مَولدُ النُّور.. أو قافيةٌ مِن سيرةِ فَرَح
محمد التهامي الحراق
“قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ”
المائدة: الآية 15
«إذا كنت باحثا، فابحث عنا بفرح؛ لأننا نعيش في عالم الفرح»
مولانا جلال الدين الرومي
-1-
هلَّ هلالُ ربيع النبوي، فانثالتْ على ذاكرتِي، ككلِّ ربيعٍ، صورٌ ومشاهدُ وأطيافٌ من أقصى طفولةٍ تكمنُ قوافيها في سريرتي كمونَ النار في الحَجر؛ صورٌ تحملُ بين ثناياها أصواتاً وروائحَ ومشاعرَ تتالى في تكرارٍ جميلٍ عبر السنون؛ تكرارٍ تقطنُه الغرابةُ والوجدُ المتجدد أبداً… صورُ أُمٍّ مُباركةٍ زرعتْ آخرَ عُنقودها المدلّلِ في تُربِ المحبةِ المُقدَّسة؛ بذرتهُ في حلقاتِ الواجدين، وبلَّلَتْهُ بعَرَق السكارى الإلهيين؛ فبدتْ نظراتُه تائهةً عطشى لاكتناه ما لا يُرَى؛ وصمْتُهُ صار ملتهِباً بالشوقِ لمطالعةِ بهاءِ خيرِ الوَرى، ونارُ العشقِ أحرقتْ منه كلَّ أسقام وأوهام المِرا…
-2-
صورٌ يلتمعُ في مرآتها الغائمةِ شعاعُ ليلةٍ ما مثلها من ليلةٍ؛ ليلةٍ جاءت بالحبيب، صباحُها سرٌّ عجيب…شعاعٌ رائقُ الإلذاذِ فائضُ الإسعادِ؛ يتكرَّرُ في مغايرةٍ فائقةِ البها كلَّ عام؛ ينتظرُه الطفلُ بشغفِ الفَرَاشِ للسَّنَاء، أو صبوةِ العاشقِ للِّقاء، أو لهفِ المُختنقِ تحت الماءِ إلى الهَواء. لا أنامُ تلكَ الليلةَ، أو متقطِّعاً مُمَزَّقاً بين السِّنات يترنحُ صمتِي، أما عقاربُ الساعةِ فتعُدُّ وجيبَ وجدٍ ما يفتأ يَختمِرُ… يراودُ البدرَ أن يُقَطِّرَ نسيانَهُ ويحكي بعضاً من خبايا العاشِقِين… من تنسكُوا في محرابِ السَّمَرِ، وناجوا بخوالجِهِم غربةَ القلب في أقاصِي السَّهر… يجولُ الطفلُ بنظراته في السماءِ علَّ سراًّ من دخيلةِ البدرِ يندفقُ…لكن صمتاً بنيا ترقرقَ، وحيداً فريداً يترقرقُ.. وفجأةً تنطلق الدفوفُ والتعاريجُ والأهازيجُ من أركانٍ وجهاتٍ مختلفةٍ من سماءِ المَدينةِ… يخرجُ الطفلُ إلى السطحِ العاري للمنزلِ ليتفقَّدَ أثرَ الصوتِ… فيلفيهِ قادماً مِن كلِّ الجهاتِ، ولا جهةَ محدَّدَة لهُ…. كلمةٌ من الشَّرق,, وزغرودةٌ مِن فوق,, و من باقِي النواحِي تنبعثُ أصوات غائمةٌ غريقةٌ ، كلماتُ أغانٍ في مَدٍّ وجَزْرٍ، ومدائحُ نسائيةٌ تقتربُ وتبتعدُ في تَردادٍ وتصادٍ له في الدخيلةِ وقْعُ البهجةِ اليتيمة التي لاَ مُعادلَ للذَّتِهَا..
