الأسرة الصديقية الغمارية وجهودها العلمية
د. محمد شداد الحراق
أستاذ باحث في التراث
المغرب
على إثر وفاة الشيخ العالم فقيه النوازل الأستاذ عبد الباري الزمزمي رحمه الله، سليل الأسرة العلمية الصديقية الغمارية، بيت العلم والتصوف بشمال المغرب، أقدم للقارئ العربي ترجمات لأبرز أعلام هذه الأسرة التي جمعت بين العلم والتصوف، وتركت رصيدا من الكنوز والدرر التي أثرت الخزانة العلمية الإسلامية.
تمهيد
تعددت الأقلام الأصيلة المبدعة المحررة للعقول البانية للنفوس، وتدفقت عطاء سخيا وإبداعا راقيا. رفدت الحياة العلمية، وحركت دواليب الفعل الثقافي تحصيلا وتدريسا وتأليفا، وخلفت للأجيال الجديدة ذخيرة عظيمة من المصنفات وكنوزا ثمينة من الآثار الشاهدة والأعمال الخالدة، لكنها- مع كل الأسف والحسرة – عاشت في الظل مغمورة معزولة عن الأضواء، بعيدة عن المراكز والواجهة والمواقع الأمامية، لم تحفل بمنصب، ولم تسْع إلى مال أو جاه أو شهرة، ظلت طوال حياتها تعمل بصبر وفي صمت، تبني العقول بأدوات العلم وآلياته، وتهذب الأنفس والأذواق بمناهج التصوف وطقوسه، وتربي الصغار والكبار في مجالس الذكر وحلقاته. وبعدما أدت رسالتها في هذه الحياة، انسحبت عزيزة بهدوء، وودعت دنيا الناس بلا صخب ولا ضوضاء، تاركة ذكرا طيبا يضمن لها امتداد العمر بعد انقضاء الأجل، ويعطيها حياة جديدة في قلوب الأحبة والطلبة والصحب والأهل.
ذاك شأن العديد من رجال العلم والتصوف في وطننا، لم تنصفهم الأيام، ولم تحتف بهم الأقلام، وظلت جهودهم نسيا منسيا. ومن أبرز هذه الأسماء العلمية العريقة أبناء الأسرة الصديقية المغربية، وهم من العلماء الذين وشموا أسماءهم في سجل التاريخ الثقافي المعاصر، بما ساهموا به في ميادين البحث والتصنيف والتربية والوعظ، فصاروا بحق تراثا غنيا لهذه الأمة وملكا مشرفا لها ومكتسبا حضاريا لهذا الوطن.
لقد ساهمت هذه الأسرة العلمية بفضل جهود أبنائها في خلق حركة علمية حقيقية في شمال المغرب، ارتكزت على الاهتمام بالعلم الشرعي تحقيقا وتصنيفا وتدريسا. فنبغ العديد من أبناء هذه الأسرة بشكل خاص في علم الحديث، وكان لهم فيه التميز والريادة في المغرب. ونالوا بهذه الجهود الحديثية شهرة في بلاد المشرق، وأصبحوا مرجعا من المراجع الحديثة في هذا العلم.
أسست الأسرة الصديقية تيارا علميا أصيلا يجمع بين العلم والتصوف، وأنشأت مدرسة حديثية جديدة تضاهي المدارس المشرقية. وقد تميزت جهود العلماء الصديقيين بالجرأة في التحقيق والدقة في التوثيق، واكتسبوا منهجا خاصا في دراسة الحديث النبوي مكّنهم من الرد على كبار المحدّثين من القدماء والمعاصرين. فكان لهم مناظرات وردود وخصومات ذات طابع معرفي ومذهبي مع بعض العلماء على صفحات الجرائد والمجلات وفي مجالس العلم والإقراء.
