تفسير فاتحة الكتاب لسيد حسين نصر

تفسير فاتحة الكتاب لسيد حسين نصر

تفسير فاتحة الكتاب

سيد حسين نصر

نقله إلى العربية: عبدالرحمن أبوذكري

 

        يعتبِرُ التصوّف جميع صور العبادة طُرقًا لتحقُّق العبودية الكاملة، والتي تُمكننا، يحدوها الإيمان؛ من إدراك كينونتنا ومعرفة ربنا سبحانه، والاهتداء إلى الأعمال العبادية وممارسات التزكية الروحية التي تفتح لنا أبواب الإدراك الإشراقي والعقلي. وتهدف جميع أعمال العبادة لذكر الله والقُرب منه سبحانه، أو بصورةٍ أدق؛ اكتشاف هذا القرب وهذه المعيّة الموجودين أصلًا، كما يؤكَّد القرآن؛وإذا سألك عبادي عني فإني قريب“.[1] ولا تتجلّى هذه الرؤية الصوفية للعبادة، التي تؤدي لمعرفة النفس والتعرُّف على الرب، مقرونين بالحب والإخلاص؛ لا تتجلى في موضعٍ أكثر مما في التفاسير الصوفيّة لفاتحة الكتاب، وهي السورة التي تتكرر مرارًا وبصورةٍ يومية في الصلاة المكتوبة التي يؤديها المسلمون خمس مراتٍ في اليوم والليلة، منذ بلوغهم سن التكليف. وقد خطَّت هذه التفاسير قاماتٌ صوفيّة عديدة عبر العصور، وصولًا إلى يومنا الحالي.

        ولنبدأ بإلقاء نظرة سريعة على نص أول سور القرآن:بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم. ولا الضالين“.

        دعنا نحاول تدارُس هذه السورة من زاوية أهمية العبادة في علاقتها بحال الإنسان. لكن قبل أن نشرع في ذلك؛ يتعيّن علينا أن نُذكِّر بأن كل كلمة وحرف من حروف القرآن، في أصله العربي؛ ليس له معنى ظاهر فحسب، بل معنى باطن أيضًا، بما في ذلك رمزيّة عددية، تشبه ما يُمكن أن نجده في جماتريا القبالاه والحسيدية.[2] إضافة إلى ذلك؛ فإن للقرآن عدة مستويات باطنة للمعنى(سبعًا؛ كما يعتقد البعض)، أعلاها اختُصَّ به العلم الإلهي قصرًا، بحسب الصوفيّة. والتفسيرات الصوفيّة، التي تُسمّى تأويلًا؛ ليست معانٍ ابتدعها البشر من عند أنفسهم، بل هي كشفٌ لمعانٍ انطوى عليها النص الإلهي أصلًا، وإن أُخفيت عن العين البرّانيّة. وهكذا؛ فإن لفظة “التأويل” تعني: إعادة الشيء إلى أصله. إن هذا النوع من الهرمنوطيقا الروحية،[3] في كشفه اللثام عن المعاني الباطنة للنص الإلهي؛ يُعيدها كذلك إلى أصلها. ذلك أن التعبير يُلمِح للانطلاق من الباطن للظاهر، ليصير الباطِن والأصل في نهاية الأمر، ومن منظور ميتافيزيقي؛ هو الحقيقة نفسها.

