سيدي أبو الحجاج الأقصري

سيدي أبو الحجاج الأقصري

 

مدد يا أبا نجم الدين.. مدد يا قطبَ الزمان

بقلم: الضوي محمد الضوي 

 

أبو الحجاج الأقصري، أكبر أولياء الأقصر مكانةً، وأكثرهم شهرةً وعراقةً، المحبّون إذا ذكرتَ لهم في أي مكان أنّك من الأقصر، قالوا لك (لُقصُر أبو الحجاج؟)، تذكر كتب التاريخ أن اسمه (يوسف بن عبد الرحيم بن يوسف بن عيسى الزاهد)، حيث يمتد نسبه إلى الإمام الحسين بن عليّ -صلوات الله وسلامه على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين- وُلد ببغداد أوائل القرن السادس الهجري وتوفي بالأقصر سنة 642 ه، وتذكر أيضا أنه كان مُشرفًا على الديوان في عهد (عماد الدين عثمان بن الناصر صلاح الدين الأيوبي)، ثم ترك العمل الرسمي وتفرغ للعلم والزهد والعبادة، وسافر إلى الإسكندرية فالتقى أعلامَ الصوفية فيها، وتتلمذ على يد الشيخ عبد الرازق الجازولي، وأصبح أقرب تلاميذه ومريديه. ثم عاد أبو الحجاج إلى الجنوب، حيث التقى الشيخ عبد الرحيم القنائي، واستقر بالأقصر حتى وفاته في رجب سنة 642 هـ (ديسمبر 1244 م) في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، عن عمر تخطى التسعين عاما، ودُفِنَ في ضريحٍ داخل مسجدٍ سُمِّي باسمِه بُنِيَ ‏فوق‏‏ ‏معبد‏ ‏الأقصر. وسمعتُ أحدَ شيوخنا، يذكر رؤيا رآها أحد شيوخ عصره الأكابر، تؤكّد أنه كان قطبَ الزمان في عصره.


***

كثيرًا ما سمعتُ أبي يصيح كلما جاءت سيرة أبي الحجاج ” شي لله يا أبو نجم الدين” -هكذا هي كُنْيته- جدتي لأبي كانت دائما ما تجمعنا صغارًا؛ لتروي لنا قصة مجيء أبي الحجاج إلى الأقصر، تقول: جاء من البلاد البعيدة، جاء واستقر فوق معبد الأقصر، حيث كان الطمي قد غطى المعبد بمرور السنين، ولم تعد تظهر منه إلا رُءوس الأعمدة، لقد وجد كاهنة تسيطر على المكان -جدتي لا تعرف ديانة الكاهنة، لكنها تطلق هذا الوصف وتقصد به أنها لم تكن على دين الإسلام- استأذن أبو الحجاج الكاهنة في أن يتخذ له سكنًا على هذه الأرض التي تقع الآن حيث مسجده وضريحه، فرفضت، قال لها إنه لن يزيد فيما سيستقرُّ عليه من الأرض عن مقدار جلد الجمل-كان يتخذ له بساطًا من جلد جملٍ- فوافقت، وفي الليل، قص أبو الحجاج جلد الجمل، وصنع منه شريطًا طويلا على شكل دائرة، ورماه على مد ذراعه، فاستحوذ الشريط على مساحة كبيرة من الأرض، اتسعت لبناء مسجده وخلوته ومكانًا يقيم فيه، وفي الصباح، عندما رأت الكاهنة ما فعله أبو الحجاج أبتْ وحاولت مقاومته، فـ(سَخَطَها) أبو الحجاج حجرًا، لقد كان بطلا عظيما، هكذا تقول جدتي، وأنا أتعجب، لكن الحيلة الذكية تروقني..

