بَرَكةُ الأولياءِ
تأملاتُ مريدٍ
بقلم: د.شحاته صيام
إنه منذ بواكير وجود الإنسان على سطح الأرض حتى وقتنا هذا ، وما قام به واخترعه وقدمه لم يكن نتيجة ارتياحه، بل جاء نتيجة قلقلة الحياة الناتج عن خوفه وهو ما يجعلنا نفتش في ينابيع الآلام والمعاناة الإنسانية التى دفعت الإنسان للبحث عن مخرج لها من خلال إبداعاته المتكررة..
لقد عبد الإنسان كل حبيب وكل رهيب ، فعندما ارتعدت فرائس الإنسان عند المخيف مال وأحب وعبد المحبوب. فمنذ أن خاف الإنسان من حرائق الغايات فإنه راح يفسر ذلك في ضوء غضب الإله الذى يتجسد في النار ، فراح يعيد الرمز ، ثم حينما زمجرت الطبيعة وتغيرت وتلونت السماء بالغيوم وأبرقت، فآمن أن هناك الاله للبرق والرعد والأمطار ، وحينما نظر إلى النجوم وشكلت خيالاته جماع الذى ذهب إلى عبادتها ومن ثم الإيمان بها ، وهو ما ساهم وقتذاك في خلق إله للقمر ثم للحجر ثم للبحر وهكذا. إننا هنا يمكن القول أن الإنسان كلما بدت له مظاهر الطبيعة في التغير أو في تحول أوضاعها راح يعبدها ويشكل حولها الحكايات والأساطير والعقائد ، ذلك الذى شكل ملامح الدين والعبادة بدءا من الشكل الوثنى حتى قبل نزول الديانات السماوية ([1])0
إن الإنسان المحب بامتياز يعيش فقرًا انطولوجيا مرسوما في بنية بنسبة محدودة الإمكانيات، وهو مايجعله يتأرجح بين المنفتح اللامتناهى والتناهى المحدود للواقع ، ذلك الديالكتيك بين ذينيك الأمرين يجعل اللاتناسب الوجودى أمراً مهما في تشكيل بنية الإنسان الهشة، والتى تدفع الإنسان إلى ممارسة الشر أو الدخول في مرحلة انطواء الذات على ذاتها في إطار الانطولوجيا المعاشة.
إنه منذ ذاك وقد تتماس القداسة مع الإلهي ، إذ تتخذ مع مفاهيم القوة والخوارق مع ما فوق الطبيعى . وحيث أن طبيعة الأولياء تعكس هذا المفهوم ويكتسى به ، فالواقع يشير إلى مفاهيم أخرى تنطلى عليها هذا الوصم ألا وهي : الصالح والقريب والمعصوم والعارف بالله والشيخ والبصير والمدبر والصديق ، تلك المفاهيم التى تقترن هى الأخرى مع كلمات البركة والإحسان والبرهان والكشف ، والكرامة والمعجزات والورع والتقوى والعرفان.
ومع أن هذه المفاهيم تشير إلى معنى محدد حول فكرة الولى وكراماته وإبداعاته الخارقة ، إلا أنها من ناحية أخرى تشير إلى القدرات الخارقة التى يحملها الوجدان الشعبى الذى تترافق مع الاعتقاد الدينى لتشكل تقاليد وطقوس ذات ملامح مقدسة لدى مجموعة واسعة من المريدين ، والتى من خلالها تتجسد تصورات اجتماعية معينة تخلعها الجماعة على الإنسان الولى سواء كان حيا أو ميتا لكى تتخطى الوجود والأزمنة والأمكنة.
وفي إطار هذا الفهم فإن الأولياء وفق تصورهم للعوالم حولهم ، هم أناس خرجوا من بشريتهم نتيجة لانقطاعهم عن الدنيوية وتقربوا إلى الله ، إلى الحد أنهم باتوا ذوات جسد أرضى وروح سماوية ، أو هو على حسب تصور ابن عربى في تجلياته أن الولى لا يستقل عن البنى، بل هو على قدم نبى يتبعه في العلم والعمل والحال([2]).
أن إصرار الناس على عدم تفكيك الروابط بين الناسوت واللاهوت يجعل الإنسان مشاركا للوجود الالهى ، ومن ثم محاولته التوحد مع الظواهر الطبيعية ، وهذا هو ما تدعو إليه الأسطورة العربية.لقد رأى هذا الفكر انتساب الإنسان إلى عالم الالهه ، أو قل حسب معابر التصوف أنها التوحد بالكون الالهى .
