المدائحُ النبوية عند المغاربة

المدائحُ النبوية عند المغاربة

إشراقات

(9)

 

المدائحُ النبويةُ عند المغاربة: وهَجُ وجدانٍ و جَمالُ إيمَان

                                                                    محمد التهامي الحراق

 

-1-

نعني بـ”المدائح النبوية” ذاك الباب من النظم الذي افتتحه بعض الصحابة وخصوصا الشعراء منهم مثل كعب بن مالك وكعب بن زهير وحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، والذين تولوا إبراز قيم الدعوة الإسلامية وعظمة رسالتها ومكارم المبعوث بها والذود عنها ضد أهل الشرك والكفر والضلال. وقد تطور هذا الباب عبر مراحل الدعوة ثم في العهود اللاحقة وتوسعت أغراضه واغتنى ديوانه وازداد شعراؤه إلى أن استوى على ساقه واكتملت ملامحه، وتميزت معالمه واستقرت عناصره ومكوناته خلال القرن السابع الهجري، خصوصا مع إمام المادحين لرسول الله  صلى الله عليه و سلم الشاعر المصري مثوى ومولدا، الصنهاجي أصلا ومحتدا، شرف الدين محمد البوصيري (تـ.631هـ/1233م). ومع أن متونا مديحية أساسية كانت قد وجدت لها موطئ قدم في المغرب ممثل “بردة” كعب بن زهير المعروفة بـ”الكعبية” والتي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم مقبول     —   متيم إثرها لم يفد مكبـول

وكذا لامية عبد الله بن يحيى الشقراطيسي التزري (تـ.466هـ/1073م) المعروفة بـ “الشقراطيسية[1]، ومطلعها:

الحمد لله منا بـاعث الرسل   —     هدى بأحمد منا أحمد السبل

 

-2-

 

رغمَ شيوع هذين المتنين المديحيين الأساسين في المغرب، فإن “بردة” الإمام البوصيري و”همزيته” قد حظيتا بأبرز حضور وأشهر تداول وأوسع عناية؛ وذلك لما امتازتا بهما من مزايا روحية جمالية شعرية ولاتصال سند صاحبهما بالمشرب الشاذلي المتدفقة أصوله وأسراره من جبل العلم بالمغرب، ثم لتزامن دخول القصيدتين للمغرب مع سن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مع العزفيين في سبتة ثم عمر المرتضي الموحدي ليصبح عيدا رسميا للدولة المغربية مع المرينيين كما مر معنا. ومعه زاد امتداد حضور القصيدتين وشاع إنشادهما وتداولهما لدى الخاص والهام، ليصبحا من لوازم المنشدات الرسمية في الحفلات السلطانية خلال عيد المولد مع المرينيين والسعديين ثم العلويين، ومازال شأنهما، رفيعا وحضورهما لامعا سواء في المجالس السلطانية أو في مختلف الاحتفالات الدينية التي تقيمها الزوايا أو تحيى في البيوتات الخاصة في مختلف المناسبات.

 

-3-

هذا الحضور العام لقصيدتي “البردة و “الهمزية” ضمن ديوان الإنشاد بمناسبة المولد النبوي الشريف وازاه وواكبه اهتمام علمي وأدبي بهما، فقد حظيتا بعدة شروح ووضعت عليهما جملة من التقاييد، بل كانتا تُدرَسان وتُشرحان لعموم الناس في مساجد شتى من المملكة؛ وخصوصا في الأيام الأحد عشر من ربيع الأول من كل سنة، أما الأدباء فقد خمسوهما وشطروهما وسبعوهما وسمطوهما وعارضوهما مما أثمر لنا خزانة ثمرة في المحاورة الأدبية المغربية لقصيدتي “البردة” و”الهمزية“. بل إن عناية المغاربة بهما اتخذت أبعادا حضارية أرحب، حيث زينت بأبيات منهما كثير من القباب والمحاريب والأبواب والأقواس بالبيوتات والمساجد والزوايا والمزارات، كما ضربت وسكت بأبيات من البردة العملة النقدية المغربية في بعض الفترات، كما هلل بهما المهللون فوق المآذن، وحليتا ببديع الأنغام ورفيع الألحان لتنشدا في جلسات المديح وحِلَق الأذكار بالمساجد والزوايا والبيوتات الخاصة، حتى ظهرت لنا مدارس في إنشادهما اختص بها المغرب وتنافست فيها مدنه وزواياه عناية بهما وترسيخا لمعانيهما النبوية النفيسة في النفوس والأفئدة. فظهرت مثلا مدرسة خاصة في تلاوة البردة بفاس سميت على غرار ما جرى به العمل في الفقه بـ”العمل الفاسي”؛ ويعنون به الطريقة الفاسية في تلاوة البردة وتنغيمها، لتبرز بعد ذلك نماذج تحاكي هذا العمل، منها، تمثيلا، “العمل الوزاني”، و”العمل التطواني”، و”العمل السلوي” و”العمل الرباطي” و”العمل السوسي”..، والأمر نفسه شمل متن الهمزية، فظهرت “الهمزية الريسونية” و”الهمزية الحراقية”… وغيرهما، وتشير هذه الاصطلاحات الفنية إلى الأسلوب الترنيمي الخاص بهذه الزوايا في تلاوة وإنشاد متن الهمزية. هكذا، نلاحظ أن المغاربة، وتعلقا منهم بالجناب النبوي الشريف، اعتنوا بهذين المتنين باعتبارهما سيرة نبوية منظومة، وهذه العناية هي فقط النموذج الأبرز لاحتفائهما بالمدائح النبوية[2].

