الأمثال والاستشهادات في التراث الصوفي المبكر

الأمثال والاستشهادات في التراث الصوفي المبكر

على خطى الشعراء: الأمثال والاستشهادات في التراث الصوفي المبكر

بلال الأرفه لي[1]

 

سُئل المرتعش الصوفي (توفي 328/940) يومًا عن طبيعة التصوّف فقال: “الإشكال والتلبيس والكتمان”.[2]  وسُئل النوريّ (توفي 295/908) بمصر عن التصوّف فقال: “لطف إشارة وحُسن عبارة”.[3]تطالعنا في كتب التصوف العديد من الأقوال عن الإشارة والعبارة تتّفق في جوهرها على رفض المعنى الواحد والاحتفال بالالتباس وتفتح أبواب التأويلات وتعدّد القراءات. تقترب اللغة الصوفية إذن عمومًا من اللغة الشعرية في اعتمادها على المجاز والإيماء والاختصار. ويُلاحظ أنّ المتصوّفة قد استلهموا ترنيماتهم الصوفيّة من قصائد الغزل والمديح والخمريّات وغيرها من أجناس الشعر العربيّ. فالمعاني الشعرية المتعلّقة بالحبّ والغزل في الشعر الصوفي العربي والفارسي والأردي والتركي شائعة جدّا ومعروفة لدى الباحثين المختصّين. وإنّ نظرة سريعة لديوان ابن الفارض (توفي 632/1235) وابن عربي (توفي 638/1240) تكفي لكشف اعتماد الشعراء المتصوفة على هذه المعاني الشعريّة. لكن كيف كانت بداية الأمر؟ كيف دخلت المعاني الشعرية العربيّة التقليديّة ميدان التصوّف.

          تخصّص كتب التصوّف المبكّرة أبوابًا للأبيات الشعريّة التي “استشهد” بها المتصوّفة، فكانت هذه الأبيات “شاهدًا” على أحوالهم ومواقفهم ومقاماتهم. نرى مثل هذه الأبواب في كتاب اللمع للسرّاج (توفي 378/988) مثلاً أو تهذيب الأسرار للخركوشي(توفي في حدود 407/1016) أو البياض والسواد للسيرجاني (470/1077). ونرى أنّ هذا الباب قد استقلّ بكتب خاصة أحيانًا، وهنا يبرز كتابان: كتاب الأمثال والاستشهادات لأبي عبد الرحمن السلمي (توفي 412/1021) وكتاب الشواهد والأمثال لأبي نصر القشيري (توفي 514/1120). ستركّز هذه المقالة على هذين الكتابين لتبيّن كيف استلهم المتصوّفة من الشعراء التقليديين المعاني الشعريّة والثيمات والأحوال الوجدانيّة والنفسية. بمعنى آخر كيف صار التقليد الشعريّ مجالاً للتعبير عن تجارب روحية صوفية.

بداية يتشابه الكتابان بأنّهما يجمعان أمثالاً وشواهد شعرية يستعملها المتصوفة للتعبير عن أحوالهم ومقاماتهم. فالشاهد هنا شبيه بالدليل والحجّة، غير أنّه في الوقت نفسه نتاج المشاهدة الصوفية المبنيّة على التفكّر. ويصرّح السلمي في كتابه أنّ الهدف من الكتاب هو “ذِكر من أخبر من العارفين عن حاله أو سُئل عن مسألة فأجاب ببيت شعر لغيره واستشهد به في حاله أو سؤاله”.[4] أمّا أبو نصر القشيري فإنّه يدوّن تعاليم صوفية عن أبيه أبي القاسم القشيري (465/1072) وغيره من أهل التصوّف تتبعها أبيات شعرية تعبّر عن المعنى أو الحال نفسه. منطلق الكتابين واحد وهو أنّ الشعر يعبّر عن حالات ومواقف صوفيّة.

إنّ الأخبار والقصص الشعريّة المضمّنة في هذين الكتابين تحاول استلهام تجارب الشعراء الماضين وبعثهم وتراثهم الشعريّ من جديد. وأغلب هذا الشعر يعود إلى شعراء مشهورين، لذا فإنّ التعرف على الشاعر أو السياق الشعري الأصليّ ليس بالمهمة الصعبة. توظّف هذه الأخبار الصوفية التراث الشعري في سياق جديد يغيّر الماضي ويعيد تأويله. فيصير مجنون ليلى (المتوفى في حدود 68/688) صوفيّا وضع العقل جانبًا، وتصير محبوبته ليلى رمزا للإلهيّة. في هذا السياق الجديد يغنّي أبو نواس (توفي في حدود 200/814) الصوفي المنتشي خمرته المقدسة رمز الحبّ والمعرفة الإلهيّين. أما شعراء البلاطات كابن الرومي (توفي 283/896)، وأبي تمّام (توفي 231/846)، والبحتري (توفي 284/898)، والمتنبّي (توفي 354/965) فيقفون في حضرة الممدوح الواهب الأكبر يستجدون عطاياه ورحمته. يقف الشاعر على الطلل ويبكي ويحثّ الآخرين على البكاء، غير أنّ الطلل هنا يمثّل المقام الصوفي المفقود أو مقام الإنسان أمام ربّه يومَ الميثاق.

