المديح النبوي

المديح النبوي

 

المديح النبوي

بين الحساسية الفنية والحاجة النفسية والاجتماعية

د.محمد شداد الحراق

 

إن شعر المديح النبوي يتجاوز صفة الشعر الديني المحكوم بخلفية روحية والمعبر عن حالة التزام شديد بالخطاب الإسلامي والمتبني لقضايا الدعوة  والمؤدي للوظيفة الدعائية والتبشيرية للعقيدة الإسلامية ولمقتضياتها. وهو أكثر من تعبير فني عن حالة عشق مفرط لشخصية النبي(ص) أو إعجاب قوي بشمائله أو سرد مفصّل لسيرته ومعجزاته – إنه شعر التغني بالنموذج واستدعاء المثال، هو الشعر الوظيفي الذي يحتاجه الإنسان ويلجأ إليه حينما تحاصره هموم الحياة، وحينما تفشل مشاريعه السياسية والاجتماعية. وهو الورد الذي يسلّي نفسه بإنشاده وترديده حين تنهار أمامه الخطابات المصطنعة الموسمية والتماثيل البشرية الانتهازية. وهو الملاذ الآمن الذي يلوذ به الناس حينما تكتسي الحياة لباس الحداد، وتنطفئ فيها أنوار الهداية، ويعم الظلام أرجاء الأرض ويستوطن اليأس النفوس ويكدّر أغوارها. ولذلك نجد هذا الفن ملازما للنكسات السياسية والنكبات الاجتماعية والإحباطات النفسية، وينشط في زمن الفتن والظلم والاستبداد. فقد تحولت المدائح النبوية إلى بلسم للجراح الغائرة في كيان المجتمع، وإلى دواء للنزيف اليومي الذي يعيشه الناس في صراعهم المرير من أجل البقاء، وفي نضالهم المستمر من أجل الكرامة والعدل والحرية. صار المديح النبوي ذلك التعويض الذي يعيد التوازن إلى القلوب والثقة في النفوس ويمنح الأمل في الحياة ويبشّر بالتغيير المنتظر الذي طالما تطلع إليه الناس وطال انتظارهم لبشائره.

 لقد واكب المديح النبوي سقوط الأندلس، وسجل نبضات القلوب وذبذبات النفوس التي عايشت هذا الحدث، كما واكب هذا الفن المراحل الأخيرة للحضارة العربية الإسلامية، وما عرفته البلاد من تشرذم وتمزق وانحدار نحو المواقع الخلفية. وواكب أيضا الصراعات السياسية والكوارث الطبيعية والهزات الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية. وقد ظل شعراء المديح قريبين من نبض مجتمعاتهم،منصتين إلى أصوات الناس، متفاعلين مع معاناتهم، لا يحلقون بعيدا، ولا يسكنون الأبراج العاجية، ولا يكتفون بالإنصات إلى أصواتهم المنبعثة من أعماق النفس أو التعبير عن معاناة الذات الفردية، بل وظفوا أشعارهم لترجمة الزفرات الحارة وأحاسيس الناس وأحلامهم وآلامهم وآمالهم.

إن المدائح النبوية لم تكن ترفا فنيا أو نزوة وجدانية لدى الشعراء، وإنما جاءت كحاجة اجتماعية ونفسية في ظرف خاص تراكمت فيه الأحزان والنكسات، وتوالت فيه الاضطرابات، وافتقد فيه الناس البوصلة التي ترشدهم إلى بر الأمان وتعود بهم إلى شاطئ النجاة. في زمن غاب فيه النموذج المخلّص الذي تتوحد به الكلمة، وتجتمع حوله القلوب، وتلتئم به الجراح. فلم يكن الواقع يقدم للناس ما يحقق لهم هذا المطلب أو ما يمحو عنهم هذه الحيرة. ولم يكن باستطاعتهم سوى استحضار الذاكرة واستدعاء التاريخ واستلهام النموذج من شخص النبي (ص) باعتباره المثل المنشود، والتعويض الأمثل لكل مفقود. فهو الدواء الشافي، وهو السراج الهادي، وهو الرحمة المهداة، وهو سر الكون ونور الوجود.

