زراعة النّور في كون منشور
الحَرْثَة الثّانية.. زراعة الشّكر في الأرض
بقلم: د. سعاد الحكيم
ربط اللّه عزّ وجلّ في قرآنه الكريم الشّكر بالذِّكر، وذكر نقيضه وهو الكفر بنعم اللّه سبحانه، فقال تعالى: )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِي ([البقرة/152]، ولكنّ الإنسان قليل الصبر يضيق صدره من أيّ حرمان ومن أيّ شيء يصيبه من نواكد الدنيا، ينسى نعم اللّه كلّها ويجعل حرمانه قبالة ناظريه، يُمسي عليه ويُصبح، قال تعالى:) وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ ([سبأ/13]. وقال عز وجل: )قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ([عبس/17].
والإنسان بطبعه يميل إلى التنعّم ويألفه، وأيمّا نعمة يعيش فيها تصبح لديه كالحقّ المكتسب له، نراه يأخذها ثم يطالب بغيرها أعلى وأكثر وأشمل.. وقد يلهيه أحياناً طلب المزيد من النعم عن الشكر للّه المنعم عز وجل.. ومن الناس من يرى نفسه أهلاً لكل نعمة يتنعّم بها، وأن هذه النعمة لم تصل إليه إلا بجهده الشخصي وذكائه الوقّاد ومعرفته الواسعة ومهارته في الاستفادة من الفرص المتاحة، ولا يرى لغيره، من المحيطين به وشركائه في معركة الحياة، حقاً في كلمة شكر أو في فعل شكر.. حتى لا يرى لله سبحانه فضلاً في تمكينه من النجاح على مستوى الذات والظروف. وقد أخبر تعالى عن هذه الفئة من الناس، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الزمر/ 49].. والمثال في هذا الباب هو قارون. يقول تعالى ذاكراً كفره بنعمة الله ونسبته الفضل لنفسه: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص/ 78].
أما سيد البشر محمد رسول الله عليه صلوات الله، فقد علّمنا أن شكر الله سبحانه ليس ثناءً باللسان فقط وإن كان واجباً، ولكنه فعل أيضاً وهو حسن عبادته تعالى.. روي عن عطاء أنّه قال: «دخلت على عائشة رضي اللّه عنها. فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وقالت: «توضّأ ليلة فلم يكثر صبّ الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك يبكي، حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة. فقلت: يا رسول اللّه ما يبكيك، وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخـّر؟ قال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً».. إذن الشكر لله تعالى هو قول وفعل معاً..
حقيقة الشكر:
الشكر من جملة مقامات السالكين، ويتحقّق بأن نعلم بـأنّ ما نتمتّع به من خيرات هو من المنعِم سبحانه، ونفرح لحصولنا على إنعامه عز وجل، ونعمل للقيام بما يريده سبحانه ويحبّه. فالشكر على نعم اللّه تعالى يكون بأن نعترف أولاً أنّها نعمته تعالى علينا، وأن نفرح بأننا محلّ للإنعام الإلهي علينا ثانياً، وأن نعمل ثالثاً ما يحبّ تعالى شكراً له على نعمه. لذلك قال الشبلي: «الشكر رؤية المُنْعِم، لا رؤية النعمة».. وقال أبو عثمان: «شكر العامّة على المطعم والملبس، وشكر الخواصّ على ما يَرِدُ على قلوبهم من المعاني».
قال رسول اللّه عليه صلوات الله لرجل: « كيف أصبحت؟ قال: بخير. فأعاد صلى الله عليه وسلم السؤال حتى قال في الثالثة: بخير أحمد اللّه وأشكره. فقال صلى الله عليه وسلم: هذا الذي أردت منـك».. فالإنسان إن سئل عن حاله كان بين أن يشكر أو يشكو أو يسكت. ولكن ليعلم أن الشكر طاعة، والشكوى معصية، فإن لم يقدر على الصبر عن الشكوى فلتكن شكواه لخالقه ولمن هو أعلم بــه، والقادر وحده على رفع البلاء عنه.. والشكوى لغير اللّه مذلة، كما يقول الحكماء.
وأدنى درجات الشكر هي شكر اللسان.. روي أنّ وفداً قدم على عمر بن عبد العزيز، فقام شاب ليتكلّم، فقال عمر: الكبر، الكبر. فقال: يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسنّ لكان في المسلمين من هو أسنّ منك. فقال: تكلّم. فقال: لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة، أمّا الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأمّا الرهبة فقد أمّننا منها عدلك. فقال عمر: فمن أنتم؟ قال: نحن وفد الشكر، جئناك نشكرك وننصرف».. وقيل في ذلك:
ومـــــن الــــرزيةِ أنّ شكـــريَ صامتٌ
عمّـــا فعلت، وأنّ بــــرّك نـــاطقُ
وأرى الصنيعةَ منك ثـــــم أسرّهـــــــا
إنـــــي إذن ليدِ الكـــــريمِ لسـارقُ
وكلّ الأقوال صحيحة في الشكر ولكن بعضها يعلو على بعض، فمن قائل: «إنّ الشكر هو قول اللسان مع بعض أحوال القلب»، ومن قائل: «إنّ الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه»، ومن قائل «إنّ الشكر هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحدود».. كلّ ذلك صحيح.
