كيف نطق منصور بن عمّار بالحكمة؟
بلال الأرفه لي[1]
تطالعنا في كتب التصوف أخبار وقصص عديدة عن أشخاص وجدوا رقعة أو نصًا مكتوبًا فتحوّلوا بسبب ذلك إلى الطريق الصوفي. قصّة منصور بن عمّار هي إحدى هذه القصص. ومنصور بن عمّار هو أبو السريّ منصور بن عمّار الدندقانيّ (توفي 225/40-839)، من أهل مرو من قرية يقال لها دندانقان وقيل إنّه من بوشنج أو أبيورد، أقام بالبصرة وكان من الواعظين الأكابر، سكن بغداد وحدّث بها.[2] نكاد لا نعرف شيئًا عن حياة منصور قبل تحوّله إلى الوعظ والقصص. تقدّم هذه المقالة عددًا من الأسئلة والتساؤلات حول قصّة هدايته.
قيل إنّ منصور بن عمّار وجد رقعةً في الطريق مكتوبًا عليها “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ” فأخذها فلم يجد لها موضعًا فأكلها فرأى في المنام كأنّ قائلاً يقول له: قد فُتح عليك باب الحكمة باحترامك لتلك الرقعة، فكان بعد ذلك يتكلّم بالحكمة.[3]
لماذا كان منصور بن عمّار يسافر وحيدًا؟ هل كان قاطع طريق كفضيل بن عياض قبل تحوّل هذا الأخير إلى التصوّف بسبب آية كما تطالعنا بعض الروايات؟[4] أم هل كان غنيّا يصطاد كإبراهيم بن أدهم حين تحوّل إلى الزهد والتصوّف؟[5] ماذا كانت مهنته قبل التحوّل؟
لماذا أكل منصور بن عمّار الرقعة ولم يحملها معه إلى حيث كان يريد الذهاب؟ لا تُطلعنا الرواية عن مكان الحادثة أو إلى وجهة سفر منصور بن عمّار.
كيف تحوّل منصور بن عمّار؟ هل هضم الرقعة وصارت جزءًا من جسده فصار ينطق بالحكمة؟ يبدو أنّ النطق بالحكمة لم يأت مباشرة بعد أكل الرقعة بل بعد الرؤيا. تؤكد بعض المصادر أنّ منصور بن عمّار لم يكن عالمًا رغم أنّه اشتهر بالوعظ والقصّ. فنرى في قوت القلوب لأبي طالب المكّي مثلاً: “كان منصور بن عمّار من الواعظين المذكرين ولم يكن العلماء في وقته مثل بشر وأحمد وأبي ثور يعدّونه عالمًا، كان عندهم من القصّاص”[6].
كان بارعًا في القصّ حتى قيل عنه في بعض المصادر “كان منصور بن عمّار في قصصه شيئًا عجبًا لم يقصّ على الناس مثله”،[7] “وكان عديم النظر في الموعظة والتذكير.”[8] لم يستسغ الجميع قصص منصور إذ وصفه البعض بأنّه “مُنكَر الحديث”.[9]
ما طبيعة هذه الحكمة التي نطق بها منصور؟ تقول الرواية إنّ منصورًا نطق بالحكمة، لا بالحديث ولا بالتصوف ولا بالعلم. في نصّ لمنصور بن عمّار نقرأ ما يلي: “الحكمة تنطق في قلوب العارفين بلسان التصديق، وفي قلوب الزاهدين بلسان التفضيل، وفي قلوب العابدين بلسان التوفّيق، وفي قلوب المريدين بلسان التفكّر، وفي قلوب العلماء بلسان التذكير.”[10] يدلّ هذا النصّ على أنّ منصورًا قد تكلّم فعلاً عن الحكمة وخفاياها، ووفقًا لمصادرنا كان ذلك بعد أكله للرقعة.
إذا كان أكل ورقة فيها “بسم الله الرحمن الرحيم” يؤدّي إلى هذه النتيجة لماذا لم ينصح المتصوّفة بهذا العمل خاصّة وأنّه أمر مجرَّب؟ هل كانت هذه كرامة لمنصور بن عمّار فقط؟ بماذا استحقّ منصور هذه الكرامة؟ تؤكد الرواية أنّ الكرامة كانت لاحترامه الرقعة لا لمجرّد أكلها.
كيف وصلت الرقعة إلى مكانها في الطريق؟ هل تركها شخص هناك؟ إذا كان هذا الأمر صحيحًا يكون هذا الشخص قد أهان هذه الرقعة، فهل استحقّ العقاب مثلما استحقّ منصور بن عمّار الجزاء؟ ممّ صُنعت هذه الرقعة، من صنعها، ومن كتبها، وبأيّ خطّ؟ يستطيع المرء دومًا توليد الأسئلة، وهذا ما نفعله أحيانًا كباحثين مدرَّبين. ما الجدوى من كلّ هذه الأسئلة؟ هذا سؤال قد يسأله المتصوّفة المؤمنون حتمًا بأنّ الحادثة قد وقعت. والحقّ يُقال إنّ الرواية على قصرها تفسّر كيف نطق منصور بن عمّار بالحكمة دون الحاجة إلى أيّ سؤال!
نسأل لأنّنا نريد أن نعرف ولأنّ هذا هو دورنا كباحثين.
المصادر
البياض والسواد لأبي الحسن السيرجاني، تحقيق بلال الأرفه لي وندى صعب. (ليدن: بريل، 2012).
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، تحقيق بشار عواد معروف. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2002.
الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري، تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف. القاهرة: دار المعارف، 1995.
سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي. القاهرة: دار الحديث، 2006.
صفوة الصفوة لابن الجوزي، تحقيق أحمد بن علي. القاهرة: دار الحديث، 2000.
طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق نور الدين شريبة. القاهرة: مكتبة الخانجي، 1997.
قوت القلوب لأبي طالب المكّي، تحقيق عاصم إبراهيم الكيّالي. بيروت: دار الكتب العلميّة، 2005.
مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار لابن خميس الموصلي، تحقيق سعيد عبد الفتّاح. بيروت: دار الكتب العلمية، 2006.
[1] أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
[2]طبقات الصوفية 130-131؛ وتاريخ بغداد 15: 80.
[3]الرسالة القشيرية 74؛ البياض والسواد 8؛ مناقب الأبرار 300.
[4]الرسالة القشيرية 40.
[5] طبقات الصوفية 29-30.
[6] قوت القلوب 1: 264.
[7] صفوة الصفوة 1: 464.
[8] سير أعلام النبلاء 7: 530.
[9] سير أعلام النبلاء 7: 530.
[10]طبقات الصوفية 135؛ البياض والسواد 8-9.