        عود على بدء، إلى فاتحة الكتاب؛ التي سأجتهد ليكون تأويلي لها مبنيًا على مظهرٍ واحدٍ من مظاهر الحقيقة الباطنة لهذا النص الإلهي، وهو تجلٍّ مُتعلِّقٍ بمعنى أن تكون إنسانًا، ومن ثم فلن يتناول، بطبيعة الحال؛كل جوانِب ومستويات معناها الباطن (الذي كتب فيه الصوفية على مر العصور العديد من التفاسير، بعضها يبلغ حجم الكتاب). ومثلها مثل كل سور القرآن، عدا سورة التوبة؛ تبدأ فاتحة الكتاب بالبسملة: “بسم الله الرحمن الرحيم“. ورغم تعدُّد أسماء رب العزة؛ فإن اسمي الرحمن والرحيم هما البوابتان اللتان يَنسكِب منهما الوحي القرآني لهداية الإنسان. ويقرن الصوفية اسم الذات الإلهية، الرحمن؛ بوجود الكون نفسه. فهم يؤمنون أن الله تعالى قد نفث رحمانيته، وهي التي تطوي رحمته؛ في النموذج الأصلي الكامن في العلم اللدُنّي والمعرفة الإلهية، وأن العالم قد وجِد من عدمٍ كثمرةٍ لنفثة الرحمن تعالى. ومن ثم؛ فلولا رحمانية الله تعالى ورحمته اللانهائية؛ لم يكن ليوجد شيء، بما في ذلك نحن؛ ولم يكن ليوجد وحي سماوي ليُخرجنا من دياجير ذواتنا وعقولنا إلى المعرفة الكاملة للذات، والتي تحدونا إلى معرفة الله والتعرُّف إلى خلقه، يليها تمام استنقاذنا من كل قيود هذا العالم. وصيغة البسملة، التي تبدأ بها فاتحة الكتاب؛ لا تُكرِّس النص الإلهي فحسب، بل تؤسس كذلك القاعدة الميتافيزيقية الضرورية لتنزُّل الوحي، وتلقّيه.

        يبدأ نص السورة الكريمة بـ”الحمد لله“، وهو بيانٌ يُلقي به القرآن نفسه نيابة عن بني الإنسان. هذا الحمد، والموقِف المتأصِّل فيه؛ يُشكِّلُ جانبًا أساسيًا من التكوين الإنساني الحقيقي. يؤكد القرآن، في عِدَّة مواطِنَ؛ أنه ما من شيء إلا يُسبِّحُ بحمده تعالى، لكن تسبيح الرجال والنساء من بني آدم له أهمية خاصة، بما أن بني الإنسان قد وهِبوا قُدرةً على ترك تسبيحه وحمده سبحانه. وعبارة “الحمد لله“، التي تُبطِن كذلك عرفانًا بفضلهِ تعالى؛ كبيرة الأهمية لدرجة تغلغُلها في الحياة اليومية لكل المسلمين. إن الترديد المستمر لها في الخطاب اليومي يخلق مُتتالية سلوكية أبدية لحمد الله وشكره. وتؤكِّد المصادر التراثية الإسلامية أن المسلمين، الذين التزموا -مُخلصين- تعاليم الشرع؛ سيجتمعون يوم القيامة تحت “لواء الحمد”، يحمله النبي صلى الله عليه وسلم.

        وفي التصوّف؛ يُعتبر الحمد والسلوك الجواني المرتبط به مركزيّان. إذ يُتوقَّع دومًا من سالكي الطريق أن تمتليء وجداناتهم بحمد الله والثناء عليه والعرفان بفضله، مهمًا كانت حالهم. وقد ورَد في بعض سير المتصوِّفة أن شيخًا سأل بعض مُريديه يومًا: “على أي حالٍ تحمَدُ الله؟”؛ فأجاب المريد: “متى أنعم سبحانه على الإنسان بنعمةٍ؛ أوجَب عليه حمده”. فقال الشيخ: “فما الفارق إذن بينك وبين الكلب القابِع قِبالتنا؟ إن ألقيتُ له بقطعة لحم؛ هزَّ ذنبه امتنانًا وحمدًا لله. وإذا لم أفعل؛ قبع هُنالِك ينتظرُ ما أجود به”. ثم أضاف الشيخ: “إن الدرويش هو من يحمد الله في كل حال. إن أصابته نعمة من الله؛ حَمِدَهُ. وإن لم ينل شيئًا مما يبغي وعانى أشد حالات العُسر والقبض؛ ظلَّ حامدًا لله”. إن سلوك طريق حمد الله والامتلاء الدائم بالعرفان بفضله، يحدوه الوعي بأننا فقراء في أنفسنا وأن الله هو الغني ذو الفضل، الذي تنصّبُّ منه الرحمات والبركات؛ -بدءًا بالحياة التي نحياها، إلى الهواء الذي نتنفسه، إلى الطعام الذي نأكله، إلى الأرض التي نطأ فوقها- لهو مكوِّن ضروري للوجود الإنساني الحقيقي. مُكوِّنٌ بارز من مكونات إنسانيتنا، وطريق أساسي نُدرِكُ من خلاله حقيقتنا، ونصل إلى حال العبودية الكاملة.