والإنسان لا يستطيع أن يقوم بحقّ شكر نِعَم اللّه عز وجل، لأنّ الشكر نفسه عبادة، وفضل من اللّه يستوجب الشكر.. ولا يمكن شكر الشكر إلا بنعمة أخرى، ويتسلسل الأمر فيكون الشكر بحكم المستحيل. وهذا الخاطر – يقول الإمام الغزالي – خطر لموسى عليه السلام، فقال: «يا رب كيف أشكرك، وشكري لك نعمة أخرى منك توجب عليّ الشكر لك. فأوحى اللّه تعالى إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني».
ألوان النعم الإلهية:
قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم/34].. وكيف نحصيها وكلّ وجودنا نعم إلهية، عفوك اللهمّ، كيفما نظرنا حولنا نرى نعماً بنا محيطة.. البدن وما حوى، والروح وما تجد، والعقل وما درى، والنفس وما تطمئنّ.. وإذا خرجنا عن الإنسان ونظرنا في الأقطار، لا نحصي النعم.. الهواء والماء والتراب والنار، النور والظلام، الليل والنهار، الشمس والقمر، الأرض والسماء، الجبال والسهول، البحار والأنهار، النبات والشجر.. كيف نحصي النعم ونشكر، أبلسان خلقه اللّه وأنطقه، أم ببدن سوّاه اللّه ويسّره لطاعته، أم بقلب سلّمه اللّه وعرّفه مجـاري نعمته؟! عفوك اللهمّ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. وتمّم اللهمّ نعمتك علينا بفضلك.
قال رجل: «اللهمّ إنّي أسألك تمام النعمة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تعلم ما تمام النعمة؟ فقال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: تمام النعمة دخول الجنة».. فكلّ ما في وجودنا، وما في الوجود من حولنا، هو من نعم اللّه علينا، وأولها النعم الدنيوية. قال بعض الحكماء وقد سئل: ما النعيم؟ فقال: «الغنى، فإنّي رأيت الفقير لا عيش له. قيل : زدنا. فقال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا عيش له. قيل: زدنا. قال: العافية، فإني رأيت المريض لا عيش له. قيل: زدنا. قال: الشباب، فإني رأيت الهرم لا عيش له».. فكلّ ما ذكره هذا الحكيم هو إشارة إلى نعيم الدنيا، ولكنه أيضاً نعيم معين على الآخرة. لذلك قال رسول الله عليه صلوات الله: «من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنمّا حيزت له الدنيا بحذافيرها».
إنّ نعم اللّه عز وجل تحيط بنا لا نحصها، ولكن غالباً ما تكون أعيننا عنها غافلة، لأنّنا لا نعدّ من النعم ما يعمّ الخلق ويصل إلى جميعهم في جميع أحوالهم، إننا لا نشكر على النعم الإلهية المبذولة لعامّة الخلق دون اختصاص بنا، كنعمة الهواء الذي نتنفسه مثلاً، والشمس التي تشرق كلّ يوم، فهذه من النعم العامّة التي تغفل عيوننا عــن رؤيتها، لأننا لا ننظر إلا لما يخصّنا به اللّه عز وجل من النعم.. يقول تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل/ 78].
إن النعم المشتركة المبذولة للخلق كافّة، لا نشعر بها إلا حين الفقد، فالهواء مثلاً لا نشعر بأنه نعمة إلا إن أُخذ بمختنقنا لحظة، وانقطع عنا الهواء.. دخل ابن السماك على الخليفة، ورأى بيده كوز ماء يشربه فقال له الخليفة: عظني. فقال: لو لم تعطَ هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك، وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه؟ قال: نعم. فقال: لو لم تعطَ إلا بملكك كله، فهل كنت تترك ملكك؟ قال: نعم. قال: فلا تفرح بملك لا يساوي شربة ماء.
كلّ ذلك، لنرى نعم الله علينا، وأنّ نعمة الله تعالى على الإنسان في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلّه. لكنّ الطباع تميل إلى النظر إلى النعم الخاصّة، دون العامّة.. روي عن بعض السلف قوله: «إنّ عبداً أغناه اللّه عن ثلاثة فقد أتّم عليه نعمته: عن سلطان يأتيه، وعن طبيب يداويه، وعمّـا في يد أخيه».