 

-4-

 

النموذج الشعري الثاني الذي نستحضره في هذا السياق بعد قصيدتي البردة والهمزية البوصيريتين، هو متن شعري مديحي غاية في التميز ويعرف بـ”الوتريات البغدادية“. وهي قصائد من بحر الطويل أنشأها أبو عبد الله محمد بن أبي بكر رشيد الوتري البغدادي (تـ.663هـ/1264م)؛ وهو فقيه شافعي يذكر أن أصله من كتامة بالمغرب. يبلغ عدد هذه القصائد تسعة وعشرون قصيدة نظمها على حروف المعجم، كما جعلها وترية بحيث تضم كل قصيدة واحدا وعشرين بيتا، التزم فيها بافتتاح الأبيات بحرف مطابق للروي، مثال ذلك مطلع القصيدة الأولى وهي على حرف الألف:

أصلي صلاة تملأ الأرض والسما  —    على من له أعلى العلا متبـوأ

وهذا مطلع القصيدة الأخيرة على حرف الياء:

يسود الورى من كلَّم الله في السما   —  وقام بساق العرش يستمع الوحيا

وعلى غرار عناية أهل المغرب المتميزة بـ“البردة” و “الهمزية“، محضوا هذه الوتريات عناية مثيلة تضارعها في النوع وتقل عنها في الدرجة، حيث عارضوا هذه الوتريات وخمسوها وشرحوها ولحنوها واعتنوا بإنشادها خصوصا في المدرستين الإنشاديتين الريسونية والدلائية الحراقية الرباطية. وتحضر هذه القصائد بشكل ألمع وأبرز في الاحتفال بالمولد النبوي إذ يزاوج إنشادها بإنشاد “البردة” و”الهمزية” البوصيريتين، مع توريق كتاب “الشفا” للقاضي عياض، وذلك ابتهاجة بولادة المصطفى صلى الله عليه و سلم [3].

 

-5-

 إلى جانب عناية المغاربة بهذه المتون لفرحها بالرسول صلى الله عليه و سلم وتعبيرها عن حبه والتعلق بجنابه مع استحضار شمائله ومعجزاته ومكارمه ومحطات سيرته والتشويق إلى زيارته ثم الاستشفاع به، وذلك في حلة شعرية حازت من البها ما يأسر النفوس ويتلف النهى، وزادها بهاء جمالية الترانيم وعذوبة الأصوات و إهاب مجالس الإنشاد وروحانيتها؛ إلى جانب هذه المتون ظهرت هناك نصوص نثرية تروم ذات المنحى مثل “الموالد النثرية”[4] ومتون خاصة بالصلوات النبوية مثل كتاب “دلائل الخيرات” لسيدي محمد بن سليمان الجزولي أو “ذخيرة المحتاج” لسيدي محمد بن المعطى الشرقي، ونصوص شعرية مفردة سواء أكانت من الفصيح الموزون أم الموشح أم الزجل أم الملحون، وسواء بالعربية أو الأمازيغية أو الحسانية.

-6-

لم يكتف المغاربة بالنظم والقرض بل اعتنوا بكل النصوص مشرقيةً كانت أو مغربيةً توافرت فيها شروط التعبير، وكذا استثاره الفرح بالرسول صلى الله عليه و سلم [5]، مما أغنى ذخيرة أهل المغرب في ديوان المديح النبوي الشريف متونا وألحانا وألوانا[6]؛ وهي جميعها تتغيى زرع محبة المصطفى في الأفئدة والقلوب، و ترسيخ مكانة الرسول كقدوة وأسوة باعتباره “الإنسان الكامل” والنموذج الأمثل “للرحمة الإلهية”؛ لأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم. وبهذا الاعتبار ساهمت المدائح النبوية في التعبير عن وهجِ فرح المغاربة بنبيهم، إذ هو عنوان محبتهم له ولآل بيته، والمحبة مفتاح الاقتداء الفَرِح بالمحبوب، والتمسك الصادِق بسيرته و رسالته و قيمه.

