الحاكم المتسيّد في فكر طه عبد الرحمن
أميرة أبو شهبة
في كتاب روح الدين للدكتور طه عبدالرحمن يستعرض جزءًا هامًّا يختص بالعمل السياسي المبني على سياق روحانيٍّ مستمد من الإسلام جوهريًا وليس بشكلٍ مجتزأ أو سطحيٍّ؛ فالرجل له قدرات علمية موسوعية بعلوم الإسلام خصوصًا من ناحية فلسفته المعاصره المبنية على أصول دينيه مجتهدًا عليها بآليات عقلية قوية وحجج منطقية تحترم عقول الباحثين وتقدم خطوات يمكن الارتكاز عليها فى بناء تصور فكرى إسلامي بمجالات رئيسية على رأسها الفلسفة والسياسة والتشريع..
وانطلاقاً من أهم معضله تواجه المسلمين اليوم سواء فى تعطيل شريعتهم أو تقدم فكرهم أو دولهم فإن العمل السياسى المبتور الصلة بمشاكل الواقع وجذور الامة؛ والحاكم المستبد وما يمثّله من سطوة ضد طريق التحرر من الاستعباد والانطلاق لإقامة مجتمع عادل؛ هما أولى بالبدء بهما عند الحديث عن تقديم أيّة حلول فكرية؛ من هنا سنفصل فحوى نظرية طه عبدالرحمن عن العمل السياسى كجزء مهم من أفعال الإنسان التى تناولها فى كتابه؛تلك الأعمال التى لا تنفصل عن روحه ودينه كما أقرها بنظره حقيقية تخص فلسفة الدين وروحه وقيمه؛ حيث يعد الطغيان والاستبداد مادة ضخمة للبحث والمواجهة في ضوء جذور فكر وواقع المسلمين؛ لأن قبول المسلم للاستبداد ليس شيئًا ماديًّا حياتي يتعلق بالدنيا فقط ؛ بل إنه باب شرك حقيقي بقبوله يطبّق فكرة أن لله شريك فى ملكه ومتسيّد مع السيد الواحد !
وهنا يقول الكاتب: مقتضى مبدأ النسبية في العمل السياسى :هو أن الاصل في قدرة الانسان على (التغييب) بمعنى بدلا من التشهيد أي رفع واقعه وملكاته وكل الاشياء لإيمانه الغيبيبقيم إلهية تتحكم فيه؛ يمارس هو التغييب حيث نفسه تنسب الإشياء إليه ولا تزال هذة النسبة تتزايد عنده ويتسع نطاقها حتى تنبعث فيه الرغبة في السيادة على غيره من الخلق!
ثم تأخذ الرغبة في التسيّد تتصاعد حتى تستبد به فيضيق عليه عالمه المرئي ليشمل استبداده صفات العالم الغيبى ملتمسًا فيه صفات السيد الأعلي! (حقيقة يأخذ أوصاف الله؛ فتجده يسيطر ويستبد ويتسلط ويتنزه؛ ويجله الجميع طواعية أو كراهية؛ ويعصف بمن يخالف تمجيده ويشرع ويقنن ويستأثر بعلم مصلحة الواقع والمستقبل دون سواه!
هذا الإنسان الطاغي الذي أصبح حاكمًا (الأنا) لديه عندما تمارس العمل السياسي يمارسه من منطلق (التسيّد) فهو منسوب إليه من يرعاهم وكأنه إله؛ وهذا نقيض منطلق (الديني) في العمل السياسي أذى يعد باعثه الأوحد هو (التعبّد).
ــ التسيّد بواسطة الألوهية:
إن المعنى الأول الذي حفظته الذاكرة الأصلية لمعنى الألوهية هو اتصاف الذات العليه بكمال التكوين والتشريع بحيث فطرت الروح على حبها؛ إلاّ أن انقلاب هذا الحب الفطري إلى حب نفسى يفضى إلى أن ينقلب التعبد للألوهية إلى التسيد بها..بمعنى أن يقوم (السياسي) يحمل فى نفسه حب الألوهية كما يحمل المتدين ذلك في روحه؛ ورغم أنه لا يعارض عالم الغيب اويدعى بانه الله بشكل حقيقى اوقولى ؛الاّ انه يعتقد فى نفسه ذلك من حيث الممارسة والصفات؛ ويطبق بافعاله كونه السيد المالك؛ وكلما زاد تسيده فى عالم السياسة زاد تسيدا على المواطنين؛حتى اذا بلغ رتبة (الحاكم الأعلى) اعتقد أنه الرب الأعلى! فينتحل صفات التكبر والتجبر والاستعلاء وحاملا الناس على أن يراعوا مقامه! وأن يخضع المواطنين لقوانينه بنفس الطاعة والاستسلام لخضوعهم قوانين العالم الغيبي؛ فقانونه له نفس الجلال والقداسة والسيادة والعبادة!
