إدوارد سعيد: مدخل لغوي إنساني

إدوارد سعيد: مدخل لغوي إنساني

إدوارد سعيد: مدخل لغوي إنساني

محمود الفقي

لعل أحسن ما قد أبدأ به تيسيرا لمسألة الاستشراق، وإدهاشا بين يدي المقالة حكاية بدوي في “دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره” صفحة 12 ط. الدار العالمية للكتب والنشر، عندما أورد قول (بيير باسكاسيو) “أن محمدا وقع في حب امرأة يهودية استطاعت وأهل ملتها من اليهود أن يقتلوه بعد أن دعته المرأة في ليلة إلى مخدعها، وقامت وأهلها بقتله وبتر يده اليسرى والاحتفاظ بها وترك بقية جثته وليمة للخنازير”.

بالقطع لا ينسحب هذا على سائر المستشرقين، وإلا ففيهم نماذج عظيمة، ومكسيم رودنسون نفسه من أبرز نقاد الاستشراق، ولأستاذي الجليل الدكتور أبو ليلة كتاب كامل عنه (محمد صلى الله عليه وسلم بين الحقيقة والافتراء)، وقد بدأ الاستشراق نفسه في صورة معرفة تضفرت بالسلطة فقوَّى كل طرف صاحبه على طريقة فوكو، لكن الذي أقصده أن الدراسة المتأنية لفعل الاستشراق لا تستبعد أن يصل العقل الأوروبي أو الغربي عموما إلى هذا الدرك الأسفل من تأليف الأساطير عن جهل لا عن قصد في بعض الأحيان كما يقول بدوي.

الحقيقة أن كتاب بدوي بحثي متعمق وسردي متفنن لا أنصح بقراءته إلا للمختصين، والشيء نفسه يسري على أعمال إدوارد سعيد، وهو ما يستبين بجلاء من المدخل اللغوي لدراسة سعيد، ويظهر أكثر من مطالعة المقدمة التي كتبها أستاذنا الكبير (شفاه الله وعافاه) الدكتور عناني لكتاب سعيد “تغطية الإسلام” التي شكى فيها جفاف أسلوب سعيد التجريدي، ولم ينس الثناء على كتابه الأحسن “البدايات”، والحق أن الدكتور عناني لم يبالغ لأن سعيد في الحقيقة منتزع الهوية، لا ينتمي ماديا إلينا، وإنما إلى الغرب رغم أن قلبه معنا، فلغته الأولى الإنجليزية (أكاديمية جزلة)، وعنايته بالأدب الإنجليزي وتأثره أكثر بالأسماء الغربية، ولغته العربية تكاد تكون معدومة، وكان شغفه بأشياء أخرى متشعبة قد يستغرب منها البعض مثل الموسيقى مثلا.

المهم الآن أن أؤكد أن “الاستشراق” الذي اشتهر به سعيد ليس أحسن كتبه كما قد يتخيل البعض، ولذا سأسرد تجربتي مع الكتاب السابق ذكره وهو تغطية الإسلام لكن من منظور لغوي إنساني.

واضح أن سعيد معني أشد ما تكون العناية برؤية الإعلام الغربي لنا نحن المسلمين بكامل أطيافنا دون تفريق، وقد بدأ سعيد كتابه بالحديث عن الثورة الإيرانية التي قلبت موازين الأفكار والتصورات عند الغرب نحونا، وقال كلمة عجيبة هي أنه بلغ من استهانة الغرب وجهله بنا أن 300 مراسل غربي كانوا وقتئذ في طهران لا يجيد واحد منهم الفارسية!!!

الحقيقة أن هذا الكتاب على بساطته (على غير عادة سعيد لغويا) الأفضل في رأيي لفضيلة التركيز على القضية التي شغلت سعيد، وهي هل الإسلام يمثل حقا تهديدا للغرب أم لا؟ وهل ما يزال تقسيم الغرب للعالم بين فسطاط يناصر الشيوعية وآخر يناصر الرأسمالية قد استحال ببساطة معسكرا يناصر الإرهاب (الإسلام حسب وجهة نظر المتعصبين هناك) وآخر يناصر الحضارة والتمدن؟

