العجيب في الكتابات الصوفية
د. خالد التوزاني[1]
تهدف الكتابات الصوفية حسب محمد مفتاح إلى “تكوين إنسان كامل، بطرق خاصة، في سياق معين”[2]، وتتحدد ماهيتها في مكونات ثلاثة، وهي: “الغرض والمعجم التقني والمقصد، وهي أركان تكوّن وحدة غير قابلة للتجزئة”[3]، ومعنى ذلك، أن لهذه الكتابات خصوصيات من حيث اللغة والتركيب والمعجم والدلالة، وكذلك المقصد والباعث الذي يحركها، فضلا عن الفكر الجليل الذي تحمله والجمال الذي تختزنه، غير أن هذه المكونات وإن حضرت في النص، فهي لا تحقق دلالاتها إلا بحضور متلق متذوق، لأن الكتابات الصوفية ليست إبداعا أدبيا فحسب، وإنما تمثل حصيلة تجربة روحية، ومن ثم فإن فهم منجز التعبير عن هذه التجربة ليس بمقدور أي قارئ أو على الأقل تستبعد القارئ الساذج، فهي مثل العروس؛ تمانع وتراوغ لتؤجل ما لابد منه، وهي وإن كانت تؤمن بحدوث ذلك، إلا أنها تمارس الحجب والصد لكي تجذب مريدها أكثر، فـ “مكر الأنثى هو ذاته مكر الكتابة الصوفية: فهي لا تقدم سرها مباشرة، ولا تُبيّنه لأي قارئ كان (…) إنها تستبعد القارئ الساذج الذي يريد المعنى في وضوحه وإشراقه وشفافيته، أي القارئ الذي ينعدم لديه حس المعاناة”[4]، ومعنى ذلك، أن علاقة المتلقي بالكتابات الصوفية، ليست علاقة نشوة عابرة أو متعة زائلة، وإنما هي علاقة تحكمها العناصر نفسها التي تحدد علاقة الصوفي “الغائب” بكتابته: حيث ألم الغربة عن الأصل، ووجع الحنين إلى الزمن الأول، وقد يصيبه الجنون أو الشطح أثناء فعل البوح، إلى غير ذلك من المكابدات التي تظل حاضرة في أثر التجربة الصوفية أي الكتابة، وتبقى حية فيها حتى بعد فناء الصوفي أو غيابه، تمارس الأثر ذاته على كل طالب ودها، راغب في سرها، إنها كتابة غير مألوفة، يمتد أثرها في الوجود، لينتقل إلى ذوات أخرى متباعدات في الزمان والمكان، لكنها متجاورة في النزوع نحو التكمل الصوفي والترقي الروحي، ولو عبر قراءة آثار القوم، أي الكتابات الصوفية، “إذ كمال المحبوب لا ينتهي إلى حد، فالشوق إلى تحصيل هذا الكمال لا ينقطع أبدا:
فَوا عَجَبًا مِنْ غُلّة كُلَّمَا ارْتَوَتْ من السَّلسبيل العَذْبِ زَادَ ضِرامُها
وبَرْدُ رُضَابٍ سَلس غَيْرَ أَنَّـه إذا شَـربَته النَّفْسُ زَادَ هيـامُها“[5]
فما مصدر الغرابة في الكتابة الصوفية؟ ومن أين يأتي العجيب ليلتحم بها، فيُشكلا معًا ذاتا واحدة، أي نصا عجيبا؟
لمعرفة مصدر العجب والغرابة في الكتابات الصوفية، يمكن الانطلاق من نموذج تضمنته الرسالة القشيرية، باعتبارها متنا له مكانته البارزة في التراث الصوفي الإسلامي:
“مر بعض الأنبياء عليهم السلام، بحجر صغير يخرج منه الماء الكثير، فتعجب منه، فأنطقه الله معه، فقال: مذ سمعت الله تعالى يقول: ﴿ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[6] وأنا أبكي من خوفه. قال: فدعا ذلك النبي أن يجير الله ذلك الحجر، فأوحى الله تعالى إليه، أني قد أجرته من النار. فمر ذلك النبي، فلما عاد، وجد الماء يتفجر منه مثل ذلك، فعجب منه، فأنطق الله ذلك الحجر معه، فقال له: لم تبكي، وقد غفر الله لك ؟ فقال: ذلك كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور”[7].