دعونا نتصور في ذلك، أن الإنسان وفق هذا الفهم يجعل من ذاته علاقة بين موضوع وذات ، الأول يتجسد في العالم الخارجى ، والثانى يتجسد في الجوانى له ، وهو ما يجعله حسب الفهم السابق ،الإنسان ذات والوجود موضوعا ، وهنا يصبح الوجود الالهى مشاركا في الوجوديين الانسانى والطبيعى ، ومن ثم ينبغى وجود العالمين ليكونا وجوداً واحداً.
إنه في هذا السياق فرضت مسألة كرامات الأولياء جدلا واسعا في تاريخ الفكر الإسلامي، وهو ما يعود إلى أمرين جد خطيرين، الأول يتعلق بمبدأ النبوة والآخر يرتبط بمسألة القدرة الإلهية ، إذ أن الكرامة تتجاوز الطبيعة وتقدير بما أنها به الامتياز من معجزات وان القدرة الإلهية هى الوحيدة التى تخرق العادة أو تعطلها .
إن تمثل الأولياء في كل شيء يجعل من هؤلاء نموذجا مثاليا في أذهان مريديهم . فالممارسات والتصرفات والطقوس التى تشكل التفاعل بين الأضرحة وبينهم ، تمثل مفتاح خدمة الأولياء، ولدى البعض عبادتهم ، إذ يعد التقرب والانتماء إليهم قيمة وضرورة في آن، وهو ما لا يتم إلا في وجود الوجبات القربانية أو النذور (البرتلة) ، ذلك الذى يجعل المريدين في وضع دونى ، أو هو ثمن للدونية أو الضعف، وثمن فوائد أخرى يريدون أن يتحصلوا عليها.
إذن انه في إطار هذه العلاقة ، فإن الأولياء يحظون بمكان متقدمة ويأتي المريدين في ذيل هذه المكانة ، الذين يحاولون بكافة الطرق أن يرضوا أسيادهم سواء بتعذيب الجسد ، أو تخضيعه ([3]).
إن تكريس سلطة الأولياء وفق هذا القدر تجعل من الأساطير التى تنسج حولها ما هى إلا ايديولوجيا خاصة تعمل على أعمال وظيفة تكريسية وقمعية ومعرفية ، من شأنها أن تمنح دلاله معينة لفعالية الخيال الذى يتفتق عن الذهن . فإذا كان الفرد في إطار هذه العلاقة يصاب بعقم الفعالية في اليقين ، فإنه على جانب آخر يحظى بالخصب في البناء والتأويل والتفسير، إذ يكون التناقض الحاصل هو روح الفاعل المؤسطر (من أسطورى) للمعانى الذى يبتعد عن المحسوس ويتعلق بالغيب أو بغير المشاهد.
إن طرح العلاقة بين العقل والواقع في إطار الوجود الانسانى المؤسطر، يجعل الوجود الانسانى فاعلا سببيا ، ذلك الذى يصعد من الذهنية الأسطورية ويجعلها مهيمنة على كل شئ ، وهو الذى يتجلى فيه بوضوح سيادة اللغة البدائية التى يبرز من خلالها الوجود الخاص للاعقلانية، ناهيك عن بعد الذات عن محيطها الخارجى.
ومن جهة أخرى تؤدى الولاية والإيمان بالكرامة إلى إعلاء قيمة الخضوع الذى يقوم على عدم تبادل الاحترام والتوقير، إذ يكون الاحترام الاجبارى من جانب المريد أو المحب هو الأساس في هذه العلاقة العاطفية ، التى يلعب فيها الخيال دوراً مهما في تجسيد الحلم الاجتماعي لإبراء الذات من عللها وإسقامها وإشباع الاحتياجات الاجتماعية ، ناهيك عن ترميم الشروخ الداخلية للشخصية.
