الثقاقة الحديثية في أعمال مولانا جلال الدين الرومي[1]
بقلم: د. فكرت قارابينار
ترجمة: د. دوغان قبلان
جامعة نجم الدين أربكان- قونية- تركيا
ا- مقدمة
بدأ التصوف الإسلامي بالظهور مبكراً بين المسلمين واستدل من أخذ به بزهد النبي صلى الله عليه وسلّم في حياته، وقد توسّع مع مرور الزمان وتطوّر إلى أن تكونت له مدارس متنوعة ومختلفة. ولايزال هذا التيار نقطة جدال منذ نشأته حتى الآن. ويُرى أن التصوف لا يتواجد فقط بين المسلمين وإنما يتواجد بين منتسبي الأديان الأخرى. وفي الحقيقة فإن الإنسانية مهما تطورت في الاقتصاد والتكنولوجيا والمادية فإن الإنسان في النهاية يحتاج كل إلى التغذية الروحية التي لا تلبيها الماديات.
لو نظرنا إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم المثالية نجد أن لحياته وجهان؛ وجه يعكس الزهد والآخر يعكس الحياة الطبيعية. ويبدو أن الصوفيين يمتثلون بحياته صلى الله عليه وسلّم الزاهدة. لو أمعنا النظر إلى الميلات الصوفية نجد هناك خطان مختلفان؛ خط العشق والوجد، وخط اليقظة والشريعة. ويمكن أن نصنف الميلات الصوفية على شكل اتجاهات مختلفة وهذا التصنيف التقريبي يعكس كل ما عند الصوفية.
أ- اتجاه يتميز بالوجد والسكر والعشق الإلهي والميل المتعالي، منهم: بشر الحافي (227/841)، وأبو يزيد البسطامي (234/848)، وسهل التستري (273/886)، والحسين بن منصور الحلاج (309/922)، ومحي الدين بن عربي (638/1240)، ومولانا جلال الدين الرومي (672/1273)، واسماعيل حقي البروسوي(1137/1725) .
ب– اتجاه يتميز بالشريعة والعلم بالإضافة إلى الميل، ومنهم: حكيم الترمذي(295/907-310/922) ، وأبو بكر الكلاباذي(380/990) ، وأبو طالب المكي(386/996) ، وأبو عبد الرحمن السلمي (412/1021)، والقشيري(465/1072) ، والغزالي(555/1111)، وصدر الدين القنوي(673/1274) ، وأنقروي (1041/1631).
ولو اعتبرنا الاتجاه الأول وهم أهل الميل من الصوفيين فيمكن القول أنهم دائمي الاستغراق في الوجد والتعالي والسكر، وعندما يكون حالهم في هذا المقام فإنه سيظهر عليهم حالات مختلفة وغريبة كالجذب، والاستغراق، والفناء، والمحو، والجمع، والفرق، والشطحية، وهذه الحالات مقبولة بشرط أن لا تخرج الصوفي من حدود التوحيد والشريعة. وأما الاتجاه الثاني ومعظمهم من أهل العلم والشريعة، فإن هؤلاء يحكمون حياتهم الطبيعية بالمكتسبات العلمية، فيكون العلم والشريعة حاكم على سلوكم، ولهذا فإنه لا يُرى عليهم أي أثر من الشطحات أو أي شيء مخالف لمبادئ الشريعة والإسلام.
وانطلاقا من هذا فإنه لا يمكن القول إن أهل الميل الأول بعيدون عن الشريعة أو عندهم ما يخالف الشريعة الإسلامية، فالفرق بينهم هو فرق في المشرب أو المسلك؛ لأن أهل الميل الثاني يستندون على القرآن الكريم والأحاديث النبوية أكثر من أهل الاتجاه الأول. ويرجحون التفسير الظاهري على التفسير الإشاري.
إن صدر الدين القنوي ومولانا جلال الدين الرومي معاصران عاشا في نفس المدينة، وفي نفس الزمان، في العصر الثالث عشر، في مدينة قونية، ومنهجهما الصوفي يشتمل على الاتجاه الأول والثاني في التمايل. لقد كان صدر الدين القنوي مشغولا بالعلوم الشرعية والموضوعات الفلسفية، ومولانا جلال الدين الرومي كان مشغولا بالأدب وتربية الخلق ومنهمكاً في التصوف. وفي الحقيقة إنهما كانا مشغولين بالعلوم الشرعية منذ البداية.
وكما هو معلوم فإن نقطة التحوّل في حياة مولانا بدأت بمجيء “شمس تبريزي” إلى قونية في سنة (642/1244). على حسب الروايات، حيث مكث مولانا مع التبريزي ستة أشهر في خلوة في حجرة. وبعد هذا تخلى جلال الدين الرومي عن كرسي التدريس، وعن إمامة الناس في الصلاة، وحدث انقلاب كبير في حياته، وأصبح رجلا مميزا واشتهر بالعشق والجذبة فضلا عن أنه عالم وزاهد ومرشد. ومن المعروف أن ابن عربي قد أثر كثيراً في القونوي على الرغم أن القنوي لا يرى نفسه مجرد مريد بل يعتبر نفسه مشاركاً لأفكار شيخه ابن العربي.[2]
إن مكتسبات الصوفيين للحديث واستعماله في كتبهم أصبحت قضية مثيرة للجدل تحتاج إلى النقاش. ولكن الشائع أنهم لا يعرفون الحديث، وكثيراً ما يستعملون الروايات الموضوعة. وفي الحقيقة فإن هذا الشائع يحتاج إلى التحقيق علمياً. لأن بعضا من الصوفيين الذين قُدِّموا قد ذموا على أنهم يروون كثيرا من الروايات الموضوعة وهذا فيه خلاف،[3] ومع هذا فإنهم استعملوا الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة. وقد استخدموا كل رواية شائعة في زمانهم. والروايات الموضوعة التي استعملوها ليست كثيرة كما شِيع عنهم.[4] وفي الحقيقة إذا أمعنا النظر فإن نسبة استعمال الحديث في كتب السير، والتاريخ، والتفسير، والكلام، والفقه تتساوى مع كتب الصوفية،[5] وعندما ننظر في كتب الصوفية نرى أن كتبهم تختلف عن الكتب الأخرى باستعمالهم أحاديث الزهد والأخلاق والعرفان.