إذا كان العجيب هو ما خالف المألوف وغابت أسباب حدوثه[8]، فإن العجيب في ما ترويه الحكاية السابقة، يتضمن ذلك المفهوم ويُضيف إليه أبعادا أخرى، حيث إن تعجب النبي من خروج الماء الكثير من الحجر الصغير، يمكن عده بمثابة المستوى المألوف في التعجب، إذ مجرد مخالفة الحدث لما هو معتاد ومألوف، يكون مدعاة لحصول نوع من الدهشة والاستغراب، ثم إذا ظهر السبب، وهو في حد ذاته عجيب كذلك (خوف الحجر من النار وبكاؤه حزنا على ذلك)، لم يبطل العجب، بل زاد التعجب بنطق الحجر وإبلاغه للنبي سبب خروج الماء منه (دموع الخوف والحزن)، وعندما نطق الحجر في المرة الثانية، كان فعله عجيبا أيضا (بكاؤه شكرا لله وسرورا بنجاته من النار)، حيث يخرج المتلقي من عجيب ليلج ما هو أعجب منه، فيستمتع بالحكي ويجني المعرفة.
يضاف إلى ذلك، أن تعجب النبي وهو الذي اعتاد العجيب وأَلِفَ الخارق، إنما هو في الواقع، تَعَجُّبُ من يحكي القصة، ويمارس السّرد، فليس عجيبا أن تُكلم الجماد، لكن العجيب هو أن يُكلمك الجماد، فضلا عن بكاء هذا الأخير أمامك أو سروره، وأنت لا تدري أن الماءَ دَمْعٌ، وكأن هناك استحضارا ضمنيا لتقابلٍ عجيب بين دموع الحجارة التي تُحيي الأرض، ودموع الأولياء التي تُحيي القلوب، وهو أقل ما يجنيه المتلقي من المعرفة، وكأن القصة تفسيرٌ للأسباب الخفية وراء تفجر بعض الحجارة بالماء، حزنا أو فرحا، ففي الحالتين معاً يتدفق الماء رقراقا، والإنسان يمر غافلا، لا يدري. فهل يكون الحجر أفضل من البشر في الخوف من الله ؟
مثل هذا النص يُنسي المتلقي العجيب المألوف، أو المستوى السطحي منه، فيُركز على معرفة السبب، فيكون هذا الأخير بابا لمزيد من العجب. والظاهر أن هذا النوع من الحكي، تحفل به كتب المتصوفة، ولا يتم سرده ونسجه لأجل المتعة فحسب، وإنما يكون من ورائه عبرة وفائدة؛ فأما العبرة فهي ألا يحقر المرء مخلوقا أو موجودا مهما صغر حجمه أو قل شأنه، فالكل لله خاضع متضرع إليه، والفائدة: أنّ على الإنسان أن يخشى الله ويشكره على السلامة، وهو ما انطبق على النموذج السابق، وبذلك، يمكن القول إن العجيب في الكتابة الصوفية هو خادم للسلوك الصوفي ومعزز لمفاهيم القوم.
إذا كان “خروج النص عن المألوف” يشكل مصدرا للعجيب في الكتابات الصوفية، فإن ذلك يمكن أن ينطبق على كل الكتابات الأدبية غير الصوفية؛ حيث يؤدي نزوع الكاتب المبدع نحو خرق المألوف في الكتابة إلى صياغة أدب عجيب يستقطب اهتمام المتلقي وينسجم مع آماله في كسر جمود الواقع والانفتاح على عوالم جديدة، تفسح المجال للمخيلة بالسفر في البعيد واللامحدود. وبذلك يعتبر الخروج عن المألوف وسيلة للنبوغ والتميز ليس في التصوف وحده وإنما في كافة مجالات الحياة، حيث يكمن سر العبقرية في القدرة على “مجاوزة المألوف أو الأعراف السائدة، سواء في مجال التفكير العلمي، أو التعبير اللغوي الجمالي، أو التصوير التشكيلي”[9].