إنه يتأمل العلاقة المباشرة بين الأولياء والأفراد وفق ما قدمناه نجدها تتأسس على رباط مقدس بين الولى ومريديه ، أو قل أن ثمة رباطاً مقدساً يدشن هذه الشرعية التى تقوم بين إرادة الأفراد (بالمعنى الهيجلى) وبين الأسس التقليدية أو القدسية.أن تسليم الأفراد بكرامات الأولياء يكرس مرجعية ثنائية تتمثل طرفاها في البيعة من جهه ، والخضوع للسلطة المقدسة لهم من جهة أخرى ، ذلك الذى يأتى من تأويل خاص لقدرات الأولياء وكراماتهم ودورهم المخلص من كل العقبات التى تواجه الإنسان في معترك الحياة اليومية . لقد لجأ الأفراد إلى تحويل الدين إلى القدسية ، وهو ما يجعل من الأولياء قوة فاعلة ومؤثرة في كل تفاعلات الواقع المعاش، وهو ما يؤسس بالضرورة علاقة ترتكز على الإخلاص والتشيع ، وتطويع العقول والأجساد بكل ما هو متواتر من حكى أو أساطير حول قوة وشجاعة الأولياء في تخضيع كل شئ لسلطاتهم ، ذلك الذى يجعل منهم أوفياء ، بل وخدام (وهو شرف يحسد عليه) التواضع أو مسرحية يبدو فيها التواضع (الانحناء والبكاء وتقبيل ما يتاح من مقام الشيخ).
إن التضرع وممارسة التقرب الى الولى ، لا تتم إلا من خلال الاستجارة به والخضوع التام له ، وهو ما يتماثل مع ما يدفع به “حمودى” الذى يذهب إلى أن العارفين بالله هم “الأكسيد الحقيقى والكمياء”.أن اندفاع الأفراد إلى تبنى موافق مافتئت تنصيب الولى (اللدنية) فوق العلم وحتى الأنبياء. فالبركة أو الرجع الذى يتمتع بالبركة (الولى) أو المقدس هو الذى يستطيع أن يفعل المعجزات ومن ثم يتحقق عن طريقها المبدأ المنتج للمجتمع وقيمة، ومن ثم فإن المجتمع وفق ظروفه القاهرة ، فهو مجبول على أن يلحقه بهؤلاء الألقاب ويختال فيهم القدرات ، ليكونوا مصدراً وحيداً للقوة والإلمام الخلاق.إن الجدل بين القوة واللدنية التى يضعها الأفراد في علاقتهم مع الأولياء يجعل الأخيرين مصدراً للحياة والقوة والسلطة وتسخير كل شئ، أو قل في إعادة إنتاج الحياة من خلال تفعيل مفهوم البركة والخوارق والمعجزات([4])0
ولا ريب أن سيادة العقل التقديسى ، أو إتاحة الفرصة لشيوع مناخ موات تسود فيه ذهنية القداسة ، سوف يطيح بالحقيقة والموضوعية بعيدأ لكى يستعيض عنها بالتاريخ أو الزمن الأول وأحداثه وأسطورياته وفق ما يخلع عليه من قداسة تشكل طريقة لتفكير الأفراد مع ما يكتنف الواقع من أزمات . وعلى هذا الصعيد ، فإن العقل المسكون “المهووس” بالمقدس سوف لا يقدم تأويلا أو قراءة موضوعية للواقع المعاش ، بل انه سوف يمارس نوعا من الانتقاء لكى يفرض الروايات والحكايات المتواترة التى تدلل على أرائه ومعتقداته دون تصنيف بين المعقول وغير ذلك.
إن ابتداع الإنسان لطقوس “شعبية ” جديدة بعيداً عن طقوس الدين الرسمى يجعلنا بصدد ما يسمى “بالوعى الأعلى” الذى يرتبط بالنشاط الابداعى وتوليد الجديد والمعارف الجديدة من خلال تحفيز الإرادة والوعى والإدراك والخبرة المخزنة (فيما تحت الوعى) لتخلق إبداعات جديدة تغير من نوعية ما هو قائم ، انه في إطار هذا التضافر بين الوعى الأعلى وما تحت الوعى ، فإنه يأتى الرمز وما يرتبط بذلك من ثقافة ، المرتبط بالثقافة السائدة ، والذى يسعى بشكل حثيث إلى استنباط المعانى وتغيرها. وبوصفة قوة للإقناع والإكراه ، وطاقة تولد الإعجاب ، فإنه من خلال العلاقة بين الولى والناس تتجلى الرموز باعتبارها موصوفا جاهزاً في بنية المعتقدات . انه في إطار هذه العلاقة فالشعور الدينى المرتبط بكرامات الأولياء تسود باعتبارها طريقا للقوة الربانية ،أو بوصفها مؤسسة مركزية تستمد طبيعتها الروحية من هذا الاتصال الذى تفرضه الطقوس المحلية المرتبطة بالأولياء تلك التى تقترب من شكل العلاقة بين الشيخ والمريد لدى المتصوفة.
