد عبده وعلال الفاسي…) ورفض الخلافة ومدح الحكم المدني (عبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق) وحقوق المرأة وحريتها (الطّاهر الحداد) والانحياز إلى الحرّية السّياسيّة والاجتماعيّة والشّخصية (خير الدين التونسي والشيخ الطاهر بن عاشور…)، ولْنلاحظْ كيف أن كلّ ذلك قد تمّ الارتداد عنه كما هو شأن محمد رشيد رضا الذي تراجع عن أكثر أفكار أستاذه محمّد عبد، وشأن حركة الإخوان المسلمين مع فكر الإصلاحيين.
– المزايدة المحاكاتية (La surenchère mimétique) وتعني في ما نحن منه بسبيل أن التيّارات المدعوّة إسلاميّة تتناسل من بعضها بعضا على نحو يكون فيها “المولود الجديد” أكثر دغمائية على المستوى الفكري والعقائدي، وأشدّ عنفا وعدميّة على المستوى العملي والحركيّ. ولنا في كل الحركات التي انشقّت عن حركة الإخوان المسلمين خير مثال. بدءا بالحركة القُطبية وصولا إلى تنظيم داعش. فكأنّ مبرّر الوجود الوحيد وعلامة التمايز الوحيدة بين الحركة الأمّ والحركة المنشقّة عنها هو المزايدة في التطرّف والانغلاق والعنف والقسوة ولا شيء غيرها.
– التّأدلج المفرط والتسيّس إلى درجة التشبّع (saturation) وهي خصيصة ناتجة عن تصوّر عتيق للسّلطة ودورها في إنفاذ الأفكار والعقائد، وعن فهم خاطئ لروح الدّين: أما كونه تصوّرا عتيقا فلأنّ مفهوم السّلطة لم يعد مركّزا في يد واحدة (الحاكم أو السّلطان أو الملك) بل صارت موزّعة بشكل دقيق بين مؤسسات وهيئات المجتمع على نحو لم يعد من الممكن معه فرضُ أفكار أو اختيارات بقوة السلطان، وينبغي مراجعة القول المأثور الذي اتّخذوه شعارا: يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، لا سيّما بعد فشل حركات الإسلام السّياسيّ في الحكم إثر ما يسمّى بالرّبيع العربي. وأما كونه مجافيا لروح الدّين فإنّ التّسييس والأدلجة المفرطة للدّين قد حوّلتاه إلى وسيلة للصّراع على السلطة أي على الدنيا، فأساءتا إليه بإفراغه من بعده الرّوحي. والحال أن من أخلص النّية لخدمة الدّين لن يحتاج إلى السّلطة قرينةِ الإكراه، كما هو شأن الطّرق الصّوفيّة مثلا التي تؤطّر المؤمنين بعيدة في أغلب الأحيان عن السّلطة. ولعلّ هذا ما شجّع بعض الحكومات على دعمها (ربّما لضرب حركات الإسلام السياسي). ولكنّ هذا الدّعم سلاح ذو حدّين (ينظر في هذا إلى المؤتمر العالميّ للتّصوّف الذي تمّ بدعم من السّلطات المغربيّة، وقد بلغ دورته الثامنة في جانفي 2014، فضلا عن الندوات والملتقيات العلمية الكثيرة).
– التعصّب والتيبّس الذّهني (La rigidité mentale) بعبارة المفكّر الأمريكي ميلتون روكيش وتعني غياب المرونة في التّعامل مع المشكلات حين يستدعي حلُّها النّظرَ في بدائل مختلفة، والتمسّك بحلّ واحد مهما كان الواقع الموضوعيّ معاكسا لها. ولئن كانت هذه الخصيصة ذهنيّة فإنّها تنعكس في الواقع عنادا ومكابرة، وتُتَرجَم في الممارسة سلوكا عنيفا، ورفضا للآخر، وإيمانا بطريق واحد، وإدانة كلّ ما عداه سواء تعلّق الأمر بتدبّر دينيّ عقائديّ أو باختيارات دنيويّة.
خالد محمد عبده: فهل من سبيل لتجاوز الحركات الإسلاميّة لهذه الأزمة؟
مبارك حامدي: لا أظن الجواب سهلا، وإن كان في تجنّب السمات السابقة ما يمكن أن يساعد على تجاوز الأزمة أو التّخفيف من حدّتها على أقلّ تقدير. وفي مقدّمتها التّخلّي عن احتكار الدّين في مجتمع إسلامي كلّه أو جلّه، والاستيلاء على هذا الرأس مال الرمزيّ المشترك، وادّعاء النّطق باسمه واستغلاله في سوق السّياسة بدلَ تطويره وتنميته وإثرائه.
المصدر: مؤمنون بلا حدود