من الواضح أن مصدر العجيب في بعض الكتابات الصوفية يمكن أن يُستمد من “المصدر العجيب” أي من أصل الكتابة ذاتها، فإذا كان الأديب مَصدرا لإبداعه، فالصوفي ليس كذلك، وإنما هو ناقلٌ للمعرفة، مُعَبِّرٌ عن المعاني، وعَبْرَهُ ينتقل المقدس ليُطَهِّر المدنس، فرسالة المتصوف هي إنقاذ العالم، عبر لفت انتباه الخلق لكلام الخالق، فهو يقوم بتبليغ الرسالة كما أُلهمها من قبل الله، حيث سميت الكتابة “كتابة” من باب المجاز، وإلا فهي على الحقيقة ضربٌ من الإلهام والفيض والفتح، فما قصة “المصدر العجيب” في الكتابات الصوفية؟
يميز الصوفية بين الوحي الخاص بالأنبياء، والإلهام[10] الذي يزين الأولياء، حيث يختلف العلم الناتج عن كل واحد منهما، كما يقول الغزالي: “والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا، والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا، والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري (…) فالوحي حلية الأنبياء والإلهام زينة الأولياء”[11], فالصوفية “لهم الفراسة والإلهام والصديقية”[12]، و”أوضح علاماتهم ما ينطقون به من العلم من أصوله”[13]، والظاهر فيما يبدو أن الحقل المعجمي الدال على الإلهام من أغنى الحقول الدلالية في الأدبيات الصوفية، حيث يضم جملة واسعة من الألفاظ والمصطلحات، من قبيل: الفيض والكشف والموهبة والخواطر والواردات، واللوائح واللوامع والطوالع، والأنوار والأسرار والتجليات، والبوادِه والهجوم، وغير ذلك[14]، و”التي تفاجئ العباد والزهاد من مطالعات أنوار عجائب الملكوت”[15]، حيث تهجم على المرء فلا يستطيع لها دفعا، يقول عبد الكريم الجيلي(ت 805هـ): “فإن مكالمات الحق تعالى لعباده وإخباراته مقبولة بالخاصية لا يمكن لمخلوق دفعها أبدا”[16]. وهي فتوحات تقع للسالك في بعض مراحل سيره إلى الله بغير جهد، ويعدها من نعم الله التي ينبغي إظهارها أحيانا، وسترها أحيانا أخرى، “فالحق تعالى يسبغ بعض نعمه على أحبائه ظاهرة وباطنة، بفتح رباني”[17] وكشف إلهي، فمن واصل الذكر وصبر عليه، “يعطيه الله علما لدنيا وأسرارا ربانية، ويعطيه الله البداعة في منطقه وفي رأيه”[18]، فلا يعجزه بيان ولا يخفى عليه سر، يقول “الجيلي” مؤكدا إمكانات المعرفة الصوفية: “فإن العارف إذا تحقق بحقيقة كنت سمعه وبصره، لا يخفى عليه شيء من الموجودات، إذ العين عين خالق البريات”[19]، وهو تصريح بالقدرة الخارقة التي يملكها من ملك مقام الإحسان تحققا وتحقيقا، فلا عجب أن ينطق بإلهام الحق.