إن المتأمل لطبيعة لا يستطيع إلا وأن يضع يديه بسهولة إلى مفهوم الأبوية الجديدة (البطريركية)، التى يجسد الولى منها الوظيفة الرمزية التى من خلالها تفرض الأساطير ذاتها لكى تشكل طبيعة السلوكيات والتصرفات الإكراهية التى تدفع بها الخيال لتكون معيارا في الحياة المعاشة.
إنه في ضوء وظيفة التخيل المتعالى الذى يحظى به الإنسان المتدين المرتبط بالأولياء ، فإننا نكون بصدد انطلاق من الموضوع والشئ في آن ، إذ يكون للإنسان القدرة على التوليف من خلال استبطانه لطبيعة وقدرات الأولياء. انه من خلال ذلك فإن الذات البشرية في فهمها للتعال بطريقة دنيوية تجعل من وظيفة التخيل وسيلة لتعيين الأشياء و تبيان معناها من خلال التسمية والجمل المنطوقة .
إن فرض التخيل كآلية للإدراك يجعل النكوص إلى الجوانى هو مفتاح الحكى والتناهى الانسانى ، والذى بدروه يكون الأساس في فهم الأعمال والممارسات . انه بمعنى آخر أن القصد المتناهى هو الذى يمدنا بالحضور المدرك في الحاضر المعاش، والذى يمكن أن يطلق عليه عناصر الحضور . الذى يجعل من ادارك الشئ هو الإعادة الرمزية بغير الموجود الذى يحل في الحس. انه حسب ذلك ، فإننا يمكن أن نحدد العلاقة بين الولى والإنسان والقداسة من خلال الأنواع التالية :
- العلاقة الوجودية (الانطولوجية)
وهى بين الله بوصفه المصدر الجوهرى للوجود الإنسانى ، والإنسان الذى يدين بوجودة الى المطلق، أو قل أنها العلاقة بين المخلوق والخالق . والعلاقة بين الإنسان والولى والذى يكون فيها بديلاً عن الله ومسؤلاً عن كل الأفعال التى ترد له وحدة بعيداً عن المطلق النهائى.
2 -العلاقة التداخلية :
باعتبار انه بين الإنسان والله والأولياء علاقة تبادلية حميمة من خلال عمليات التواصل، فإنها تأتى أما بطريقة لفظية وغير لفظية .فإذا كان فوفقا لأدبيات الأولياء، فإن الولى مازالت علاقاته اللفظية قائمة وذات اتجاهين من الولى إلى الله والعكس . أما بالنظر إلى علاقة الولى بالإنسان، ومن ثم فإنها ذات اتجاه واحد سواء على الصعيد اللفظى وغير اللفظى 0فالإنسان يدعو ويمارس لا يحدث من العكس اى استجابة ، وهو ما يجعل العلاقة التواصلية تأتى من الأدنى إلى الأعلى وهو يتمثل في الدعاء ويتمظهر فيه علاقة الخضوع والتواضع والطاعة.
إن الطقوس التى تمارس والقرابين المقدسة والتمالح بين الولى والإنسان ما هى إلا نوع من التواصل غير اللغوى في الاتجاه الصاعد ، أى من الإنسان إلى الولى المقدس، ذلك الذى يعكس مدى الإجلال والتبجيل الذى يشعر به الإنسان تجاه الولى فبدلا من يشيح الإنسان عن وجهه الأساطير المدبجة حول الولى ، فإنه يؤتمر بطريقة ايجابية بكل الحكى الميثى ، ليحظى الولى بآيات التوقير وليس أدل هنا من الأفعال الطقوسية التى يمارسها الفرد سواء في إطار المقام أو المشهد أو حتى في خارج إطار الضريح.
ولا ريب أن الطقوس والممارسات التى تتم في إطار الضريح والحركات الجسدية والتعبدية والتطهرية والمناسك ، تؤلف إعلان او اعترافا من قبل الإنسان وشهادة ببركات ومعجزات وخوارق الولى . ذلك الذى يجعل الفرد في إطار المقام أن يطرح لغة تواصلية (الدعاء) من اجل ترجمة هذه المشاعر في شكل شعائر تعبر عن أفكار خاصة للإنسان المأزوم الذى يحاول أن يعتزل الحياة اليومية وشئونها لكى يغترب عن واقعه.