        إن أعظم نعم الله على الإنسان هي كلامه أو وحيه، الذي يُمكننا من الرجوع إليه تعالى. ويُمكن فهم الحمد لله، الذي استُهِلَّت به الفاتحة؛ بوصفه حمدًا منّا لله وعرفان بفضله سبحانه أن صيَّرنا أهلًا لتلقّي وحيه، ومن ثم نقول: الحمد لله، لأن رب العزَّة قد خلقنا وسوانا بشرًا، وخاطبنا، وبسط قلوبنا بحمده، لنحمده واعين راضين. ذلك أن عظمة الوجود الإنساني لا تكمُن في قدرة الكائن البشري على بناء آلاتٍ مُعَقَّدةٍ أو بلورة تصوّراتٍ ونظريّاتٍ مُركَّبة، بل في أهلية الرجال من بني آدم والنساء للخطاب الإلهي، واعتبارهم مُستحقين لتلقّي وحيه وهداه. هذا الحمد الاستهلالي يُمكننا أن نصفه بأنه ليس محض استفتاحٍ لبقية الوحي القرآني الذي يتلوه، لكنه قبل ذلك وبعده وفوقه عرفانٌ بفضله سبحانه وشكرانٌ له على إنسانيتنا. إذ أن جوهر إنسانيتك هو أن تصير مؤهلًا وقادرًا على سماع كلام الله، ومن ثم التسليم له ليحدوك رجوعًا إليه. وحقيقة أن المسلم في كل شعيرة إسلامية -رجلًا كان أو امرأة- يَقِفُ مباشرة بين يدي الله في صلاته اليومية بغير وسيطٍ، تُشير، من وجهة نظر صوفية؛ ليس إلى أن لكل مُسلمٍ وظيفة “كهنوتية” فحسب، بل وكذا وشيجة تربط كل نفس بالله، مباشرة؛ وبرباطٍ فذ. وذلك كما يقول مولانا جلال الدين الرومي في مثنويه:

ثم صلة، بلا نُقصان، ولا مقارنة؛

بين رب الروح، وروح كل إنسي.

 

        إن أحد الأجوبة التي يطرحها الصوفيّة، على سؤال الطبيعة الإنسانية؛ هو أن الإنسان (ذكرًا كان أم أنثى)؛ هو كائن خُلِقَ ليكون أهلًا لتلقّي الخطاب الإلهي، وليُخاطِب ربه مُجيبًا، واعيًا وبإرادة حُرَّة. إن علاقتنا بالله، والتي تعني كذلك الذات الإلهية التي يتمركز حولها وجودنا؛ تُعيّن حقيقتنا وحقيقة ما جُبِلنا عليه. يمكن لكل منا البدء بسؤال: “من أنا؟”، وإذا بحثنا بما يكفي؛ فسنُقاد خطوة بخطوة إلى الجواب الصوفي: أننا كائنات يُمكنها مخاطبة ذاته العليّة مباشرة، بحمده والثناء عليه، والامتنان لفضله سبحانه؛ وأن نصير نتيجة لذلك أهلًا لتلقي خطابه، ومن ثم الوصول إليه، وإدراك أنه وحده سبحانه هو “الأنا” الوحيدة والمطلقة.

