طبقاتُ النّساك: أبو سعيد ابن الأعرابي
بقلم: خالد محمد عبده
قال أبو عبد الرحمن السلمي المؤرخ والمفسّر الصوفي : سمعت محمد بن الحسن الخشاب، سمعت ابن الأعرابي يقول: المعرفة كلها الاعتراف بالجهل، والتصوف كلّه ترك الفضول، والزهد كله أخذ ما لا بد منه، وإسقاط ما بقى، والمعاملة كلها استعمال الأولى فالأولى من العلم، والرضا كله ترك الاعتراض، والمحبة كلها إيثار المحبوب على الكل، والعافية كلها سقوط التكلّف، والصّبر كلُّه تلقّي البلاء بالرّحب، والتفويضُ كلّه الطمأنينة عند الموارد، واليقينُ كلّه ترك الشكوى عندما يضاد مرادك، والثقة بالله علمك أنه بك وبمصالحك أعلم منك بنفسك.
يصنّف السلمي في طبقاته أبو سعيد الأعرابي (أحمد بن محمد بن زياد) [246-340هـ/ 860-952م] في أول الطبقة الخامسة، ويحتفي بجملة من أخباره، كما نقل عنه بعض مروياته عن الزّهاد والنسّاك الأوائل[1].
كان أبو سعيد ابن الأعرابي من البصرة، لكنه قضى شطر حياته مجاورًا مكة، وأول مروية يوردها السلمي لابن الأعرابي تشير إلى مكانة صحابة النبي عند الصوفية، فلا أحد يقاربهم مهما كثرت أعماله الصالحة، فبسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه).
مروية أخرى لابن الأعرابي يتحدث فيها عن النفاق وادعاء التديّن أمام الناس، يعتبر فيها أن المنافق الذي يصدّر صورة للناس عكس حاله قد خسر نفسه مهما ربح من الآخرين، فيقول: (أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد)، تذكّرنا هذه الكلمة لابن الأعرابي بقول للمسيح عليه السلام: (مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ)[مر 8: 36].
يرى ابن الأعرابي أن الله كريم كرمًا لا حدود له، والكريم دومًا يتغافل عن حقّه، ولا يُهمل ويترك ما عليه من حقوق! ومن أجل ذلك يفسّر الوعد والوعيد الوارد في الكتاب الحكيم قائلاً: (إذا كان الوعد قبل الوعيد، فالوعيد تهديدٌ، وإذا كان الوعيد قبل الوعد، فالوعيد منسوخ، وإذا اجتمعا معًا، فالغلبة والثبات للوعد، لأن الوعد حقٌ للعبدِ، والوعيدُ حقّه عزّ وجلّ).
ويقول الذهبيُّ عنه: (كان ابن الأعرابي من علماء الصوفية، فتراه لا يقبل شيئا من اصطلاحات القوم إلا بحجة). ويحتفي الذهبي بمقولته: (علم المعرفة غير محصور لا نهاية له ولا لوجوده، ولا لذوقه… فإذا سمعت الرجل يسأل عن الجمع أو الفناء، أو يجيب فيهما، فاعلم أنه فارغ، ليس من أهل ذلك إذ أهلهما لا يسألون عنه لعلمهم أنه لا يدرك بالوصف.
ويعلق الذهبي منتقدًا بعض الصوفية: إي والله، دققوا وعمقوا، وخاضوا في أسرار عظيمة، ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوّه بعباراتهم صديق، ولا صاحب، ولا إمام من التابعين، فإن طالبتهم بدعاواهم مقتوك ، وقالوا: محجوب، وإن سلمت لهم قيادك تخبط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البعد، وقلت : مساكين محجوبون . فلا حول ولا قوة إلا بالله. فإنما التصوف والتأله والسلوك والسير والمحبة ما جاء عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من الرضا عن الله ، ولزوم تقوى الله ، والجهاد في سبيل الله ، والتأدب بآداب الشريعة من التلاوة بترتيل وتدبر، والقيام بخشية وخشوع ، وصوم وقت، وإفطار وقت، وبذل المعروف، وكثرة الإيثار، وتعليم العوام، والتواضع للمؤمنين، والتعزز على الكافرين ، ومع هذا فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم[2].
يمكن تحميل هذا الكتاب من هنا
كان ابن الأعرابي حسب أوصاف الصوفية وغيرهم من المحدثين إمامًا حافظًا وقدوة صدوقًا، وعبدًا ربّانيا، بعيد الصيت عالي الإسناد في علم الحديث، وقد وصلنا (معجمه) في أسماء شيوخه وتحتفظ خزانة دار الكتب الظاهرية بدمشق بنسخة منه، إضافة إلى ذلك يعدّ ابن الأعرابي من جملة مشايخ القوم الصوفية، وينظر إليه بتبجيل كبير، فقد صحب الجنيد طاووس الصوفية، وأبو الحسين النوري، وعمرو بن عثمان المكيّ، مما جعل الأصفهاني يعتمد عليه كثيرًا في (حلية الأولياء) للتأريخ للصوفية المتقدمين، وهناك روايات عدّة في الحلية توضّح لنا طريقة ابن الأعرابي في التأريخ للصوفية.
لا تلتفت الكتابات العربية الحديثة إلى تلمذة الحلّاج على ابن الأعرابي، ولا إلى تلمذة عدد كبير من الصوفية في الأندلس على يديه، ولعل بـحث المستشرقة (منويلا مرين) المخصص لابن الأعرابي في جملة بحوثها عن الزّهاد والصوفية والسلطة في الأندلس يلقي الضوء على هذه الشخصية الهامة[3]، إذ كان من المتوقع أن تدرس هذه الشخصية مع تحقيق نصّ لها (كتاب فيه معنى الزهد) لكن محقق الكتاب آثر أن يقدّم له بدراسة عن (الزهد في الإسلام) لم يحظ فيها (ابن الأعرابي) إلا بثلاث ورقات من مجموع خمسة وثلاثين ورقة، والمادة التي خصصت لمؤلف الكتاب بعد ص 36 بعنوان مستقل هي تكرار لما ورد عند الإمام الذهبي[4].
من مؤلفات ابن الأعرابي
1-كتاب فيه معنى الزهد (مطبوع).
2-طبقات النساك[5].
3-معجم شيوخه (مخطوط).
4-كتاب رؤية الله. (مخطوط).
[2]: الذهبي، سير أعلام النبلاء، نشرة مؤسسة الرسالة، بيروت، مج15/ص407
[3]: راجع: الزّهاد والصوفية والسلطة في الأندلس، تعريب مصطفى بنسباع، نشرة جامعة عبد المالك السعدي، تطوان 2010، ص ص 93-127
[4]: راجع كتاب فيه معنى الزهد والمقالات وصفة الزاهدين، دراسة عامر النجّار، وتحقيق خديجة محمد كامل، نشرة دار الكتب المصرية، 1998م.
[5]: اعتمد عليه أبو نعيم الأصفهاني، والسلمي، وغيره ممن أرخوا للصوفية، وأشار إليه بشّار عوّاد معروف في بحثه المنشور في مجلة الأقلام (مظاهر تأثير علم الحديث في علم التّاريخ عند المسلمين)، السنة الأولي، شعبان 1384 – الجزء 5.
(ذوات: أكتوبر 2015)