صورةٌ لابن الفارض

صورةٌ لابن الفارض

صورة لابن الفارض

د. عبدالسلام حيدر

 

لا شك أن اسم “عمر بن الفارض” (576 ـ 632هـ) (1181ـ1235م) ارتبط منذ قرون بصورة ذهنية تقليدية كأحد أهم الشخصيات في تاريخ التصوف الإسلامي، وقد وجدت هذه الصورة التقليدية توصيفها المميز في كتاب “ابن الفارض والحب الإلهي” لمحمد مصطفى حلمي (1904 – 1969)، وهو في الأصل رسالة دكتوراة أنجزها سنة 1940 بإشراف الشيخ مصطفى عبدالرازق. والحقيقة فإن هذا الكتاب ما زال يحتفظ بقيمته كأحد أهم الكتب حول ابن الفارض، خاصة الفصل الأول الذي تميز بنظرة نقدية عالية. وهذه الصورة التقليدية لابن الفارض تركز على ثلاثة أبعاد أولها أن ابن الفارض هو أعظم شاعر صوفي عربي، بل ومن أكابر شعراء العربية، وأنه من أكابر أولياء الله وصاحب كرامات وخوارق، وأنه أخيراً من دعاة “وحدة الوجود”.

ولكن كيف كان ابن الفارض حقيقة وهل يتطابق مع صورته الذهنية في المخيلة الثقافية؟ هذا ما حاوله المؤلف الأمريكي إيميل هوميرين (Homerin) في كتابه المعروف (From Arab Poet to Muslim Saint) أي “من شاعر عربي إلى ولي مسلم”. ويحاوله كذلك المستشرق الإيطالي الأب جوزيبي سكاتولين، أحد المتخصصين المغرمين بابن الفارض ومحقق ديوانه أخيراً، وهو بالمناسبة الذي دلني على كتاب هوميرين السابق ذكره. وبتأمل ما سبق يمكن أن نتساءل أيضاً عن ما تقوله نصوص المصادر القديمة عن ابن الفارض.

من حسن الحظ أن لدينا شواهد مبكرة لبعض من عاصروه مثل زكي الدين المنذري (ت 656هـ/ 1258م) الذي يقول في كتابه “التكملة لوفيات النقلة المحدثين”: “وفي الثامن من جُمادى الأولى توفي الشيخ الأديب الفاضل.. الحموي الأصل، المصري المولد والدار، الشافعي المعروف بابن الفارض، بالقاهرة، ودُفن بسفح المقطم تحت العارِض. سمع من الحافظ أبي محمد القاسم الدمشقي. وقال الشعر الجيد على طريقة التصوف وغيرها”. وحدَّث. “سمعتُ منه شيئاً من شِعره، وسألته عن مولده، فقال: آخر الرابع من ذي القعدة سنة ست وسبعين، يعني وخمس مئة، بالقاهرة. وكان قد جَمع من شعره بين الجزالة والحلاوة ونظم منه شيئاً كثيراً”[1].

فهذه صورته الأولى عند أحد أشهر معاصريه، وهو شاهد موثوق، فليس هناك ذكر لأنه ولي أو صاحب كرامات، ولو كان له لذكر بعضها، بل إنه أخبرنا أنه كان يقول الشعر أيضاً على غير طريقة التصوف.

أما ابن خلكان (ت. 681هـ/1282م) وكان معاصراً لابن الفارض، ولكنه لم يتصل به، فكتب عنه في “وفيات الأعيان” بتوسع واتزان، فذكر بداية أن الفارض هو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال، وينعته بالشرف، ويمدح شعره وأسلوبه فيه ويقول أنه “ينحو منحى طريقة الفقراء” يعني المتصوفة، ويذكر قصيدته “التائية الكبرى” التي قالها على اصطلاحهم ومنهجهم، ولكنه لا يختار منها شيئاً، بل من أشعاره الغير صوفية، ويشير إلى أن له دوبيت ومواليا وألغاز. ثم ينتقل إلى صفاته فيقول: “وسمعت أنه كان رجلاً صالحاً كثير الخير، على قدم التجرد، جاور بمكة، زادها الله تعالى شرفاً، زماناً. وكان حسن الصحبة محمود العشرة”. ثم يأتي هذا النص: “أخبرني عنه بعض أصحابه أنه ترنم يوماً وهو في خلوة ببيت الحريري، صاحب “المقامات” وهو:

من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط؟

قال: فسمع قائلاً ولم ير شخصه وقد أنشد:

محمد الهادي الذي عليه جبريل هبط!

