أذواق من ديوان تُرجُمَان الأشواق

أذواق من ديوان تُرجُمَان الأشواق

 

 

 

إشراقات (5)

نَشَقَاتُ أذواق من ديوان

“تُرجُمَان الأشواق”

محمد التهامي الحرّاق
thamiherak

-1-

الحديثُ عن “النَّشْقَة” هو حديث عن لطافة تُدرك ولا تُلمس؛ عن معان تُستشعَر برقة “العرف” و”النفحة” و”النسيم”، و”العَرف” عند القوم هبوب للطاقة المعرفية الذوقية من عالم الأعراف والأنفاس؛ عالمِ “النفخة” الروحية التي أوجدت الأكوان بحرف التكوين “كن”، لذا كان “العَرف” عند أرباب الذوق أداة استكناه واستمداد للمعارف الذوقية الروحية التي تهب على بصيرة العارف من ذاك العالم، أي عالم الحقيقة الإلهية في صرافتها اللطيفة في الأزل، يقول أبو الحسن الششتَري  (تـ 668هـ):

ولها عَرفٌ إذا ما استُنشِقت  X     أطربتْ في دنِّها قبلَ انتشارْ

ويقول ابن الفارض، سلطان العاشقين (تـ632هـ)، في “خمريته“:

    ولو عبِقتْ في الشرقِ أنفاسُ طيبها   X     وفي الغربِ مزكومٌ لعاد له الشَّمُّ

ويقول الصوفي المغربي محمد الحراق (تـ 1261هـ):

    بالعَرف قد عرَف الحُذَّاق حدَّتهـا   X     من داخلِ الدن ذوقا وهْيَ عذراءُ

كما يشير إلى هذه المعرفة بذات المعجم المتصل بعالم الأنفاس فيقول:

بَخَّرتُ بِالطِيبِ عِندَ ذِكري إِيّاهُ   X    مِن شِدَّةِ الحُبِّ تَعظيماً لِعَليـاهُ

فَهَبَّ مِنهُ نَسيمٌ قَد عَرَفت بِـهِ   X     أَنَّ الَّذي فاحَ مِنهُ الطِيبُ مَعناهُ

وفي نظم آخر، يبوح:

نفحتْ نسمةُ من أهـوى علي    X   فغدا الحُبُّ بهـا منِّـي إلـيْ

و لـَوَتْ كـلِّي إليهـا ليَّـةً    X  طوتِ الكونَ بها عنـيَ طـيْ

و”النسيم” أو “النسمات” في مثل هذه الإشارات العِرفانية، تشير إلى “الرقيقة الروحانية التي يتخذها العارفون سفيرا بينهم وبين ما يريدونه” كما يقول الشيخ الأكبر.

في ضوء هذا، يبدو أن استعمالَ لفظ من معجم الأنفاس هو إشارة إلى هذا السفير الرقيق اللطيف الذي يتخذه القوم رمزاً لما يهب عليهم من مواهب ذوقية من عالم الحقيقة الإلهية. لذلك كانت إضافة “النشقات”، في العنوان، إلى الأذواق؛ إذ الأمر يتصل بعلم الأذواق لا بعلم الأوراق، وبمعارف لها الإشراق والاستكناه الباطني والإدراك الروحي والاستكشاف بالبصيرة لا بالنظر العقلي أو بجارحه من الجوارح الحسية.

كيف يمكن الآن أن نتعرف أو نعرف بديوان تختارُ هذه الإشراقةُ الإطلالَ عليه من زاوية الذوق؟ ما الذي يميز هذا «الديوان»؟ وما هي أبرز الملامح التي تجعل منه ديوانا عرفانيا خاصا يستجلب قراءة من نوع “النشقات” التي أشرنا إليها؟

-2-

   منذ أن سلك محيي الدين بن العربي (تـ638هـ) طريق القوم في سن السادسة عشر تقريبا، وبعد أن غمرته تجربتُه بالكشوفات والفتوحات، أخذ يجمع بين سفر المقامات في الترقي الروحي وسفر المسافات والسير في الأرض؛ أي جمع بين السياحة الروحية والسياحة الجغرافية، هكذا دأب على الترحالِ في مختلف ربوع الأندلس والمغرب، متنقلا بين مرسية وتونس وتلمسان وفاس وإشبيلية وقرطبة، ثم عاد للمغرب ورحل إلى مرسية ثم سلا وتونس. وخلال هذه الفترة أي إلى حدود 528هـ، ألَّف ما يقرب من 60 كتاباً على وجه التأكيد، ليحصل له كشف أمره بالتوجه إلى المشرق.