وما دام الإنسان المغترب حسب شدة التدين الشعبى ها هنا يعبر عن الخضوع والتذلل والتواضع ، من دون أى تحفظ ، فإن الفرد في هذه اللحظة يتصرف وفق منطق العبودية ،أو على الأقل انه يخضع للولى كما يتعين على العبد أن يفعل وفق المعنى الدينى . انه في هذا الإطار تصبح الوظيفة الأساسية للعبد تتمثل في خدمة السيد بأمانة وإخلاص وتفانى ، ودون تبرم ، ذلك الذى يفرز مفاهيم أخرى مثل : الطاعة والفنون والخشوع والتضرع.
وحرى بنا أن نشير هنا في هذا السياق ، إنه في إطار هذه المفاهيم فإن الاسلام ذاته، بات ثقافة دينية ، أو نوعا من التدين الشعبى ، أو ينطلى عليه مفهوم التمدية، على حسب “ولفرد كانتويل سميث” ، الذى يشير إلى تحويل المعنوى إلى شئ مادى أى تحويل العبادة والشعائر والطقوس والممارسات إلى عقيدة([5])0
نتيجة لكل ما تقدم ، فإن الاعتراف بمكانة الله بوصفه الإله الواحد للكون كله، في عالم الموجودات فوق الطبيعية ، قد ثم تجريده من معناه ، وقت أن آمن الناس بوجود كينونة أخرى تشير إليها الإيماءات بأنها ذات قوة ، وهو ما جعل البعض يشد الرحال إلى الأولياء حسب أماكنهم ويستندون إليهم ويوقرونهم، فضلا 0 عن وضعهم لتصور لوجودهم في التراتيبة الكونية للوجود.
الأفراد هنا جعلوا مفهوم الله يفهم في إطار الذات والصفات إذ فسروا الأولياء على حسب الطريقة الإغريقية التى تمنحهم فقط القدرة على المعرفة بالله والاتصال به ، وهو ما يؤهلهم لذلك الغنوص أو الاتصال المباشر الذى يضمن الاتحاد الذاتى بين العارف والمعروف ، او قل على حسب اصطلاحات الصوفية بين العاشق والمعشوق.
إن النرجسية الجديدة التى تسعى إلى إسترجاء الماضى والتخلى عن المرجعيات أو البحث عن مزيد من الاستقلال والحرية والتحرر والعيش الحر البعيد عن الاكراهات التى تفرزها العلاقة بين المقدس والمدنس ، تلك التى، تلعب فيها الشعائر والطقوس أو العبادات أدوارا محورية في جعلها متفاعلة ، إذ يهبط المقدس إلى الدنيوى ليمتزجا في ضفيرة واحدة ، وينزل على الدنيوى حيث واقعة المتعالى من الذاكرة والخيال ليجعل اللامعرفة هى اليقين والتوهم هو الحقيقة .
وفي هذا الإطار تلعب عملية الاتصال الثقافي الشعبى الدور الأكبر في ضم الأشكال الحياتية إلى طبيعة المقدس الذى في إطاره تصابب الذات البشرية بالعمى و عدم التحديد ، فتخلع على كل ما هو لا يقينى بأنه ليس إلا الحقيقة النهائية ، وهنا يصدق مسألة ما توصل إليه ابن خلدون حيث أن الضعيف يتماهى دائما مع الغالب ويقلده ، بل ويتعلق بأهدابه وهذا هو شيمه المكبوت فينا الذى يحاول أن يرجع ما هو قائم إلى ما هو غيبى أو غير حاضر إذ يكون كل حالم يتولى بنفسه تفسير أوهامه ، ويصبح الحيوى والحاضر في كل فضاءات الواقع ، بينما غير ذلك هو الأبتر . أن حكى الأفراد أو تحويل العالم إلى قصص أو حكايات صغرى على حسب تعبيرات ليوتار ، يجعلنا نستبدل الكلى بالجزئى ، أو الواحد بالمختلف. وقبل ان نسكر الباب على هذه الظاهرة ونستأذن بالرحيل ، فدعونا الا نغمض أعيننا عن نصوص الأولياء التى يجب أن ندخلها في اضمومة النصوص الإيديولوجية بالمعنى الحديث للمفهوم ، والتى يحاولون من خلالها رؤية للكون والمعتقدات بشكل شمولى تعتمد على غسل الدماغ وحشوها ، وهو نفس الفعل الذى حاولت تسوية الأيديولوجيات الحديثة .وحيث أن هذه الإيديولوجيات مسجونة بالتخريف والابتداع ، إذ تقدم الأئمة على غيرهم وتضعهم في مكانة تفوق الأنبياء دون حدود دينية ملموسة وواضحة . انه ازاء ذلك ، فإن محاولة هذا الخطاب الانفتاح على التراث الصوفي جعله يصل الى ما يسمى بالإنسان الكونى الأعلى أو الولى الذى تتحدد له وظيفة وهدف ايديولوجى محدد ، ألا وهو امتلاك الناس ملكية تامة .
