بسم الله الرّحمان الرّحيم
شذرات من مفهوم المحبّة في الإسلام
بقلم: ألفة يوسف
المحبّة من المفاهيم الّتي يعسر تحديد معناها لا فحسب لأنّها مفهوم مجرّد له بالأحاسيس الذّاتيّة صلة وطيدة، ولكن لأنّه من المفاهيم الّتي تتعدّد مراجعها ويُختلف في الإحاطة بها. وعلينا بدءا أن نخلّص المحبّة ممّا ليست هي عليه، أو أن نعرّفها بالسّلب كما يقول المناطقة.
المحبّة ليست الشّوق الجنسيّ تجاه شخص آخر، وليست الميل إلى شخص يوافقك عموم التّمثّلات والرّؤى والمواقف وليست ألفة شخص مّا أو التّعوّد عليه.
ولعلّ المنظور الرّوحانيّ يمكّننا من تلمّس دلالة المحبّة وأبعادها. ولئن اهتمّت دراسات كثيرة بمفهوم المحبّة في الدّين المسيحيّ، فإنّه نادرا ما وجّه الباحثون اهتمامهم إلى مفهوم المحبّة في الإسلام. وهو ما نريد تلمّس بعض وجوهه في قراءة روحانيّة للإسلام.
سنتناول المسألة استنادا إلى بعض آي القرآن وإلى بعض الأحاديث النّبويّة الشّريفة، وذلك من منظورات ثلاثة: محبّة الله تعالى للعبد ومحبّة العبد للعبد ومحبّة العبد لله تعالى.
1- محبّة الله تعالى للعبد:
يقول الله تعالى إنّه سيأتي بقوم يحبّهم ويحبّونه[1]. واللاّفت في هذا القول أنّ حبّ الله تعالى للعبد يسبق حبّ العبد للّه عزّ وجلّ. وهذا متّسق مع القراءة الشّاملة للنّصّ القرآنيّ. فالله تعالى أحبّ الإنسان أوّلا، إذ كرّمه ونفخ فيه من روحه[2]. والله تعالى أعزّ آدم إذ أمر الملائكة جميعهم بأن يسجدوا له وعاقب إبليس لأنّه رفض أن يكون من السّاجدين[3].
وحبّ الله تعالى للعبد إذ تجسّم في جوهر الخلق تكريما ومعزّة فإنّه تجسّم أيضا بعد الخلق رحمة ليس كمثلها رحمة. فالله تعالى يؤكّد في القرآن أنّ رحمته وسعت كلّ شيء[4]، والحديث القدسيّ يثبت أنّ هذه الرّحمة سبقت الغضب:” إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ : إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ“. والسنّة النّبويّة تنقل لنا حكاية المرأة الّتي مرّت أمام الرّسول وهي تلقم رضيعا ثديها. فسأل الرّسول عليه الصّلاة والسّلام من كان معه: “هل ترون هذه ملقية ولدها في النّار؟”. فأجابوا بالنّفي، فقال عليه الصّلاة والسّلام: “فإنّ الله أرحم بعباده من هذه بولدها”، وفي رواية أخرى للحديث قال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: “وَلاَءُ اللَّهِ لاَ يُلْقِي حَبِيبَهُ في النَّار”. وهذه الرّواية تثبت صراحة مفهوم المحبّة الّذي أضمرته الرّواية الأولى.
إنّ ميل بعض المسلمين إلى عدم إبراز تكريم الله تعالى للإنسان ورحمته إيّاه تبيّن استهانتهم بإحدى الوجوه الجوهريّة لمحبّة الله تعالى عباده.
2- محبّة العبد للعبد:
بديهيّ أنّ الإسلام يقوم على ركن أساسيّ هو شهادة أن لا إله إلاّ الله، وبديهيّ أنّ الإسلام يتجسّم من خلال الأركان الأربعة الأخرى صلاة وصوما وزكاة وحجّا. هذا عن الإسلام، أمّا الإيمان فقد تعدّدت المداخل التّعريفيّة إليه، وأعتقد أنّ أهمّها هو التّصريح المباشر للرّسول عليه الصّلاة والسّلام: “لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”. ولنا في هذا الحديث قراءتان كلتاهما تجسّم مفهوم المحبّة بشكل مّا. فأمّا القراءة الأولى الشّائعة فتقوم على اعتبار الإيمان رهين سعي حثيث إلى نفي الأنانيّة. فعلى الإنسان أن ينفتح نحو الآخر بما يجعله يرجو له مثيل ما يرجوه لنفسه من خير، ويرجو للآخر بُعدا عن السّوء بمثل ما يرجوه لنفسه. إنّ هذا الحديث يلخّص كثيرا ممّا تقوله الفلسفة الحديثة في مجال الغيريّة (l’altérité) معتبرة أنّ علينا أن نحاول قبل الفعل تمثّل موضع الآخر، وهو ما يعبّر عنه بالعبارة البسيطة: “أن تضع نفسك في مكان الآخر”. وهو ما تعبّر عنه المدارس الرّوحانيّة المتعدّدة الّتي تثبت منذ آلاف السّنين أنّ “ما تفعله للآخر فأنت تفعله لنفسك”.