ومن المعلوم فإن شُراح الحديث قد اختاروا على مر التاريخ خمسة أنواع من الشروح كالإشاري، والظاهري، واللغوي، والباطني- أهل السنة، والباطني –الشيعي الإسماعلي. ولا شك فأن بيئة الشارح الإجتماعيية التي نشأ فيها، وسياسة زمانه الغالبة، وتحصيله العلمي، والبيئة الأسرية، والتمايل الفردي كل هذا كان له دور بليغ في اختيار الشارح أحدا من هذه الأنماط. وفي هذا الإطار تميز الصوفيون باختيارهم التفسير الإشاري في شرح الحديث. كما هو معلوم فأن المحدثين غالباً درسوا الأحاديث من زاوية الفقه والكلام واختاروا التفسير الظاهري لشرح الحديث، واللغويين من الشراح درسوها من حيث الصرف والنحو. وبعض الصوفيين من أهل السنة قاموا بشرح الحديث من حيث النظرة الباطنية السنية، والشيعة الإسماعلية شرحوا على حسب فكرتهم بدون رعاية أي معيار.[6] إذا نظرنا إلى أصول الصوفيين بشكل دقيق نجدهم قد اختاروا أصولاً اجتماعية في شرح الحديث. يمكن أن نعبرهم شراحاً اجتماعيين. والذي يلفت النظر أن الصوفيين يشرحون الأحاديث من جهة اجتماعية وتربوية دون أن يجعلوا الفقه والاعتقاد حاكماً على شروحهم. وبناء عليه فإنه يُرى هذا المنهج في أعمال مولانا كالمثنوي، والمجالس السبعة، وفيه ما فيه.
اا- الأحاديث في أعمال مولانا جلال الدين
كعالم إسلام ومتصوف وشاعر مولانا جلال الدين الرومي (672/1273) يعرّف نفسه بمحمد بن محمد بن حسين البلخي.[7] أستاذه الأول ومرشده أبوه بهاء الدين ولد الملقب بسلطان العلماء. عندما توفي أبوه في سنة 1231 جاء تلميذ أبيه السيد برهان الدين محقق الترمذي من قيصرية إلى قونية لرعاية الرومي بناءً على وصية شيخه بهاء الدين ولد. وقد قام بتشويق مولانا ليذهب إلى مراكز العلم مثل حلب ودمشق للدراسة، ولذلك ذهب مولانا إلى حلب ومنها انتقل إلى دمشق للدراسة، ومكث هناك أربع أو سبع سنين وأكمل تربيته الروحي على يد أستاذه برهان الدين محقق. ثم بدأ مولانا يدرّس الطلاب في المدرسة وفقا على نهج أبيه فضلا عن أنه يعظ الناس ويرشدهم في المساجد وأماكن مختلفة وكان هذا ما بين 1241-1244. والآن ننظر إلى استعمال صاحب العرفان مولانا جلال الدين الأحاديث النبوية في آثاره.
ا- المثنوي
إن كتاب المثنوي الذي يحتوي فهْمَ مولانا جلال الدين للتصوف يُعتبر واحداً من أهم المؤلفات للثقافة الإسلامية. وسبب تسمية هذا الكتاب بالمثنوي أنه يتكون من النظم المزدوج. والمثنوي يعني بالعربية النظم المزدوج الذي يتّحد شطرا البيت الواحد ويكون لكل بيت قافيته الخاصّة، وبذلك تتحرر المنظومة من القافية الموحدة. إن كتاب مولانا هذا ستة مجلدات وحوالي ستة وعشرين ألف بيت. من جهة أخرى إنه سمي بالمثنوي لأنه ذو وجوهين؛ ظاهراً وباطناً. فيى الوجه الأول هو يبين الشريعة والطريقة للسالكين وفي الوجه الآخر يبين الحقيقة لهم.
على حسب تثبيت الأستاذ علي يارديم (2006) الذي أول عالم بحث علاقة التصوف والحديث في تركيا إن مولانا جلال الدين قد استعمل الآيات الكريمة والأحاديث النبوية كعنوان فصل في المثنوي. قد جعل من الأحاديث عنواناً في ثلاث وخمسين موضعا. ومن الآيات نيفا وخمسين موضعا. هذا يعني أن نيفا ومائة عنوانٍ من العناوين تسعمائة وخمسين يتكون من آي القران والحديث النبوي.[8] هذا الاستعمال في المثنوي أصبح باختصار الحديث بحذف بعضه. هذا النمط يُسمىّ بتقطيع الحديث في أصول الحديث واستعمله الإمام البخاري في صحيحه كثيرا.
قد ثبت الأستاذ علي يارديم في رسالته الدكتورة حول تخريج الأحاديث المستعملة في المثنوي أنه قام بتخريج مائة وثماينة وخمسين(158) حديثا؛ و منهم ثماينة وسبعين(78) حديثا صحيحا؛ وثمانية وثلاثين(38) ضعيف السند؛ والسادس وعشر(16) لم يثبت مصدره؛ وثمانية(8) ثبت معنىً؛ وأربعة(4) لم تثبت صحته؛ وأربعة عشر(14) موضوعاً.[9]
ظهر هذا الرقم الصغير لأن الأستاذ يارديم لم يتناول الروايات المستعملة في المثنوي تلميحاً وإشارةً. في الحقيقة إنّ عدد الأحاديث المستعملة في المثنوي أكثر بكثير من هذا. يرى الأستاذ يارديم نسبة الأحاديث الموضوعة المستعملة الثامن في المائة قياسا على وجود أربعة عشر حديثا موضوعاً في المثنوي.[10] إن أعمال ساكلان، وأويسال[11]، وأنا الفقير تصل إلى نفس النتيجة. على سبيل المثال في دراسة تخريج الأحاديث شرح المثنوي للأنقروي وصلنا إلى أن عدد الروايات الضعيفة أربعة وعشرون (24)، والموضوعة ثمانية (8).[12] هذا ليس قصورا كبيرا للكتب التصوفية والتربوية. لأننا نجد في مجموعة الأحاديث روايات موضوعة أكثر من هذا.[13] فالحاصل إن مولانا جلال الدين أخذ المصادر الأصلية مرجعاً.