عمي شحات لم يكن يعتقد كثيرًا في قدرات الأولياء وكراماتهم، خطر في باله مرّةً أن يزور ضريح أبا الحجاج، ذهب وخلع حذاءه بالخارج ودخل للزيارة، وعندما خرج لم يجد حذاءه، بحث في كل مكانٍ لكنه لم يجده، غضب وأرسل من يخبر أهل البيت أن يرسلوا له حذاءً ليعود به، توجّه عمي شحات إلى المقام وخاطب سيدي أبا الحجاج قائلا: أيصحُّ أن أزورك فأُسْرَق عندك؟ أهذا هو إكرامك لضيوفك؟! ثم التفت إلى يمينه -دون قصد- فوجد حذاءه إلى جواره! قصَّ لي هذا وأكّد أنه لو سمع هذه الرواية من آخَر لما صدقها، لكنه موقفٌ حدث معه هو..

قبل سنوات ليست بعيدة، في التجديد الأخير لمسجد أبي الحجاج-الذي بُنِيَ على الطراز الفاطمي- شاع في الأقصر أن حريقًا نشب في الضريح، وأن سبب الحريق تنقيب بعض المختصين بالآثار عن كنوزٍ أسفل المقام، خرجت عليهم نارٌ التهمت أحدَهم، لأنهم اجترأوا على نبش قبر الشيخ، وأن هيئة الآثار أغلقت المكان لإخفاء الأمر عن أهل المدينة، لكن الناس تعلم قدرَ أبي الحجاج وقدر كراماته، ومدى حُرمة أن يتجرأ أحد على المقام لأي سبب كان.

طفلا كنت أزور المقام في طقس يسمُّونَه (الزُوَّارة) نأخذ العريس والعروسة قبل يومين أو أكثر من ليلة الزفاف، ونذهب بهم إلى المشايخ (أضرحة الأولياء)؛ لينالوا بركتهم، نوزّع الحلوى على زوار الأضرحة وتنطلق الزغاريد، زيارة ضريح سيدي أبي الحجاج مرتبطة لديّ بالزغاريد والحلوى، وفي سِنِي الجامعة الأولى كنت أزور الضريح وأقول: لماذا اختار أبو الحجاج أطلالَ المعبد مكانًا لبناء مسجده وضريحه؟! هذا جائرٌ، وظالم لبقايا المعبد، ظالمٌ لذلك الأثر الحضاري العظيم، جزء كبير من المعبد يقع أسفل المسجد-لأن المسجد أُقِيمَ إبّان الحكم الأيوبي لمصر، وقتها كان المعبد مطموسًا أسفل مستوى الأرض، بطمي النيل، ولمّا حفرتْ هيئةُ الآثار في ذلك المكان، في عصرنا الحديث، بحثًا عن بقية المعبد، فرّغوا المكان من الطمي والتراب المتراكم، لتظهر أعمدة المعبد وجدرانه، في حين أنهم أبقوا على الجزء الواقع أسفل المسجد؛ لأن التنقيب فيه يعني هدم المسجد، وهو ما رفضه أهل الأقصر، بالتالي ظل المسجد على ربوة عالية فوق المعبد، يصعد لها الناس بسلم مرتفع- وبِمُضِي الوقت، عرفت لماذا اختار أبو الحجاج هذا المكان؟ لقد استهوته طاقته الروحية، تجربة أبي الحجاج الروحية مكّنته من الشعور بطاقة المعبد-خاصةً أنه بين جدران المعبد وفي الجزء الواقع أسفل المسجد تماما، كانت قد وُجِدَتْ بقايا كنيسة تنتمي إلى العصر الروماني- الطاقة الروحية التي حواها المعبد ومن بعده الكنيسة، أغريتا شعورَ الرجلِ الروحي بالإقامة هنا، لعلّ الأمر ذاته هو ما حدث مع الحساسنة-أحفاد سيدنا الحسن بن عليّ- غرب مدينة الأقصر، من أبناء الشيخ الطيّب الحسّاني، حيث كانت ساحة الشيخ الطيّب-جدّ شيخ الأزهر الحالي د.أحمد الطيب- مُقامةً بمدينة القُرْنَة بالقُرْبِ من مقابر الفراعنة ومعابدهم، وهو ما حدثَ مع حَسَاسِنَة الكَرْنَك-قرية الكرنك التي تقع بها سلسلة معابد الكرنك الشهيرة- أبناء الشيخ عوض الله الحسّاني، حيث نجد مقام الشيخ عوض الله بالكرنك متاخمًا للمعبد، والشيخ (عليّ) أيضا مقامه في مدخل معبد الكرنك، وفي مركز إسنا يقع مقام الشيخ الضوّي إلى جوار معبد إسنا، هو وعدد كبير من الأولياء، لقد اختار الأولياء معابد الفراعنة ومقابرهم، مكانًا عابقًا بالطاقة الروحية، صالحًا للإقامة والعبادة والخلوة.