ومن وجهه نظر أخرى ، فإن المدقق في الخطاب الذى صورنا لأركانه وحدوده من خلال الوظيفة الإيديولوجية ، فأنه يسعى إلى تأويل إشكالى محض لا يأتى بالصدق دون الارتحال والنكوص الى الخلف . ممن خلال الزمن الزمن والجغرافيا يتوهم النص سمو ” الولى ” وارتقائه بقدراته وأخلاقه إلى مصاف الأنبياء ، بل يتعداهم بمعجزاته إلى القدسى أو المطلق النهائى وهو ما يتجسد في التشبه بالله بحسب ما في الطاقة الإنسانية ، وهو ما يجعل مثل هذه النصوص تزاحم الملك السماوى والعالم الروحى ، ويدخلها بالتالى في طبيعة التصورات التآمرية .
إن تمثل النص للعلاقة الخيالية بين الأفراد وظروف حياتهم في الوجود المعاش، يجعل إيمان الناس بالأولياء يعود الى تمثل الايديولوجيا في الدين ، وحصر الأفكار التى تتحدد بوجود روحى في أفكار ووعى الذات البشرية بهذا الإيمان.فالذات حينما تؤمن بشئ معين ، ومن خلاله تتبنى سلوكا عمليا، فإن هذه الممارسات ترتبط بطبيعة الايديولوجيا التى تختارها الأفراد بملء وعية وحريته 0فإذا كان يؤمن بقدرة الأولياء ومعجزاتهم ، فإنه يتبنى الذى يعبر لدينا عن التمثل الايديولوجى للايديولوجيا ، الذى يشير أيضا إلى أن الذات تحمل وعيا معينا ، وتؤمن بمجموعة من الممارسات، وتكون وفق الأفكار التى تؤمن بها ممارسة لطقوسها بحرية تامة .
إذن فإيديولوجيا أولياء تستدعى الأفراد الموهومين بهم تفاعليين ملموسين ، أو قل أن الايديوجيا حسب الاعتقادات الأسطورية تحول الأفراد إلى فاعلين للطقوس والممارسات الدينية الشعبية ، وهو ما يجعلنا تقول أن إيديولوجيا الاولياء هى التى تتوجه إلى الأفراد في إطار واقعهم المعاش ، ذلك الذى يجعل هذه الايديولوجيا انعكاسية بطريقة مزدوجة ، إذ تحاول أن تستدعى الأفراد كفاعلين ، وتحفظهم ، ومن ثم أن تجرى التفاعل بين الفاعلين أنفسهم، وبين الفاعلين والأولياء ، وبين الفاعل وذاته .والواقع أن ذلك ليس إلا ترجمة حياتية لكلمة آمين الذى نرددها في الصلاة ، أو قل إنها التعبير العملى لعبودية الذات الطوعية للأولياء.
إن الولى وفق ذلك كله حيًّا أو ميتا ، يعد رجل زمانه الذى ينتظره مريديه ومحبيه والملتفين حوله لتخليصهم من أوضاعهم البائسة وتحررهم من أوجاعهم . إن مأساة الخلاص تجعل المخلص في خيال المؤمنين بقدرات الولي ، وتجعل الذات أسيرة لفكرة المخلص الخارجى ، وهو ما يجعلها تجسد فكرة الجنوج من اجل الانسحاب من العالم كله.
[1]– حول هذه الأفكار : يمكن مراجعة : حنا حنا ،صورة الله ، دار النايا للتوزيع ، دمشق ،2008 ، ص ص 7-25.
[2]– حول أفكار ابن عربي ومذهبه راجع: سعاد الحكيم ، خاتم الأولياء : النبوة والولاية فى مذهب ابن عربي.
[3]– عبدالله حمودي، الشيخ والمريد، ص85.
[4]-عبد الله حمودي، المرجع السابق، ص ص 37-184.
[5]– توشيهيكو ايزوتسو ، الله والإنسان في القرآن، ص ص130-131.