قد نشر كتاب أحاديث المثنوي لأستاذ بديع الزمان فروزانفر الإيراني في سنة 1375/1955م ش من طرف جامعة طهران. قد ثبت فروزانفر 102 بيتا حديثا في المجلد الأول و89 حديثا في المجلد الثاني و83 حديثا في المجلد الثالث و233 حديثا في المجلد الرابع و139 حديثا في المجلد الخامس و159 حديثا في المجلد الأخير ومجموع الأحاديث في المثنوي 805. قد وصل الأستاذ فروزانفر إلى العدد 805 مُعدّاً الأحاديث المكررة ومتقبلا ضرب الأمثال تحتوي روح الحديث. في الحقيقة ليس نصف هذا العدد حديثا وكثير منه الحديث المكرر.[14] وكتاب فروزانفر هذا ليس كتاب تخريج الحديث علمياً، مع هذا فاته بعض الروايات.
عندما بحثنا المثنوي نجد أن مولانا استعمل آيات القران الكريم والأحاديث النبوية وأسماء الأنبياء عليهم السلام والمدن والقرى والأمم السالفة وأسماء بعض الكتب وبعض المخلوقات الموهومة والأفكار والمفهومات قد أشيرت إليها في المثنوي.[15]
ب- فيه ما فيه
هذا الكتات أحد أثار مولانا جلال الدين النثرية. ويحتوي إجابات مولانا عن أسئلة مختلفة ألقيت اليه في مناسبات مختلفة. ألف هذا الكتاب ابن مولانا سلطان ولد أو أحد مريده بعد وفاته. في هذا الكتاب يوجد التفكير الصوفي لمولانا فضلا عن المسائل الفقهية.[16]
يبدأ فصول الكتاب إجابةً عن سؤال بعضاً وشرح أية أو حديث بعضاً. والمناقب والحكايات الشرقية والقصص مستعملة في الكتاب. في هذا الكتاب يوجد ما يقرب مائة خبر نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بعضهم كلام الكبار العرفاني وبعضهم ضرب مثل وبعضهم الأخبار الموضوعة. قد قدمت الأخبار فيها بعض التصرف.
ج- الرسائل (مكتوبات)
إن هذا الكتاب مجموعة من الرسائل كان قد كتبها مولانا إلى أصدقائه وأقاربه إرشاداً لهم أو بسبب آخر. عدد رسائله حوالي مائة وخمسين لكن يُخمن أن يكون عدد الرسائل أكثر من هذا وفي نسبة بعض رسائله إليه نظر.[17]
قد استعمل مولانا في رسائله الآيات والأحاديث وضرب المثل وكلام الكبار والشعر كما استعمله في آثاره الأخرى. على مانثبت أنه استعمل ما يقرب مائة رواية بدون مكرّر وبدون ذكر السند والراوي والمصدر الحديثي وبعضهم كلام الكبار وضرب المثل.[18]
د- المجالس السبعة
هذا الكتاب كما هو معلوم من إسمه عبارة عن مواعظ وخطب مولانا ألقاها في المنابر. يبدو أن هذه المواعظ قد ألقاها مولانا قبل أن يتعرف بشمس الترزي. صنف هذا الكتاب ابنه سلطان ولد أو أشخاص أخر. لأن في الكتاب أبياتا من كتاب سلطان ولد ابتدانامه. وفي المجلس الأول وجود بعض الحكايات من مقالات شمس يشير إلى أن بعض المواعظ قد ألقيت بعد اللقاء مع شمس التبرزي.[19] يوجد في هذا الكتاب الصغير الحجم 41 حديثا.
ر- الديوان الكبير
هذا الكتاب يعرف بديوان شمس أيضا يحتوي غزليات صوفية يتغير عدد أبياتها ما بين ثلاثين ألف إلى خمسين ألف بيت. ويوجد في هذا الكتاب كثير من الأحاديث. والذي يعرف بالرباعيات ليست كتابا مستقلا إن الرباعيات عبارة عما أخذت من هذا الكتاب.
ااا- مولانا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم: استعمال مولانا الأحاديث والأمثلة من شرح مولانا
كان مولانا جلال الدين كعالم وصوفي مرشدا حبّب الناس الله عز وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلّم في زمانه وفي يومنا هذا. يكفي بعض الأمثلة لأن نفهم عقيدته وفكرته وحسّه حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
“إن الله شغل المصطفى صلى الله عليه وسلّم في البدء به تماماً؛ وبعدئذٍ أمره “ادع الناس، وانصحهم، وأصلحهم” حزن المصطفى صلوات الله عليه وتألم وقال:”آه، يا ربّ، أيّ ذنبٍ اقترفتُ؟ لم تطردني من الخضرة؟ لا أريد الناس” قال له الحقّ: “يا محمد! لا تحزن، لن أدعك مشغولاً بالخلق. حتى في صميم هذا الانشغال أنت معي. عندما تُشغل بالناس، لن تؤخذ شعرة واحدة من رأس هذه الساعة التي تكون فيها معي، لن تؤخذ شعرة واحدة منك. في كلّ عمل تزاوله تكون في عين وصلي.”[20]
يقول مولانا جلال الدين منتقدا قول أحد يقول: “لي حال لا يتّسع فيها المكان لمحمد ولا لمَلك مقرّب” فأجابه ” أمر عجيب أن يكون لعبد حالٌ لا تتّسع لمحمد، ولا يكون لمحمد حال لا تتسع لمثلك أيها المنتن الإبط!” ويتابع: “والآن، عندما يكون لك وقت لا يسع محمداً، عجيب ألاّ يكون لمحمد تلك الحال التي لا تسع واحداً منتناً مثلك! ومهما يكن فإن هذا القدر من الحال الرّوحية التي ظفرت بها هو من بركته وتأثيره. لأنه في البدء يسكب العطايا كلها عليه، ثم توزع منه على الآخرين. السنة تمضي هكذا. قال الحقّ تعالى: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته” “أغدقنا عليك كل الأعطيات” فقال محمد: “وعلى عباد الله الصالحين….وعلم أنّ محمداً هو الدليل. وإذا لم يأتِ الإنسانُ أولاً إلى محمد فإنه لا يمكن أن يصل إلينا.”[21]
إن هذه السطور تشير إلى فكرة مولانا حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنه يرى أنّ الوصلة لا تكون إلاّ بمحد صلّى الله عليه وسلّم في الحقيقة بدون رسول الله محمد لا يكون الإسلام.
