زراعة النّور في كون منشور
الحَرْثَة الأولى. . حراسة القلب
بقلم: سعاد الحكيم
نعيش اليوم في كونٍ ارتفعت منه الحواجز والحدود فيما بين النّاس الَّذين يعيشون في مجتمعات متباعدة، وضمن ثقافات متغايرة، ويتحدّرون من أعراق متعدّدة، ويؤمنون بأديان سماويّة أو غير سماويّة. . لقد أصبح الكون الظّاهر كلّه منشوراً أمام إنسان هذا العالم، يقتحمه وهو في عمق غرفته، يخاطبه في كلّ آنٍ عبر شاشات التلفزة والهواتف واللوحات الذكيّة. وهذا الانفتاح الكوني والتدفّق المعلوماتي هو نعمة ونقمة معاً: نعمة لمن يتمتّع بالأصالة والوعي والفهم والثّقل الإنساني فيحافظ على قلبه سليماً في هذا الطّوفان. ونقمة لمن كان خاويَ الأعماق يقبل بكلّ ما يُبثّ إليه، خفيف الرّأي رخو الخلق فريسة سهلة لكلّ صاحب مشروع تدميري للعمران الإنساني .
ومن هنا، وحيث إنّنا نستشعر وجود جهات خفيّة مطويّة على مستوى الكون تبذل الجهد في زراعة الظلام، في زراعة الأفكار الهدّامة وغرس العنف وحبّ السّيطرة والتعصّب والقسوة. . لذلك ارتأينا في المقابل أن نقوم في هذا الشّهر المبارك بزراعة النّور، وهو كلّ خلق رضيّ يجعل العيش معاً ـ محليّاً وعالميّاً ـ طيّباً وكريماً ولائقاً بالإنسان.
تفرّق المعاجم العربيّة بين لفظيْ: زَرَعَ وغَرَسَ، فتدلّ بالغَرْس على تثبيت الفسائل أو الشّجر الصغير أو الأعواد في الأرض. أمّا الزَّرْع فيشمل إدخال الفسائل والبذور جميعاً في الأرض، فنقول: زرعت القمح لا غرسته. كما أنّ عمليّة الزّراعة أشمل من عمليّة الغَرْس، لأنّها تضمّ بالإضافة إلى الغرس كلّ عمل يهيّءالأرض للإنبات ويساعد المغروس على النمو. ولذلك، اخترت عبارة “زراعة النّور” وليس “غرس النّور”، لأنّها سوف تشمل حَرْث أرض القلب بتنقيته من النّوابت السيّئة كالحسد والحقد والعُجْب والغرور والكِبر والبخل وغير ذلك، ثمّ العمل على زراعة النّور كالمحبّة الشّاملة والصّبر والرّضا والشّكر والإخلاص والصّدق ومحاسبة النّفس والتفكّر في خلق الله تعالى . ومن هنا كانت كلّ تنقية من خلق دنيّ وكلّ تحلية بخلق سنيّ، أي كلّ حلقة من حلقات لقائنا المبارك في رمضان، هي بمثابة:حَرْثة في أرض القلب الإنسانيّ.
ونبدأ في “الحَرْثة الأولى” بالكلام على قلب الإنسان. فالقلب هو جوهر الإنسان وثروته الحقيقيّة، فإن حفظه صاحبه مبرّأً من العلل والأمراض والفتور والملل والغفلة والموت وكافّة ما يُلفته عن مشارق الأنوار أو يعرّضه للفساد والبوار، عاش حياته عزيزاً كريماً، وانقلب إلى ربّه راضياً مرضيّاً . يقول سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله:”ألا وإنّ في الجسد مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب” .
فما هو القلب؟ نستنبط من الحديث النبويّ الشّريف الوارد أعلاه، ومن آيات قرآنيّة عديدة، ومن معرفتنا بالفكر الدّندراوي، أنّ الذّات الإنسانيّة تتكوّن من “جسد” هو القالب، ومن مكوّنات ثلاث مخفيّات في هذا القالب الظّاهرويطلق عليها اسم “القلب” وهي : الرّوح والعقل والنّفس .
ومن هنا، فإنّ الخطوة الأولى في زراعة النّور تبدأ بحراسة الإنسان لقلبه، والمحافظة عليه سليماً من كافّة ما نبّه عليه القرآن الكريم من آفات . يخبرنا تعالى أنّ القلب يتعرّض للمرض بسبب خلق سيّء (كالخداع مثلاً) ويصبح مريضاً، قال عزّ وجلّ: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)[البقرة10]، ويخبرنا الله تعالى عن القلب الأعمى، يقول تعالى:(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحجّ 46] . والقلب المقفل عن التدبّر والفهم، يقول تعالى:(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمّد 24]، والقلب المختوم، يقول تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ)[البقرة 7]، والقلب المطبوع، يقول تعالى:( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ)[الأعراف 101]، والقلب المحجوب بسيّء الأعمال، يقول تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين 14]، والقلب الزّائغ عن الحقّ، المذكور في قوله تعالى:( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)[آل عمران8]. .