أمّا القراءة الثّانية الممكنة لهذا الحديث، فمنطلقها أنّ ما يحبّه زيد لنفسه ليس ما يحبّه عمرو لنفسه بالضّرورة. ودون كثير فلسفة في موضع لا يسمح بها، فإنّي إن كنت أحبّ لنفسي مثلا أن أعمل عملا مّا فليس ذلك العمل بالضّرورة ما يحبّه آخر لنفسه.
واستنادا إلى هذا المنطلق، فإنّ الحديث المذكور الّذي يُقرأ عادة القراءة اللّغويّة التّالية: “لن يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ (هو) لنفسه”، يمكن أن يُقرأ لغويا قراءة أخرى: “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ (أخوه) لنفسه”. إنّ القراءتين جائزتان بما أن الفاعل مضمر. وأعتقد أن الإيمان ليس في أن تفرض على الآخر رؤيتك للأمور وإن تكن تحبّها أنت وإنّما في أن تحبّ للآخر ما يريده هو لنفسه. ومن هنا، يصبح الإيمان متجسّما في احترام حرّية ا”لأخ” في اختياراته ومواقفه ما لم تمسّ بصالح المجموعة أي بالقوانين. وهذا هو المفهوم الجوهريّ لإطيقا الغيريّة بصفتها تجسيما لمحبّة الآخر في تميّزه.
ولكن مهما تختلف قراءتا الحديث، فإنّهما تشتركان في جعل حبّ الآخر شرطا للإيمان. فأنت سواء أحببت للآخر ما تحبّه لنفسك، أو أحببت للآخر ما يحبّه هو لنفسه وإن خالف هواك، إنّما لا تنتصب في موضع مقابل للآخر وناف له، وإنّما في موضع المنفتح لقبوله في اختلافه. وهذا الانفتاح بعدم الحكم على الآخر وقبوله مثلما تقبل نفسك ولا تحكم عليها هو جوهر المحبّة والتّسامح.
3- محبّة العبد لله تعالى:
إذا كان حبّ العبد للعبد يقوم على القبول والانفتاح فمن باب أولى وأحرى أن يندرج حبّ العبد لله تعالى في نفس الحقل الدّلاليّ وإن من منظور ألطف وأعمق. إنّ محبّة العبد للهّ تعالى أساسها مفهوم الطّاعة. والطّاعة نوعان كلاهما يجسّم دلالة المحبّة. النّوع الأوّل هي الطّاعة الفعليّة القائمة على اتّباع أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه. وهذا الضّرب شائعٌ تَمَثُّلُه لدى عموم المسلمين. أمّا النّوع الثّاني فهو ما نسمه بالطّاعة النّفسيّة. ونعني بالطّاعة النفسية قبول الإنسان بما يحلّ به ممّا لا يستطيع له تغييرا وممّا لا يستطيع فيه تأثيرا لا فحسب باعتباره قضاء إلهيّا يُقبل عن مضض، وإنّما باعتباره قضاء إلهيّا يُقبل بفرحة وراحة. أليس هذا القضاء مجسّما لإرادة الله تعالى ولمعرفته المطلقة الّتي تتجاوز إرادة الإنسان الخياليّة الوهميّة ومعرفته النّسبيّة؟
إنّ إرادة الله تعالى تشمل كلّ شيء، أمّا إرادة الإنسان فهي دائما من مجال الوهم. وقد يتطابق هذا الوهم مع إرادة الله تعالى فيتصوّر المرء أنّه يختار، وهذا ما نسمه بمجال الاختيار. وقد لا يتطابق وهم إرادة الإنسان مع إرادة الله تعالى فتسير الأمور بشكل مختلف عمّا أراده الإنسان، وهذا ما نسمه بمجال الإجبار.