يمكن عد المصدر العجيب في الكتابات الصوفية من باب خوارق العلم، وقد فصّلها ابن تيمية بقوله: “فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة أو مناما، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهاما، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات، فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله كشفا ومكاشفة، أي كشف له عنه”[20]. ويظهر أن الصوفية قد عرفوا كل تلك المظاهر؛ فكما خرقوا من أنفسهم العوائد خُرقت لهم أسباب العلم، وصدق الحق إذ يقول: ﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[21]. ومن ثم، أقر القوم بأن كتاباتهم هي من وحي الإلهام، أو علم الخرق مقابل علم الورق، كما قال أبو بكر الشبلي (ت334):
تسربلتُ للحرب ثوب الغَرَقْ وهِمْتُ البِلاَدَ لوجد القَلَـقْ
فإذا خاطبوني بعِلْمِ الـوَرَقْ بَرزتُ عليهم بعِلْمِ الخَـرَقْ[22]
حيث يقصد بعلم الخرق “العلم اللدني” الذي يلقيه الله في قلوب بعض أوليائه، في شكل مكاشفة نورانية، أو تعليم إلهي، كما نقل ذلك أبو سالم العياشي في رحلته: “العلم اللدني علم يفهمه أرباب القرب بالتعليم الإلاهي، لا بالدلائل العقلية والشواهد النقلية”[23]، حيث لا يمكن ترجمة علوم المكاشفة أو الإلهام إلى جمل ومفاهيم عقلية ومنطقية[24]. ومن ثم، فالعلم اللدني يختلف عن العلم الكسبي الذي يشير إليه بعلم الورق.
يأتي ابن عربي على رأس الصوفية الذين جعلوا من علم الخرق أو الكشف بطريق الإلهام مصدرا عجيبا لأغلب كتاباتهم، فقد ذكر أن معظم كتاباته ليست من تأليفه الشخصي، وإنما هي من الفتوحات الواردة على قلبه، وعلى سبيل المثال، يفتتح كتابه: “شق الجيب بعلم الغيب” بقوله: “الحمد لله رب العالمين، الذي وفقني للسباحة في بحر اليقين، وقواني على إخراج الدرر من أصداف العبارات، والاستعارات العجيبة، والأوضاع الجديدة، الواردة على قلبي بإلهام ربي، وهي في الحقيقة درر عوارفه في حق العارفين”[25]. وكذلك، كتابه “فصوص الحكم” الذي يقول أنه تلقاه من يد النبي محمد في رؤيا، يحكي تفاصيلها قائلا: “فإني رأيت رسول الله (…) وبيده كتاب، فقال لي: هذا “كتاب فصوص الحكم”، خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا. فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله من غير زيادة ولا نقصان”[26]، وقد اعتبر أبو سالم العياشي هذا الكتاب “من أغمض كتب الشيخ محيي الدين إشارة وأدقها عبارة، على صغر حجمه. وقد اعتنى الناس بشرحه، فشرحه جماعة كثيرة، مع ذلك حارت أفهامهم في فهم كثير من رموزه، واستخراج خبايا كنوزه”[27]. ولعل ذلك راجع لما في هذا الكتاب من تركيز وتكثيف واستغلاق، حيث يقر أبو العلا عفيفي أنه حين بدأ بحثه بقراءة كتاب الفصوص، استعصى عليه فهم محتواه استعصاء تاما على الرغم من الشروح التي استعان بها، ولم يَزُل الغموض إلا عندما ترك الفصوص جانبا وقرأ كتب ابن عربي الأخرى، فلما عاد لقراءة الفصوص انفتح ما كان مستغلقا عليه من لغته[28]، فإن كان هذا، حال القارئ المتخصص، فما بالك بالمتلقي العادي.