هكذا توجه سنة 598هـ إلى القاهرةِ، ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مكة المكرمة، و بها لازم ابنُ العربي الشيخَ العالم مكين الدين زاهر بن رستم والد “النظام”، وأخذ عنه. يقول الشيخ الأكبر في مقدمة “ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأذواق“: “فإني لما نزلت مكة سنة خمسمائة وثمان وتسعين ألفيتُ جماعة من الفضلاء، وعصابة من الأكابر الأدباء والصلحاء، بين رجال ونساء، ولم أرَ فيهم من فضلهِم مشغولا بنفسه، مشغوفا فيما بين يومه وأمسه؛ مثل الشيخ العالم الإمام، بمقام إبراهيم عليه السلام، نزيل مكة البلد الأمين مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني، رحمه الله تعالى، وأخته المسنة العالمة شيخة الحجاز فخر النساء بنت رستم. فأما الشيخ فسمعنا عليه كتاب أبي عيسى الترمذي في الحديث وكثيرا من الأجزاء، في جماعة من الفضلاء، كان يغلب عليهم الأدب فكأن جليسه في بستان. وكان، رحمه الله تعالى، ظريف المحاورة لطيف المؤانسة، ظريف المجالسة، يمتع الجليس، ويؤانس الأنيس، وكان له، رضي الله عنه، من أمره شأن يغنيه، فلا يتكلم إلا فيما يعنيه، وأما فخر النساء أخته بل فخر الرجال والعلماء فبعث إليها، لأسمع عليها، وذلك لعلو روايتها، فقالت: فَنِيَ الأمل، واقترب الأجل، وشغلني عما تطلبه مني من الرواية الحث على العمل، فكأني بالموت قد هجم، فأقرع سن الندم. فعندما بلغني كلامها، كتبت إليها أقول شعرا:

حالي وحالُكِ في الروايةِ واحدٌ   X     ما القصدُ إلا العلمُ واستعمالُهُ

فأذنت لأخيها أن يكتب لنا نيابة عنها إجازةً عنها في جميع روايتها. فكتب، رضي الله عنه وعنها ذلك ودفعه لنا، وكتب لنا جميع مسموعاته إجازة عامة وكتبت إليه من قصيدة عملتها فيه قولي:

سمعتُ التّرمذيِّ على المَكِينِ   X      إمام النّاس في البَلَدِ الأمينِ”

-3-

 أخذ ابن العربي عن الشيخ مكين الدين بن رستم وأختِه العالمة شيخة الحجاز بنت رستم. وخلال هذا المقام بمكة لقي ابنُ العربي ابنة شيخه هذا “النظام” ففتنَهُ بهاؤُها، وخلبَ لبَّه جمالُها، وسحره خَلقها وخُلُقها وعلمها وتقواها، وفعلت بقلبه ما فعلت، كما يشير إلى ذلك رونقُ هذا الوصف وألقُه في مقدمة “ذخائر الأعلاقعلاقأعلاق”، يقول: «وكان لهذا الشيخ، رضي الله عنه، بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تُقيّد النظر، وتزيّن المَحاضر والمُحاضر، وتحيّر المناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبَها، من العابدات العالمات السايحات الزاهدات شيخةُ الظَّرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس ابن ساعدة، وإن كَرُمت خنس مَعِن بن زائدة، وإن وفَّت قصَّر السموألُ خطاه، وأغرى ورأى بظهر الغرر وامتطاه. ولولا النفوس الضعيفةُ السريعة الأمراض، السيئةُ الأغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن: شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة، واسطة عقد منظومة. يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهِمم، سيدةُ والديها، شريفة ناديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السَّواد، ومن الصدر الفؤاد. أشرقت بها تِهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنمَّت أعرافُ المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف. علمها عملها، عليها مسحة ملك وهمة ملك».

-4-

يغني هذا الألقُ من الوصف عن كل تعليق، إلا من خلاصة بادية ونتيجة ساطعة هي أن الشيخَ قد كَلِفَ بهذه الفتاة وأنها شغفته حبّاً. لذلك حمل ديوانه “ترجمان الأشواق” لسان حاله في الشوق إلى لقائها، والتَّوق والحنين إليها، لا سيما أن لقاءه بالنظام كان عام 598هـ، فيما لم ينظم ديوانه إلا عام 611هـ، أي بعد أكثر من عقد زمني على اللقاء، مما يكون قد ألهب الشوق وأوقد التوق، وأفاض الحنين إلى اللقاء بعد أن صارَ طيف خيال. هكذا خصص ابن العربي ديوانَه للتعبير عن هذه الأشواق والترجمة عن قطرة من يَمِّ هذه الأشواق، يقول: “فراعينا في صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد، بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق. ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس، ويثيره الأنس، من كريم وُدِّها، وقديم عهدها، ولطافةِ معناها، وطهارة مغناها. إذ هي السؤالُ والمأمول، والعذراءُ البتول، ولكن نظمنا فيها بعضَ خاطر الاشتياق، من تلك الذخائر والأعلاق. فأعربتُ عن نفس توّاقة، ونبهتُ على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم. فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أُكنّي، وكل دار اندبها فدارها أعني».

-5-

إنهُ إقرار صريح من الشيخ سيدي محي الأكبر بأنه ما نظم هذه الأشعار بلسان الغزل الرقيق والنسيب الرشيق إلا ليعبر عن خاطر اشتياقه إلى “النظام” ودارها، إذ يفصح فيقول: “فكل اسم أذكره في هذا الجزء فمنها أكني وكل دار أندبها فدارها أعني”. لكنه، وفي ذات المقدمة، يصرف بعد هذا الكلام مغازيَ النظم وإشارات «الديوان» إلى أبعاد روحانية متعالية، يقول: «ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى، ولعلمها، رضي الله عنها، بما إليه أُشير، ولا ينبئك مثل خبير، والله يعصم قاري هذا «الديوان» من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبيّة، والهمم العليّة، المتعلقة بالأمور السماوية».