قد يكون هذا الخبر الغريب ارهاصاً بقصة كرامات ابن الفارض! ولكن لم يكن أحد يتحدث عنها سواء من تلاميذه أو معاصريه أو حتى الأجيال الأولى بعد وفاته، على سبيل المثال جمال الدين الصابوني الذي توفي في سنة 680هـ، أي خمسين سنة بعد وفاة ابن الفارض، والذي ترجم لابن الفارض في كتابه “تكملة إكمال الإكمال”، واعتمد في ذلك على ابن خلكان وغيره، إلا أن نصه يخلو من أي ذكر للكرامات!

ويمكن أن نستنتج من ذلك أن تلاميذ ابن الفارض ومعاصريه كانوا يعتبرونه شاعراً كبيراً يكتب بطريقة المتصوفة في الغالب وأنه كان رجلاً صالحاً كثير الخير، وليس هناك أي ذكر للكرامات أو الخوارق أو علاقته بابن عربي.

***

ولكن صورة ابن الفارض بدأت تتطور منذ مطلع القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، في هذه الفترة نجد صوفياً أديباً اسمه عبدالغفار بن نوح القوصي (ت. 708هـ/ 1309م) – صاحب “الوحيد في سلوك أهل التوحيد” الذي حقق مؤخراً – يذكر ابن الفارض في باب الذكر ويقول أنه كان مشهوراً بالتواجد، وهذه كرامة صوفية أو شبه كرامة إن أردنا الدقة. ويسرد المؤلف هذه القصة: “حكى لي الشيخ عبد العزيز بن عبد الغني المنوفي قال: “كنت بجامع مصر وابن الفارض في الجامع وعليه حلقة فقام شاب من عنده وجاء إلى عندي وقال: جرى لي مع هذا الشيخ حكاية عجيبة يعني ابن الفارض قال دفع الي دراهم وقال: اشتر لنا بها شيئاً للأكل فاشتريت ومشينا إلى الساحل فنزلنا في مركب حتى طلع البهنسا فطرق بابا فنزل شخص فقال: بسم الله وطلع الشيخ فطلعت معه وإذا بنسوة بأيديهن الدفوف والشبابات وهم يغنون له فرقص الشيخ إلى أن انتهى وفرغ ونزلنا وسافرنا حتى جئنا إلى مصر فبقي في نفسي فلما كان في هذه الساعة جاءه الشخص الذي فتح له الباب فقال له يا سيدي فلانة ماتت وذكر واحدة من أولئك الجواري فقال: اطلبوا الدلال وقال اشتر لي جارية تغني بدلها ثم امسك أذني فقال: لا تنكر على الفقراء”.

أي لا تشك في الأولياء. ورغم ضعف الرواية بالمقاييس التقليدية إلا أنها تشير إلى أن صورة ابن الفارض كولي تكبر مع الزمن على حساب كونه شاعراً بالأساس.

وفي أواخر القرن السابع الهجري بدأت حركة شروح ابن الفارض، في الغالب على يد المتصوف الأناضولي صدر الدين القونوني (ت. 672هـ/ 1275م)، أحد تلاميذ الشيخ الأكبر ابن عربي. بعد أداء القونوي لفريضة الحج (تقريباً سنة 641هـ) زار مصر ولكنه لم يلتق بابن الفارض، وعندما رأى حماس شيوخها لأشعاره ناقشهم في كيفية شرح أشعار ابن الفارض. ولما رجع إلى قونية في الأناضول وإبان تدريسه كان يشرح بيتا من شعر ابن الفارض يومياً. وبعد القونوني جاء تلميذه سعيد الدين الفرغاني (ت. 696هـ) فكتب أول شرح للتائية الكبرى ولكن بالفارسية. ثم كتب شرحاً أوسع بالعربية استخدم فيه فلسفة ابن عربي لفهم أشعار ابن الفارض، ومن ثم بدأت ماساة شروح ابن الفارض مع إلباسه ثوب ابن عربي! وقد سار على الطريق نفسه عفيف الدين التلمساني (ت. 690هـ/ 1291م) في شرحه للتائية الكبرى!