فكلّ ما يصلنا من اللّه عز وجل هو نعمة يتعيّن علينا أن نؤدّي حقّها بالشكر، وشكر النعمة هو أن نراها عطاء من المنعم، حتى لو كان العطاء مبنياً على الأسباب المادية فتيسير الأسباب هو نعمة إلهية وفضل. ثم أهم من فعل الاعتراف بالفضل الإلهي في الخيرات التي تعم حياتنا أو يوازيه، هو أن لا نعصي اللّه في نعمة أبداً، كأن تصبح النعمة سبباً في أن نفعل ما يكرهه اللّه عز وجل، نستغل مثلاً نعمة المال ونصرفه في ما يغضب اللّه من لهو وفسوق، أو نستغل نعمة العافية ونصرفها في بطش ومعصية، أو نستغل نعمة العقل ونصرفه إلى حبّ الرياسة والجدل والحيل.. قـال الجنيد البغدادي: «كنت بين يدي سري السقطي ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلّمون على الشكر، فقال لي: يا غلام، ما الشكر؟ فقلت: ألاّ تعصى اللّه بنعمه».. وهكذا فحين لا نستعين بشــيء من نعم اللّه تعالى على معاصيه، نكون من الشاكرين.. لا يكفي، أن نقول بلساننا، «الشكر للّه»، وننتظر بهذا القول فقط زيادة من النعم لأن اللّه عز وجل وعد بالزيادة للشاكرين، ولكن المطلوب أن نتّقي اللّه عز وجل في نعمه، ونقف على ساق الشكر حامدين. يقول تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم/ 7].
حسن استقبال النعم الإلهية وتنميتها:
أمضى أكابر العلماء ردحاً من الدهر يتعلمون على أيدي المربين أدب استقبال النعم الإلهية. وذلك لأن الأسلوب الذي يستقبل به الإنسان نعمة من نعم الله تعالى هو الذي سيحدد لاحقاً – والله أعلم – إن كانت الزيادة الموعودة قادمة. ومن مطالعة أوراق جماعة من هؤلاء العلماء ترتسم الخطى الآتية:
1 – الاعتراف بأن النعمة التي وصلت إلينا هي من المنعم تعالى. فإن كانت النعمة علماً أو مالاً مثلاً. فلا ندّعي أننا حصّلنا ذلك بجهدنا وذكائنا، بل الجهد والذكاء هما أيضاً من نعم الله تعالى علينا، لأنهما من جملة الأسباب التي وضعها الله تعالى في الكون ووجهنا إلى اتباع سننها، وليست حجاباً على الله تعالى مسبب الأسباب.
2 – القيام بحق المنعم تعالى، من الشكر على نعمته. والشكر على صعيدين: القول والفعل. فالقول يتمثل بالثناء على الله تعالى وتعداد نعمه وشكره عليها، وكل كلام يتضمن معنى الشكر يلهمه الله تعالى لعبده في هذا المقام. أما الفعل فهو يتدرّج بحسب علم الشاكر ومعرفته بالله تعالى.. ويبدأ من عدم اتخاذ النعمة سبباً لمعصية، ويبلغ غايته – كما رأينا مع الحبيب المصطفى صلوات الله عليه – في قيام الليل والسجود بين يدي الله تعالى، والصلاة عبادة وشكراً.
3 – شكر الناس الذين ساندوه ودعموه في مسيرة نجاحه. فالكثير من الناس يبطر عقله من سطوة المال أو الجاه، فينسى أصحاب الفضل ويرى أنه البطل الوحيد في قصة وصوله ولا وجود لجنود مجهولين.. وقد علّمنا الحبيب المصطفى صلوات الله عليه واجب شكر الناس على معروف أدّوه لنا، فالشكر تابع للمعروف وإن كان صاحب المعروف على غير الإسلام. ويكون الشكر للناس: بالثناء عليهم، والدعاء لهم بحسب الظروف، وعدم الغدر بهم أو أذيتهم بعد التمكن من النعمة. يقول صلوات الله عليه: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).. وأول الناس استحقاقاً للشكر: الوالدين والأهل والمربين وأصحاب الأيدي البيضاء وكل من دعم ولو بكلمة.
4 – تنمية النعمة الإلهية بأداء حق الآخرين فيها.. ويكون ذلك ببثها بين الناس، فإن كانت النعمة علماً بثّه صاحبه بالتعليم وبدعم كل طالب علم، وإن كانت النعمة مالاً شارك فيه محيطه بالعطاء وأنواع الصدقات وتعليم الفقراء وبناء المدارس والمشافي ودور الرعاية وغير ذلك من أنواع البر والشراكة الاجتماعية. إن حبس النعمة يؤذن بضمورها أما إطلاق النعمة في الناس فينميها ويحرك دورة الحياة الطيبة في مجتمع يتقاسم النعم والخيرات.. فكل خير نازل إلى إنسان فهو رزق إلهي للناس جميعاً.