-7-

 

 سيكون علينا إحياء هذه المعاني لإنصاف أجدادنا، والاعتراف بما قاموا به في سبيل صياغة وصيانة الهوية الإسلامية للشخصية المغربية، والعناية بما توسلوا به في ذلك من وسائط ثقافية وجمالية واجتماعية غايةً في النبل والأصالة، ساهمت في تلحيم المجتمع وتمتين وحدته المذهبية و حماية أمنه الروحي، وأسهمت بقوة في تشكيل الوجدان الجمعي المغربي، وبناء وصون وحدته و تماسكه. ثم إن إحياء تلك المعاني يقتضيه اليومَ، وأكثر من أي وقت مضى، واجب المحبة النبوية؛ وذلك من أجل إبراز عالمية الرحمة المحمدية، وتعريف العالمين بمكارم وكمالات النبي صلى الله عليه و سلم، و تجلية كونية القيم التي جاء بها هديُه مما يجهله أو يتجاهله “المستهزؤون” من الأباعد و الأقارب على السواء، فضلا عما تقتضيه تلك المحبة و تستلزمه أيضا من ترشيد في سلوك مُدعيها حتى يتوافق مع سلوك المحبوب وهديه، وتصح بذلك دعوى المحبة فتترك أحسن الأثر وأبلغه في من لا يقرؤون تعاليم نبي الإسلام إلا في ممارسات وأخلاق أتباعه.

هذه مجردُ إضاءات من شأنها أن تحفزنا على مزيد فرح برسول الله صلى الله عليه وسلم، متخذين من سيرة وهدي ومنهاج المفروح به نبراسا يبدد قلقنا، ويؤنس وحشتنا، ويضيء عتماتنا، و يجيبُ عن أسئلتنا، و ينير سبلنا، ويجدد ثقتنا بأنفسنا للسير على هدى في زمان تحاصرُ المسلمين فيه إحراجاتٌ محيرة، ويكاد يُطوقهمُ الضلالُ من كل صوب.

 

 

[1]– نسبة إلى شقراطس وهي قلعة قديمة كانت بالقرب من قفصة في تونس.

[2]– لمزيد توسع بصدد العناية المغربية بمتني البردة والهمزية البوصيريتين راجع: المبحث الثالث ضمن كتاب “موسيقى المواجيد، مقاربات في فن السماع المغربي“، محمد التهامي الحراق، منشورات الزمن 2010م.

[3]– نفس الإحالة السالفة.

[4]– انظر الإشارة إلى نماذج منها في: التآليف المولدية، عبد الحي الكتاني، مجلة السنة النبوية، ع. 3/2003: ص.129-161. وقد وقفت على سبعة وثلاثين تأليفا مولديا مغربيا، وذلك في دراسة غير منشورة بعنوان: “جرد أولي لمدونة المدائح النبوية بالمغرب“.

[5]– نستحضر هنا على سبيل المثال نصوص عمر بن الفارض وأبي الحسن الششتري وعلي وفا الشاذلي وعبد الرحيم البرعي وشمس الدين النواجي وأحمد الرفاعي وعبدالحي الحلبي ومحمد الحراق والعربي بن السايح..إلخ.

[6]– فبتكليف من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وبتنسيق مع الشركة الوطنية للتلفزة المغربية، قمنا ما بين 18/04/2012م و 18/06/2012م بالإشراف العلمي والفني على جولة وطنية في ربوع المملكة لتسجيل أبرز و أشهر “ألوان المديح النبوي بالمغرب” بمختلف أشكاله ولغاته وأنماطه، وقد تحصل لدينا تسجيل 43 لونا مديحيا دونما دعوى إحاطة أو استقصاء، فضلا عن توثيق جملة من العادات و التقاليد والطقوس الاجتماعية التي تبرز تعلق المغاربة بمحبة النبي الكريم وبالصلاة عليه في مختلف مظاهر حياتهم اليومية من المهد إلى اللحد. و قد قُدم هذا العمل لجلالة الملك محمد السادس خلال احتفال المولد لعام 1434هـ، كما عرضت هذه الألوان مع تقديم إضاءات علمية عن كل لون ضمن برنامج “أنفاس المغاربة في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم“، و ذلك على قنوات التلفزة المغربية 1435هـ/2014م؛ وقد استأنفنا الجولة خلال عام 2015 بإضافة أربعة ألوان أخرى إلى اللائحة الأولى.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!