هذه الشروح التي لونت شعر ابن الفارض بلون مدرسة ابن عربي المعروفة بـ “وحدة الوجود” جعلت ابن الفارض هدفاً لهجوم المعارضين لابن عربي. وكان أبرز هؤلاء المعارضين شيخ الإسلام ابن تيمية (ت. 728هـ/ 1328م)، ومعركته ضد الصوفية معروفة، وبصفة خاصة ضد مدرسة “الحلول والاتحاد”. وقد هاجم ابن عربي وتلاميذه، وعدَّ ابن الفارض من جملتهم. وأثر هجوم ابن تيمية كثرت الكتابات ضد ابن الفارض خاصة كتابات أصحاب المذهب الحنبلي. وبالتالي أصبح لابن الفارض أنصار يبالغون في تقدسيه وأعداء يبالغون في الهجوم عليه. وأنا يهمني هنا كيف رآه أنصاره وصوروه، وكيف ساهم الهجوم عليه في تثبيت تلك الصورة؟.

ومن أنصار ابن الفارض ولا ريب حفيده على (سبط ابن الفارض) (ت. 735هـ/ 1335م)، وهو أول من جمع ديوان ابن الفارض بعد قرابة قرن من وفاته، وقد ختم الديوان بترجمة مختصرة لابن الفارض، جعلها حافلة بالكرامات، فصوره من وجد إلى وجد، وأنه صاحب رؤى وكرامات، فيذكر مثلاً كيف ذهب إلى مكة، فيروي عن والده أن جده ابن الفارض حاول سلك طريق الحقيقة فلما لم يفتح عليه عاد إلى القاهرة فرأى على باب المدرسة السويفية شيخا بقالا لا يجيد ترتيب الوضوء فلما عاتبه ابن الفارض قال له الشيخ: “يا عمر، أنت ما يفتح عليك في مصر، وإنما يفتح عليك بالحجاز في مكة شرفها الله فاقصدها فقد آن لك وقت الفتح”. فقال ابن الفارض: “ياسيدي وأين أنا وأين مكة، ولا أجد ركباً ولا رفقة في غير أشهر الحج”. فنظر الشيخ إليه وأشار بيده وقال: “هذه مكة أمامك”. يقول ابن الفارض تبعا لرواية سبطه: “فنظرت معه فرأيت مكة شرفها الله، فتركته وطلبتها فلم تبرح أمامي حتى دخلتها في ذلك الوقت، وجاءني الفتح حين دخلتها فترادف ولم ينقطع”. ويروي سبط الفارض أيضا عن جده أنه قال: “ثم بعد خمس عشرة سنة سمعت الشيخ البقال يناديني: يا عمر تعال إلى القاهرة احضر وفاتي وصلّ عليّ، فأتيته مسرعاً..”[2].

وما لبثث هذه الكرمات حتى عرفت في القاهرة كلها. ورغم عدم التأكد من صدقها، وأنها تعارض ما ذكر في المصادر الأولى حول ابن الفارض، ويبدو أن مصدر هذه الأخبار هم أنصار ابن الفارض، خاصة ابنه وحفيده، الذين دافعوا عنه بإلباسه هالة من القداسة التي لا تليق إلا بالأنبياء. والغريب أن أغلب كُتاب التراجم المتأخرين كالسيوطي وابن تغرى بردي وابن إياس وغيرهم قد اعتمدوا على هذه الديباجة التي خطها على سبط ابن الفارض دون التحقق منها.

وفي مقابل هذا وجدت حركة معارضة شديدية لابن الفارض بدءا من شمس الدين الذهبي (748هـ/ 1348م) صاحب “تاريخ الإسلام” الذي أبدى اعجابه بشعر ابن الفارض وقال عنه: أنه “سيد شعراء العصر، وشيخ الاتحادية”، ولكنه أدان “بدعة الحلول والاتحاد” المزعومة في شعره فقال: “وديوان شعره مشهورٌ، وهو في غاية الحسن واللطافة والبراعة والبلاغة، لولا ما شانه بالتصريح بالاتحاد الملعون في ألذ عبارة وأرق استعارةٍ كالفالوذج سمه سم الأفاعي”[3]. وهذا تقريبا نفس ما قاله في كتابه “سير أعلام النبلاء”[4]. أما ابن خلدون فقد أصدر فتواه القاسية حين قال: “وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائـد المضلّة، وما يوجد من نسخها بأيدي الناس، مثل “الفصوص” و”الفتوحات” لابن عربي، و”البُدّ” لابن سبعين، و”خلع النعلين” لابن قيسي، و”عقد اليقين” لابن بَرَّجان، وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض، والعفيف التلمساني، وأمثالهما، أن تُلحق بهذه الكتب، وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة التائية من نظم ابن الفارض، فالحكم في هذه الكتب كلها وأمثالها، إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق النار والغسل بالماء، حتى ينمحي أثر الكتابة، لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين، بمحو عقائد المضلة”[5].