وفي مجال الاختيار نجد بعض الناس يتصوّرون أنّ ما يتحقق مردّه إرادتهم الخاصة وينسون أن لا تحقّق لشيء إلاّ بإرادة الله تعالى. أمّا في مجال الإجبار فإنّ تعامل الإنسان مع ما يصيبه لا يخلو من أحد إمكانين، إمّا أن يقبل الإنسان إرادة الله باعتبارها مجسّمة لحكمة الله الّتي لا ينفذ إليها العقل القاصر أو أن يرفضها. ولكنّ رفضه إيّاها لا يعني قدرته على تغييرها وإنما هو رفض نفسيّ مثلما أن القبول نفسيّ، لذلك وسمنا هذا الضّرب من الطّاعة بأنه طاعة نفسيّة، واعتبرناه من وجوه المحبّة.
وإذا نظرنا في القرآن الكريم لوجدنا تجسيما لمن رفض قبول إرادة الله تعالى المقابلة لإرادة الإنسان الظّاهرة ولوجدنا تجسيما لمن قبل إرادة الله تعالى مهما تكن مقابلة لإرادة الإنسان الظّاهرة. فأمّا الضّرب الأوّل فمثال على من أخطأ حبّ الله وأمّا الضّرب الثّاني فمثال على من اندرج في الحبّ الإلهيّ.
وممّن رفض إرادة الله تعالى وقضاءه، وأخطأ حبّ الله تعالى، نجد آل فرعون الّذين لم يقبلوا ابتلاء الله عزّ وجلّ لهم بالجدب وتشاءموا بموسى بما يبيّنه القرآن: “وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ-فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ”(الأعراف7/130-131).
وفي مقابل موقف آل فرعون نجد إشارات في القرآن إلى من يقبل قضاء الله وإرادته تجسيما للحبّ، وهذا شأن مريم إذ عندما تجسّم لها الملك بشرا سويا وأخبرها بأنّه مبعوث من الله تعالى ليهب لها غلاما زكيّا قبلت -عليها السّلام- قضاء الله تعالى وحكمه وامتثلت لإرادة الله تعالى طاعةً هي رديف الحبّ[5].
إنّ طاعة الله تعالى إن في وجهها الفعليّ أو في وجهها النّفسيّ أبرز وجوه تجسيم المحبّة ذلك أنّ المُحبّ يثق بحبيبه عالما أشدّ العلم أنّ المحبوب الأوحد أي الله تعالى لا يمكن أن يريد بالإنسان شرّا. فما يصيبنا من حسنة فمن الله وما يصيبنا من سيّئة فمن أنفسنا[6].
استنادا إلى ما سبق نتبيّن أنّ الإسلام يقوم في جوهره على المحبّة إن في مجال حبّ الله تعالى للإنسان أو مجال حبّ الإنسان لأخيه الإنسان أو مجال حبّ الإنسان لله تعالى. وفي كلّ هذه الضّروب الثّلاثة نجد انفتاحا نحو الغير وقبولا جوهره الاطمئنان والرّضا.
والغريب أنّه باسم هذا الدّين الّذي يقوم على المحبّة نجد البعض ينشر الكره والدّمار والعنف بل ينظّر له. وفي هذا الواقع المرير أفضل حافز للمسلمين كي يعودوا إلى قراءة أصول الإسلام وتدبّر القرآن حتّى لا نكون ممّن على قلوبهم أقفال وممّن عميت قلوبهم دون بصيرتهم[7]. ولعمى القلوب أشدّ وأخطر…
[1] ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ” (المائدة 5/54).[1]
[2] ” ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ” (السّجدة 32/9).[2]
[3] راجع الأعراف7/11 والحجر15/34 و98 وص38/77.
[4] ” وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ” (الأعراف7/156).
[5] فإن قيل إن في قولها: “قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا” (مريم19/ 20) اعتراضا على حكم الله تعالى قلنا إنّ تساؤل مريم لا يفيد الاعتراض وإنّما هو سؤال إنكاري يفيد الاستغراب والتّعجّب، وهذا ما يؤكّده قول الرازي أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السّلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلاّ من رجل.
فخر الدين الرّازي:مفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر 1985، مج 11 ج21، ص200.
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا (النّساء4،79). [6]
[7] “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” (محمّد47/24).
“فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الحجّ22/46).