والجدير بالذكر أن تميز هذه الأسرة العلمية في مجال علم الحديث حرّك شهية طلبة العلم من الداخل والخارج للتواصل مع هذه المدرسة، وللاستفادة من أعلامها. وهكذا تتلمذ عليهم نخبة من فقهاء المغرب ومن الأساتذة الجامعيين والخطباء والوعاظ والطلبة وسائر المهتمين بالعلوم الشرعية. وقد جعلوا من الزاوية الصديقية معهدا حقيقيا، تدرّس فيه مختلف المواد في الحلقات ومجالس الإقراء على النمط القديم. وقد عاش أغلبهم حياة زهد وتعفف وانقطاع عن ملذات الحياة، عاشوا بعيدين عن الأضواء، وتفرغوا للعلم والبحث والرحلة والتدريس والتأليف والتربية. ومن أبرز العلماء المحققين في هذه الأسرة:
- الشيخ محمد بن الصديق1
هو أحد كبار الحفاظ الذين عرفهم المغرب في العصور الأخيرة، وأحد رجال العلم والتصوف. عاش طفولته ببلاد غمارة بشمال المغرب، وخلال سنين صباه حفظ القرآن بروايتي ورش وحفص، فأغرم بعلم القراءات وأراد التبحر فيه، ولذلك أرسله والده نحو مدينة فاس ليزداد علما وتحصيلا. فحضر مجالس العلماء ودروس الشيوخ، وأخذ عنهم العديد من الفنون والمعارف. وهناك في فاس تعرف على التصوف، فانخرط في سلك الطريقة الدرقاوية الشاذلية. وأصبح من الملتزمين بها ومن الدعاة لها. وبعدما تحصّل نصيبا من العلم عاد إلى بلدته، ثم استقر بطنجة حيث أسس زاويته الصديقية . فباشر عملية نشر العلم في المسجد الأعظم ،إذ كان يدرس القرآن والتفسير والحديث والفقه المالكي والسيرة واللغة. ومما ذكره عنه ولده الشيخ عبد الله بن الصديق، أنه كان يستغل دروسه ليحرض المغاربة على مقاومة المستعمر. بل كان يهاجمه في دروسه بشكل صريح. وإلى جانب اهتمامه بتدريس العلوم والخطابة، كان الشيخ ابن الصديق يتولى بنفسه تربية المريدين وفق الطريقة الدرقاوية. وكان أبناؤه لا يفارقون مجالسه، بحيث كان يتعهدهم منذ صغرهم ويلقنهم العلوم والتربية الصوفية ويحثهم على الطلب والتحصيل والبحث والمشاركة في التأليف والتصنيف. وعن جهوده العلمية يقول ولده الشيخ عبد العزيز:” كان والدي رضي الله عنه يتعاهدني بالنصائح والإرشادات التي تضيء أمامي الطريق، وتكشف عن سبيل السير فيما ينفعني في ديني ويقرب لي طريق التعلم….لم يكن يمر علي يوم دون أن أذاكره وأسأله في شتى العلوم والفنون المختلفة، فكان يعطيني رحمه الله ورضي عنه في كل موضوع أسأله عنه، قواعد عامة تكفيني وتغنيني عن كثير من البحث والمطالعة، فنفعني ذلك جدا. فكان رحمه الله يسر بذلك ويحثني على الاستزادة من البحث والمعرفة”2
ويحكي عنه ولده الشيخ عبد الله أنه كان مفتي زمانه على المذاهب الفقهية الأربعة. وكان أعلم أهل وقته وأحد المجتهدين ذوي الكفاءة في استنباط الأحكام الفقهية. ولهذه المكانة العلمية الرفيعة قصده الطلبة من المغرب ومن خارجه، إذ تتلمذ عليه علماء من المغرب والجزائر. وكان أحد العلماء المشاركين في المؤتمر العلمي الذي نظمته الأزهر حول الخلافة. وكان لحضوره دور في انفتاحه على الحياة العلمية بالبلاد المصرية، وفي ربط الاتصال مع علماء الأزهر وعلماء البلاد الإسلامية. عاش حياته بين العلم والتصوف، ينشر السنة ويحارب البدع ويربي الأجيال على سلامة القلب وطاعة الله ومحبة الخير إلى أن لقي ربه سنة1354هـ.