وبعده جاء ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ/ 1448م)، وهو تلميذ للذهبي، فذكر في كتابه “لسان الميزان”: “وابن الفارض المذكور له صورة كبيرة عند الناس لما كان فيه من الزهد والانقطاع، وقد عمل له سبطه ترجمة حكى فيها أشياء عجيبة من أموره”[6]. ثم جمع ولخص الآراء السلبية التي مرت بنا وذكر قصة الجواري التي مرت وفسرها بأنها تدل على فسق صاحبها.

***

ثم جاء برهان الدين البقاعي الحنبلي (ت. 885هـ/ 1480م) الذي أحدث ضجة كبرى بتأليف عدة كتب أبرزها ثلاثة هي: “تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي”، و”تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد”، و”الناطق بالصواب الفارض لتكفير ابن الفارض”. فبعد أن كفر ابن عربي في الكتاب الأول ألحق به ابن الفارض بأن ردد بأن “لا فرق بين التائية والفصوص إلا بكونه نثرا، وكونها نظما”[7]. ثم خص تكفير ابن الفارض بالكتاب الثالث.

ولما تحولت الضجة إلى فتنة أرسل السلطان قايتباي إلى العلماء يستفتيهم، فكتبوا بحسب ما ظهر وأفتى أكثرهم بتصويب البقاعي فى تكفيرهما، أما قاضي القضاة الشيخ زكريا الأنصاري فامتنع بداية ثم كتب – تحت ضغط السلطان – فتواه الشهيرة في الذب عن ابن عربى وابن الفارض ومما يروى أنه قال: “لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم ان يتكلم فى حقهم بشر؛ لأن دائرة الولاية تبدأ من وراء طور العقل لقيامها على الكشف”. ورأى أن كلام العارفين لا يؤخذ حسب المعنى الحرفي لأن مصطلحاتهم في الغالب مجازية، ولأنهم عندما يستغرقون في الوجد والتوحيد قد ينطقون بكلمات أشبه بالشطحات حيث تمحى الرسوم الفردية ولا يشعر أي منهم بوجوده، وإنما بوجود الله فقط، فعلم الصوفية كشفى من دائرة وراء العقل. ومن لم يذق تلك الحال لا يمكنه الحكم عليها، ويجب على من لا يفهم ذلك أن يمتنع عن الافتاء فيه. وانتهى إلى نصرتهما والجزم بولايتهما.

وعندما هدأت المعركة كانت صورة ابن الفارض كشاعر صوفي صاحب كرامات قد وترسخت! وعندما احتل سليم الأول مصر (924هـ/ 1517م) أمر أن يقرأ القرآن على ضريح ابن الفارض إما تبركاً به وتقرباً من عامة المصريين وإما لأن السلطان العثماني كما هي العادة كان متصوفا يتبع الطريقة الآخية المحاربة في الأناضول. وبعد ذلك بدأ الاحتفال بمولد ابن الفارض وكثرت شروح ديوانه حيث شرحها كل من عبدالوهاب الشعراني وعبدالغني النابلسي وغيرهما.

وفي النهاية أصبحنا أمام عدة صور متصارعة لابن الفارض؛ فأهل الأدب يرونه كشاعر من فحولهم جمع في شعره بين الجزالة والحلاوة، أما المتصوفة فحولوه كما يقول إيميل هوميرين من شاعر إلى ولي، وأما أصحاب المذهب السلفي فقد كفروه أو فسقوه على الأقل. والحقيقة فإن الصور الثلاث ما زالت حية وفي حالة اصطراع ولم يكتب لأي منها الغلبة، ولا يبدو أن هذا سيكون في القريب!

(بروكسل، في 22 سبتمبر 2015)

[1] زكي الدين المنذري: التكملة لوفيات النقلة المحدثين، (3/388-389).

[2] البوريني والنابلسي: شرح ديوان ابن الفارض، بيروت 2003، 1/12 – 13.

[3] الذهبي: تاريخ الإسلام، (46/ 110).

[4] راجع: الذهبي: سير أعلام النبلاء، (23/368).

[5] راجع: الفاسي: العقد الثمين، (2/ 180-181).

[6] ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان، طبعة دار المؤيد، 5/418.

[7] برهان الدين البقاعي: تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي، ص 56.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!