        تستمرّ الآية الأولى من فاتحة الكتاب بالحديث عن الله بوصفه رب العالمين. وهذا يعني، ميتافيزيقيًا وكونيًا؛ أن الله رب كل الفضاء، وأننا أُسكننا أحد العوالم الكثيرة، التي هو الرب والإله فيها جميعًا، سبحانه. إن الإقرار بأنه رب العالمين يعكس إدراكنا أن الفضاء ليس مُجرَّد تمدُّدٍ كمّيّ قابلٍ للقياس بالإحداثيات الديكارتية.[4] بل هو الملكوت الإلهي، والذي يتغلغل في كل المواضع التي نحيا ونتحرَّك فيها بكينونتنا، في هذا العالم وفي كل العوالم الأخرى. إن هذه اﻵية تتكلم عن “العالمين” بالجمع، وهو ما يعني، باديء ذي بدء؛ أن الحقيقة ليست محدودة بحدود هذا العالم، وثانيها أنه ما من عالم -عالم حقيقي يطوي صورًا أخرى من الوجود، وليست عوالم الخيال العلمي الحديث- يُمكننا الارتحال فيه بالنفس والروح، لا تُمثِّل حاكمية المولى عز وجل حقيقته المركزية. إذ ليس هناك فعل يقع خارج حدود ملكوت الله وسُلطانه، وخارج نطاق نواميسه، لنتفلَّت به من مسئوليتنا أمام الله بوصفنا بشرًا؛ كائنات عُرِّف وجودها من خلال إجابتها ربها، حتى قبل خلق العالم؛ حين سألها بتوكيدٍ مدوٍ: ألستُ بربكم؟.[5] أن تكتمل إنسانيتنا يعني أن يكتمل إدراكنا بعبوديتنا لله، وأن نظل واعين أبدًا بربوبيته، في أي عالمٍ أُريد لنا أن نكون فيه.

        تتلو فاتحة الكتاب ذلك بتكرار لفظتي “الرحمن الرحيم“، لتُذكِّرنا بأن كل العوالم، التي تمتدُّ إليها ربوبية رب العالمين وحاكميته؛ قد أُفعِمت هي الأخرى برحمته ورحمانيته. علاوة على ذلك، وبما أن هذه الآية تعقُبها آية تتعلَّق بالزمان؛ فيمكن لنا القول بأن تكرار “الرحمن الرحيم” هي وسيلة لتذكيرنا بأنه برغم تقييد حيواتنا بشروط الزمان والمكان، فإن وجود الرحمة الإلهية وامتلاء الوجود بها فيما بين هذين البُعدين؛ هو ما يُشكل الواقع الذي نحيا فيه على الحقيقة، ويتجسَّد فيه وجودنا.

        وتتعلَّق اﻵية التالية، “مالك يوم الدين“؛ بتدفُّق الزمن الذي سينتهي بموتنا ومثولنا بين يدي الله. إن جوهر الوعي بالشرط الإنساني هو إدراك أن هذه الحياة محض رحلةٍ ستنتهي بموت يتبعه بعث، وأننا خُلقنا للقاءٍ محتومٍ نمثُل فيه بين يدي الله، وهو ما يعني أنه برغم موتنا؛ فإننا كذلك خالدون. إن الحقيقة الغائِرة لوعينا لا يُمكن استئصالها بحادِث الموت الجسدي. إذ لا تتحدَّث اﻵية فحسب عن اليوم الذي يتلو كل الأيام ويتجاوزها، بل عن حسابٍ كذلك. هذا التوكيد الأخروي ذو أهميةٍ قُصوى لحياتنا هنا على الأرض. فهو يكشِف عظمة الخلق الإنساني بالإضافة لحقيقة أن أفعالنا في هذه الحياة على الأرض لها تبِعات تتجاوز الحياة في هذا العالم.

        إن هذه القضايا مقبولة حاليًا، وعلى نطاق واسعٍ؛ بين أهل الإيمان في كل مكان. إلا أن الصوفيّة يتقدَّمون خطوة على ذلك، ويطلبون الموت والبعث هُنا واﻵن،[6] وأن يخبُروا لقاء الله، وهم لا زالوا في هذا العالم؛ من خلال التزكية الروحية والترقي في درج الكمال. وبمعنى أعمق؛ فإن هؤلاء الذين حققوا هذا الهدف ابتداء قد ماتوا أصلًا، وبُعثوا، ولقوا مالك يوم الدين، وحوسبوا بين يدي أحكم الحاكمين، واستقرّوا في فردوس القُرب الإلهي. وقد سؤل رسول الإسلام ذات مرَّة عن الموت والبعث. فأجاب النبي: “انظر إلي؛ فقد مت وبعثت مرات عديدة”.[7]

