التّصوّفُ كما أراه.
بقلم: الضوي محمد الضوي
التّصوّفُ هو عمقُ الأديانِ، عمقها النابض الحيّ، المتجاوز للحدود، والأشكال، للأوامر والنواهي، عمقها القائم على الأدب والمحبة، وفي التصوف معرفة الله هي الهدف، الله في التصوف لا يقتصر وصفه على كونه السيِّد، الذي نعبده مقابل ما يقدمه لنا من عطايا -كما يقدمه ظاهر كثير من الأديان- يطعمنا فنصلي له، ونتّقيه فيدخلنا الجنة. الله وفقا للمفاهيم الصوفية: محبوب، ومرجوّ، ومُهاب، وجميل، معرفة الله هي غاية الغايات، وهي الوسيلة لبلوغ كل غاية، إنها منتهى الأنس.
لم يتفقْ كُلُّ من شُغِلوا بتعريف السعادة على تعريف جامع مانع لها، لكن لا خلاف على أن معرفة الله والتسليم له، ومحبته، تقوم دافعا مهمًّا على مواصلة الحياة في طمأنينة، وباعثًا على الرضا، والتسليم للنوازل، طموح المحب لله تجاه الفضائل يجاوز طموح غيره ممن يبتغون الفضيلة، المحب لله يجعل من صميم محبته أن يتخلَّق بأخلاق محبوبه، الله كريم، المحب لله يحب أن يكون كريما، ليس فقط عملا بالأمر الديني الذي يستحث على الكرم، لكن بدافع التشبُّه بالمحبوب الأكبر، الله يغفر، المحب لله لابد أن يغفر، وهكذا.
اللهُ لديه مفهومٌ جامعٌ عن العدل نطلق عليه العدل الإلهي، ضرب لي أحد الأصدقاء مثالا عن العدل الإلهي قائلا: لو فرضنا أن رجلا قادما من آخر الشارع وأنت في أول الشارع، هذا الرجل يحمل سكينًا وينوي قتلك، ولا يعلم هذا إلا الله، تأتي سيارة مسرعة فتصدم هذا الرجل؛ جزاءً من الله له على نيته السيئة، أنت لأنك لا تعلم إلا ما تتيحه لك الحواس من المعرفة، فستجري ناحية الرجل الذي صدمته السيارة وتحاول إنقاذه، ربما اتصلت بالإسعاف، ربما صببتَ اللعنات على السائق المتهوِّر، وربما سألت الله: ما ذنب هذا المصاب المسكين؟ ماذا جنى حتى لا يعود إلى بيته وأولاده معافا هذه الليلة؟ لكنك لو تعلم ما يعلمه الله لجريت للاتصال بالشرطة، لتبلغ عن هذا الذي جاء لقتلك؛ إذن الله يسلك لا وفقا للعدل من واقع ما يتبين لنا من بينات وأدلة، لكن وفقًا للعدل الإلهي، الشمولي، الذي يقوم على المعرفة الكلية، معرفة خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا لا يتوفر إلا للعادل العدل، الحق جل سلطانه.
التّصوّفُ أيضًا يهدفُ إلى القبولِ، قبول العالم، بكل تفاصيله، واختلافاته، بخيره وشره، إنه لا يدعو إلى التطابق، لكن إلى القبول والوفاق، وشمولية تلقّي العالم، الله اتسع ورحمته ملكه للبَرِّ والفاجر، للخيّر والشرير، للمؤمن والكافر، للمسلم وغير المسلم، مولانا الإمام أبو القاسم الجنيد يقول: “لا يصير العارفُ عارفًا، حتى يكون كالأرض، يطؤها البرُّ والفاجر، ويأكل من كلأها البرُّ والفاجر” إنك تقبل العالم، كما لو كنتَ خالقَهُ، كما لو كنت أباه، الأب الحاني الذي يغضب على ابنه شارب الخمر، لا يطرد الابن ليعيش بعيدًا، لأنه يحبُّه، لكن محبته له لا تدفعه لأن يذهب ليشرب الخمر معه، الأب يقبل أبناءه، يحاول تقويمهم، لكنه لا يجبرهم على هذا التقويم فيكسر ما جُبِلوا عليه، وخُلِقوا له، إنه يقبل، إذن فمعرفة الخالق، ومحبته والتخلق بأخلاقه والثقة فيه إيمانا بعدالته المطلقة، وقبول الآخر، هي مجموعة من أهم مبادئ التصوف المنشود، ويعقب هذا المقال مقال آخر إن شاء الله نتحدث فيه عن السلوك الصوفي.
الصورة المرفقة للبقعة التي كان ابن سبعين المتصوف الأندلسي يلقي فيها دروسه على مريديه
نفس مفهوم المسيحية
عظيم 🙂