من كتب الإلهام كذلك، كتاب “مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم” الذي صنفه ابن عربي في ألميرية سنة 595هـ، وهو ثمرة من ثمرات اللقاء مع الحق سبحانه في رؤيا تسلم فيها الكتاب ليبلغه للناس ناصحا[29]، وكذلك الشأن في جل كتابات ابن عربي، كانت مصدر إلهام، كما يدل عليها عنوانها، على سبيل المثال: “الفتوحات المكية”[30] و”التنزلات الموصلية”، وغيرهما، وكذلك كتاب “عنقاء مُغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب”، حيث “يلف الغموض لغة الكتاب، ويحيط به إحاطة تامة، بدءا من العنوان”[31] الغريب، وانتهاء بالمضمون الأغرب. وكذلك الشأن مع رسالته المسماة بـ”ضوء الهالة في ذكر هو والجلالة”، والتي طالعها أبو سالم العياشي، ورأى فيها ما بهر عقله مما مُنح ابن عربي “من العلوم اللدنية والمواهب القدسية والكشوفات الغيبية”[32]، فذكر خبرها في رحلته ماء الموائد، قائلا: “وقد رأيت هذه الرسالة وهي في كراسة، مضمنها أن الشيخ رضي الله عنه طاب وقته ليلة من الليالي لورود بعض العارفين لزيارته، فأخذ يذكر بذكر: (هو الله) على كيفية بَيَّنَها في الرسالة، وذلك فيما بين المغرب والعشاء. فاستغرق في الذكر إلى أن حصلت له غيبة مقدار ربع ساعة أو نحو ذلك، فكُشف له في تلك الغيبة من أسرار الملك والملكوت ومعاني الأسماء والصفات ومنح من العلوم الوهبية ما بهر العقول سماعه. فذكر رضي الله عنه في تلك الرسالة أنواع العلوم التي وهبها في تلك الغيبة والكشوفات التي حصلت والإسراءات الروحانية التي منحها في تلك المدة القليلة. وذلك شيء يَسْتَغْرِب وقوعَه في هذه الأعصار مَنْ لم يؤيده الله بمدد التصديق بأهل ولايته”[33].
أما غير ابن عربي، فيأتي كتاب: “جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني”[34]، حيث لا يخفى ما في عنوانه من دلالة على مصدره؛ فهو فيض شيخ الطريقة التيجانية. وكذلك، كتاب “الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ”[35]، “مع كونه أميا لا يحفظ القرآن العزيز، فضلا عن أن يسام بتعاطي شيء من العلوم، مع أنه قط لم ُيرَ في مجلسِ علم من صغره إلى كبره”[36]، ومع كل ذلك، وقع له الفتح وجمع في قلبه من المعارف والعلوم ما “لا يحصيها إلا ربه تعالى الذي خصه بها”[37]، فكان ينطق بالحقائق، و”كل من سمعه، يتعجب منه ويقول: ما سمعنا مثل هذه المعارف، ويزيدهم تعجبا كون صاحبها (…) أميا لم يتعاط العلم”[38]، “وقالوا: هذا والله الولي الكامل، والعارف الواصل”[39]، وقد تضمن “الإبريز” من كلامه ما يدعو – فعلا- إلى العجب والحيرة، التي لا يزول بعضها إلا باستحضار كتب القوم وما فيها من عجيب، حيث يصير خرق عوائد الأشياء عادة[40].
يضاف إلى ما سبق، كتاب: “الإنسان الكامل” لعبد الكريم الجيلي الذي يقول في مستهله: “بعد أن شرعت في التأليف، وأخذت في البيان والتعريف، خطر في الخاطر أن أترك هذا الأمر الخاطر (…) وشرعت في تشتيته وتمزيقه (…)، فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع، فقلت طوعا للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه”[41]، حيث أمره الحق تعالى بالكتابة. وكذلك كتاب “الجفر” لصاحبه محمد ماضي أبي العزائم، “قبس من أنوار مشكاته تلقاه قلبه السليم من الأعيار، في حال تجرده من القيود الكونية، وغيبته عن نفسه وحسه، غيبة هي عين الحضور في حضرة السر والنور، فترجم به لسان بيانه، كاشفا الأستار عن غيوب الأسرار”[42]. أما الشيخ اليوسي فهو “يَعْتَبِرُ أن نبوغه المبكر واستعداده الفطري لامتلاك ناصية العلوم منذ الصغر (…) لا يرجع إلى كثرة مقروءاته ووفرة أخذه وتحصيله، وإنما يرجع ذلك إلى فتح رباني وسر إلهي وهبه الله إياه”[43].
