حوار المتصوفة مع إبليس

حوار المتصوفة مع إبليس

حوار المتصوفة مع إبليس

بقلم: مختار خواجه 

  يمثل إبليس رمزًا للشرور والحث عليها في مختلف الأديان، ويمثل كذلك رمزا للعداوة المستميتة، وقد حفظ  لنا التراث الإسلامي جملة من الحوارات الـمتنوعة التي دارت بين إبليس والأنبياء، وأشهرها حوار إبليس مع يحيى  عليه السلام حول أصناف البشر وفقا لطاعتهم، وانتهى الأمر بوضع حديث طويل مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن حوارا مطولا بين إبليس والنبي صلى الله عليه وسلم، يوضح فيه إبليس معالم الشر والمكر الذي يقوم به تجاه بني آدم.

 ولعل جذور قصص الحوار بين الصوفية والأنبياء ترجع لتلك القصص الكثيرة المفتقرة للإسناد، والتي تروي حوارا بين يحيى عليه السلام وإبليس، وفي أخرى، بين موسى عليه السلام وإبليس، وأخرى بين سليمان عليه السلام وإبليس، وقد تنوعت حسب المشهور من الفتن على بني إسرائيل، ففي حالة يحيى عليه السلام تحدث إبليس عن أصناف البشر، وأنهم إما الأنبياء المعصومون، أو العصاة الذي يتوبون، وهؤلاء أكثرهم إرهاقا لإبليس، وآخرون منهمكون في المعصية لا يتوبون، فهم مريحون، وأما قصته مع موسى عليه السلام، فحذره فيها من الخلوة بالنساء، ورغبه فيها في الصدقة، وقصة مع سليمان عليه السلام، وسأله فيها عن حيلته مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرد بأنه سيجعل المال أشهى عندهم من شهادة التوحيد.

واللافتُ للنظر حقا، أن قصة تجربة عيسى عليه السلام من قبل الشيطان ترد بإسناد منقطع لمحمد بن إسحاق، يرويها الكلاباذي في فوائد الأخبار، حيث ساعدت الملائكة المسيح عليه السلام، وضربت إبليس بقوة، حيث كان إبليس قد اقترب من المسيح، وأراد إغواءه بأن الشياطين ستعبده من دون الله تعالى، وستتبعهم بنو آدم، فيكون المسيح عليه السلام إله الأرض، فاستعظم المسيح عليه السلام ذلك وسبح الله تعالى وحمده، فنزلت الملائكة، فضربت إبليس..

 واللطيف أن القصص حول حوار إبليس مع الصحابة أو التابعين الأوائل نادرة، أصحها الحديث المشهور في آية الكرسي وفضلها، حيث لقي أبو هريرة الشيطان لثلاث ليال أثناء حراسته طعام الصدقة، فأمسك به وهو يطلب أن يفلته، وفي كل مرة يخبره صلى الله عليه وسلم أنه سيعود، وفي الليلة الأخيرة، أكد أنه لن يعود، وأن لو قرأ آية الكرسي فلن يقربه شيطان.

  ويروى في الآثار أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، والذي رأى إبليس في المنام فأراد ضربه بالعصا، فأخبره بأنه لا يهاب هذا، لكنه يخشى الاستعاذة وشعاع قلوب الصادقين، ويروى عن عامر بن عبد قيس وتمثل الشيطان له بهيئة حية تدخل ملابسه، وتخرج أثناء الصلاة لتلهيه.  

لاحقا وبعد حقبة تاريخية مطولة، نجد في منتصف القرن الثالث الهجري حوارا حقيقيا واضحا بين أحمد بن حنبل وإبليس، وذلك حين احتضار أحمد بن حنبل، فبينما كان أبناء الإمام يلقنونه الشهادة، كان يرد بقوله: لا .. لا، ثم قال لهم: ليس بعد ليس بعد، فتوقفوا، فاستيقظ، موضحا أن إبليس إغواءه بالتبدي له بهيئة أبيه مرة وأمه مرة، وإغوائه باتباع اليهودية والنصرانية، وكان الإمام يرفض ذلك، لينتهي الأمر بانزواء إبلبس في زاوية يردد: نجوت مني يا أحمد، فقال له: ليس بعد..

  وفي مطلع القرن الرابع الهجري دفاع الحلاج عن  إبليس واعتباره له أفضل الموحدين، وهو موقف شذ فيه عن السياق العام، والخلل يرجع لمشكلة معرفية عند الحلاج وهي مشاهدة الوحدانية، والغفلة عن حقوقها، ما أوقعه في فخ خطير، خالف به بدهيات الاعتقاد الإسلامي القويم.

