في عشق شمس تبريزي

في عشق شمس تبريزي

في عشق شمس تبريزي

جمال الغيطاني

عندما لمست أصابعي نسخة غزليات شمس تبريزي تذكرت، بل استحضرت صاحبي الحميم، الدكتور ابراهيم الدسوقي شتا رحمه الله، تخيلت لو انه اتم ترجمة هذا المؤلف النفيس لمولانا جلال الدين الرومي. لكن الاعمار بيد الله، داهمته المنية فجأة وهو في السادسة والخمسين من العمر، في ذروة نشاطه العلمي والثقافي وكان أبرز ما يميزه خروجه بعلمه الى المحيط الأوسع من أسوار الجامعة، كان استاذا بارزا، قديرا في اللغتين الفارسية والتركية وادابهما. وكان مبدعا روائيا، ومفكرا سياسيا، خلف لنا اثارا رفيعة المستوى، غزيرة من حيث الكم، حيث ليعجب الانسان، كيف وجد الوقت ليترجم كل تلك الاثار، مثنوي مولانا جلال الدين الرومي، سيرة بن خفيف، الحكمة لناصر الدين خسرو، وتأليف قاموس عربي – فارسي من ثلاثة مجلدات ضخمة لعله الوحيد في المكتبة العربية ويقع في حوالي ثلاثة آلاف صفحة.

إن ضخامة الآثار التي خلفها لنا تثير الانتباه. اذ يقع المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي في ستة مجلدات ضخمة، يقع كل منها في سبعمائة صفحة تقريبا. ونصف هذا الحجم شروح جديدة وضعها المترجم، انني بحاجة الى ساحة ليست بالقليلة لذكر الدراسات والبحوث، سواء تلك التي وضعها أو ترجمها. لكنني أتوقف عند ذلك الكتاب الذي ظهر بعد رحيل صاحبه، اذ وقع لي به صلة. وكان لي فيه سبب ما.

عندما صدرت جريدة أخبار الأدب في عام ثلاثة وتسعين، بادرت قبل صدورها الى الاتصال بعدد من اساتذة اللغات الشرقية لكي يسهموا بترجمة اثار الآداب الفارسية والتركية والاوروبية، وكنت أترجم بذلك ايماني العميق بضرورة التعرف المباشر على تلك الآداب بدون وسيط. ولم أكن أبدأ بذلك تيارا جديدا، انما كنت استأنف جهدا بدأ منذ عشرينات القرن الماضي، عندما قدم الدكتور عبدالوهاب عزام تحقيقا دقيقا لترجمة الشاهنامة التي قام بها البنداري، وكان لي شرف اعادة طبعها من خلال دار سعاد الصباح للنشر، وفي بداية الأربعينات ارسل الدكتور طه حسين تلميذه ابراهيم الشواربي الى لندن لدراسة اللغة الفارسية بهدف ترجمة اشعار حافظ الشيرازي الى العربية مباشرة من الفارسية، وعاد الشواربي بعد حصوله على الدكتوراه في اشعار حافظ، وقام بترجمة غزلياته في مجلدين ترجمة رائعة، اعادت طهران نشرها بالتصوير. وصدرت في القاهرة في سلسلة آفاق الترجمة عندما كان يشرف عليها الشاعر محمد عيد ابراهيم.

غزليات شمس تبريزي

كانت علاقتي بالدكتور ابراهيم الدسوقي شتا قد بدأت في السبعينات، وتوطدت عبر السنين، وتابعت جهده في اتمام ترجمة المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي، والذي كان استاذه محمد كفافي قد ترجم مجلدين منه وأوصاه على فراش الموت أن يتمه. طبع المجلدين الثالث والرابع على نفقته الخاصة قبل ان يصدر العمل كاملا عن المشروع القومي للترجمة، وبعد ان اعاد ترجمة المجلدين الاول والثاني لاسباب شرحها في مقدمة المجلد الأول، في تلك الفترة اقترحت عليه ان يترجم لاخبار الأدب، غزليات شمس تبريزي لمولانا جلال الدين الرومي، ورحت أؤجج حماسه واسهل له الامر، كان غارقا الى اذنيه وقتئذ في ترجمة المثنوي وكان سعيدا باتقانه العمل على الحاسب الآلي، قلت له ان غزليات شمس تبريزي مكونة من مقطوعات شعرية ثلاثة آلاف ومائتين، يمكنه ان يترجمها على دفعات، وكلما تيسر منها قمنا بنشره، وهذا ما جرى بالفعل على امتداد سبع سنوات، أتم خلالها ترجمة مائتين واثنتين وثمانين مقطوعة، عدد ابياتها ثلاثة آلاف وستمائة وتسعين بيتا من الشعر وبقيت حوالي ثلاثة آلاف مقطوعة في انتظار جهد أحد تلاميذه الأوفياء ليتمها، كما أتم هو من قبل ترجمة المثنوي الذي بدأه استاذنا الدكتور كفافي.