- الشيخ أحمد بن الصديق3،المكنى بأبي الفيض:
هو أكبر إخوته ومؤسس التيار الحديثي في الزاوية. ويمثل الأب الثاني للعلماء الصديقيين بعد والدهم الفقيه الجليل الشيخ محمد بن الصديق. فبعد تتلمذهم على والدهم، وأخذهم عنه أصول التربية الدينية الصوفية، وحفظهم القرآن بروايتي ورش وحفص، وتلقيهم دروس النحو وعلوم اللغة والحديث والمنطق، جلسوا إلى أخيهم الأكبر، ونهلوا من معارفه وعلومه. بحيث أصبح الشيخ أحمد بن الصديق خليفة والده ونائبه والراعي الأول لشؤون الأسرة والزاوية. ولد سنة1320هـ، وتعهده والده بالتربية والتعليم إلى أن أصبح نموذجا للمثقف المغربي بمفهومه التقليدي. فبعدما حفظ القرآن على والده، انقطع لدراسة العلوم. فجالس العلماء وأخذ عنهم. ولما نال من العلم نصيبا، بدأ يفكر في الرحلة على عادة الطلبة المغاربة. لكنه فضل التوجه نحو المشرق. فقصد بلاد مصر والشام والحجاز. وهناك تعمقت مداركه، وتنوعت معارفه، واتسعت نظرته إلى العلم وفنونه. تعلق بعلوم الحديث ومناهجه، الشيء الذي دفعه إلى التخصص في هذا العلم والمشاركة فيه والتصنيف في مناهجه ورجاله وآلياته. بحيث تجاوزت مصنفاته مائة وعشرين كتابا، من أشهرها:
– (المداوي لعلل المناوي) ويقع في ستة مجلدات ضخمة.
– (هداية الرشد في تخريج أحاديث ابن رشد) يقع في مجلدين. و(المستخرج على الشمائل).
– وترجم لنفسه في كتاب( البحر العميق في مرويات ابن الصديق).
– وترجم لوالده في كتاب( سبحة العقيق في مناقب ابن الصديق).
وله مجموعة من الفهارس وغيرها من المصنفات. فصار بذلك أحد كبار المجتهدين وخاتمة الحفاظ في العصر الحديث. ونظرا لتألقه وذيوع صيته، لحق به إخوته بعدما قرر الإقامة بمصر، وتتلمذوا عليه مع من لازمه من علماء مصر وغيرها من البلاد المشرقية. وظل هناك يمارس التدريس والتلقين والتأليف إلى أن وافته المنية بالقاهرة سنة1380هـ.
- الشيخ عبد الله بن الصديق4،المكنى بأبي الفضل
هو أحد كبار الحفاظ المحدثين في البلاد المغربية، وأحد علماء الأزهر. تربى في أحضان الزاوية الصديقية، ينهل من معينها صنوف العلوم والمعارف. حفظ القرآن على يد والده، ولما أكمل الحفظ بروايتي ورش وحفص، كما حفظ على يده بعض المتون، والدروس الأولى في اللغة والحديث والفقه من خلال بعض الشروح. ثم تاقت نفسه إلى الرحلة العلمية في ربوع المغرب، وقد شجعه والده على ذلك، فقصد مدينة فاس كوجهة علمية أولى في مساره الدراسي. وفيها التقى بعلماء القرويين، وتلقى عليهم علوما شتى، وقرأ مصنفات متنوعة كالحديث والفقه واللغة والفرائض والتصوف والمنطق. وبعدما نال حظا وافرا من العلم عاد إلى الزاوية الصديقية بمدينة طنجة، ليتهيأ لمرحلة جديدة في مسيرته العلمية، وهي مرحلة نحو الديار المشرقية للالتحاق بأخيه الشيخ أحمد بن الصديق، وذلك سنة1349هـ، وهناك في مصر كان له طموح كبير، حيث تفرغ لدراسة الفقه الشافعي، وتتلمذ على كبار علماء الأزهر ،وحضر مجالسهم وحلقات الإقراء، فنال الإجازات منهم، لما لمسوا فيه من نبوغ وتحقيق وهمة عالية ومشاركة موسوعية. وقد