حبّاتُ عنبٍ بوزنِ التّاريخ
أنطلقُ من لحظتين تاريخيتين تختزلان بشكل رمزي فداحة الخيانة التي تتعرّض لها القيم الإسلامية اليوم:اللحظة التاريخية الأولى هي لحظة الهجرة إلى الحبشة. المهاجرون المستضعفون الناجون من نير التعذيب والتقتيل في مكة، يصلون إلى أرض يحكمها ملكٌ مسيحي، وصفه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه “ملكٌ لا يُظلم عنده أحدٌ”. وهو وصف نتردّد كثيرا في إطلاقه على أي حاكم سواء أكان مسلما أم لا، لا فقط لندرة صفة العدل، ولكن لـ “إلهية” تلك الصفة، ﴿وَمَارَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:46]،فهي صفة تشي بالولاية والقداسة.
احتضن النجاشي العادل الرعيل الأول من المسلمين، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، فوجدوا عنده فسحة للروح وللحرية. ماذا لو أسلم هذا الملك تلك الثلة من الصحابة لعمرو بن العاص موفد قريش لاسترجاعهم؟ ماذا لو سلّمهم للاضطهاد مجدّدًا؟ ماذا لو ذهبت توسّلات جعفر بن أبي طالب أدراج الرياح، وأغلق دونها الملك عقله وقلبه؟ لقد تلا جعفر آيات من سورة مريم، فاغرورقت لها عينا الملك بالدمع. فكانت شفاعة مريمية للصحابة الكرام.
عندما تُوفي هذا الملك الصالح، نعاه النبي الكريم وصلّى عليه صلاة الغائب، قائلاً:”مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّواعَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ”[رواه البخاري ومسلم]. لقد صلى النبي صلاة الغائب على ملك مسيحي ودعاه بأخيه وأخي المسلمين. هناك من يحاول اليوم التحايل على هذه الحادثة الرائعة بالقول إن ذلك الملك كان مسلمًا في السّرّ والنبي كان يعلم ذلك! ولا أدري من أين علموا هم بذلك؟!
نحن مدينون إلى مسيحيي الحبشة، إثيوبيا اليوم، بديْن لا يزول إلى قيام الساعة، لقد حموا الجيل الأوّل من المسلمين. لقد فتحوا لهم أبواب بيوتهم وآووهم وأطعموهم. وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.كيف نضع هذا أمام المجزرة التي ارتكبها الدواعش في حقّ الإثيوبيين الأبرياء في ليبيا؟ ومن قبلهم الأقباط، وكنيسة وادي النيل تاريخيا كنيسة واحدة.
المشهد الثاني، هو مشهد النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف وقد لاقى العنت من أهلها، ولاحقه السفهاء والصبيان بالحجارة حتى دميت قدماه، فلجأ إلى بستان للاحتماء من ضراوة القهر والاضطهاد، حينها رفع يديه الكريمتين بالدعاء المشهور:
“اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْيَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَاحَوْلَ وَلَاقُوّةَ إلّا بِك”.
مباشرةً بعد الانتهاء من الدعاء ظهر عدّاس المسيحي النينوي، أي الموصلي، وفي يديه عناقيد من عنب، فكان الحنان الربّاني سريع الاستجابة. كان وجه عدّاس في تلك اللحظة الحاسمة من مسيرة الإسلام وجه الرحمة الإلهية المتجلية بالحنان والحب. لقد رأى النبي في عداس قصة يونس وقومه وكفرهم به واضطهادهم إياه، وكيف نجى الله نبيه من الموت المحدق.
كيف نكافئ عدّاس وقوم عدّاس؟ وكل حبّة عنب تمثّل دينًا عظيمًا في رقاب المسلمين إلى يوم الدين لمسيحيي العراق. يقابل ذلك ما فعله الدواعش في مسيحيي العراق؟الأمثلة كثيرة، والفضائح كبيرة. وهل توجد خيانة لقيم الإسلام أخطر من هذه؟!
اليوم بمناسبة عيد الفطر، أو بمناسبة أي عيد مسيحي قادم، أدعو المسلمين أن يحملوا الهدايا إلى جيرانهم المسيحيين، وأن يحسنوا إليهم ويعبروا لهم عن مشاعر الحب والحنان عرفانًا بالجميل الذي لا يزول، وهو ليس بالجميل العابر ولا الغابر، بل كان يعبّر عن لحظة إنقاذ إلهي كانت لها نتائجها الحاسمة على مستقبل الإسلام نفسه.
كل عام وأنتم بخير، مادامت الإنسانية فينا بخير.
عدنان المقراني