يشرح مولانا في المجلس الأول من المجالس السبعة حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ” الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ“[22] بشرح طويل. ويفيد أن الذين يتمسكون بالسنة النبوية في حال فساد أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هم أهل النجاة والهداية.[23] ويُعطي قطرةً من الماء كيف يصل إلى البحر مُجرياً من الأنهار والأودية مثال رجل يتمسك بالسنة عند الفساد. إن المتمسك بالسنة يصل إلى السعادة وأجر مائة شهيد كما وصلت القطرة الوحيدة إلى البحر في النهاية ولو كان صعباً.[24] إن في هذا التشبيه أشيرت إلى أهمية السنة والتمسك به.
ومن المثنوي أيضا
“ ويا تابع الأنبياء اطو الطريق، واعتبر أن طعن الخلق مجرّدُ هباء.
وأولئك السادة الذين طوَوْا الطريق، متى أعطَوْا آذانهم لنُباح الكلاب؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، III، 4322-4323.)
“ وعندما تكون روح الدنّ متصلة بالبحر، فإن الدنّ يزري بجيحون.
ولهذا السبب، يكون نطقه كنطق البحر، كلّ من يكون متحدثا بالنطق الأحمديّ.
تكون كلّ أقواله دُرُرَ بحر، وذلك أنّ قلبه متصل بالبحر.
وعطيّة البحر لماّ كانت من دننا، فأيّ عجب أن يستوعب البحرُ في سمكة؟! ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،819-822.)
” والمنطق الّذي لا يكون من الوحي يكون من الهوى، مثل غبار في الهواء والهباء.
وإذا كان هذا النفَسُ يبدوا للسيد خطأ، فاقرأ من أول “والنجم” بضع آيات.
إذ ما ينطق محمدٌ عن الهوى: “إن هو إلا وحيٌ يوحى”.
ويا أحمد، ما دام ليس لك من الوحي يأسٌ، فأعط أرباب الجسم التحرّي والقياس. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،4682-4685.)
إن النطق في الإنسان يأتي من القلب أو من نفسه وهواه. أما النطق الذي يأتي من القلب إذا كان من الله ومن أثر الوحي فالذات الناطق به يبينه ويعلّم الناس ما أخذه من مقام عال. إذا كان هذا العلم وكفية مجيئه لا ينطبق مع عقولكم فالتقرأوا أوائل سورة النجم الذي يقول: “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)” إن بعض علماء الحديث يُسرعون في تفسير “الضمير” في هذه الآية ويقولون إنه يرجع إلى القرآن ويقطعون أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلّم ليس وحياً. لو قبلنا كل كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحياً ماذا يحدث؟ حينئذٍ يخرج رسول الله صلّى الله عليه و سلّم من الإنسانية يتقدس ويكون الوضع أكثر خطراً. ولكنّ هؤلاء الناس يتغافلون عن حقيقة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تحت مراقبة الوحي دائماً وينسوْن أن الذي ينتظر الوحي يستطيع أن يلمس الرائحة الإلهية.[25]
عندما درسنا أعمال مولانا جلال الدين نجد أن لديه معرفة الحديث الواسعة. وهو لا يذكر سند الحديث على ما اعتاد الناس في زمانه وأحيانا لا يشير إلى الروايات التي استعملها أنه حديث أم لا. وأحياناً يذكر الحديث الصحيح بصيغة التمريض “قيل” والروايات غير الموثوقة بصيغة الجزم “قال”. هذا يعني أن مولانا اهتمّ بموضوعه الذي يريد أن يعظ الناس.[26]
أحد الروايات الموضوعة التي نراها في أعماله ” من عرف نفسه فقد عرف ربه“[27] وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت قال لكن كتب الصوفية مشحونة به يسوقونه مساق الحديث كالشيخ محي الدين بن عربي وغيره.[28] والآخر رواية ” كنتُ كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فبي عرفوني” وهذا الخبر أيضاً واقع كثيرا في كلام الصوفية ، واعتمدوه وبنوا عليه أصولا لهم.[29]
فالنعطي بعض الأمثلة من شرح مولانا
ا- الشريعة
يتناول مولانا موضوع الشريعة من وجوه مختلفة في أعماله كما يتناول كل الموضوعات الدينية.
” فإن الشرع يشير بالرأي من أجل دفع الشر، ويحبس الشيطان في زجاجة الحجة.
فلا يزال بالبرهان والأيمان والنكوص “عن الإدعاء”، حتي يدخل الشيطان الفضولي في القارورة.
الشرع مثل الميزان الذي يجمع رضاء الضدين، على سبيل اليقين، في الجدّ وفي الهزل.” ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، V،1211-1213.)
ب- الصلاة
يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُ فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.[30]
عندما سأله أمير بروانه: هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصلاة؟ فأجاب: الصلاة ولكن الصلاة التي ليست هي هذه الصورة الظاهرة فقط. هذه قالب الصلاة، لأن لهذه الصلاة بدايةً ونهايةً. وكلّ شيء له بداية ونهاية يكون قالبا.ً لأن التكبير بداية الصلاة، والسلام نهايتها. والشهادة مثل ذلك فإنها ليست الصيغة التي تقال باللسان فقط. لأن تلك الصفة أيضا لها بداية ونهاية. وكل شيئ يعبر عنه بالحرف والصوت ويكون له أوّل وآخر يكون صورةّ وقالباّ، أما روحه فغير محدد ولا متناه، وليس له أوّل ولا آخر. وثمة شيئ آخر، هو أنّ هذه الصلاة أظهرها الأنبياء. والآن فإنّ نبيينا صل الله عليه وسلّم الذي أوضح لنا هذه الصلاة، هكذا يقول: لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُ فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
وهكذا تحققنا من أن روح الصلاة ليس هذه الصورة الظاهرة فحسب، بل هو استغراق تام وغياب تبقى فيه هذه الصور جميعا خارجا، ليس لها مكان هنالك حتي جبريل عليه السلام، الذي هو معنىً محضٌ، ليس له مكان أيضا.[31]
ت- الزكاة والصدقة
” فالسّحاب يشحّ بالمطر نتيجةً لمنع الزكاة، ومن الزنا ينتشر الوباء في أنحاء البلاد.” ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، I،89.)