تمكن من حذق اثني عشر علما، الشيء الذي مكّنه من الحصول على شهادة العالمية التي تمنحها الأزهر للطلبة الغرباء سنة 1350هـ. ومنذ ذلك الحين لمع نجمه وذاع صيته، وأصبح من رموز العلماء في مصر، يقصده الطلبة ويترددون على مجالسه ويلتفون حوله لينهلوا من علومه. وفي مصر قضى معظم حياته. وعن معارفه يقول:” عرفت بفضل الله عدة علوم، منها ما تلقيته عن شيوخي بالقرويين والأزهر، وهو علم العربية والفقه المالكي والشافعي والأصول والمنطق والتفسير والحديث والمصطلح والتوحيد والمقولات وعلم الوضع وآداب البحث والمناظرة والفرائض. ومنها ما لم أتلقه على أحد، وهو: علوم البلاغة والتجويد والترقيم.ومعرفتي لهذه العلوم ليست بدرجة متساوية،بل منها ما أنا قوي فيه، كالنحو والأصول والمنطق والحديث والتفسير. ومنها ما أنا فيه متوسط كالفقه والمقولات والوضع وآداب المناظرة. ومنها ما أنا فيه دون المتوسط، وهوعلم الفرائض.”5
لقد كان الشيخ مدمنا على التأليف والتصنيف، فلم يترك مسألة من مسائل العلوم إلا وصنف فيها. وقد تنوعت مضامين كتبه بين العقائد والتفسير وتخريج الأحاديث والتحقيق في المتون والأسانيد والردود على بعض العلماء، وخصوصا ردوده الكثيرة على الشيخ الألباني في بعض المسائل العلمية6، وإبداء الرأي في المسائل والقضايا الخلافية وتصنيف كتب التراجم والمناقب… ومن بين مؤلفاته:
- الأربعون حديثًا الغمارية في شكر النعم
- الأربعون حديثًا الصديقيّة في مسائل اجتماعية
- خواطر دينيّة (في ثلاث مجلدات)
- الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي
- تخريج أحاديث لمع أبي إسحاق الشيرازي في الأصول.
- عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
- الإحسان في تعقيب الإتقان في علوم القرءان.
- القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع.
وبعد ما كسب شهرة واسعة في بلاد المشرق وتخرج عليه نخبة من رجال العلم، عاد إلى موطنه سنة 1389هـ، لمواصلة مسيرة التدريس والتأليف في رحاب الزاوية الصديقية وفي فناء بيته، فأقام الدروس العلمية، وتحلق حوله نخبة من الأساتذة الجامعيين والطلبة والمثقفين، واستفاد منه خلق كثير. وظل على هذه الحال يعمل في صمت، زاهدا في الدنيا ومتاعها، إلى أن لبى نداء ربه بطنجة سنة 1413هـ.
- الشيخ محمد بن الصديق الملقب بالزمزمي
هو أحد كبار أبناء الأسرة الصديقية، كانت ولادته في الديار المصرية إثر رحلة الحج التي أنجزها والده رفقه عائلته سنة 1330هـ. تربى في أكناف الزاوية الصديقية وحظي بتربية صوفية خالصة، وتلقى على يد والده القرآن وبعض أصناف العلم، كما تلقى دروسه الأولى عن أساتذة الزاوية وفي مقدمتهم أخوه الشيخ أحمد بن الصديق.
وبعدما حفظ القرآن شرع في حفظ المتون كشأن الطلبة المغاربة، ولما بلغ سن الفتوة تاقت نفسه إلى الرحلة طلبا للعلم. فالتحق بأخويه أحمد وعبد الله بمصر، وهناك تفرغ للتحصيل والطلب. وفي مصر درس على كبار علماء الأزهر. وتفقه في الفقه الحنبلي. ومنذ ذلك الحين بدأت ملامح التميز تبرز في شخصيته العلمية.
