العيسويّة لا حدود لها

العيسويّة لا حدود لها

 

العيسويّة لا حدود لها

يصف المتصوّف الكبير محيي الدين ابن عربي (ت 1240) بعض المتصوّفة المسلمين بالعيسويّين، مريدًا بذلك أن يعقد بينهم وبين السيّد المسيح صلةً وثقى تماثل تلك العلاقة التي تجمع ما بين المريدين وشيخهم المعلّم. فقد رأى ابن عربي في تقليد بعض المتصوّفة للمسيح ما يجعلهم يستحقّون أن يُنسبوا إليه وأن يسمّوا باسمه.
 يقول ابن عربي عن هؤلاء المتصوّفة: “إنّ للعيسويّين همّةً فعّالة، ودعاءً مقبولاً، وكلمةً مسموعة. ومن علامة العيسويّين الرحمة بالعالم، ومن علامتهم أنّهم ينظرون من كلّ شيء أحسنه، ولا يجري على ألسنتهم إلاّ الخير”. ثمّ ضرب لذلك مثالاً من الأقوال المنسوبة إلى المسيح في التراث الصوفيّ، فقال: “روي عن عيسى (عليه السلام) أنّه رأى خنزيرًا فقال له: “انجُ بسلام”. فقيل له في ذلك (أي سئل لماذا قال ذلك). فقال: “أعوّد لساني قول الخير”. هكذا أولياء الله لا ينظرون من كلّ منظر إلاّ أحسن ما فيه”.
 ثمّة رواية صوفيّة أخرى عن المسيح يدعو فيها أتباعه إلى عدم التحدّث إلاّ عن محاسن الناس لا عن مساوئهم. يروى أنّ “عيسى ابن مريم مرّ مع الحواريّين (تلاميذه) على جيفة كلب. فقال الحواريّون: ما أنتن ريح هذا. فقال عيسى: ما أشدّ بياض أسنانه، يعظهم وينهاهم عن الغيبة”. وفي السياق عينه يقول المسيح: “لا تنظروا في عيوب الناس كأنّكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنّكم عبيد”…
 هذه النسبة إلى المسيح ليست غريبة عن التراث الصوفيّ الإسلاميّ، فالمسيح لدى المتصوّفة هو “خاتم الأولياء”، الذين هم “عباد لله نصبوا أشجار الخطايا نصب أعينهم، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندمًا وحزنًا، فحبّوا من غير جنون”. فابن عربي يعتبر المسيح “ختم الولاية العامّة”، والترمذيّ (ت 898) فيقول: “أمّا ختم الولاية على الإطلاق، فهو عيسى (عليه السلام)”.
أمّا الإمام عبد القادر الجيلاني (ت 1167) الذي يصفّ الوليّ بالعيسويّ، فيؤكّد أنّ الولاية “منحة إلهيّة يختصّ بها البعض المتقرّبين إليه من عباده. وهي موهبة ربّانيّة واختصاص إلهيّ وحديث ربّانيّ وإلهام لـمَن تولاّهم الله، وتقترن بالابتلاء لبلوغ الدرجات العليا”، أي القرب من الله والوصول إليه. وإذا شئنا تعبيرًا مسيحيًّا يشبه تعبير الولاية، فالقداسة خير تعبير عن الولاية.
 من أهمّ العيسويّين يسعنا ذكر الحسين بن منصور الحلاّج عندما كان مصلوبًا ينتظر موته (ت 922) إذ غفر لصالبيه هو أيضًا، تشبّهًا بالمسيح المصلوب، فقال: “وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك وتقرّبًا إليك. فاغفر لهم. فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عنّي ما سترتَ عنهم لما ابتليتُ بما ابتليت”.
 المسيح، في روايات المتصوّفة، كما في الأناجيل، لم يبادل الشرّ بالشرّ، ولم يردّ على الشتائم بالشتائم. فيروى عنه أنّه مرّ ببعض الخلق فشتموه، ثمّ مرّ بآخرين فشتموه، فكلّما قالوا شرًّا قال خيرًا، فقال له رجل من الحواريّين: “أكلّما زادوك شرًّا زدتَهم خيرًا حتّى كأنّك تغريهم بنفسك وتحثّهم على شتمك! قال: كلّ إنسان يعطي ممّا عنده”.
 يقدّم الإمام عليّ ابن أبي طالب (ت 661) في كتابه “نهج البلاغة”، المسيح نموذجًا أسمى للزهد في الدنيا، فيقول عنه: “لقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب (الطعام الغليظ)، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذلّه. دابّته رجلاه، وخادمه يداه”.
 تكثر الروايات التي تشيد بالمسيح وبالذين اتّخذوه مثالاً يقتدون به لبلوغ الولاية. ولا ريب في أنّ ثمّة غير مسيحيّين هم أقرب إلى المسيح ممّا هم عليه العديد من المسيحيّين. “العيسويّون” ليسوا بالضرورة أولئك الذين نالوا سرّ المعموديّة المقدّسة، بل هم الذين، إلى أيّ هويّة دينيّة أو مذهبيّة انتموا، يسلكون حقًّا بما عمله يسوع الناصريّ قولاً وفعلاً وفكرًا.
 

المصدر

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!