كيف نحرس قلبنا ونحفظه سالماً؟ بحيث نرجو أن ننتفع بسلامته في يوم لا ينفع فيه شيء، يقول تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشّعراء88ـ89].
إنّ الإنسان يمضي الكثير من وقته في حراسة بدنه من الأمراض والعلل، فيقرأ النّشرات والتّوصيات الطبيّة، ويصدّق ـ أحياناً ـ الوصفات المبثوثة على أدوات التواصل الاجتماعي ويجتهد في تطبيقها، ويُدقّق في حال الماء الَّذي تُسقى بها أطعمته، ويبتعد عن كلّ مُلَوَّث من مأكل أو مشرب أو متنفَّس أو من كلّ شبهة مُلَوَّث، كما يروّض نفسه على التّعامل بإيجابيّة وببشر مع مجريات الأحداث، مع الابتعاد عن كلّ المكدّرات النفسيّة، خوفاً على صحّته البدنيّة.
وفي المقابل، قلّما يلتفت إلى صحّة مكوّناته الجوّانيّة، إلى قلبه البشريّ، ليحفظه سليماً معافى، بعيداً عن الأفكار السامّة والبيئات الملوّثة والصحبة الضارّة. وقلّما ـ أيضاً ـ ما تنتشر على أدوات التّواصل الاجتماعي توصيات لحفظ القلب الإنسانيّ سليماً من القسوة والمرض والعاهة. ولذا نقترح البرنامج الرّباعي التّالي، ونأمل أن يؤدّي وهو على اختصاره المعنى المطلوب:
1 ـ إحياء القلب بالحبّ: قبل سلامة القلب لا بدّ من التّأكدّ من كونه حيّاً. ولا ينبض القلب ويرقّ وتجري الحياة في شعابه إلا بالحبّ العظيم؛ حبّ الله تعالى، وحبّ رسوله المصطفى صلوات الله عليه، وما يتفرّع عن هذا الحبّ العظيم من حبّ الأهل والصّحب، وحبّ النّاس جميعاً. وذلك لأنّ حبّ الله تعالى ورسوله صلوات الله عليه هو في الحقيقة حبّ للحقّ والخير وكلّ طيّب جميل. . وهو حبّ يجعل القلب بكامله (النّفس والعقل والرّوح) حيّاً حاضراً متفاعلاً عند قراءة القرآن ؛ فالنّفس ترتدع والعقل يتفكّر ويتدبّر والرّوح يستشفّ ما يخبر عنه القرآن الكريم من أخبار وآثار وجواهر الأحكام.
2 ـ حراسة النّفس من الأمراض:إنّ النّفس في قلب الإنسان هي مركز العواطف والمشاعر والحساسيّات والأهواء والشّهوات والمصالح الشخصيّة . وفي مقدور النّفس أن تُزيّن لصاحبها الباطل لهوىً أو لمصلحة، فتُلبس الظّلم لباس العدل، وتحتجّ بانتشار الفساد وأنّ الكلّ يفعل ذلك لتدفع صاحبها إلى ما فيه فساد أخلاقي أو مالي أو إداري أو سياسي . . ولذا، فإنّ حراسة النّفس بتحرير إرادتها وضبط سلوكها بالخلق الكريم هو الخطوة الثّانية في خطى حراسة القلب. . وعليه مدار كلامنا في هذا الشهر الفضيل.
3 ـ حراسة العقل من الانقياد لغواية الأفكار السامّة : إنّ العقل في قلب الإنسان هو محلّ التصوّر والتبصّر والتفكّر والتدبّر، وهو واجهة الإنسان في استقبال الخطاب وردّ الجواب . العقل هو جوهر الإنسان وشرط التّكليف البشريّ، وهو الّذي يجعل الإنسان مفارقاً لسائر الكائنات الكونيّة، فإن لم يحرسه صاحبه بالعلم الحقّ والمعرفة النّافعة ويسوّره بالحسّ النّقدي يصبح متاحاً لكلّ أفّاق ومغنماً لكلّ صيّاد للبشر. .
4 ـ حراسة الرّوح من حجب الظّلمة:إنّ الرّوح هذا الجوهر السّامي الّذي لا نعرف عنه إلا القليل، يتغذّى بذكر الله تعالى وبالصلاة على رسول الله عليه صلوات الله، فينعم صاحبه بالشفافيّة الروحيّة. ولكن قد تتجمّع غمامة مظلمة من نكت سوداء تنكت في القلب بسبب سيّئة أو سوء. ولذا، فإنّ سلامة الرّوح كامنة في طهارة البدن والنّفس من كلّ معصية أو رذيلة .
وختاماً نقول:
اللهمّ أعنّا على الوقوف بباب قلوبنا، نصدّ هجمات التّحريف والانحراف وكلّ خاطر يجرح سلامة رجوعنا إليك. اللهمّ أدخلنا من رحمتك وادياً تقدّس عن خطوات الشياطين، نخلع فيه نعليْ النّفس والدّنيا، ونسكن، فمهما تطلبنا إحداهما بسوء لا تجدنا .
مقال رائع ،كم نحن احوج الى تنقية القلوب واعادة حرثها وزرعها بالحب والخير ،بورك قلمك استاذتنا الفاضلة.