إن هذا البيت يشير إلى الحديث المروي عن كعب بن مالك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: “إِذَا رَأَيْتَ الْقَطْرَ قَدْ مُنِعَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فَمَنَعَ اللَّهُ مَا عِنْدَهُ وَإِذَا رَأَيْتَ السُّيُوفَ قَدْ عَرِيَتْ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدْ ضُيِّعَ؛ فَانْتَقَمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَإِذَا رَأَيْتَ الزِّنَا قَدْ فَشَا؛ فَاعْلَمْ أَنَّ الرِّبَا قَدْ فَشَا [32]“
إن الزكاة في اللغة الزيادة، يقال زكا المال إذا نما وازداد وتستعمل بمعنى الطهارة. وفي الشرع عبارة عن إيجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالك مخصوص.[33] إنه شفقة وتعاون. ومرض الوباء يعنى الطاعون أو الأمراض المعدية. الذي يُفهم من البيت إذا لا يُعطي الأغنياء زكاتهم إلى الفقراء سوف لا تمطر السماء. وإذا كثر الزنا كثرت الأمراض المعدية القاتلة.[34]
” ووسيلة دفع البلاء لا تكون الظلم، بل الوسيلة هي الإحسان والعفو والكرم.
لقد قال(النبي): الصدقة مردّ للبلاء، وداو مرضاك بالصدقة، أيذها الغنى
وليس من قبيل الصدقة إحراق الفقير، وإصابة العين التي تفكّر في الحلم بالعمى. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،2558-2600.)
إن لكلمة البلاء معانٍ كثيرة. يشمل هنا كلّ المصائب التي تصيب الإنسان. دفع اصابة البلاء وإبعاده عن الناس يستلزم سعياً بشريا. إذا تعاون الناس ما بينهم تزول البلايا تلقائيا. ولمصائب الغير المتوقعة ينصح لنا مولانا أن نتبع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم. إن الإسلام يشجع المسلمين أن يتداووا إذا مرضوا ويُقوي الدواء بالإنفاق والصدقة أيضاً. والذي ينقصنا أن نحل كل مشكلاتنا بالعقل فقد. هذا خطأ كبير.[35]
ج- علاقة العالم والسياسة
يشرح مولانا علاقة العالم ورجال الدولة في حضور أمير بروانه بقول النبي عليه السلام: “شر العلماء من زار الأمراء وخير الأمراء من زار العلماء نعم الأمير على باب الفقير وبئس الفقير على باب الأمير.”[36]
فهم الناس ظاهر هذا القول على أنه لا ينبغي للعالم أن يزور الأمير لكي لا يكون من شرار العلماء. وليس معنى هذا القول كما ظنّوا، بل معناه أن شرّ العلماء من يحصل على مدد من الأمراء، ويكون صلاحُ حاله وسداده بسبب الأمراء، وخوفا منهم. وأن يكون علمه منذ أول الأمر بنية أن يصله الأمراءُ، ويقدموا له آيات الاحترام، ويخلعوا عليه المناصب. وهكذا فإنه بسبب الأمراء أصلح نفسه، وتحوّل من الجهل إلى العلم. وعندما غدا عالماً، غدا مؤدباً بسبب الخشية منهم وملاينتهم وكان خاضعا لسيطرتهم وتوجيههم. وعند ذلك يمضي في الطريق الذي رسموه له طوعاً أو كرها. والحاصل أنه سواء أكان الأمير هو الذي يزوره شكلياُ أم أنه يذهب هو لزيارة الأمير، هو الزائر في أيّ حال والأمير هو المزور. وعندما لا يكون العالم متحليا بالعلم من أجل الأمراء، بل يكون علمه أولاً وآخراً من أجل الله، عندما يكون سلوكه وعادته وفق الطريق الصحيح بحيث يكون ذلك طبعاً له، لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر غيره.[37]
ح- ستر العيوب
” واستُر حتى يسترالله عليك، وما لم تَر أمناً، لا تضحك على أحد. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،4540.)
” وما أسعدها تلك الروح التي رأت عيبها، وكلّ من تحدث عن عيب فقد شراه لنفسه. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، II،3045.)
” وهؤلاء الخلق غافلون عن أنفسهم أيها الأب، فلا جرم أنهم يتحدثون عن عيوب بعضهم.” ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، II،885.)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ”[38] للأسف إن الناس يتغافلون عن أحوالهم ولا يسترون عيوبهم.
س- الصورة والمعنى (الجهاد الأكبر)
يقبل مولانا الصورة مثل الجماد ويرى أن الذي يرى الصورة فقط لا يصل إلى المعنى.
مولانا: ” ولو كان ابنُ آدم إنسانا بالصورة، لكان أحمد وأبو جهل مساويَيْن. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، I،1023.)
يصف مولانا الإنسان أنه موجود يتركب من قُوى الحيوانية والإنسانية. إن قُوى الحيوانية الشهوات والرغبات. ولكن لبّ الإنسان وغذاؤه العلم، والحكمة، وجمال الله عز وجلّ. على حسب مولانا جانب الإنسان الحيواني أن فراره من الله وجانبه الإنسانية أن يفرّ من الدنيا.[39]
قد شرح مولانا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم ” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”[40] عندما رجعوا من غزوة بدر؛ يعني، كنا في مجاهدة الصّور، وفي مراجعة الأعداء “الصّوريّين؛ والآن نواجه جيوش الفِكر، لتهزم الفِكر الجيدة الفكرَ السيدة، وتخرجها من مملكة الجسد. هذا إذن على الحقيقة الجهادُ الأكبر والمعركة العظيمة. وهكذا فإن الفِكر لها تأثيرها، لأنها تعمل دون توسّط الجسد، مثلما أن العقل الفعّال يدبر الفلك دون آلة.[41]
بناءً على هذا يمكن أن نقول يرى مولانا أن أكبر الجهاد تغيير أفكار الإنسان.
خ – الجماعة رحمة: اتحاد المجتمع
إن مولانا يرى أهمية وحدة وأهمية المسلمين لذلك يستعمل حديث “الجماعة رحمة”[42] تقطيعا في أعماله ويشرحه. ويقبل ضرورة الإنسان أن يعيش في المجتمع سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الإعتزال عن الناس، والرهبانية، واللجوع إلى الخلوة عنده بدعة. حذر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمته أن يعيشوا منعزلين عن المجتمع.
يقول في هذا:
لقد نهى عن الترهب ذلك الرسول، فكيف تعلقت ببدعة أيها الفضوليّ؟!
إن الجمعة والجماعة في الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرط.