ينبع هذا التصوّر المجازيّ للشعر من رؤيا تعتبر الشعر مركبة للأفكار الصوفية وتؤسّس لشعريّة صوفية. فالصوفيّ المنشد للشعر يشرح ويعلّل تجربته الصوفية أو يتمثّل بالفكرة المضمّنة في المعنى الشعريّ ولكنّه في الوقت نفسه يعيد تأويل التراث الشعريّ وسياقه واضعًا نفسه في لائحة الشعراء سائرًا على خطاهم.الماضي هنا ماضٍ شعريّ بالدرجة الأولى. وهؤلاء الشعراء مرّوا بالتجربة نفسها فصار بعثهم من جديد ضرورة يفرضها وجود الإحساس نفسه. ولكي يتحقّق إخراج المقطوعة الكلاسيكيّة عن سياقها نادرًا ما يذكر المتصوّفة أسماء ناظمي المقطوعات الأصليّين.

ربط المتصوّفة من خلال هذه الأمثال والاستشهادات بين أحوالهم ومقاماتهم وبين المعاني الشعريّة التقليديّة من غزل وخمر ومديح ورثاء ووقوف على الأطلال. فصار التراث الشعريّ العربيّ في قلب التصوّف وصار التصوّف جزءًا من التراث العربيّ كونه يؤوّل ويستلهم ويناقش هذا التراث. ومهّدت مثل هذا الأخبار القائمة على الاقتباس الشعريّ الطريق للقصيدة الصوفيّة العربيّة المتكاملة كما نجدها في شعر ابن الفارض وابن عربي في فترة لاحقة.

 

نماذج من كتاب الأمثال والاستشهادات للسلمي

 

سمعت عبد الله بن محمّد يقول، حضرتُ مع الشبليّ ليلةً في مجلس سماع وحضره المشايخ، فغنّى قوّال شيئًا، فصاح الشبليّ والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر أليس هو لا يستمعون معك، مالك من بين الجماعة؟  فقام وتواجد وأنشد شعرًا (من الكامل):

لو يَسْمَعُونَ كما سَمِعتُ كلامها خَرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعًا وسجُودا

وأنشد على إثْره (من البسيط):

لي سَكْرَتَانِ وَللنُّدْمَانِ واحدةٌ   شيءٌ خُصصتُ به من بينهم وَحْدي[5]

* * *

 

سمعت منصور بن عبد الله يقول: وقف رجل على الشبليّ يسأل هل يظهر آثار صحّة الوجود على الواجدين؟  فقال: نورٌ يزهر مقرونٌ بنيران اشتياق تُحرِق فتلوح على الهياكل آثارها، كما قال ابن المعتزّ رحمه الله (من البسيط):

وَأَمْطَرَ الكَأْسُ ماءً فِي أَبارقهِ  فَأَنْبَتَ الدُرَّ في أَرْضٍ من الذَّهَبِ
وَسَبَّحَ القَوْمُ لمَّا إنْ رَأَوا عجبًا نُورًا مِنَ الماءِ في نارٍ من العنبِ
سُلافَةٌ ورثتها عَادُ عنْ إِرَمٍ كانتْ ذخيرةَ كسرى عن أبٍ فَأَبِ[6]

 

نماذج من كتاب الشواهد والأمثال لأبي نصر القشيري

 

وسئل: ما بال الميت أثقل حملاً من الحيّ؟ فأنشد (من الكامل):

ثقلت زجاجاتٌ أتتنا فرّغًا               حتّى إذا مُلئتْ بصرفِ الرّاحِ

خفّت فكادت تستطيرُ بما حَوتْ        إنّ الجسومَ تخفّ بالأرواحِ[7]

 

* * *

وليس البلاء الانتفاء عن الوالد والولد، البلاء كلّ البلاء أن ينتفي العبد عن الواحد الأحد. هذا الشبليّ يقول: لَغيبةٌ في ألف سنة فضيحة. وقال: إنّما يتمّ سلوك هذا الطّريق في حال الشباب. وأنشد (من الطويل):

إذا المرءُ أعيته المروءة ناشئًا فمطلبُها كهلاً عليه شديدُ

وأنشد (من البسيط):

إنّ الغصونَ إذا قوّمتها اعتدلتْ ولا تلين إذا قوّمتها الخُشُبُ[8]

 

* * *

وقال يحيى بن معاذ: حججت فلمّا انتهيت إلى الميقات نسيتُ كلّ حاجة زوّرتُها في نفسي، فقلت: يا ربّ، قد نسيتُ حاجاتي، فاقضها لي من غير تذكّري إيّاها (من الوافر).

وكم حديثٍ لك حتّى إذا                مُكّنتُ من لقياكَ أُنسيتُ

أُفكّرُ ما أقولُ إذا افترقنا                وأُحكم دائبًا حججَ المقالِ

فأنساها إذا نحنُ التقينا                   فأنطق حين أنطقُ بالمحالِ[9]

 

 

 

__________________________________

 

[1] أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت.

[2] أبو الحسن السيرجاني، البياض والسواد، تحقيق بلال الأرفه لي وندى صعب (ليدن: بريل، 2012)، 44.

[3] المصدر نفسه، 44.

[4] أبو عبد الرحمن السلمي، رسائل صوفية لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق جرهارد بورينغ وبلال الأرفه لي (بيروت: دار المشرق، 2009)، 87.

[5]أبو عبد الرحمن السلمي، رسائل صوفية لأبي عبد الرحمن السلمي، 88.

[6] المصدر نفسه، 91.

[7] أبو نصر القشيري، كتاب الشواهد والأمثال، مخطوط آيا صوفيا 4128، ورقة 5أ.

[8] المصدر نفسه، 6أ-6ب.

[9] المصدر نفسه، 8ب.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!