وهكذا صارت شخصية الرسول تمثل النموذج الذي تتغنى به المدائح النبوية، بكل ما تمثله هذه الشخصية من رمزية وما تدل عليه من دلالات وأبعاد، وقد ساهمت البيئة الصوفية في تغذية هذا الموضوع ببعض التصورات الأصيلة في الثقافة الصوفية كالحقيقة المحمدية1 وغيرها من المقولات الوجودية.

 كان الشعراء يربطون بين مديح الرسول وبين الواقع، فيستلهمون من حياته صلى الله عليه وسلم ما يبعث في نفوسهم القوة ويمنحهم الثقة لمواجهة القضايا المستعصية، وما يساعدهم على مواجهة الأحداث المستجدة والتغلب على مختلف المشاكل والأزمات 2. وبعودتهم إلى النموذج النبوي كان الشعراء “يحاولون ربط الماضي بالحاضر، واستحضار التاريخ وحياة الرسول وأمجاد الإسلام، للنظر من خلالها إلى الواقع”3.فمدح النبي (ص) وذكر صفاته الزكية واسترجاع قبسات من سيرته العطرة النورانية وبيان فضله ومكانته، كل ذلك يمثل نوعا من التعلق بالنموذج الذي يستوطن العقول و يسكن الضمائر ويهيج الأفئدة العاشقة. وبهذا الذكر يعيش الناس تجربة حياتية ظرفية متخيلة. ويركبون صهوة الخيال، ويحلقون بعيدا عن واقعهم المتردي البائس، فيعوضون حرمانهم بذكر النبي وبمناجاته والتغني بصفاته.  

وإذا عدنا إلى العصور المتأخرة وجدناها تعد فترة تاريخية خاصة، شهدت تحولات سياسية واجتماعية وثقافية عميقة. وتزامنا مع هذه الفترة العصيبة، عادت السلطة الروحية إلى الزوايا الصوفية، وأقبل الناس على الانضمام إليها  فرادى وجماعات بعدما فقدوا الثقة في المؤسسات الرسمية، وبعدما لاحظوا الضعف الكبير في بنية الدولة الإسلامية وكثرة الصراعات الداخلية الدامية على السلطة والسباق المحموم نحو كراسي الحكم . فكان لابد أن تعود النبويات والمدائح الخالصة لوجه النبي (ص) إلى الواجهة من جديد،  وأن تصبح الشكل التعبيري الأكثر تداولا والأكثر انتشارا في المجتمعات الإسلامية. فقد غذّت البيئة الصوفية هذا التوجه وزكته وشجعت عليه بإحياء المواسم والمناسبات والإكثار من طقوس المدح والابتهال والتأليف في سيرة الرسول والتصنيف في صفاته  وشمائله عليه الصلاة والسلام.

وختاما نؤكد على أن الشعراء لم ينظموا قصائدهم في مدح النبي أو في ذكر مولده  لغاية فنية خالصة، ولم تدفعهم إلى ذلك ذائقتهم الأدبية أو حساسيتهم الجمالية أو خلفيتهم الدينية، وإنما كان لجوؤهم إلى هذا الفن الشعري لغرض التنفيس عن النفس وإخماد أوارها وتهدئة نبضات القلوب وتوترها. فقد وجدوا أنفسهم في حاجة إلى العودة إلى الزمن النبوي لاستدعاء النموذج وللبحث عن طوق النجاة في أزمنة احتار فيها الناس وفقدوا البوصلة الهادية، وطوّحت بهم رياح الفتن والمحن، وتكالبت عليهم الكوارث السياسية والاجتماعية والطبيعية. ولذلك كانت المدائح والمولديات حاجة نفسية واجتماعية بالدرجة الأولى، فرضتها شروط ذاتية وأسباب موضوعية، فجاءت النصوص الشعرية حبلى بالآهات والابتهالات، مليئة برسائل التظلم والشكوى، مسكونة بخطاب الضراعة والتوسل وطلب العون وغيرها من الرسائل القوية والمنبهة.

 

 

ـــــــــــــــــــ

هوامش ومراجع

 

1-  من أهم المقولات الصوفية، وهي تعني أن الرسول مصدر كل الموجودات،وأن وجوده سابق لكل الموجودات، وأن نوره هو الأصل الذي تستمد منه سائر الكائنات.

 ـ انظر: الحلاج: الطواسين، تحقيق لويس ماسنيون ، مكتبة المثنى،بغداد. ص: 9 ـ 11

2- عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه…،ج 1 / 163.

3- م. نفسه، ص: 164.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!