وتحمل إيلام الأشرار بصبر، ونفع الناس كالسحاب!!
إن خير الناس أنفعهم للناس أيها الأب، وإن لم تكن حجرا فلم تصاحب المدَر؟!
فعش بين الأمة المرحومة، ولا تترك سنة أحمد، واخضع للحكم. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،483-488.)
” فالمصلحة في ديننا هي الحرب والمعمعة، والمصلحة في دين عيسى هي الغار والجبل. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،499.)
” فكن صديقا حتى تر الأصدقاء بلا عدد، ومن لا أصدقاء له يبقى بلا مدد.
إن الشيطان بمثابة الذئب وأنت كيوسف، فلا تترك جوار يعقوب أيها الصفيّ.
والذئب في الأغلب آخذ لتلك الشاة التي تنبت عن القطيع وتسير وحدها.
وذلك الذي ترك السنة مع الجماعة، ألم يسفك دمه في هذا المكان الملئ بالوحوش؟!
فالسنة هي الطريق، والجماعة هي الرفيق، وتسقط في المضيق دون طريق ودون رفيق! ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،503-507.)
يقترح مولانا أن تعيش الأفراد سوياً في الوحدة والتضامن، وأن تُحلّوا مشاكلهم مع بعض، وأن لا تنفردوا من المجتمع، وأن يكونوا موحدين كلمتهم يقول كلّ هؤلاء سنة. لأن الفرد الواحد لا يوفق لوحده كما هو مطلوب.
” هناك غنائم وأرزاق في خزينة الكرم، مهما سعيتَ وحدك لتحصل عليها هناك فلن تحصل عليها، ونحن أيضاً من دونك ههنا مهما جددنا في الطلب فلن نحصل عليها؛ مثل حديد المِقدحة الذي مهما تحرّك وحده من دون الحجر فلن تظهر شرارةُ النار؛ وكذلك الحال مع الحجر من دون حديد، وكذلك الحال مع الإثنين من دون الخِرقة، وكذلك الحال مع الثلاثة من دون يد القادح؛ ذلك لأن “الجماعة رحمة” ولا يَعُدّ هذا الكلام تمثيلا بل يعده تحقيقا وواقعاً، ويعمل بذلك متوكّلا على ربّه. إذا رششت الماء على الرأس فإن الرأس لا ينكسر، وإذا نثرت التراب على الرأس فإن الرأس لا ينكسر، أما إذا ضربت الماء والتراب أحدهما بالآخر ثم ضربت الرأس فإن الرأس ينكسر: “الرفيق ثم الطريق” و”الجار ثمّ الدار”.[43]
ويقول مولانا إن الحياة الإجتماعية مليئة بالخواطر، وهناك أشخاص أشرار يوجدون المشاكل لمجتمعهم.
” ومن هنا فطريق الدين ملئ بالمخاطر والفتن، وهو ليس طريق كلّ مخنث الأصل.
وفي الطريق، هذا الخوف امتحانات للنفوس، يكون كالمنخل في تمييز النخالة. ؟” (المثنوي، ترجمة:إبراهيم الدسوقي شتا، VI،513-514.)
إن مولانا يشير إلى ضرورة الحياة الإجتماعية في الإسلام، إن الحياة الفردية والمنزوية غير مرغوبة في الإسلام. لذلك جاء فيا الآية الكريمة ؛ ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات،13). يعني فاليتعارف الناس مع بعضهم. هذا يدل على أهمية الحياة الإجتماعية في الإسلام.[44]
د- العلاقة بين الزواج والمجتمع وعمارة المساجد
يرى مولانا جلال الدين رابطة بين الزواج والمجتمع مشيراً إلى حديثيْ ” لا رهبانية في الإسلام“[45] و|” الجماعة رحمة.” ويقول بالزواج يتكون المجتمع والأمة ويتوصل إلى المجتمع بالفرد ويُحصل على الوحدة والتضامن. ويفيد أن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم سعى في المجتمع.
“ عمل المصطفى صلوات الله عليه من أجل الجماعة؛ لأن لاجتماع الأرواح آثاراً عظيمة وخطيرة، أما في الوحدة والانفراد فلا يحصل شيء من ذلك. هذا هو السرّ في بناء المساجد؛ ليجتمع فيها أهل المحلّة وتتضاعف الرّحمة والفائدة. أبعد ما بين المنازل من أجل التفريق وستر العيوب، تلك هي فائدتها. وقد بُنيت المساجد الجامعة لكي يجتمع فيها أهل المدينة جميعاً. وأًسست الكعبة لكي يلتقي عندها أغلب الخلق من المدن والأقاليم.“[46]
يضع مولانا الزواج والأسرة على أساس المجتمع ويرى استمرار المجتمع بالزواج. وإفادته أن الإنسان لا يعيش وحده ولا يحصل أثراً مهم جدا. لأنه يشير إلى حياتية وضرورة الإجتماع للإنسان. وتفسيره الإجتماعيّ للمساجد أيضاَ مثير للنظر. أنه يرى رابطة بين المسجد والحيّ، وبين الجامع والمدينة، وبين الكعبة والمسلمين كلهم. هو يصل من المحلية إلى الدولية. ويرى أن تكون الجماعة رحمةً في الزواج، والأسرة، والحيّ، والمسجد والكعبة. إن هذا الفكر مهم في فهم العلاقات بين الدين والمجتمع.[47]
ذ- مسألة الظاهر والباطن في القران الكريم
يشبه مولانا القرآن الكريم ديباجا ذا وجهين يعنى ظاهراً وباطناً حيث في تفسير الآية ” وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة، 125)“يقول أهل الظاهر: “إن المراد من هذا (البيت) هو الكعبة، التي كلّ من يأوي إليها يظفر بالأمان من الآفات، ويحرّم فيها الصيد، ولا يجوز فيها إلحاق الأذى بأي إنسان، وقد آثرها الحق تعالى لتكون بيتاَ له.” وهذا صحيح وطيب؛ إلاّ أنّ هذا ظاهر القرآن. أما أهل التحقيق فيذهبون إلى أنّ (البيت) المراد هنا باطن الإنسان؛ أي: “يا ربّ، أخلِ باطني من الوسواس والمشاغل النفسانية وطهّره من الشهوات والفِكَر الفاسدة والباطلة؛ حتى لا يبقى فيه خوف ويظهر فيه الأمن، ويكون كلّه محلاَ لوحيك، ولا يكون فيه طريق للشيطان والوسواس.”[48]