صفوة القول، إن أغلب الكتابات الصوفية، وخاصة تلك التي تصدر عن الأولياء من الواصلين والعارفين، يكون مصدر وجودها فتح أو إلهام وراءه رغبة قوية في أن ينتفع الغير ويعم الخير من لم يقترب بعدُ. وهكذا، عندما يكون المصدر عجيبا فالمنجز عجيب كذلك، لأن هذا يأخذ من ذاك، ويستمد منه الحياة.
هكذا تؤسس الكتابات الصوفية عجيبها؛ بتعجيب المصدر، ووضع القارئ وجها لوجه مع النص العجيب[44]، فليس الصوفي أو المبدع سوى وسيط للمعرفة “المقدسة”، لأنها لم تصدر من بشر، وإنما الصوفي مُختارٌ تنزّل عليه الفيض وأُلهم بتدوين ما تنزل عليه، وليس ما يقع له من فتح وكشف تفردا إنسانيا لم يكن له مثال سابق، وإنما فِعْلُ الإلهام يستمد شرعيته و”إمكانية حدوثه” من القرآن الكريم والسنة النبوية، باعتبارهما أصلٌ للممارسة الصوفية، وحيث إن التصوف يستمد من هذين المصدرين كل محتواه، كان ممكنا أن يستمد من أصل المصدرين كذلك، إذ يؤدي ترقي الصوفي في مقاماته إلى الأخذ من مصدر المصدر، بلا واسطة، وقد كان أبو يزيد البسطامي “يخاطب علماء عصره قائلا: أخذتم علمكم عن علماء الرسوم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت”[45]. وفي ذلك تعجيب للعجيب وترسيخ لمزيد من التعجيب.
[1] باحث في التصوف والنقد الثقافي والجماليات touzani79@hotmail.com
[2] محمد مفتاح، الكتابة الصوفية: ماهيتها ومقاصدها، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس، الرباط، ع: 2، 1977. ص: 7. ينظر كذلك بعض كتب المؤلف ذاته، وخاصة: “دينامية النص”، و”مجهول البيان”، ففيهما بيان تلك المكونات.
[3] المرجع والصفحة نفسهما.
[4] عبد الحق منصف، أبعاد التجربة الصوفية: الحب، والإنصات، والحكاية، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط:1، 2007، ص:211.
[5] ابن الدباغ، أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله الانصاري (ت696هـ)، كتاب مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب، تح: هـ. ريتير، دار صادر، بيروت، د.ت، ص:67-68.
[6] سورة التحريم، الآية: 6.
[7] أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تح: عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، مطابع مؤسسة دار الشعب، القاهرة، د.ط، 1989، ص:314.
[8] للتوسع في مفهوم العجيب، ينظر كتاب: أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية، خالد التوزاني، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط:1، 2015، صص: 13-64.
[9] أحمد عبد السيد أحمد الصاوي، الإبداع والغموض في الفكر النقدي الحديث، ضمن كتاب: الموسم الثقافي لكلية اللغة العربية للعام الدراسي 1417/1418هـ، جامعة أم القرى، (مطابع جامعة أم القرى)، مكة المكرمة، ص: 329.
[10] لا يقتصر الإلهام على الأدب والفن فحسب، بل يتعدى ذلك إلى العلم، ينظر: عيسى فتوح، الإلهام في الأدب، دعوة الحق، ع: 2، س: 8، دجنبر 1964، ص:31.
[11] أبو حامد الغزالي، الرسالة اللدنية، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، راجعها وحققها: إبراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ط، د.ت، ص: 249-250.
[12] الحكيم الترمذي، أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن (ت بعد 318هـ)، ختم الأولياء، وضع حواشيه: عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1999، ص: 40.
[13] المصدر نفسه، ص: 42.
[14] لتعرف الدلالات الفرعية لكل لفظ على حدة، يُنظر كتب اصطلاحات القوم، مثلا: الرسالة القشيرية، واللمع للطوسي، ومعراج التشوف إلى حقائق التصوف لابن عجيبة، وغيرها.
[15] يوسف زيدان، شرح مشكلات الفتوحات المكية لابن عربي، الجيلي، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط:1، 1999، ص:78.