وإذا زرتَ مقام سيدي أبي الحجاج الأقصري الآن، فإن أول ما يقابلك هو غرفة الضريح، وعلى يمين الضريح ستجد غرفة السيدة تريزه، زوجة سيدي أبي الحجاج الأقصري، تلك المسيحية التي كانت عابدةً، تقيم بالقرب من المكان الذي استقر فيه أبو الحجاج [ لعلَّ تريزه هي هي تلك الكاهنة التي استقرّ بالقرب من مكانها أبو الحجاج، لكن في رواية أخرى، أقرب إلى الصواب من رواية الكاهنة التي روتها لنا جدتي] لقد كنتُ أدخل إلى غرفة السيدة تريزه لأقبّل الضريح كما أفعل مع ضريح الشيخ، لكن روى لي أحد المُحبّين مؤخرًا أن السيدة زينب زارت مُحِبًّا لها في المنام كان يدخل إلى زيارة ضريحها دون استئذان، وقالت له: لو أنني حيّة في قلبكَ ما كنتَ لتدخل عليَّ دون أن تستأذِنَ أولا، إننا أحياء، والاستئذان قبل الدخول إلينا واجب، من يومها: قلت كم آذيتُ سيدتي تريزه بدخولي حجرتها، هم أحياء، وكان عليّ أن أستأذِنَ قبل الدخول، لذلك آثرتُ من وقتها أن أكتفي بالسلام من الخارج، أميل إلى أن السيدة تريزه لم تُسْلِم، يؤكد هذا لديّ بقاء اسمها “تريزه” دون أن يصير فاطمة أو خديجة مثلا، على عادةً المتحوّلين إلى الإسلام؛ تشبُّهًا بأسماء النساء من آل بيت النبي (ص).

ضريح الشيخ أبي الحجاج حالة ثقافية ثرّة، فيّاضة بالتنوّع والمحبة، إنه ضريح وليّ مسلم، في أحضان معبد فرعوني، وأعلى بقايا كنيسة مسيحية، ضريح يضمّ العابدَ المسلمَ وزوجته العابدةَ المسيحية، كل هذا التنوّع وكل هذه المحبة في مكانٍ واحد، وفي حين أن الوعي العربي يرى في المرأة عورةً، فإن أبا الحجاج تُدفن زوجته إلى جواره، وليس بإمكان زائريه زيارتُه دون زيارة زوجته العارفة بالله السيدة تريزه، وفي حين أن الوعي العربي يرى في التماثيل أوثانًا، وفي ديانة الفراعنة كُفرًا، فإنّ الشيخ أبا الحجاج لا يتخيّر من الأماكن إلا معبدًا فرعونيًّا ليكون مقرًّا له، ولعبادته، ولنشر المحبة والتصوف بين الناس!