هنا نصير إلى بعد آخر في قراءة هذا «الديوان»، بعدٍ يُحول كل معجم الغزل ولسان النسيب، والكنايات “النظامية” (نسبةً إلى النظام) إلى إيماءات للواردات الإلهية والتنزلات الروحية، ومن ثم وجب على قارئ «الديوان» أن يحذر من سبق خاطره إلى “ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية المتعلقة بالأمور السماوية”.

-6-

ترِدُ هذه المقدمة في تصدير شرح الشيخ الأكبر لديوان “ترجمان الأشواق“، والذي لم يؤلفه إلا عام 614هـ؛ أي ثلاثة أعوام بعد نظم «الديوان». وهو الشرح الذي كان الحافز إليه أن بعض مريديه سمعوا “بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكران هذا من الأسرار الإلهية وأن الشيخ يتستر لكونه منسوبا إلى الصلاح والدين”، يقول: «فشرعتُ في شرح ذلك وقرأ علي بعضه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلما سمعه ذلك المنكر الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار على الفقراء وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب ويقصدون في ذلك الأسرار الإلهية».

إن جمعَ المقدمة الأكبرية المذكورة بين التصريحِ بسبب نظم «الديوان» والإخبار فيها أن الناظمَ يُكَنِّي فيه بلسان الغزل والتشبيب عن “النظام” ومكارمها ومباهيها، و بين التأكيد في ذات الوقت أن كل ذلك إيماء إلى الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية، مما يسعى إلى بيانه بتفصيل في هذا الشرح؛ هذا الجمع في بين الإقرار بالتكنية عن “النظام” والإيماء للمعاني الروحية العلوية، يضعنا إزاء بنيةٍ خاصة في «الديوان» سمّاها البعض “بنية المفارقة”.

-7-

صحيحٌ أن شرح “«الديوان»” جاء ليُبيِّنَ الأبعاد الدلالية الروحية والذوقية المتعالية لإشارات «الديوان»، وأن الشيخَ الأكبر إنما جعل “العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفر دواعي الإصغاء إليها” كما قال هو نفسه. وقد نبه على ذلك أيضا بقصيدة لها وضعيةُ “ميثاق قراءة” بينه وبين قارئه كما يذهب إلى توصيفها بعض الباحثين، يقول مطلع هذه القصيدةِ:

          كلُّ مـــــا أذكـــــرُه مــــن طَــــلَلِ      X    أوْ ربُــــــوعِ أو مَغـــــانٍ كلّ مـَـــا

وكذا إنْ قلتُ “هـــَـا” أو قــــلتُ “يَا”،   X       و”ألا”، إن جـــــــاء فيـــه أو “أمَــــا”

إلى أن يقول:

كُلُّ مــــــــَـا أذكـــرُه ممــا جـــَرى   X ذكــــرُه أو مثــــلــــــه أو تَفْهَمَـــا

منــهُ أسرارٌ وأنــــــوار جــــلت،  X       أو علت جــاء بهــا ربُّ السمــــا

لفـــــــؤادي أو فـــــؤادِ مَن لــَـُـه   X       مثلُ مـا لـِـي من شــروطِ العُلمــا

صــفـــةٌ قـــدسيـــــةٌ عُلــــــويـَّـةٌ   X   أَعْـَــلَمَتْ أنَّ لصــدقــي قـــَـدَمــا

فاصرِفِ الخاطِرَ عن مظْهَرِها،   X       واطـلبِ البــــاطنَ حتـــَّى تَعْلَمَــا[1]

إلا أنه مع هذا التنبيه في التعامل مع لغة «الديوان» وصوره ومعجمه ودلالته، يظل دالا إصرارُ الشيخ على التذكير بسبب نظم «الديوان»، واتصال ذلك بما أثارته في قلبه شمائلُ ومكارم وأخلاق وجمال “النظام” في نفسه من مواجيد وأشواق؛ لأنها تعلم ما إليه يشير بلسان الغزل والتشبيب، أي أن علمها يؤهلها لإدراك ما يومئُ إليه ذاك اللسان من واردات إلهية وتنزلات روحانية.

وهذا التعالق في «الديوان» بين الغَزَلِيّ و الروحيّ، يُلزِمنا بضرورةِ محاولة فهم علاقة الحب الحسي بالحب الصوفي في التجربة الروحية الأكبريةّ. ذاك ما سنسعى إليه، بحول الله،  في الإشراقة القادمة من خلال مقاربة “جدلية الحبّ الحسّي و الحبّ الصوفي في التجربة العرفانية الأكبرية”.

 

 

 

 

 

 

[1] – وقد نبه على ذات الأمر في مقدمته لـ”ديوان المعارف الإلهية…”، راجع على موقع “طواسين” إشراقتنا رقم (3) : “مطلتان على الحضور الشعري في التجربة الأكبرية”.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!