لماذا ألححت على الدكتور شتا لترجمة الغزليات؟

أولا: دافع ذاتي بحت، وهو رغبتي في قراءتها والالمام بها، وذلك لوقوفي على خصوصية الشعر الفارسي عموما وروعته، فما البال بالاثار العلوية منه، ولعل اللغة التي تقت الى تعلمها واتقانها اللغة الفارسية، ولكم اطرب لايقاعها الجميل من خلال اغاني شهرام ناظري  ومحمد رضا شجريان، والموشحات الصوفية.

أما السبب الثاني فهو الرغبة في توفير هذا الاثر الهام لقراء جريدة أخبار الأدب، من المؤسف ان عددا من الاثار الهامة لم يترجم بعد الى اللغة العربية، والمثنوي كان من المفروض ان يترجم منذ مئات السنين، لكن لم يحتل موقعه في المكتبة العربية الا بعد أن اتمه الدكتور شتا وصدر في المشروع القومي للترجمة منذ ثلاث سنوات فقط!

من هو شمس الدين تبريزي؟

هنا لابد من الالمام بحياة مولانا جلال الدين نفسه، اذ ولد في مدينة بلخ مزار شريف الآن في افغانستان عام 545 هـ وتوفى سنة 628 هـ بقونية في تركيا، وقد زرت ضريحه الذي يقصده الملايين سنويا من تركيا ومن جميع انحاء العالم. كان والده عالما ادبيا متصوفا، ومنه أخذ جلال الدين، وضع والده كتاب المعارف ويعد من المراجع الهامة في التصوف، هاجر جلال الدين من بلخ عام 617ه، وصل الى قونية واستقر بها، كان العالم الاسلامي مهددا بغزوات المغول في تلك الحقبة، وكان جلال الدين في حاجة الى بيئة أكثر تفتحا مما كان عليه الأمر في بلخ.

وقع قبل استقراره في قونية حادث هام في حياته، اذ التقى بدرويش جوال، مجهول، اسمه شمس تبريز، أو شمس الدين التبريزي، تلا اللقاء الأول خلوة دامت بينهما أربعين يوما، لم يكن يدخل عليهما الا أحد مريدي مولانا واسمه صلاح الدين زركوب، خرج جلال الدين من الخلوة وقد زلزلت روحه زلزالا عميقا، وراح ينشد اشعاره المتدفقة، الحية، والتي تجسدت في تلك المقطوعات الرائعة التي ضمها أيضا، لكنها في الجوهر تعبر عن المغامرة الروحية التي عرفها مولانا جلال الدين من خلال تجربته الصوفية العميقة والتي تبلورت فيها رؤاه من خلال فكرة أو اكتشاف توحد الإنسان بالكون، بالخالق، هل هي مصادفة أن تدور المغامرة الروحية الكبرى للشيخ محيى الدين بن عربي حول نفس الموضوع، في المرحلة الزمنية نفسها التي عاش فيها مولانا؟