تلامذة الشيخ مدفونون إلى جواره، ذات مرّة كنت مغادرًا بعدما زرتُ الضريح وقرأتُ الفاتحة، فاجأني خادم الضريح المجذوب الذي أحبه، قائلا بلغة متلعثمة: (جدّك، جدّك مغربي سلّم عليه.. مستنيك..) وأشار باتجاهِ اليمينِ، فانتبهت إلى أنني لم أزر الشيخ المغربي -أحد تلامذة الشيخ أبي الحجاج- منذ فترة، ذلك الذي يقع ضريحه بعيدًا على حدود المسجد مع المعبد، من الجهة الغربية، مكان قلما يزوره أحد، وأنت إلى جوار مقام سيدي المغربي لا يفصلك عن جدار المعبد الذي يقابلك سوى مترين أو ثلاثة أمتار، بعد أن قراءة الفاتحة عند ضريح الشيخ المغربي وقفت مستندًا إلى السور الحديدي أتابع النقوش التي على جدار المعبد، انتبهت إلى صورة الإله حورس، رجل منتصب مفتول العضلات متسق البنية، له رأس صقر، حاد وقوي ذي نظرة ثاقبة متوثبة، وفي القلب من جسد الرجل، هناك حفرة كبيرة صنعتها عوامل التعرية، بداخل هذه الحفرة استقرت حمامات جميلات، ربما اثنتان أو ثلاث، صنعنَ في الحفرة عشًّا لهنّ، ، إحداهنَّ شديدة البياض، والأخرى ما بين الزرقة والخضرة، كحمام الحرم المكّي تماما، رحت أتابع المشهد بدقّة، أي توصيف للألوهة أجمل وأبلغ من هذا! إنها قوّة الصقر، وشرفه –الصقر لا يأكل الجِيَف- ورحمة الحمائم، صفات الجلال، وصفات الجمال، الحمائم في القلب من الصقر، علمت وقتها أنني صار لي بمسجد سيدي أبي الحجاج أقرباء وأهل تتوجّب عليّ زيارتهم غير السيدة تريزه وسيدي أبي الحجاج وتلاميذه، إنها الحمائم، ألقي عليهم السلام كلما ذهبت، وأقرأ لهم الفاتحة تماما كما اقرأها لأبي الحجاج وزوجه وتلامذته ..

       قبل عامين، في لحظة من أشدّ لحظاتي يأسًا وقنوطًا بسبب زلاتي التي لا تنتهي، وفي ليلة يحتفل فيها بعض المحبين بميلاد السيدة عائشة، زرتُ ضريح سيدي أبي الحجاج، وجلستُ إلى بعض الأهل من الأُسرة الحجَّاجية، حفدة الشيخ -لهم غرفة أو غرفتان بجوار الضريح يستقبلون فيها المحبين- حكى لي أحدُهم موقفًا لسيدي أبي الحجاج، بعد أن نصحني بأن أعطّر النقود قبل أن أتصدّق بها كما كانت تفعل السيدة عائشة-على سبيل الاحتفال بمولدها في تلك الليلة- لقد كانت السيدة عائشة تبرّر هذا بأن النقود ستقع في يد الله! قصّ لي الرجلُ أن سيدي أبا الحجاج سأله بعضهم: مَن شيخك؟ فقال أبو جُعْرَان (نوع من الخنافس)، فظنوا أنه يمزح، فقال: “لست أمزح”، فقيل له” “كيف؟”، قال: “كنت ساهرًا في ليلة من ليالي الشتاء، وإذا بـ(أبي جُعران) يصعد منارةَ السِّرَاجِ-العمود المعدني الذي يحمل القنديل أو الشُّعلة المُضَاءة- فيزلق لكونها ملساء، ثم يرجع ويحاول مرةً أخرى، فعددت عليه تلك الليلة سبعمائة زلقة، ثم يرجع بعدها، ولا يكلّ، فتعجّبتُ في نفسي، فخرجت إلى صلاة الصبح ثم رجعت، فإذا هو جالس فوق المنارة بجنب الفتيلة، فأخذت من ذلك ما أخذت” وعقّب الذي يحكي لي قائلا: لقد قال سيدي أبو الحجاج في نفسه: إن كان هذا الكائن الضعيف، يحاول الوصول إلى هذا النور الهيّن، ولم يكل أو يمل من السقوط حتّى وصل، على كثرة انزلاقه ووقوعه، فكيف بالذي أراد النور الأكبر؟ “الله نور السماوات والأرض” ؟!

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!