كان الشيخ الزمزمي في شبابه منتصرا للتصوف، معتنقا لتصوراته، داعيا إليه، بحيث تشرّب التربية الصوفية وانخرط في أجوائها والتزم بتعاليمها. وقد كتب كتابا دفاعا عن أهل التصوف بعنوان: “الانتصار لطريق الصوفية الأخيار”، لكنه بعد مدة تراجع عن مذهب التصوف وأعلن براءته من كل ما يربطه بالزاوية. وفي ذلك يقول: “لهذا رجعت عن القول بالتصوف بعد أن كنت من المعتقدين له والمناصرين له..وذلك بسبب البيئة التي نشأنا فيها”7
وقد حاول الشيخ تبرير موقفه الرافض حتى يتم فهمه على وجهه الصحيح. فالشيخ الزمزمي يؤكد على أنه لا ينكر التصوف في ذاته كعلم، وإنما ينكر كل ما يصدر عن بعض الصوفية من زيغ وبدع وانحراف:” نحن لا ننكر التصوف الذي هو علم كعلم الفقه الذي كان العلماء يدرسونه ويعملون به..وإنما ننكر ما عليه المتصوفة الجاهلون من البدع المضلة.. والأعمال المنكرة…”8 . ولعله لاحظ في سلوكيات بعض المنتسبين للتصوف ما يخالف السنة ويكرس البدع. وهذا ما دفعه إلى إعلان الحرب على كل المتصوفة بدءا بإخوته، حيث امتد الخلاف بينه وبينهم إلى مستوى الردود الكتابية وإعلان التبرؤ من بعضهم. وجاءت أغلب كتبه للرد على ما اعتبره مخالفة صريحة للمذهب السني الأصيل، فكانت تترجم مواقفه الصارمة، وتعكس شخصيته الثورية الحادة والمتشددة التي لا تقبل الحوار أو المهادنة مع المخالفين، منها:
- دلائل الإسلام
- إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين
- تحذير المسلمين من مذهب العصريين
- كشف الحجاب عن المتهور الكذاب
- إعلام الفضلاء بأن الفقهاء ليسوا من العلماء
- المحجة البيضاء
كان خطاب الشيخ الزمزمي صريحا جريئا وذا نبرة حادة، لا يكف عن انتقاد الحداثيين وأصحاب المذاهب وذوي الجاه والسلطة. فاكتسب بذلك شعبية واسعة في أوساط الشباب المتدين، وأصبح رمزا من رموز الدعوة وزعيما من زعماء الإصلاح السلفي في بيئته، بل تحول إلى ظاهرة دعوية جديدة استقطبت العديد من الناس، بحيث كانت مجالسه تغص بالأتباع والطلبة. فكان توجهه في الخطاب الدعوي إعلانا عن ظهور تيار جديد في البيت الصديقي، يناقض التيار الصوفي المعتدل الذي أنشأه والده وحرص عليه إخوته. وبقي على هذه الحال، يلقن تعاليم الدين، وينتصر للسنة ويحارب البدع، إلى أن فارق الحياة سنة 1408هـ.
- الشيخ عبد العزيز بن الصديق9 المكنى بأبي اليسر
يعد الشيخ عبد العزيز بن الصديق واسطة عقد الأسرة الصديقية، وأحد الذين ساهموا في تنشيط الحركة العلمية في منطقة الشمال المغربي، بفضل جهوده واجتهاداته وحرصه الكبير على إتمام المشروع العلمي الذي بدأه والده. فانظم إلى إخوته، وسلك طريقهم في البحث والتحصيل بدون أن يفقد شخصيته العلمية وتميزه في الاجتهاد والتصنيف.
تعهده والده بالتربية والتعليم، فقرأ عليه القرآن وحفظه بروايتي ورش وحفص، ثم انتقل إلى تلقي العلوم الشرعية وحفظ المتون الفقهية والحديثية واللغوية. وكان أستاذه الأول في كل ذلك هو والده الذي أغناه في بداية مسيرته الدراسية عن الأخذ عن غيره. وبخصوص ذلك يقول: ” كان والدي رضي الله عنه يتعاهدني بالنصائح والإرشادات التي تضيء أمامي الطريق، وتكشف عن سبيل السير فيما ينفعني في ديني ويقرب لي طريق التعلم….لم يكن يمر علي يوم دون أن أذاكره وأسأله في شتى العلوم والفنون المختلفة، فكان يعطيني رحمه الله ورضي عنه في كل موضوع أسأله عنه، قواعد عامة تكفيني وتغنيني عن كثير من البحث والمطالعة، فنفعني ذلك جدا. فكان رحمه الله يسر بذلك ويحثني على الاستزادة من البحث والمعرفة”10.