في مفتتح المثنوي، يصف مولانا أنين الناي الحزين المنبعث من ألم عميق لفراقه الجذع الذي أجتث منه، انه في حنين دائم الى الأصل، مثل الإنسان الذي يعاني الوحدة والغربة في هذا العالم بعد أن جاء اليه وحيدا، ويعيش وحيدا منبتا عن أصله، ولا يكتمل الا بالعودة الى الأصل والالتحام به من جديد، انها الافكار نفسها التي يدور حولها الديوان المكرس لشمس الدين التبريزي، ذلك الدرويش المجهول، والذي لم يرد عنه في كتب تراجم الصوفية الا اشارات سريعة وبسطور قليلة، مما يدفعني الى الشك في وجوده أصلا، وانه ربما يكون من ابداع مولانا وثمرة لرؤاه، وحتى اذا كان موجودا وسعى يوما، والتقى فعلا بمولانا، فربما رأى فيه ما لم يره الآخرون، وكثيرا ما يلتقى الإنسان بآخر فيضفي عليه ما يتمناه، وما يود رؤيته، أي يصبح الإنسان موضوعا وهدفا لأشواق الشاعر ورؤاه وأفكاره، وهذا أمر دقيق، ربما يكون أقرب الى الحس منه الى العقل، لقد كان شمس الدين التبريزي المتخيل، أو الواقعي من أقوى الاسباب التي فجرت تلك الطاقة الشعرية، الروحية، الفريدة، والتي أفاض من خلالها مولانا.

يقول مولانا جلال الدين الرومي في أول قصائده تلك الأبيات:

ولقد تجمعت ظلال الألطاف مع شمس الفضل ومن كمال عشقه صار اجتماع الاضداد جائزا وعندما اختطف ريح الصبا النقاب من وجهه انمحى خيال الجميع وصار هباء منثورا لكنهم في المحو.. صار وجود كل منهم مائة وجوه، فقد بدا لي المحو وجودا والوجود محوا ويقول في مقطوعة أخرى بعنوان حسناء، جنت: ولا تغتر بعقلك فكم من أستاذ فذ.. كان عمادا للعالم اصبح أكثر حنينا من الجذع الحنان وأنا الذي هجرت الروح، وكالورد مزقت الاكمام. ومن هنا فقد صار عقلي غريبا عن روحي وهذه القطرات من الألباب غلبت لبحر اللب، وذرات هذا الفتات من الروح استهلك في الأحبة فلأصمت ولآمر، ولأخف هذا الشمع، الذي في نوره يتحول الشمس والقمر الى فراشتين.

وفي مقطوعة أخرى: في البداية ولدت من عشقها، وفي النهاية اعطيتها قلبي، كالنمرة تولد من غصن ثم تتعلق بذلك الغصن. اني هارب من ظلي، فالنور مختف في الظل، وكيف يقر له قرار من هو هارب في ظله؟ إن طرف جدليتها لا يفتأ يقول لي: هيا إلى.. فاللعب على الحبال سريعا ما يبدأ، ويقول وجهها المضيء كالشمع، هل من فراشة لتحترق؟

ويقول في مقطوعة أخرى: وبالأمس كان الشيخ يتجول في المدينة صارخا، لقد مللت الوحوش والفخاخ وأريد انسانا قيل له: لا يوجد لقد بحثنا عنه كثيرا، فأجاب، عين ماأطلب ذلك الذي لا يوجد.. ومهما كنت مفلسا، فإنني لا أقبل العقيق الرخيص، بل أريده هو العقيق النادر يبذل لي.. ومهما كانت الأبصار لا تدركه، فهو يدرك الابصار، وأنا لا افتأ أطلب ذاك الخفى الظاهر في صنعه وان شئت الحقيقة فلقد تجاوزت مرحلة كل طلب وكل رغبة، وما أريده هو أن أترك الكون والمكان عائدا الى أصولي

هل من المعقول ان ينشد مثل هذا الشعر من وحي إنسان محدود بالزمان والمكان، هل من المعقول ان تفيض هذه المعاني من أجل انسان له اسم وتعيين، محدد، يجيئ ويغيب؟

بالقطع لا، لذلك فإنني أكثر اقتناعا ان شمس تبريزي ليس الا وسيلة للتعبير عما هو اشمل، عن تلك المحبة الالهية التي يفيض بها الإنسان، الإنسان المغترب عن أصله في وجوده المؤقت عبر تلك الحياة الدنيا، والذي يتطلع الى العودة من جديد الى الأصل. تماما مثل الناي الذي افتتح مولانا جلال الدين عمله الخالد المثنوي بأناته الحزينة لفراق الغض أصله وتوقه الى العودة التي لا نهاية بعدها.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!