[16] عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، تح: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1997، ص:12.
[17] حسن الشرقاوي، معجم ألفاظ الصوفية، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، القاهرة، ط:1، 1987، ص:229.
[18] ماء العينين، مصطفى بن محمد فاضل (ت1328هـ)، نعت البدايات وتوصيف النهايات، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، د.ط، د.ت، ص: 175.
[19] عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، مصدر سابق، ص:17.
[20] ابن تيمية، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728هـ)، المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات ومنافعها ومضارها، تح. ود: أحمد العيسوي، دار الصحابة للتراث بطنطا، مصر، ط: 1، 1990، ص: 11- 12.
[21] سورة البقرة، الآية: 282.
[22] يوسف زيدان، عبد الكريم الجيلي: فيلسوف الصوفية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ط: 1، 1988، ص: 21.
[23] الرحلة العياشية “ماء الموائد”، لأبي سالم عبد الله العياشي (ت1090هـ)، تق. وتح: خالد سقاط، أطروحة جامعية مرقونة بخزانة كلية الآداب – ظهر المهراز- فاس، نوقشت خلال الموسم الجامعي 1998-1999، ج: 2، ص: 327.
[24] ناجي حسين جودة، المعرفة الصوفية :دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة، دار الجيل، بيروت، ط: 1، 1992، ص:169.
[25] ابن عربي، شق الجيب بعلم الغيب، ص:285.
[26] ابن عربي، فصوص الحكم، تح: أبو العلاء عفيفي، دار الكتاب العربي، ط:2، 1980، ص: 47.
[27] ماء الموائد، ج:2، ص: 537.
[28] أبو العلاء عفيفي، من تقديمه لكتاب: فصوص الحكم لابن عربي، ص:21.
[29] نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط:1، 2002، ص: 131.
[30] نسج عبد القادر بن قضيب البان على منوال “الفتوحات المكية” لابن عربي، كتابا سماه: “الفتوحات المدنية”. ينظر: يوسف زيدان، شرح مشكلات الفتوحات المكية لابن عربي، الجيلي، مرجع سابق، ص:20.
[31] نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، ص: 133.
[32] ماء الموائد، ج:2، ص: 482.
[33] ماء الموائد، ج:2، ص: 482-483.
[34] علي حرازم ابن العربي برادة، جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس أحمد التجاني، وبهامشه ( رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم) لعمر بن سعيد الفوتي الطوري الكدوري، شركة مكتبة ومط. مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، د.ط، 1963.
[35] الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الدباغ، أحمد بن المبارك السجلماسي المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:3، 2002.
[36] المصدر نفسه، ص: 22.
[37] المصدر نفسه، ص: 7.
[38] المصدر نفسه، ص: 6.
[39] المصدر نفسه، ص: 7.
[40] يوسف زيدان، شرح مشكلات الفتوحات المكية لابن عربي، الجيلي، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط:1، 1999، ص:200.
[41] عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ، ص:8.
[42] محمد ماضي أبو العزائم، الجفر، دار الكتاب الصوفي- دار المدينة المنورة للطبع والنشر، القاهرة، ط: 3، 1990، ص: 4.
[43] بوشتى السكيوي، ملامح التجربة الصوفية عند أبي علي الحسن اليوسي (ت 1102هـ)، ضمن: ندوة التجربة الصوفية بين الفن والفلسفة، (أعمال الندوة التي نظمها مركز الدراسات الإنسانية والمستقبليات، 9-10 أبريل 2000)، جامعة عين شمس، القاهرة، 2001 ص: 287.
[44] للاطلاع على نماذج من نصوص العجيب في التصوف، ينظر: جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة ماء الموائد لأبي سالم العياشي (ت 1090هـ) أنموذجا، تأليف: خالد التوزاني، منشورات الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بوجدة، ط:1، 2015.
[45] علي حرازم ابن العربي برادة، جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس أحمد التجاني، مصدر سابق، ج: 3، ص: 56.