-3-
ثم تستيقظُ الأمُّ المباركةُ… وتخرجُ لبهوِ السَّطْحِ مُطلِقَةً زغرودةَ الأبدِ؛ توقِّعُ بصوتها الآتي من غياهبِ السِّرِّ، المبحوحِ مِن ألمِ المَعِيشِ، الناطفِ بندَى التهجدِ والتسابيح… توقِّعُ بصوتِ غربتها الهنيئةِ إمضاءَها الباذخَ في ديوان الفرح بالمصطفى صلى الله عليه وسلم… تَسيلُ الأغرودةُ من رحيقِ الزَّهْوِ، ويذوبُ صوتُها وسْطَ صدى الأصواتِ والزغاريدِ والأهازيجِ والإيقاعاتِ….الوئيدَةِ والراقِصَةِ، القريبةِ والبعيدةِ، الدنيةِ والقصيةِ… الأرضية والسماوية، البشرية والغيبية، الأليفَةِ والملائكيةِ؛ فكلُّ الكائنات ترتعشُ فرحا، تنتعِشُ حبوراًً، تَرقصُ طربا، تزهو فخرا بولادة سِراج العوالم، ودُرة الأكوان، وشمسِ المعاني، ومغزى الوجود.. نورِالحق وسعدِ الخلق، نبيِّ الجمالِ والجلالِ والدلال، ومعدنِ المثالِ وجوهرةِ الكمال؛ سيدِ النساء الرجال، النبيِّ الخاتِم حبيبنا أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم.
-4-
للقَلْبِ ديوانٌ تنتعِشُ فيه المجازاتُ كُلَّ مَولْدٍ، للقلبِ نَشيدٌ لا تلتقطهُ الروحُ إلا انتشاءً بِذكرِ محمدٍ؛ وللخيالِ شواطئُ ما تفتأ تمتَدُّ نحوَ المستحيلِ علَّهُ يُفضي بما في السريرَةِ يعتَمِلُ…فزُمْرَةُ المحبينَ دوماً في خصَامٍ مع اللغةِ، لكنهُ خِصامُ عُشاقٍ؛ يبتغونَ منها ما تَعِدُ بهِ وتُمنِّي ولا تَفِ، ما تختبرُ بهِ طاقةَ البوحِ ثمَّ تُقِرُّ أنهُ غَيرُ مُسْعفِ…ومَعَ نُدُوبِ التَّعَذُّرِ وشُقُوقِِ القُصورِ تَنْسِرِبُ مواجيدُ مُبَلَّلَةٌ بألقِ النبوةِ، حيثُ حبُّ أبي القاسِمِ يسري صامتاً في العروقِ، يُعَطِّرُ الجوارِحَ ببهاءِ النُّسُكِ، وإلى سُرُجٍ ثَملىَ بالسّرِّ يُحَوِّلُ النَّبَراتِ والنَّظَراتِ…السلامُ عليكَ يا نُور النُّور…..السلام عليكََ يا روحَ الأرواح…السلامُ عليكَ يافرحةَ الأفراح.
-5-
تلك قطرة متلألئةٌ من يم الاغتباطِ، تُبلِّلُ بمائِها البَهيِّ الذاكرةَ والفؤاد..تسقيهمَا بِبَرَد الحنين ولذَّة الاغتراب؛ قَطرةٌ شَفيفةٌ حالمةٌ أنثُرُهَا رحماتٍ على أرواحِ الغائبين، وتنبيهاتٍ لنفوسِ الغافلين، وآهاتٍ لمواجيدِ العاشقين؛ قَطرَةٌ بها يغتسِلُ النَّاسِي من أوحالِ الالتفاتِ، ويرتقيِ العاشقُ في مراقي ومعارجِ القُرُبات، وبأنينِها يَتذكرُ المُتهجِّدُ ألحانَ الخلوات…فَطِبْ نَفْساً أيها العاشِقُ معنى حُسنهِ، وهِمْ وَجداً أيها المُتَنَزِّهُ في مَغْنَى شمائلهِ، واغرَقْ حُبّاً أيها التالي مُصحَفَ كمالهِ… طِبْ وهِمْ واغرَقْ تجديداً لانتسابٍ شريفٍ؛ به ينتمي الهُيامى بالحبيبِ المُصطفى، عن جدارةِ انخطافٍ وفائضِ دَهَشٍ، إلى مملكةِ الفرحِ برحمة العالمين.