        إذا نحينا البسملة الافتتاحية جانبًا؛ فإن الآيات الثلاث الأولى من فاتحة الكتاب تتعاطى مع طبيعة الإله، من حيث انعكاس آثار ذلك على الحال الإنسانية. وتتعلَّق اﻵية الرابعة والوسطى، إياك نعبد وإياك نستعين؛ بحال الإنسان نفسه في علاقته بالله. إن سبب وجود الكينونة الإنسانية، كما أسلفنا؛ هو عبادة الله واستمداد العون منه في إدراك اعتمادنا الكلّي على الحقيقة الإلهية. إن الإنسان الطبيعي هو كائنٌ يعبُد المتجاوِز على أي هيئة كان، كما يكشف التاريخ الطويل للعديد من المجتمعات الإنسانية، وذلك باستثناء القِسم الذي تمت علمنته من العالم المعاصر، والذي يُمثِّلُ شذوذًا للقاعدة. إن العبادة عند الصوفيّة ليست محض واحدةٍ من الأنشطة الإنسانية، بل هي النشاط المُحدِّد لمعالم حال العبودية، ومن ثم لملامح الكينونة الإنسانية. أضِف إلى ذلك أن معرفة الإله هي أعلى مراتِب العبادة عند الصوفية، والتي يدخُل في تركيبها الحب على الدوام. وطبقًا لحديثٍ قدسي، يؤكّد رب العزة على لسان نبيّه: “كنت كنزًا مخفيًا، فأحببت أن أعرَف؛ فخلقت الخلق“.[8] هذا الحديث المشهور الذي تستدعيه النصوص الصوفية التراثيّة، عادةً؛ له معانِ عدّة، أكثرها دلالة هو الإشارة إلى أن معرفة الله هي غرض الخلق. أن تعبُد الله من خلال المعرفة، أو المعرفة التي تجمعك عليه؛ وهو من ثم استيفاء لعين الهدف من الخلق، وتحقيق لأعلى مراتِب العبادة. إن تعريف الإحسان، الذي يُعتبر تعريف التصوّف نفسه؛ هو: “أن تعبُد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكُن تراهُ فإنه يراك“.[9] ويشير الحديث القدسي إلى الحقيقة عينها؛ ذلك أن الرؤية صدورٌ مباشرٌ عن المعرفة.

        أما فيما يتعلَّق باستمداد العون منه؛ فإن كل المؤمنين يفعلون ذلك في أوقات حاجتهم بطبيعة الحال. أما الصوفية؛ فهم الذين يُدركون أن افتقارهم الكامل إلى الله، بالمعنيين الوجودي (الأنطولوجي) والروحي؛ يجعلهم دومًا في حاجةٍ إليه سبحانه، وعالة على معونته. إن الدعاء المخلص: إياك نعبد وإياك نستعين؛ يوثِّق كذلك توكَّلنا على الله ويُعزز ثقتنا فيه، ويُفتِّق إدراكنا بأنه وحده سُبحانه المستعان على كل شيء. وكمال الإنسانية هو في دوام الوعي بهذا التوكَُّل، والذي أفاضت المصادر الصوفية التراثية في الحديث عنه مرارًا.