يُحكى أنه في زمان الرسول صلى الله عليه وسلّم كلّ من حفظ من الصحابة سورة، أو نصف سورة عن ظهر قلب، دعَوه عظيماً وأشاروا إليه بالبنان: “إنه يحفظ سورةً- ذلك لأنهم هضموا القرآن. أكل منّ أو منوَين من الخبز أمر عظيم. لكن الناس الذين يضعون الخبز في أفواههم دون مضغ ثم يلفظونه، في مقدورهم أن يأكلوا آلاف الأطنان بتلك الطريقة. وفي هذا يقول: “رُبّ تال للقرآن والقرآن يلعنه”[49] وهذا في حقّ الشخص الذي لا يقف على معنى القرآن.[50]
يشبه مولانا الذي يقرأ القرآن بدون أن يعرف معناه بالأطفال الذين يلعبون بالجوز، عندما تقدّم لهم لُبّ الجوز أو دهن الجوز يرفضونه قائلين: “إن الجوز هو ذلك الذي يخشخش. أما هذا فليس له صوت ولا خشخشة.” إنّ خزائن الله كثرة، وعلومه كثيرة. فإذا قرأ الإنسان هذا القرآن بعلمٍ، فلِم بردّ القرآن الآخر؟”[51]
ر- المؤمن مرآة المؤمن
“ومثلما تنفر أنت من أخيك، اعذرْه أيضا إذا نفر منك وتأذّى؛ تأذيك عذر له؛ لأن تأذيك يأتي من رؤيتك تلك العيوب، وهو أيضا يرى العيوب نفسها؛ فقد قال النبي:”المؤمن مرآة أخيه” فلم يقل: الكافر مرآة المؤمن. فالكافر ليس ليده تلك الخصية؛ لأنه ليس مرآة لآخر، ولا يعرف إلاّ ما يراه في مرآته هو.[52]
ز- التزام مولانا بالكتاب والسنة
إن قول المشهور عن التزام مولانا بالكتاب والسنة هو:
إنني خادم القرآن
وذرة غبار في طريق المصطفى المختار
إذا نقل أحد مني أقوالا غير هذا
وإني لأشكو أمري إلى الله من هذه الإسنادات
وأُبرئُ نفسي من قائلها[53]
س- وصية مولانا
قد نعرف من كتاب منافب العارفين أن مولانا جلال الدين الرومي كان ولايزال أوصى إصدقاءه دائماً حتى في مرضه الذي مات فيه.
” أوصيكم بتقوى الله في السرّ والعلانيةِ
وبقلّة الطعام وقلّة الكلام
وهجرة المعاصي والآثام ومواظبة الصيام،
ودوام القيام وترك الشهوات على الدوام،
وإحتمال الجفاء من جميع الأنام وترك مجالسة السفهاء والعوام،
ومصاحبة الصالحين والكرام،
فإن خير الناس من ينفع الناس وخير الكلام ما قلّ ودلّ. والحمد لله وحده والسلام على من وحّده.“[54]
النتيجة
إنّ مولانا جلال الدين الرومي عالم مسلم يعرف العلوم الإسلامية يعني الشريعة ودرّس في مدرسته سنوات. هذا يعني أنه شخصية قوية من أهل المعرفة ومتمكن وراسخ في العلوم الشرعية.
وأن يستعمل مولانا في أشعاره كثيرا من الآيات والأحاديث فهذا يشير إلى نجاحه الكبير. والمهم هنا أن مولانا يعرف الأحاديث الكثيرة مع أنه لا يُعتبر عالم بالحديث أو مهتم به. وبمنهجه هذا أظهر للناس أنه يمكن الإرشاد بطريقة الشعر . وقد علّم أن استعمال الشعر لا للشعر وإنما للدعوة والإنسان. وبهذا فإنه فتح مجالا جديدا في استعمال الشعر في الدعوة.
ولم يمنع مولانا نفسه أن يستعمل الأخبار المشهورة في زمانه بدون رعاية على صحّتها. ولكنّ معظم الأحاديث التي استعملها مولانا صحيحة والبعض منها ضعيف والقليل منها موضوع.
عندما قرأت آثاره يرى أن فيه ذهنًا صافياً وكافياً يمكّنه أن يعلّق في أي موضوع شاء. وبسبب معرفته القرآن والحديث هو استعملهما بسهولة وبشكل التقطيع.لأنه أخذ من الآيات والأحاديث كلماتٍ تحتاج إليه إذا كان ما يفصله منها لا يتعلق بما قبلها ولا بما بعدها.
.الهوامش.
[1] هذه المقالة قد نشرت في مجلة معرفة التركية المنشورة في قونية بعنوان:
Fikret Karapınar, Hz. Mevlânâ’nın Eserlerinde Hadis Kültürü, Marife, Bahar 2015, ss. 127-141.
[2] Demirli, Ekrem, “Sadreddin Konevî”, DİA. İstanbul 2008, XXXV, s. 424.
[3] Aydınlı, Abdullah, Doğuş Devrinde Tasavvuf ve Hadis, Seha Neşriyat, İstanbul 1986, s. 171-177, 223.
[4] انظر لمعلومات أكثر في هذا
Saklan, Bilal, Hadis İlimleri Açısından Muhaddis-Sûfîler ve Sûfî-Muhaddisler (H. IV./M. X. Asır), Konya 1997; Yıldırım, Ahmet, Tasavvufun Temel Öğretilerinin Hadislerdeki Dayanakları, Ankara 2000; Uysal, Muhittin, Tasavvuf Kültüründe Hadis -Tasavvuf Kaynaklarındaki Tartışmalı Haberler-, Konya 2002; Karapınar, Fikret, Muhaddis Sûfîlerin Hadis Usulü ve Hadisleri Anlama Yöntemleri, (H.IV.-V./X.-XI. Asır), Adal Ofset, Konya 2009.
[5] Yardım, Ali, Mesnevî Hadisleri, Damla Yayınları, İstanbul 2008, s. 288.
[6] انظر لمعلومات أكثر
Karapınar, Fikret, “Hadis Şerhlerinde Kullanılan Yorumlama Biçimleri “…Oruç bana aittir…” Hadisi Örneği”, Marife Dergisi, Yıl: 9, S: 1, Bahar 2009, ss. 57-98.