ومن خصوصية التربية التي تلقاها الشيخ عبد العزيز، في مرحلة التحصيل، تشجيع والده له على الكتابة والتصنيف والتدوين، بحيث كان يرغبه كثيرا في تقييد العلوم وتدوينها وممارسة فعل الكتابة. وفي ذلك يقول:” ومع كوني كنت مشتغلا بحفظ القرآن، أصرف النهار كله في المكتب، فقد كان يأمرني بالاشتغال بالكتابة في المسائل العلمية التي لا خبرة لي بها حينئذ، ويؤكد علي في ذلك كثيرا. وكلما جاءت المناسبة أكد علي في الكتابة والتأليف.”11 وبالفعل عمل الشيخ عبد العزيز بوصية والده، وتعاطي للتدوين والتأليف منذ صغره وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. فكانت أول تجربته في الكتابة رسالة في فضل رمضان بعنوان:( إتحاف الإخوان بفضيلة رمضان). عرضها على والده، فنال منه الإعجاب والتشجيع. يقول: ” جئته في بعض الأيام بمؤلف سميته، إتحاف الإخوان بفضيلة رمضان، جمعت فيه ما ورد في الصيام من الآي والأخبار، فلما أخذه في يده، ورأى اسمي عليه، كاد يطير فرحا وسرورا وابتهاجا”12
كان والده مرجعه الأول في العلم، والشخصية العلمية التي تأثر بها واقتدى بنهجها في كل خصوصيات حياته. ولما توفي والده، فقد فيه الشيخ والمربي والقدوة، ترك غيابه فراغا كبيرا في حياته. فلم يجد من سبيل سوى الانضمام إلى إخوته أحمد وعبد الله بمصر، ليتفرغ لطلب العلم والتحصيل. فالتحق بالأزهر الشريف رفقة أخيه الشيخ عبد الحي بن الصديق(ت 1995). وفي رحاب مجالس الأزهر تعمق في دراسة الفقه والحديث وباقي العلوم الشرعية. وقد أعجب كثيرا بالفقه الشافعي بفضل شيوخه المصريين. وهناك في مصر درس على أخيه عبد الله أصول الفقه والمنطق، لكنه فضل التخلي عن دراسة المنطق بعد أن اتخذ موقفا سلبيا منه. يقول الشيخ عبد الله بن الصديق: “درّست السلم بشرح الملوي حضره علي الأخوان، لكن لم ينتفع به السيد عبد العزيز لأنه لم يعتن به لأنه كان يعتقد تحريمه تبعا للسيوطي.”13 ويؤكد الشيخ عبد العزيز على نفوره من علم المنطق حينما تلقاه عن أخيه وأحد شيوخ الأزهر بقوله:” وقد حصل لي في علم المنطق أمر أوجب لي تركه وطرحه وعدم الالتفات إليه…حصل لي نوع ذهول ونسيان لأموري كلها، حتى صرت لا أضبط اليوم الذي أنا فيه…وبقيت هكذا إلى أو وفقني الله لترك قراءة المنطق…”14
وبعد قضائه إحدى عشرة سنة من التحصيل في مصر عاد هذا العالم لمزاولة مهمة التدريس والتربية بالزاوية الصديقية، واجتمع حوله نخبة من أهل العلم والطلبة والأساتذة من المغربة وغيرهم. كما زاول مهمة الخطابة والوعظ، وتميز بشكل خاص في علم الحديث حتى اعتبره أهل العلم محدث المغرب الأول في عصره. واستأنف عملية التدوين والتأليف بعد توقفها خلال مدة التحصيل والطلب، فخلّف ثروة كبيرة من المؤلفات، تفوق مائة مؤلف في مسائل العلوم الشرعية ومختلف فنون المعرفة، كما كتب مقالات عديد في منابر إعلامية وثقافية محلية ووطنية، كالشفق والخلود والإسلام وغيرها. ومن خصوصية هذا العالم أنه كان شديد التأثر الإمام السيوطي في كل أموره15. قرأ كتبه ودافع عنه ورد على خصومه، حتى لقبه طلبته بلقب (سيوطي المغرب). ويعترف الشيخ عبد العزيز بأن اطلاعه على كتب السيوطي ساعدته على التبحر في الحديث والتمكن من علومه، وخصوصا كتابه(اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة). وقد أشار إلى أن اهتمامه بكتب السيوطي كان وصية من والده الذي شجعه على ذلك16. ومن مؤلفاته:
- السفينة (في مجلدين)
- السوانح (في مجلد)
- بلوغ الأماني من موضوعات الصاغاني
- طلعة المشتري في شرح نونية الششتري
- الجامع المصنف لما في الميزان من حديث الراوي المضعف (في ثلاثة مجلدات)
- الفتاوى
- نظم اللآل فيما أخذه الشمس ابن طولون من كتب الجلال.