        وفي الوقوف بين يدي الله الرحمن الرحيم، بين يدي مالك الزمان والمكان، بين يدي من خضعَت له رقاب الرجال والنساء عبودية، ووقفوا ببابه استمدادًا للعون؛ في مثل هذه الوقفة ماذا يسأل العبد ربَّه؟ أن يُهدى الصراط المستقيم. لتطوي اﻵيات الثلاث الأخيرة من فاتحة الكتاب إجمالًا لعقيدة خلاص الإنسان بتمامها، في بيانٍ لوضعنا الوجودي وجهًا لوجه مع حقيقة الوجود الأشمل. إذ تُعيّن هذه اﻵيات ثلاث إمكانات: الصراط المستقيم، وهو صراط الذين أنعمت عليهم؛ وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين. وفيما يتعلَّق بالحقيقة الإلهية، المتجاوزة لهذا الوجود والكامنة في الوقت نفسه في مركز وجودنا بذاتها؛ فإن ثم ثلاثة طرق لا غير، يُمكن للمرء سلوكها. الأول أن يرقى عروجًا باتجاه تلك الحقيقة، والثاني أن ينحدِر بعيدًا عنها، والثالث ليس بعروج ولا انحدار؛ بل مسير أفقي، مسير في طرق فرعية، طريق لا يبعُد بك ولا يقترب في علاقته بالمحور الرأسي لوجودنا. إن طبيعة وجودنا وحاله يُمكن تفصيلها وإيضاحها باللجوء لرمزية هندسية. فنحن نتموضع في نقطة التقاء المحورين الأفقي والرأسي لصليب. بين خياري العروج على المحور الرأسي لننضم إلى الذين أنعمت عليهم، أو الانحدار على ذات المحور إلى حال أشد بؤسًا وتدهورًا لنصير من المغضوب عليهم. وأخيرًا؛ يمكننا التجول على المحور الأفقي بين الضالين. وعلى المستوى الأخروي؛ فإن هذه الإمكانات الثلاث تُطابِقُ من منظورٍ مُعيَّنٍ أحوال أهل الفردوس والجحيم والمطهَّر.[10]

        وإذا كان الصليب رمزًا لا يقبل عوام المسلمين بمدلوله المسيحي، بما أن الإسلام لا يربط بين الصليب و”موت” المسيح؛ إلا أن التعاليم الإسلامية الباطنة لكل من التصوف والتشيُّع تنطوي على اعتقادٍ واضحٍ في الأهمية الميتافيزيقية لهذا الرمز، وعلاقته بحقيقة الإنسان الكامل. وعلى أية حال؛ فإن الفهم الصوفي للمعاني الباطنة لفاتحة الكتاب، يكشف هذه الحال الوجودية للكينونة الإنسانية، في غمرة وقوفها بين يدي الله؛ وهي الحال التي يُمثِّل الصليب أحد رموزها المكانية.

        ويؤمن جميع المسلمين بالأهمية المركزية للصراط المستقيم، بل يُسمي البعض الإسلام نفسه بـالصراط المستقيم. هذه الصورة والرمز القرآني الأساسي لها مظاهر مُتعدِّدة ومعانٍ مختلفة. أما في الحد المتعلِّق بطريق الحياة؛ فإن الصوفية يسألون عن ماهية الصراط المستقيم، وحين يجاب عليهم بأنه الطريق المؤدي إلى الله؛ يسعون لسلوكه إلى نهايته في حياتهم. يُريدون أن يرتقوا المحور الرأسي للصليب، مثل سلم يعقوب؛[11] إلى السماء، اﻵن وهنا. إن الصراط المستقيم في التصوّف هو الطريق، أو طريق التصوّف نفسه آخر الأمر، والذي يبدأ بالشريعة. إنه طريق العودة إلى الأصل أو المصدر أو الحقيقة. إن الصراط المستقيم في التصوّف هو كذلك طريق العروج إلى الله.

        إن تكرار فاتحة الكتاب سبعة عشر مرة يوميًا، على الأقل؛ في مختلف الصلوات المكتوبة، جنبًا إلى جنب مع الحركات والعبارات الأخرى التي تُكمل معناها، إضافة إلى الوعي بأهميتها الجوانية، وهو ما أجملنا بعضه فيما سبق؛ هو إدراك للعبودية الحقيقية بين يدي الله. وهي عند الصوفي تعني إدراك معنى إنسانيته الحقيقي. ومُستعينًا بالقرآن، الذي يؤدي دورًا مركزيًا في الإسلام جُلَّه، بما فيه التصوّف؛ فإن الشخص صاحب الرؤية الجوانية يصل لإدراك أهمية عبوديته لله، وهو ما يقود آخر الأمر إلى تحقُّق فنائنا في حضرة المولى سبحانه، واكتمال بقائنا في ذاته عز وجل. وبذا؛ يصير الإنسان واعيًا بالمثال الذي يتعيَّن عليه، ذكرًا كان أم أنثى؛ تكريس حياته برُمّتها لأجل التحقُّق من خلاله.