[7] Mevlânâ Celâleddîn, Mektuplar, çev: Abdülbâki Gölpınarlı, İnkılâp Kitabevi, İstanbul 1999, s. 122.
[8] Yardım، نفس المصدر، ص، 12، 290.
[9] Yardım ، نفس المصدر، ص، 273، 293.
[10] Yardım ، نفس المصدر، ص،277، 294.
[11] Saklan ، نفس المصدر؛ Uysal ، نفس المصدر.
[12] Koçkuzu, Ali Osman-Karapınar, Fikret, Mesnevî’den 100 Hadis Şerhi –Ankaralı İsmail Rusûhi Dede-, Adal Ofset Konya 2009, s. 205-206.
[13] Yardım, age. s. 294.
[14] Yardım, age. s. 295-296.
[15] Koçkuzu, Ali Osman, Mesnevî’de Hz. Peygamber, Rûmî Yayınları, İstanbul 2006, s. 30.
[16] Mevlânâ, Celâleddîn Rûmî, Fîhi Mâ Fîh, (Ahmed Avni Konuk Mukaddimesi), ter: Ahmed Avni Konuk, haz: Selçuk Eraydın, İz Yay. İstanbul 2013, s. XII-XII
[17] Eren, “Mevlânâ’nın Mektuplarında Hadislerden Mesajlar”, s. 263-264.
[18] Eren, “Mevlânâ’nın Mektuplarında Hadislerden Mesajlar”, s. 271.
[19] Mevlânâ, Mecâlis-i Seba (Yedi Meclis), (Abdülbâki Gölpınarlı Mukaddimesi), s. 7.
[20] مولانا، فيه ما فيه، ترجمة: عيسى على العاكوب، بيروت: دار الفكر المعاصر، بدون تاريخ، ص، 111.
[21] مولانا، فيه ما فيه، ص، 318-319.
[22] الطبراني، معجم الأوسط، V، 315.
[23] Mevlânâ Celâleddin, Mecâlis-i Seba (Yedi Meclis), çev: Abdülbaki Gölpınarlı, İnkılâp Kitabevi, İstanbul 2010, s. 12-14.
[24] مولانا، المجالس السبعة، ص، 16.
[25] Koçkuzu, Mesnevî’de Hz. Peygamber, s. 507 vd.
[26] Eren Mehmet, “Mevlânâ’nın Mektuplarında Hadislerden Mesajlar”, Marife Dergisi, yıl. 7, S: 3, Kış 2007, s. 271.
[27] أنظر مثالاً؛ ” ومن هنا فإن الرسول قد شرح هذا الأمر، عندما قال: “مَن عَرف نفسَه فقدْ عرفَ ربّه” المثنوي، V، (2114);. أنظر لتخريج الخبر؛ حكيم الترمذي، بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد و اللبّ، تحقيق: Nicholas Lawsen Heer، قاهرة، 1958، ص، 93؛ السلمي، مسألة درجات الصادقين، تحقيق: سليمان آتش، آنقرة، 1981، ص،147؛ أبو نعيم، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، بيروت، 1405، VIII، 15؛ الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت بدون تاريخ، IV، 26، 301؛ المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، مصر 1356، I،224؛ ألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السّيئ في الأمة، رياض، 1992، I، 165-166.
[28] العجلوني، كشف الخفاء، II، 1529.
[29] أنظر مثالا، المثنوي، II، 367. أنظر لتخريج الخبر؛ الزركشي، التذكرة في الأحاديث المشتهرة، تحقيق، مصطفى عبد القدير عطاء، بيروت 1986، ص، 236؛ السخاوي، المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق، عبد الله محمد الصديق، مصر 1956، ص، 327؛ السمهودي، الغماز على اللماز في موضوعات المشهورات، بيروت 1986، 173؛ السيوطي، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، تحقيق، محمد عبد القدير عطاء، قاهرة 1987، 342؛ علي القارئ، المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، تحقيق، عبد الفتاح أبو غدّة، بيروت 1986، ص، 269.
[30] علي القاري، الأسرار المرفوعة، I، 229.
[31] مولانا، فيه ما فيه، ص 14-15؛ كتاب فيه ما فيه، ص، 41.
[32] ابن أبي شيبة، المصنّف، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الرياض: مكتبة الرشد، 1409، VII, 484 (37419) . حديث مقطوع. أنظر لشاهده ابن ماجه، فتن 22 (4019)..
[33] الموصلي، الإختيار لتعليل المختار.
[34] Konuk, Ahmed Avni, Mesnevî-i Şerîf Şerhi, Gelenek Yayınları, İstanbul 2004, I, 117.
[35] Koçkuzu, Mesnevî’de Hz. Peygamber, s. 487-488; 38-39.
[36] أنظر لمعلومات أكثر حول علاقة العالم والأمير إلى السيوطي، ما رواه الأساطين في عدم المجي إلى السلاطين، تحقيق، مجدي فتحي السيد، طنطا: 1991، ص، 23-70.
[37] مولانا، فيه ما فيه، ص، 27-28.
[38] الترمذي، القيامة، 53.
[39] مولانا، فيه ما فيه.
[40] العجلوني، كشف الخفاء، ص،424.
[41] مولانا، فيه ما فيه، ص، 100-101.
[42] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ. المناوي، فيض القدير، III، 470.
[43] مولانا، رسائل مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة:عيسى علي العاكوب، ص، 116-117.
[44] مولانا، مثنوي.
[45] العجلوني، كشف الخفاء، II، 466.
[46] مولانا، فيه ما فيه، ص، 109.
[47] Okumuş, “13. Yüzyıldan 21. Yüzyıla: Mevlânâ’nın Mânâ Toplumundan Çağdaş Topluma Sosyolojik Yansımalar”, s. 131 vd.
[48] مولانا، فيه ما فيه، ص، 239.
[49] الغزالي، الإحياء، I، 274. لم نثبت في الكتب الحديثية الأصلية.
[50] مولانا، فيه ما فيه، ص، 132.
[51] مولانا، فيه ما فيه، ص، 131.
[52] مولانا، فيه ما فيه، ص، 58.
[53] مولانا، رباعيات، ترجمة: عبد الباقي قولبنارلي، إسطنبول 1982، ص، 152.
[54] الأفلاكي، مناقب العارفين، II، 584-585.