لكن العيب الذي لازم سعيد في رأيي المتواضع هو أنه قصر الاستشراق بوصفه فكرة على المسلمين والعرب رغم أن معنى الشرق أكبر من ذلك، صحيح أن سعيد يعي ذلك جيدا لكن لعل الآلة الدعائية ضد الإسلام في السياسة الغربية جعلته يركز كثيرا على هذه الناحية، وهو ما نعرفه من خلال نقده لبرنارد لويس وتماهيه مع السياسة الامريكية وصناعها، وخير مثال على ما أقول ربما كتاب بنجامين هوف الذي بعنوان “ويني الطاوي”، يقصد ويني الدبدوب الذي جعله راويا يروي التقاليد والمبادىء الفلسفية للعقيدة الطاوية في آسيا؛ أي في قلب الشرق.

الحقيقة أن الحديث ذو شجون عن سعيد خاصة في بؤرة التفرد عنده، وهي النقد الأدبي لكنني أدع ذلك للدكتور عناني، الأقدر كما أورد في مقدمته، وأؤكد مرارا على غرضي التبسيطي في مسألة الاستشراق التي استعصت على البعض لوعورة الاصطلاح وتداخل الأسماء الكثيرة التي دخلت هذا المعترك فأقول إن سعيد يفند التركات الثقيلة التي خلفها الاستعمار بعد العصر الكولونيالي وما بعد الحداثة من مثل أن الاستعمار أفاد الدولة المستعمرة وحمل عبء تحديثها، وهو ما يزال يتردد صداه في مصر بالنظر إلى الحملة الفرنسية مثلا.

يواصل سعيد طرح رؤاه الشجاعة في كتاب مماثل ألفه مع غريمه برنارد لويس الذي كانت بينه وبينه مطارحات وعراك تداخلت فيه السياسة مع النقد والتاريخ والعلم، والكتاب الذي أقصده هو “الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام الغربية من وجهة نظر أمريكية”، وهو ما أنصح بقراءته مع “تغطية الإسلام”، لاحظ أن بقية عنوان تغطية الإسلام تدور في نفس معنى عنوان الكتاب السابق.

وتيسيرا أكثر أقول إن البؤرة المحورية في فكر سعيد أن كل نقطة تستجلب معها نقيضها، بمعنى أن كل أيديولوجية أو مذهب أو فكرة أو كيان يتميز بضده، فلن يكون هناك آخر إلا إن كانت هناك أنا، والعكس بالعكس، والآخر نفسه يتعدد عبر مسارات، فهناك آخر قريب وآخر بعيد، على طريقة أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب!!

وإذا أردنا التدقيق أكثر والنزوع نحو الاصطلاح العلمي بعدما بسطناه نقول إن إدوارد يقصد الفرق بين المستوى الخطابي (Epistemology) والآخر الوجودي (Ontology)، ويمكن تبسيط ذلك الفرق بينهما بقولنا إن المستوى الخطابي يبحث في السؤال التنظيري بكيف، والوجودي يبحث عن السؤال الكينوني الواقعي بماذا.

نعم، هذا التبسيط في رأيي ضرورة عند التعامل مع سعيد لأنه نفسه على المستوى الإنساني صعب المراس شكاء بكاء كما ورد في “خارج المكان” عندما حكى سيرته الذاتية بأحسن ما يكون متحللا من أغلال التجريدية والبلاغة نافضا عن نفسه حزنه وغضبه من أهله إذ خلعوه خلعا من بيئته، وزرعوه في أرض غربية، وتعليم غربي، وهوية ثانية غربية.

هذه هي النقطة الأساسية التي أحب أن نركز عليها حتى لا يتوه الجهد في قراءة سعيد، فهو يرى الاستشراق نمطا من أنماط التفكير وليس كما هو شائع مجرد مؤسسات بحثية ووصفٍ لكل من يكتب عن الشرق أو يتعامل علميا مع تراث الشرق، وإلا فللغرب أيضا تراثه (western tradition)، وقراءته صعبة من الناحية اللغوية، فلنترك مؤقتا حفاوته بالنقد الأدبي والموسيقى والنقد الثقافي، ونركز فقط على تصوره للعلاقة بين الشرق والغرب، ومكانه الذي يقف فيه على الأعراف بينهما، وللحديث بقية على النمط نفسه من التبسيط.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!