[1]          – سورة البقرة، اﻵية 186.

[2]          – «التفسيرات الرقمية» هي الترجمة العربية الحرفية للفظة «جماتريا»، وهي مأخوذة من اللفظ اليوناني «جيومتري»، ويعني: «هندسة». والجماتريا هي منهج في شرح كلمات من العهدين القديم والجديد، ويستند إلى تحليل القيمة العددية لحروف الكلمات العبرية التي يعتبرها المفسرون القبَّاليون وغيرهم مقدَّسة. وقد ظهر هذا المنهج بين معلمي المشناه في القرن الثاني الميلادي، وورد في التلمود مائة وخمسون حالة استخدام للجماتريا، ثم ساد هذا المنهج بين المفسرين بسيادة الفكر القبَّالي وطموحه الأساسي للوصول إلى العرفان أو الغنوص أو الصيغة الهندسية التي تؤدي إلى التحكم في العالم. وقد استخدم القبَّاليون الجماتريا لتحديد تاريخ قدوم الماشيَّح. ويتميَّز منهج الجماتريا بأن المفسِّر الذي يستخدمه يمكنه أن يستخلص من خلاله أي معنى من أي نص. راجع: عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد الخامس، الجزء الثاني، الباب الثامن. 

[3]          – يستخدم أستاذنا  البروفسور نصر عبارة “الهرمنوطيقا الروحية Spiritual Hermeneutics” في النص الإنكليزي الأصلي بالتبادُل مع لفظة “التأويل”.

[4]          –  تستعمل أنظمة الإحداثيات الديكاَرتية  لقياس المساحات في الفضاء. وهي تُنسب إلى الرياضي والفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت”، الذي طورها إبان القرن السابع عشر.

[5]          – في إشارة لقوله جل شأنه: “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؛ قالوا بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”.  سورة اﻷعراف، اﻵية 172.

[6]          – من الآثار المشتهرة عند الصوفية قولهم: “موتوا قبل أن تموتوا”. وتعني موت الشهوات والرغبات، وتمام الانخلاع من كل أثقال الذات.

[7]          – لم نعثر على لفظه أو على ما يُشبه لفظه، ولذا نقلناه حرفيًا عن الإنكليزية، ولعله أثرٌ واختلط على الأستاذ أمره.

[8]          – من مشهور كلام الصوفية، والمتواتر في كتبهم، ولا يعرف له المحدثون -سنة أو شيعة- سندًا.

[9]          – رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

[10]        – هو تقسيم الشاعر الإيطالي دانتي ألليغري لملحمته الشهيرة: الكوميديا الإلهية. والمطهر هو المنطقة البينية بين الجحيم والفردوس. إذ يسع الإنسان فيه، بمكابدته وألمه؛ أن يطهِّر نفسه من الذنوب والأثرة، وأن يرقى في مدارج الحب والإدراك. والمطهر يختلف عن الجحيم في أن العذاب فيه مؤقت، وقد يليه نعيم مُقيم: الفردوس الأرضي. راجع: الكوميديا الإلهية (3 مجلدات)، دانتي أليجيري، الطبعة الرابعة، ترجمة حسن عثمان، دار المعارف، بدون تاريخ.

 

[11]        – هو، بحسب العهد القديم؛ سلَّم صاعد إلى السماء رآه يعقوب في منامه، وهو فارّ من وجه أخيه العيص، بعد أن احتال على عمى أبيه إسحاق ليُباركه بدلًا من أخيه. وفي هذا الحلم رأى يعقوب ربَّه واقفًا برأس السُلَّم، والملائكة تصعد وتهبط.   راجع: العهد القديم، سِفر التكوين، الإصحاح الثامن والعشرين، ايات من 10 إلى 22.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!