  وفي القرن ذاته، ويروى عن التستري رؤيا منامية مشابهة لما مر معنا في قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فالتستري يسأل إبليس عن ما يشق عليه، فيجيبه استعاذة المستعيذين، وفي وقت معاصر، لقي إبراهيم الخواص شيطانا في الطريق، فرفسه الشيطان، فتألم، وسأل الخواص عما إن كان وليا، فرد الخواص بأنه كذلك، فقال نعم، فأوضح له الشيطان بأنه من الصعب على الشياطين تحمل الأولياء، وهرب.

 رؤيا الجنيد البغدادي لإبليس عاريا يتلاعب بالناس، وفي رواية يسير بين الناس غير مبال بهم، فسأله عن عدم حيائه من الناس، فقال له: وهل هؤلاء هم الناس الناس هم الجالسون الساعة في مسجد الشونيزي فهؤلاء أتعبوني، فاستيقظ الجنيد من فوره، وذهب للمسجد المذكور فوجد ثلاثة أحدهم أبو الحسين النور ي الزاهد، فقال له: كلما قيل لك شيء جئت؟

ولاحقا تطورت الحوارات لتغدو مرتبطة بمشاكل المتصوفة، حيث يروى أن أبا سعيد الخراز رأى إبليس في ناحية، فطلب منه الاقتراب منه، فنبهه لقلة طمعه في الصوفية، وأن له فيهم حيلة، وهي صحبة الأحدا، ولعل واحدة من أواخر القصص الواردة عن الصوفية مع إبليس ترد بلفظ الشيطان، حيث توهم بأنه أحد الشياطين وليس إبليس ذاته، وهي قصة الشيطان وعبد القادر الجيلاني، حيث تبدى له أثناء العبادة بهيئة عرش وعليه صور وألوان، فخاطبه مخادعا له بأنه الرب، وأنه يبيح له ما حرم على غيره، فتعوذ الجيلاني منه، فتغيرت هيئته، وقال له: فتنت سبعين من أهل الطريق بهذه الحيلة، وغلبتني بعلمك، فقال الجيلاني: بل بفضل الله ورحمته.

 وبتحليل موجز لهذه القصص –عدا الحديث  الوارد في فضل آية الكرسي- ، أجد أن عنصر الجذب فيها هو العداوة القديمة بين البشر وإبليس، وأن إبليس لا يكف عن محاولاته لإغوائهم بالطرق كلها، كما أن إبليس يخاف الطائعين، ويتيهيب الأولياء، ويستسلم لهم، فيحاورونه، دون أن يحدث أي أذى لهم، ومن الملاحظ الغرض الوعظي لهذه القصص، فلا يتحدث إبليس عن المس والصرع أو دخول جنوده في الإنس، بل إن واستسلام إبليس للأولياء وتفاعله معهم، بدون أن يتمكن من إيذائهم، بل إنه يجيب على أسئلتهم، ويشرح لهم بروح غاضبة يائسة من أن يفعل أي شيء لهم.

  كما يظهر الأولياء في هذه القصص راغبين في التعرف على مكائد الشيطان، الذي يبدي استسلاما كبيرا لهم، ويطلعهم على بعض الحيل الخفية، والتي تتمحور حول الشهوات، التي عمل الصوفية على محاربتها.

 كما يظهر الأولياء كذلك باعتبارهم المتسلحين بالإيمان الكافي للحوار مع إبليس بدون أن يقعوا في خداعه لهم، وهم القادرون على كشف حيله وألاعيبه، بل ويتفاعلون معه في عالم الرؤيا أو الواقع بثقة وقوة.

   كما أن القصص تعكس القضايا التي اشتغل عليها كل فرد، فبالنسبة للصحابة والتابعين، بدا جليا أن هاجس لحظتهم كان معرفة إبليس وحيله، بينما كان هاجس أحمد بن حنبل رحمه الله التغلب على إبليس في آخر مرحلة من حياته، بينما بلغت البلبلة في الفكر الصوفي مرحلة أن يفطن الجيلاني لحيلة إباحة المحرمات له من قبل الشيطان، وتشديده على دوام الشريعة واستمراريتها وعدم نسخها.

  لقد عكست هذه القصص التراثية الإسلامية، رؤية إنسانية اعتيادية –ما عدا حديث آية الكرسي- للعداوة مع إبليس ومجالاتها، وأوضحت الهواجس الكامنة في نفوس الطائعين على اختلافهم، وعلى مدى عصورهم المتتابعة.

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!