ــ التسيّد على البشر بواسطة الوحدانية:
يستمر الكاتب فى تفصيل نظريته عن الحاكم الطاغي المتسيّد والعمل السياسى بممارسة التغييب حيث يتم خلط الواقع بالقداسة والحكم بالشرك؛ فيقول لايكتفى (الطغاة ومنتحلين السياسة اللااخلاقية بذلك فحسب) بل يدخلوا إلى عالم التسيد على البشر بواسطة (الوحدانية) نعم تلك الصفة التى هي أصل العقيدة والتى تعنى التفرد بالكمال والطاعة لله وحده؛ فجأة نجد شخصًا ما ادعى أنه الفرد العالم ببواطن الامور والواجب الطاعة (عمياني) فهو المتفرد بالصفات والقرارات؛ وفي رأيه أن المجتمع بوتقة واحدة ينصهر فيها الجماهير (قطيعًا) لا مجال في دولته إلا الإحاطة بكل المؤسسات وبكل شىء قائماً على جهاز أمنى شامل يقوى شوكة التسيد ويوسع نطاقه؛ وهو الحاكم المتفرد كأنه الواحد الأحد! إذ يجسّد روح الوحدة المذهبية والفكرية ويجمع فى يده كل السلطات السياسية حتى أنه ينازع الإله في اسم (المحيط)!
– والمشكلة أنه ليست في صفات ذلك (القائد) أشياء حقيقية تجعل الجماهير تفتتن به وتسيّده وتسلّطه عليها بل إنهم يفتتنون به ويعبدونه طواعية ويمارسون نفس استبداده وتسلطه وإحاطته تلك فى مجالاتهم الخاصة مع من يرأسوهم ؛حتى لو لم يكونوا ذوي شؤون حقيقية وبوظائف عادية . فهم يمارسوا نفس الطغيان كما يمارسه من ألّهوه عليهم ليحكمهم؛ وكأنه وباء شركي طغياني يسري في كل المجتمع ويسود أفراده ومؤسساته!
ــ هنا يؤكد الكاتب فكرة العبودية الطوعية للجماهير من مقال الفيلسوف الفرنسى الشهير (دولابيسى) هذا المقال الذى أثّر بشكل كبير فى (الفكرة الحداثية) ضد الديكتاتورية والتى جعلت الحرية محور مدارتها الاساسية؛ وفي تلك الفكرة يقول: ( كل ما أرغب فيه الآن أن تفهمونى كيف يمكن هذه الكثرة من الناس والمدن والأوطان إلاّ مايعطى؛ ولا من سلطان للإضرار بهم إلاّ على قدر ما يريدون الصبر عليه وما كان يستطيع أن يلحق بهم أي أذى لولا أنهم يؤثرون احتمال كل شيء على أن يعارضوه فى أي شيء!
ويكمل طه عبد الرحمن على كلام دولابيسى فكرة أخرى بأن الموضوع ليس تعبدًا طوعيًّا للطاغية فحسب بل إن هذا الطاغية ومن والاه يمارسون فعل (الإطغاء) لإجبار غيرهم على اتباعهم؛ فهي دعوة مستمرة لنقل العبودية لمن سواهم..
ـ أفكار سياسية تخلق الاستبداد وترسّخه:
حول نفس الموضوع يستعرض الكاتب أفكارًا ترسّخ تسيّد الطاغية وتؤلهه بممارسة فعل التغييب ومن أبرز تلك الأفكار:
(الخوف من القهر) حيث يستمر الحاكم في إيهام المحكومين بوجوب أخذ ميثاق منهم بموجبه يحفظ حقوقهم فى الحياة والأمن مقابل أن يرضخوا لقيادته ويستسلموا بين يديه؛ وبعدها يتحول المتسيد الظالم من آخذ للميثاق إلى واحد قاهر فوق من أعطوه هذا الميثاق ويتوعدهم بجبروته؛ فهو إذن ليس قائماً على حفظ أمنهم بقدر ما هو قائم على حفظ قهرهم منتجا لخوف بين أظهرهم؛ (والخوف من القهر والعنف أشد من الخوف من الموت)؛ ولايتم إحباط ذلك الخوف إلا بقوة النفس والذات فى مواجهة الباطل والظلم مع اعلاء الروح محل الجسد وقوة النفس والذات فى مواجهة الباطل.
وأخيرًا من جملة الأفكار (الخوف من الخوف) فمن وجوه ممارسة القهر أن يستمر (التخويف) حيث يتم إيهام المحكوم بوجود عدو أو أكثر يتربص به؛ حتى يصير المحكوم نفسه ينتج الخوف فى مجتمعه كما ينتجه المتسيد؛ بل يصير يخاف مما يجب أن يأمن معه.. كــ (خوفه من العدل) أو مما يدفع عنه الخوف ذاته كــ (خوفه من حريته) بل الأدهى أنه يصير يخاف أن لا يخاف كأن الحياة بلا خوف موت.