وهكذا أمضى الشيخ عبد العزيز حياته كلها بين التحصيل والتدريس والتأليف والخطابة إلى أن وافته المنية سنة 1418هـ.
وإلى جانب هذه الشخصيات العلمية نبغ في الأسرة الصديقية أعلام آخرون من البيت نفسه، واصلوا مسيرة الإشعاع العلمي والتربية الصوفية في الشمال المغربي، وكان لهم حضورهم المعتبر في خدمة الحقل الديني، وأخص بالذكر الشيخ عبد الحي بن الصديق (ت 1415هـ) والشيخ الحسن بن الصديق(ت1431هـ) والشيخ ابراهيم بن الصديق والشيخ عبد الباري الزمزمي بن الصديق(ت 1437) والدكتور عبد المنعم بن الصديق. وما تزال هذه الأسرة العلمية العتيدة تقدم للساحة العلمية علماء أجلاء من أبناء وحفدة أولئك الشيوخ الكبار، يحافظون على امتداد الخط العلمي والصوفي للزاوية الصديقية، ويساهمون في تنشيط الحركة الثقافية بمرجعية علمية أصيلة وبمناهج وطرائق جديدة مستفيدين من دراساتهم الأكاديمية الحديثة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1- ترجم له ولده أحمد بن الصديق في كتابه:سبحة العقيق في مناقب الشيخ ابن الصديق، وقد حظي الكتاب بالتحقيق في إطار رسالة جامعية بكلية الآداب بالرباط،، وله مختصر لهذا الكتاب بعنوان:التصور والتصديق بأخبار الشيخ سيدي محمد بن الصديق.ط2 ،مصر،1980. وترجم له ولده محمد الزمزمي في كتابه: الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة،مطبعة اسبارطيل 1999،ص:12-14 وفي غير ما موضع.
2- عبد العزيز بن الصديق : تعريف المؤتسي بأحوال نفسي، مخطوطة خاصة، ص:13
3- تنظر ترجمته في : عبد الله بن الصديق: سبيل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق،الدار البيضاء للطباعة ، القاهرة،ص:61-63. وانظر المجلة الغمارية،عدد18،واحة آل البيت لإحياء التراث والعلوم،فلسطين،1433هـ.ص:14
4- ترجم لنفسه في كتاب : سبيل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق.
5- المصدر نفسه،ص:51،وانظر المجلة الغمارية،عدد19،واحة آل البيت لإحياء التراث والعلوم،فلسطين،1433هـ.ص:15-19
6- انظر كتابه:إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي، طبعة 1995،ص:5 وكتابه: القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع.
7- الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة،مطبعة اسبارطيل 1999،ص:14
8- م نفسه،ص:23
9- ترجم لنفسه في كتابه: تعريف المؤتسي بأحوال نفسي، مخطوطة خاصة، وترجم له: أحمد بن منصور قرطام في كتابه:ترجمة فضيلة العلامة سيدي عبد العزيز بن الصديق الغماري الحسني، عدد 20 إصدار واحة آل البيت لإحياء التراث و العلوم، فلسطين،1434هـ.
10- تعريف المؤتسي بأحوال نفسي،، ص:13
11- م نفسه،ص:13
12- م نفسه،ص:16
13- سبيل التوفيق…ص: 34
14- تعريف المؤتسي بأحوال نفسي،ص:29
15- من مظاهر تأثره بالسيوطي أنه جاراه في العديد من المسائل، وكان يستشهد بكلامه كثيرا، بل إن تركه لعلم المنطق كان تأسيا بالسيوطي .
16- تعريف المؤتسي…ص:39